مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

الاثنين، 14 مارس 2022

قصة سيدنا يونس عليه السلام {باللون الأحمر الفامق}

7-  سورة الأنبياء - تفسير الآيات 74 - 94 .
1988-06-03
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من سورة الأنبياء، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَلُوطاً آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾
من خصائص الأنبياء
وذكرت لكم في الدرس الماضي أن طائفةً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين سيأتي ذكرهم في سورة الأنبياء بشكلٍ موجز، والحقيقة أن الفضيلة لا قيمة لها ما لم تتجسَّد في الإنسان، لذلك أثر القدوة الحسنة في النفوس أثرٌ كبير، بينما أثر الكلام النظري في النفوس أثرٌ قليل، لهذا جعل الله سبحانه وتعالى الأنبياء العِظام قدوةً حسنةً وأسوةً نتأسَّى بها، ولولا أن الفضيلة تجسَّدت في سلوكهم لما سار الناس على هذا الدرب، ولما اقتفوا آثار هؤلاء الرُسل الكرام.
 
الشيء الذي يجمع بين هؤلاء الأنبياء جميعاً أنهم عبيدٌ لله سبحانه وتعالى، كلُّهم عبيدٌ لله في قِصَصَهِم، وفي مواقفهم، وفي تصرُّفاتهم، وفي أقوالهم، وفي أفعالهم ما يؤكِّد عبوديتهم لله عزَّ وجل.
 
الشيء الآخر، أن هؤلاء الأنبياء بشر، وليسوا آلهة، لذلك هم معصومون عن أن يقعوا في خطأٍ في تبليغ الرسالات، معصومون عن أن يعصوا الله عزَّ وجل، ولكنَّهم ينسون كما ينسى البشر، وقد يتركون الأولى، والله سبحانه وتعالى يوجِّههم الوِجهة الصحيحة، إنهم بشر، وليسوا فوق البشر، هذا هو القاسم المشترك بينهم، إنهم أيضاً يحبُّون الله عزَّ وجل حبَّاً لا حدود له، يطيعونه طاعةً لا حدود لها، ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلُوطاً ﴾ 
 
من خصائص الأنبياء
وقد ورد في كتب التفسير أن سيدنا لوط عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام كان ابن أخٍ لسيدنا إبراهيم، فكان إبراهيم عَمَّه..
﴿ وَلُوطاً آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ 
 
وإذا تتبَّعنا مثل هذه الآيات:
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ﴾
( سورة القصص: من آية " 14 " )
فأكبر عقابٍ يقع على إنسان أن يحظر الله عنه العِلم والأدب، فإذا آتاك ربك أيها الأخ الكريم طرفاً من العلم، وطرفاً من الحكمة فقد أُوتيت من بضاعة النبوَّة، 
 
 فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَلُوطاً آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾ 
 
ولا شيء في الأرض عند الناس وعند الله، في الدنيا وفي الآخرة يرفع الإنسان كالعلم،
 
= لذلك عَن مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ...))
[متفق عليه ] 
 
وما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه.
(( طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ))
( من سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك )
رتبة العلم أعلى الرُتَبْ.. فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم.
﴿ وَلُوطاً آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وعِلْمًا
قال بعضهم: " الحُكم هو النبوَّة، والعِلم هي أوامر الشرع "، وبعضهم قال: " الحُكم أن يضع الإنسان كل شيءٍ في مكانه الصحيح ". والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾
( سورة البقرة: من آية " 269 " )
فأعظم شيءٍ يناله الإنسان من ربِّه أن يجعله حكيماً، فبالحكمة يجلب المال، وبالحمق يبدِّدُه، بالحكمة يجعل الزوجة السيئة صالحة، وبالحمق يفسد الصالح، ما من عطاءٍ أعظم عند الله من أن يؤتيك الحُكْمَ أي الحكمة، بالمعنى الثاني من معاني الحكم..
﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ﴾
إهلاك الله لقوم لوط
والقرية التي كانت تعملُ الخبائث قريةٌ اشتهرت بعمل الفاحشة مع الذُكور، وهذا العمل قَذِرٌ وقبيحٌ إلى أبعد الحدود، لذلك في كتب الفقه من يرتكب هذا العمل يُقْتَل، لأن الله سبحانه وتعالى أهلَك قوم لوطٍ بأن جعل قريتهم عاليها سافلها، وفي آيةٍ أخرى:
﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ ﴾
( سورة الأنفال )
وما هذا المرضُ الخطير الذي يستشري في العالم اليوم إلا عقابٌ عاجلٌ لهذه الفاحشة الشاذَّة التي يندى لها جبينُ الإنسانيَّة خجلاً..
﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾
من علامات الإيمان
1 – الابتعاد عن أهل الكفر والفسوق
إذاً المؤمن من لوازمه أنه يبتعد عن أهل الكفر والفسوق، لذلك فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى خَثْعَمٍ، فَاعْتَصَمَ نَاسٌ بِالسُّجُودِ، فَأَسْرَعَ فِيهِمْ الْقَتْلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ لَهُمْ بِنِصْفِ الْعَقْلِ، وَقَالَ:
(( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلِمَ ؟ قَالَ: لَا تَرَايَا نَارَاهُمَا ))
[الترمذي، أبو داود ]
أي أنَّك إذا طمحت إلى أن تكون في بلدٍ أموره الماديَّة مُيَسَّرة، ولكن فسقه شديد فهذه مقامرة ومغامرةٌ بدينك..
(( أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ ))
لشيوع المعاصي، وشيوع الفساد، وشيوع الرذيلة، وتفكُّك الأسرة، وانحراف الشباب، وانحراف الفتيات..
﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)﴾
2 – الاشمئزاز من فعل الفاحشة
فمن علامات الإيمان أن المؤمن يشمئز من فعل الفاحشة، فضلاً عن أنه لا يفعلها، إنه يشمئز من أخبارها، يشمئز من مرتكبيها، أصبحت له نفسٌ صافية، وعنده حساسيةٌ أخلاقية عالية، فكلَّما التقى بأُناسٍ يرتكبون الفاحشة، أو يباهون بها يبتعد عنهم، ولا يطيق أن يلتقي معهم، أما الذي يلتقي مع أهل الفسق والفجور، ويقيم معهم علاقاتٍ حميمة، ويستمتع في العلاقة بهم إنَّ حالته مَرَضِيَّة تستوجب المُعالجة..
﴿ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ ﴾
أي من قبل سيدنا إبراهيم، ومن قبل سيدنا لوط، هذا النبي الكريم من أولي العزم..
﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾
( سورة القمر: 10 )
يا رب انتصر لدينك إني مغلوب..
﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ ﴾
الدعاء في الشدة والرخاء
وكأن الله سبحانه وتعالى يُعَلِّمنا أن الأنبياء ينادون الله عزَّ وجل فيستجيب لهم، ويا أخي المؤمن أنت مَدْعوٌّ لأن تُنادي ربَّك، كلَّما ألمَّت بك ملمَّة، أو كلَّما نزلت بك نازلة، أو كلما ضاق بك الأمر، أو كلما كاد لك عدو، كلما شعرت بالضيق نادِ ربَّك كما نادى نوحٌ ربَّه..
﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾
لقد جعل الله سبحانه وتعالى الأرض تنبع بالماء، وأنزل من السماء ماءً منهمراً حتى أغرق الماءُ كلَّ شيء، وكان سيدنا نوحٍ على ظهر السفينة مع أهله، ومع المؤمنين فنجا من الكربِ العظيم، فالبلاء خاص، والرحمة خاصَّة، لا كما يقول بعض الناس: الرحمة خاصَّة، والبلاء عام..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
دائماً المؤمن له نجاة من كل بلاءٍ عام، إذا قد عرف الله عزَّ وجل، واستقام على أمره قبل وقوع البلاء.
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
هؤلاء قوم آخرون، قوم لوطٍ كانوا:
﴿ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾
فأهلكهم الله عزَّ وجل، وقوم نوحٍ كانوا:
﴿ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾
نستنتج من هذا أن العاقبة للمتقين، وأن الكفر، والفِسْقَ، والفجور، والعصيان مآله إلى الهلاك..
﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾
قصة داود وسليمان في حكمهم في الحرث
هذان النبيَّان الكريمان الأول والدٌ للثاني..
﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ﴾
الحرث الأرض المزروعة، بعضهم قالوا: أرضٌ مزروعةٌ قمحاً، وبعضهم قالوا: أرضٌ مزروعةٌ كَرْمَاً.. أي عنباً..
﴿ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ﴾
غنمٌ تعود ملكيَّتها لقومٍ، دخلت الغنم هذه الأرض، ورَعَتْ فيها فأصابت منها أضراراً بليغة، هؤلاء الخصمان رفعوا قضيَّتهم إلى سيدنا داود عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، يبدو أن هذا النبي الكريم وجد أن الأضرار التي لَحِقَت بالأرض المزروعة تكافئ المغانم التي لحقت في قطيع الغنم، فأعطى أمراً، أو أعطى حكماً أن يتبادل الفريقان ملكيَّتهما، يأخذ أصحاب القطيع الأرض، ويأخذ أصحاب الأرض القطيع.
ويبدو أن سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عُرِضَت عليه هذه القضيَّة أيضاً، فحكم بوحيٍ من الله عزَّ وجل، ويبدو أن حكمه كان عن الله سبحانه وتعالى، ولا ينفي أن يكون حكم سيدنا داود أيضاً حكماً صائباً، ولكن حكم سليمان بأن يأخذ صاحب الأرض القطيع فينتفع من لبنه، وأن يأخذ صاحب القطيع الأرض فيصلحَ ما أصابها، وبعد عامٍ يستردُّ كل فريقٍ أرضه أو غنمه، فالله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ﴾
معنى نفشت أي رعت هذه الغنم في الأرض ليلاً..
﴿ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾
قال بعضهم: لا يمنع أن يتفوَّق الابن على أبيه، وهذا ليس فيه غضاضةٌ في حقِّ الأب، بل إن الأبَ وحده لو أن ابنه تفوَّق عليه لكان هذا مُطمئناً له، هذه حالة.
والحالة الثانية: إنَّ تربية سيدنا داود لابنه سليمان التربية العالية كانت من نتائجها هذه الفتوى، وهذا الحكم الصائب، فهذا في صحيفة سيدنا داود، وبعضهم قال: لقد حكم داود بحكم الله عزَّ وجل، لكن الله أوحى إلى سليمان حكماً نَسَخَ الحكم الأوَّل، على كلٍ الذي حدث الكلمة التي جاءت في هذه الآية..
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾
الإنسان مفتقر إلى الله عزَّ وجل في فهمه للأمور، فربما فهم شيئاً بفعل صفائه، واستقامته لقوله تعالى:
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
( سورة البقرة: 282)
﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾
( سورة التغابن: 11)
العلم الإشراقي: ففهمناها سليمان
استنبط علماء الأصول من هذه الآية أن بعض العلم يمكن أن يكون إشراقياً، وقد مرَّ بنا في عِلم العقيدة أن هناك اليقين الحسي، وهناك اليقين العقلي، والاستدلالي، وهناك اليقين الإخباري، وهناك اليقين الإشراقي، واليقين الإشراقي مأخوذٌ من هذه الآية:
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾
إذاً: أن الإنسان وقف موقفاً صعباً، واستلهم الله سبحانه وتعالى لأمدَّه الله بالحقيقة.. يروى عن هذين النبيين أن سيدنا سليمان رُفِعَت إليه قضيَّةٌ، أن امرأتين كان لكل منهما طفلٌ صغير، وقد وُضِعَا الطفلان في مكانٍ، وجاء ذئبٌ فأكل أحدهما، فادَّعت كل امرأةٍ أن الابن الباقي لها، ورُفِعَت القضيَّة إلى سيدنا سليمان، فلمَّا تنازعا أمامه فقال: " الحل بسيط ؛ نأتي بسكين، ونقطع هذا الطفل بينكما "، فما كان من الأم الحقيقيَّة إلا أن صاحت: " هو لها، وليس لي "، فعرف هذا النبي الكريم من عاطفة الأم الحقيقيَّة أن هذا الابن لهذه الأم.. فالله عزَّ وجل يُلهم القضاة الحقيقة أحياناً إذا كانوا صادقين..
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً َ﴾
وكل واحد منَّا معرَّض في حياته إلى أن يقع في مشكلة، ولا يدري لها حلاً، الله سبحانه وتعالى يتفضَّل عليه ويوحي إليه، والوحي له أنواع..
أنواع الوحي
﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ﴾
( سورة النحل: من آية " 68 " )
﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾
( سورة طه: 38)
هناك وحي غريزة كوحي النحل، وهناك وحي إلهام كالوحي الذي نزل على أمِّ موسى، وهناك وحي رسالة كالوحي الذي نزل على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فكل واحد معرَّض إلى أن يقع في أزمة، فإذا استلهم الله سبحانه وتعالى ربَّما جاءه حلٌّ لم يكن يخطر له على باله، وليست العبرة من هذه القصص إلا أن نتأسَّى بهؤلاء الأنبياء العِظام..
﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾
أي كلاً من داود وسليمان آتيناه حكماً وعلماً، جاءت هذه الآية لتقرِّر أن حكم داود كان صحيحاً، وأن حكم سليمان جاء حكماً أقرب إلى الصواب وكان بوحيٍ من عند الله سبحانه وتعالى من دون أن نضع من قدر سيدنا داود.
﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾
معجزات داود عليه السلام
فسيدنا داود آتاه الله معجزاتٍ ما لم يؤتها بعض الأنبياء منها، فلقد سخَّر الله مع داود الجبال يسبِّحن والطير، كان يسمع تسبيح الجبال، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾
( سورة الإسراء: 44 )
لقد آتى الله سيدنا داود القُدرة على سماع تسبيح الجبال والطير..
﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾
وعلَّمنَاه صنعة لَبوس لكم
صنعة اللبوس أي صناعة الدُروع، هذه الصناعة مما تفضّل الله سبحانه وتعالى على سيدنا داود، وعلَّمه إيَّاها، أي حينما كانت الحروب وجهاً لوجهٍ، وسيفاً لسيفٍ، ويداً بيدٍ، هذه الحروب كان فيها رحمة، لماذا ؟ لأن الأشجع هو الذي ينتصر، أما الحروب التي لا تُفَرِّقُ بين مقاتلٍ وغير مقاتل، هذه حروب، وإن كان المسلمون اضطروا إليها، ولكنَّها في الأساس ليست شرعيَّةً، لأنه لا ينبغي أن يُقْتَل إلا المُقاتل، أما الطفل البريء، أما المرأة الضعيفة، أما الشيخ الضعيف فهؤلاء لا ينبغي أن يُقْتَلوا، لذلك المُنَظَّمات الدولية تحرِّم أن يقتل العُزَّل من المدنيين، فهذه الحرب التي سنَّها الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ ﴾
والدروع يتقي المُقاتل بها ضربة السيف، وهذه رحمةٌ للمقاتلين..
﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾
فلا ينبغي أن يُقْتَل إلا من يقاتل، أما الطفل الصغير، أما المرأة الضعيفة هذه في أعراف السماء، وأعراف الأرض، في شرائع السماء، وفي قوانين الأرض لا ينبغي أن تقع..
﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81)﴾
ذَكَرَ ربنا سبحانه وتعالى أنه سَخَّر لسيدنا سليمان الريح عاصفة، في بعض التفاسير، وفي بعض الروايات أن هذا النبي الكريم كان يمتطي الريح لينتقل بها من مكانٍ إلى مكان بوقتٍ قصيرٍ جداً، الشأن في هذا كشأن الطائرات السريعة..
﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾
الأرض التي باركنا فيها: أرض الشام
أمَّا هذه الأرض التي باركنا فيها كما تروي معظم التفاسير هي أرض الشام، ولماذا بارك الله فيها ؟ لأنها كانت مَهْبِطَ الرسالات السماويَّة، ولماذا بارك الله فيها ؟ لأن الله سبحانه وتعالى أجرى فيها الخير، وجعلها بلاداً مقدَّسة فيها خيرٌ كثير، وفيها جوٌ معتدل، وفيها أُناسٌ صالحون، في بعض الأحاديث يقول عليه الصلاة والسلام:
((الشام صفوة الله من أرضه وفيها صفوته من عباده))
[مجمع الزوائد عن أبي أمامة ]
وفي أحاديث كثيرة.. أحاديث قيام الساعة.. تذكر:
((إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ إِلَى جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ مِنْ خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ))
( سنن أبي داود: عَنْ " أَبِي الدَّرْدَاءِ " )
والشيء الذي يلفت النظر أن في هذا البلد الطيب الكريم اتجاهٌ نحو الله سبحانه وتعالى يتجلى في حضور مجالس العلم، وفي بحث الناس عن أمور دينهم، وفي تمسُّكهم بشريعة ربِّهم، هذه كلها تؤكِّد ما جاء في بعض الأحاديث الشريفة عن فضل بلاد الشام..
﴿ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) ﴾
والله سبحانه وتعالى سَخَّرَ لسيدنا سليمان الشياطين، سخَّرهم له لأن هذا النبي الكريم دعا ربَّه فقال:
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾
( سورة ص: 35)
أي أن سليمان طلب من ربِّه أن يؤتيه المُلَك، وحينما يطلبُ نبيٌّ من ربِّه أن يأتيه الله الملك، فمعنى ذلك أن هذا المُلَك أراد أن يستخدمه في نشر الحق، وإذا طلب الإنسان أن يكون في موقعٍ دقيق فمن أجل أن يهدي الناس بهذا الموقع لا أكثر ولا أقل، الدنيا لا تُبْتَغى لذاتها، لا يبتغيها لذاتها إلا أهل الدنيا، ولا يبتغيها لذاتها إلا أهل الكفر والفسوق والعصيان، أما المؤمن فيما لو طلب الدنيا لا يطلبها إلا لغيرها لتكون قوةً له على هداية الآخرين..
﴿ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ﴾
أي أنهم يغوصون في البحار، ويستخرجون له اللؤلؤ..
﴿ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ ﴾
مما يأمرهم به..
﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾
فقصَّة سيدنا داود، وقصَّة سليمان فيها من العجب العُجاب، لأن الله سبحانه وتعالى سخَّر لهم الجبال والطير، وسخَّر لهم الشياطين، وسخَّر لهما الرياح.
﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ﴾
قصة أيوب عليه السلام وصبره على الضر
سيدنا أيوب..
﴿ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾
فبعض التفاسير تشير إلى أن النبي متى يَمَسُّه الضر ؟ إذا أعرض قومه عنه، إذا لم يستجيبوا له، إذا لم يهتدوا لدعوته، إذا لم يلتزموا أمره، الداعية إلى الله عزَّ وجل لا يمسَّه الضُر إلا إذا أعرض الناس عن دعوته، فلذلك ما ترويه بعض الكتب الإسرائيليَّة من مصائب لا حصر لها، من أن الدود قد أكل لحمه كلُّه، هذه مبالغاتٌ ما أظنُّ أن الله سبحانه وتعالى أرادها، إلا أنَّ الأقرب إلى الواقع، والأقرب إلى مقام النبوَّة أن هذا النبي الكريم كان الضرُّ عنده إعراض الناس عنه، وكيف أن الشياطين كانت تصرفُ الناس عنه، فهذا ضرٌّ لا شكَّ أصابه، ولا يمنع هذا التفسير من أن يُبتلى النبي الكريم ببعض المصائب التي تصيب إخوانه من النبيين، أما تلك المبالغات التي لا حدود لها في الأمراض التي نهشت لحمه وأصابته هذه ربَّما كانت لا أصل لها..
﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ﴾
هذه الآية الثانية تؤكِّد أن الضرَّ الذي أصابه هو ضرٌ من نوع إعراض الناس عن دعوته، فلمَّا استجاب الناس إليه، واستجاب أهله المقرَّبون، واستجاب قومه أيضاً، فسعد بهذه الاستجابة..
﴿ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)﴾
الأنبياء الذين ذَكَرَهُم الله عزَّ وجل في القرآن ليسوا هم جميع الأنبياء، إلا أن الله سبحانه وتعالى ذكر في بعض الآيات من أن النبيين..
﴿مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾
( سورة غافر: من آية " 78 " )
فربنا سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة يفيض في الحديث عن بعض الأنبياء، ويختصر في الحديث عن بعض الأنبياء الآخرين، وقد يذكر اسم نبيٍّ فقط من دون أي تعليق، كل هذا لحكمةٍ يعلمها الله سبحانه وتعالى..
﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
الصبر من صفات الأنبياء
فالصبر من صفات الأنبياء، وهو بالتالي من صفات المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان))
بل إن الإيمان نصفان ؛ نصفٌ صبرٌ، ونصفٌ شكرٌ، والصبر لا يفوقه شيء، وذلك لحكمةٍ بالغة وأن الأمر كلَّه بيد الله، فالموحِّد الذي يعرف أسماء الله الحُسنى، وصفاته الفُضلى يصبر، لماذا يصبر ؟ لأن المعالجة في النهاية تعود عليه بالنفع، والأمثلة كثيرة، والأنبياء العِظام هم قدوةٌ لنا في الصبر، والإنسان إذا أصابه ضرٌّ، أو أصابه بلوى، أو أصابته مصيبةٌ، أو أصابه مكروهٌ ينبغي أن يتجلَّد وأن يصبر، والله سبحانه وتعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام ويقول:
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ﴾
( سورة الأحقاف: من آية " 35 " )
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ﴾
( سورة النحل: من آية " 127 " )
﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾
( سورة الطور: من آية " 48 " )
إن كنت مؤمناً حقَّاً، وإن كنت مَعْنِيًّا بهذا الخطاب، وكل خطابٍ خوطِب به النبي الكريم فالمؤمنون معنيُّون به بالتبعية، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))
فكل أمرٍ موجَّهٌ إلى النبي الكريم هو أمرٌ موجَّهٌ لنا بالتبعيَّة، لأننا مأمورون أن نقتدي بهم في كل أحوالهم، والأنبياء من أُولى صفاتهم الصبر.
أنواع الصبر: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر عن الشهوة
والصبر كما يقول العلماء على ثلاثة أنواع ؛ صبرٌ على الطاعة وصبرٌ عن المعصية، وصبرٌ عن الشهوة، فالإنسان رُكِّبَ من عقلٍ وشهوة، الحيوان رُكِّب من شهوةٍ بلا عقل، المَلَك رُكِّب من عقلٍ بلا شهوة، لابدَّ من صراعٍ بين الشهوة وبين العقل، بين الحاجة وبين القيَم، بين المصلحة وبين المبدأ، هذه طبيعة الحياة، إن الصراع بين الحاجات وبين القيم، بين المصلحة وبين المبدأ، بين العقل وبين الشهوة هذا الصراع ينتهي بمصلحة العقل عند المؤمن، وينتهي بمصلحة الشهوة عند الكافر، لذلك المؤمن يقوده عقله، والكافر تقوده شهوته، من هنا قال الله عزَّ وجل:
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3)إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
( سورة النجم )
علامة المؤمن أنه يتملَّك زمام نفسه فهو يقودها إلى الخير، ومن علامات المنافق أن نفسه تتملَّكه فتقوده إلى الشر، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
( سورة النساء: من آية " 27 " )
هذه إرادة الله..
﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا(27)﴾
( سورة النساء )
دائماً أهل الأهواء، أهل الشهوات، أهل الفسق، والفجور يتمنَّون على جميع الناس أن يتابعوهم، لذلك يزيِّنوا لهم الدنيا، يخوِّفونهم من الدين.
﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 175 " )
يخوفونهم من الإنفاق..
﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ﴾
( سورة البقرة: من آية " 268 " )
انظروا عمن تأخذون دينكم
دائماً الشيطان يخوِّف الإنسان من الإنفاق في سبيل الله، ويخوِّفه من التَدَيُّن، يذكُر له آلاف القصص عن أناسٍ تديَّنوا فسقطوا، وهذه قصص مُخْتَلَقَة ليس لها أصل، لذلك يقول عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب ابن عمر فيقول له:
((يا ابن عمر دينك، دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا))
[حلية الأولياء لأبي نعيم ]
وقد روى الإمام مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قوله:
((إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ))
( من صحيح مسلم عن محمد بن سيرين)
لو أن الإنسان أخذ دينه عن أهل التقصير، عن الذين مالوا إلى الدنيا واستمرؤوها، عن الذين خلطوا الدين بالدنيا، عن الذين اتخذوا الدين مطيَّةً إلى الدنيا، لو أن الإنسان أخذ دينه عن هؤلاء لرأى في الدين رُخَصَاً لا حدود لها، إذا تتبَّع هذه الرُخَص رأى نفسه مقطوعاً عن جناب الله عزَّ وجل، لأن المعاصي والمخالفات والتقصير من شأنها أن تجعل بين العبد وبين الله حجاباً كثيفاً، لذلك:
((دينك دينَك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا))
القضية خطيرة جداً، القضية مصيريَّة، فحينما يأتي ملك الموت، وتكون قد تابعت إنساناً ضالاً في الدنيا من أهل الأهواء تجد أنه لا ينفعك مالٌ ولا بنون، ولا ينفع هذا الذي تابعته في الدنيا، كل إنسانٍ يحاسب عن عمله وحده..
﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)﴾
( سورة المدثر )
﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾
( سورة الإسراء: من آية " 13 " )
ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام:
((اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردُّنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر))
[
الترمذي ]
فأخطر شيء في الحياة الدين، من هنا سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبة قال: " الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني.. "، فأي مصيبةٍ إن لم تكن في الدين فهي هيِّنة ولو أنها أودت بالحياة، لأن الآخرة أبديَّة، والذي مات على الإيمان يسعد في جنَّة ربِّه إلى الأبد، لكن المصيبة الكبيرة أن تكون المصيبة في الدين، فإذا كانت في الدين ذهبت الدنيا والآخرة، لذلك سيدنا عمر كلَّما أصابته مصيبة قال: " الحمد لله ثلاثاً، الحمد لله إذ لم تكن في ديني، والحمد لله إذ لم تكن أكبر منها، والحمد لله إذ أُلْهِمْتُ الصبر عليها ".
على كلمة:
﴿ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
هكذا الأنبياء، هؤلاء القدوة، هؤلاء الأسوة تحمَّلوا المتاعب، فمن نحن ؟ فيجب أن يتحمَّل المؤمن كل مشقَّةٍ في سبيل الله.
 
 
 
 ﴿ وَذَا النُّونِ ﴾  /قصة سيدنا يونس عليه السلام  سيدنا يونس..
 
 
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ 
 
المعنى الصحيح لقوله: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ 
 
المعنى الأول:
 
بعض السذَّج يفسِّرون هذه الآية تفسيراً مضحكاً، يقولون: " إنَّ هذا النبي الكريم ظنَّ أن الله لا يقدر عليه "، لا، ما كان لنبيٍّ أن يقول هذا الكلام، معنى نقدر هنا بمعنى نُضَيِّقَ. 
 
﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي(15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فيقول ربي أهاننِ﴾
( سورة الفجر: 15-16) 
 
قَدَرَ الرزق ضَيَّقَهُ، ومعنى هذه الآية هنا: 
 
﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾
أي أنه عندما ضاق ذرعاً بقومه ظن أن الله سبحانه وتعالى لا يحرِّج عليه أن يغادرهم إلى أُناسٍ آخرين، لم يكن يظن أنه يجب أن يبقى مع هؤلاء إلى النهاية..    ﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ 
 
أي ظنَّ أنه لا حرج من أن يترك قومه بعد أن يَئس من هداهم، لأن اليأس ليس من صفات الأنبياء، الأنبياء ليسوا أكثر الناس يأساً، لكنَّهم كما قال الله عزَّ وجل.. لكنَّهم آخرهم يأساً.. والدليل قوله تعالى:
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾
( سورة يوسف: من آية " 110 " ) 
 
أي لأنهم بشر فالنبي، دعاهم ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً، سرَّاً وعلانيَّةً، أغراهم بالجنَّة، خوَّفهم من النار، ضَرَبَ لهم الأمثال، بيَّن لهم، وعظهم، لم يستجيبوا له، ضاق بهم ذرعاً، فتركم وغادر قومه، فظنَّ هذا النبي الكريم أن لن نقدر عليه، أي أنه ليس عليه من حرج لو تركهم إلى أناسٍ آخرين، فتركهم.
 
المعنى الثاني:
ظنَّ هذا النبي الكريم أن الله سبحانه وتعالى لن يُقَدِّر هداهم على يديه، فأحياناً تدعو إنساناً كثيراً وكثيراً لا ترى استجابة فتظن، تقول في نفسك: ربَّما كانت هداية هذا الإنسان ليست على يدي، تيأس من دعوتهم، فالمعنى الذي يليق بحق هذا النبي الكريم لا يزيد عن أنه ظنَّ أنه لا حرج من ترك قومه، أو أن الله سبحانه وتعالى لن يُقَدِّر هدايتهم على يديه، فغادرهم.. 
 
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً ﴾
مغاضباً من قومه..
﴿ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ﴾ 
 
ركب سفينةً بعد أن هَجَرَ قومه، وفي أثناء إبحارها في البحر، وكانت حمولتها زائدة اقترح صاحب السفينة على رُكَّابها أن يلقوا بأحدهم في البحر، فاقترعوا فوقعت القرعة عليه، فالتقمه الحوت.
 
إذا ذكر الإنسان هذه المصيبة لا تبقى أمامها مصيبة، دخل بطن الحوت، والحوت في ظلمات البحر، وفي ظلمات الليل، في ظلماتٍ ثلاث، تصوَّر نفسك في بطن حوتٍ، وفي بحرٍ، وفي الليل، هذه هي المصيبة. 
 
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
أي ظلمت نفسي حينما تركت قومي، كنت ظالماً، حرمتُها الخير، أنت يا رب رَشَّحتني بأن أكون هادياً لهؤلاء، فيئست منهم، وتركتهم، وغادرتهم فكنت إذاً من الظالمين، ولعلَّ هذا عقابٌ لي، سريع الفهم، لذلك الإنسان كلَّما ألمَّت به ملمَّة فلينظر أو فليتعظ بهذه المصيبة، هذه المصيبة، ومع ذلك أنقذه الله منها، فضع مصيبتك جنب هذه المصيبة ترى أنها لا شيء، لو أنها بهذا المستوى فالله موجود.
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ ﴾ 
 
إذا ألمَّت بأحدنا مصيبة فهل يذكر الله عزَّ وجل ؟ هناك أناسٌ ينسون الله، لأن المصيبة تُنسي أحياناً، 
 
 
 
 
= قال عليه الصلاة والسلام:
((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ـ هناك نوع من الفقر ينسيك كل شيء ـ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوِ الدَّجَّالَ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ))
( من سنن الترمذي: عن " أبي هريرة " ) 
 
في هذه القصَّة لقطة مهمَّة جداً، أنه من علامة الإيمان أن الله سبحانه وتعالى إذا ساق للمؤمن مصيبةً لا ينسى ربه أثناء المصيبة، وقع في البحر، التقمه الحوت، دخل بطن الحوت، وهو في بطن الحوت.
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
لا إله إلا أنت سبحانك
 
لذلك أُثِرَ عن النبي عليه الصلاة والسلام الدعاء الشهير: 
 
((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)) ( من سنن الترمذي: عن " أنس بن مالك " ) 
 
كلَّما أَلَمَّ بنا أمرُ فلنقل:  ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ)) 
 
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ 
 
بعضهم قال: " إنَّ الثناء دُعاء "، ماذا فعل هذا النبي ؟ وَحَّدَ وأثنى على الله.. لا إله إلا أنت سبحانك، هنا وحَّد.. سبحانك
وأثنى عليه، سبَّحه، ومجدَّه، هذا دعاء..
﴿إني كنت من الظالمين، فاستجبنا له ونجيناه من الغم﴾
انتهت القصَّة، وما أروع التعقيب..
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ 
 
قصة يونس قانون وعبرة
هنا الموعظة، ليست هذه القصَّة خاصَّة بهذا النبي الكريم، إنها محتملةَ الوقوع مع كل مؤمن، كن صادقاً، كن مستسلماً، كن راجياً، كن مستقيماً وادعُ ربَّك وانظر كيف يستجيب لك.. 
 
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ 
 
هذا التعقيب يجعل من القصَّة قانوناً في التعامل بين الله وبين عباده، هذه التعقيبات مهمة جداً..
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ 
 
هذه قصَّة.. ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14)﴾ ( سورة القصص ) 
 
جعلها قانوناً.. 
 
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾
هذه قصَّة، جعلها الله قانوناً..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ 
 
هل بعد هذه الآية من بِشارة ؟ كن مؤمناً وكفى، يقول الله لك: هكذا أنا أُنجي كل مؤمن، ليست هذه خاصَّةً بسيدنا يونس إنها لكل نبي بل لكل مؤمن، كن مؤمناً وكفى.. 
 
 
 
 ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً ﴾
قصة زكريا عليه السلام
هذا النبي لم يكن له ولد، فلمَّا كبرت سنُّه، واشتعل رأسه شيباً، نظر إلى إخوانه المؤمنين، خاف عليهم من بعده، فطلب من الله عزَّ وجل غلاماً يخْلُفُهُ في توجيه هؤلاء، لذلك:
﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾
كلِّها حالات ميؤوس منها، هناك عقم، امرأته كانت عاقراً، الآن كل إنسان عقيم ليس لديه أمل، هناك ضعف في المبيض، عُقم، لكن ربنا عزَّ وجل بيده كل شيء، حينما توقِن أن الأمر كله بيد الله يختلف الأمر..
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾
معنى: وأصلحنا له زوجه
بعضهم قال: " أصلحنا له زوجه بأن جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقرا ".
وبعضهم قال: " بأنَّا جعلناها ذا أخلاقٍ رضيَّة بعد أن كانت ذات أخلاقٍ سيِّئة "، فإذا شكا شخص من سوء خلق زوجته فلا ييأس منها، لأن الله سبحانه وتعالى قد يُصلحها له، قد تنقلب هذه الزوجة المُشاكِسة إلى امرأة طيِّبة، كلُّه بيد الله، لذلك كان الإمام الشعراني رضي الله عنه يقول: " أنا أعرف مقامي عند ربي من أخلاق زوجتي "، قد يجعل الله تأديب الزوج على يدِ الزوجة، فإذا صَلَحَت العلاقة بين الزوج وربِّه كانت الزوجة أطوع له من بنانه.
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ﴾
سيدنا يحيى..
﴿ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ﴾
كلمة وأصلحنا له زوجه تحتمل المعنيين، تحتمل أنها أصبحت ولوداً بعد أن كانت عاقراً، وتحتمل أنها أصبحت ذات أخلاقٍ رضيَّة بعد أن كانت ذات أخلاقِ شَرِسَة..
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا ﴾
المسارعة إلى الخير
هؤلاء الأنبياء..
﴿ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾
﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
( سورة الحديد: من آية " 21 " )
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾
( سورة آل عمران: من آية " 133 " )
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ﴾
الإنسان عبارة عن بضعة أيَّام كلَّما انقضى منه يومٌ انقضى بضعٌ منه، أخطر شيء بحياة الإنسان الزمن، الزمن يسير، فالمغبون من تساوى يوماه، ومن لم يكن في زيادة فهو في نُقصان..
﴿ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾
﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ﴾
هذه حالة الرجاء، العلماء قالوا: الرجاء يعني ثلاثة أشياء ؛ يعني شوقاً إلى المرجو، وخوفاً من فَوْتِهِ، وعملاً لتحصيله، فكل شيءٍ ترجوه لابدَّ أن تحبَّ أن الوصول إليه، ولابدَّ أن تخاف أن لا تصل إليه، ولابدَّ أن تسعى كي تصل إليه، شوقٌ وخوفٌ وسعيٌ، إذاً أنت ترجو وإلا أنت تتمنَّى، والله سبحانه وتعالى لا يتعامل بالتَمَنِّيات..
﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾
( سورة النساء: من آية " 123 " )
لا يتعامل إلا بالرجاء، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا﴾
( سورة الكهف: من آية " 110 " )
﴿ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾
قصة مريم الصدِّيقة
هذه السيِّدة مريم، إنها صِدِّيقة وليست نبيَّة، ولكنَّها جاءت هنا ليبيِّن الله سبحانه وتعالى أيضاً لطيف امتنانه، وعظيم فضله وإحسانه على هذه المرأة التي هي من بين أربع نساءٍ كملن بنصِّ الحديث الشريف، قال عليه الصلاة والسلام:
((كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ))
( من صحيح مسلم: عن " أبي موسى " )
﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ﴾
كانت عفيفةً طاهرةً إلى أبعد الحدود..
﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾
معجزة ولادة عيسى عليه السلام
فمع أنها كانت عفيفة لم يَمْسَسَها بشر الله سبحانه وتعالى شاء أن يجعلها تَلِدُ نبيَّاً عظيماً هو سيدنا عيسى، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام..
﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ﴾
من جيب درعها، ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾
خيانة دعوة لا خيانة فراش..
﴿ فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11)وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا، وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ(12) ﴾
( سورة التحريم )
في بهذه الآية نُكتة بلاغيَّة دقيقة، تقول مثلاً: " أقرَّ الله عين الأمير، وأجرى له ماءها، وكفاها الله شرَّها، فالعين الأولى عين الأمير، والعين الثانية.. كفاه الله شرَّها.. هي عين الحسود، والعين الثالثة عين الماء، أقرَّ الله عين الأمير، وكفاه الله شرَّها، وأجرى له ماءها، هذه الطريقة البلاغيَّة اسمها الاستخدام، أن تذكر اسماً وتعيد عليه ضميراً بمعنىً آخر من معاني هذا الاسم..
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ﴾
بمعنى آخر..
﴿منْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ(12)﴾
﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾
وحدة مَعِينِ الأنبياء
أي أن هؤلاء الأنبياء أخذوا من معينٍ واحد، وتلقَّوا من مصدرٍ واحد، ودعوا دعوةً واحدة، واستهدفوا هدفاً واحداً، بأن الله واحد، ودعوته واحدة، وأنبياؤه لا نفرِّق بين أحدٍ من رسله، وفحوى دعوة الأنبياء واحدة، إنها التوحيد..
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)﴾
( سورة الأنبياء )
هذه فحوى رسالات الأنبياء جميعاً، إذاً:
﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾
هناك وحدة في الكون، وحدة في الخلق، وحدة في التسيير، وحدة في التربية، وحدة في التبليغ، وحدة في مضمون الرسالات، هناك وحدةٌ في هذا الكون تبدَّت لأن هؤلاء الأنبياء جميعاً على اختلاف تواريخ بعثهم، وعلى اختلاف أقوامهم، وعلى اختلاف بيئاتهم، وعلى اختلاف طِباعهم إنهم يمثِّلون دعوة الله للبشر..
﴿ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)﴾
منعطفاتٍ في تاريخ العلوم الغذائيَّة
ثمة موضوعٌ دقيقٌ عرضته في خطبة الجمعة، وهو أن هناك منعطفاتٍ في تاريخ العلوم الغذائيَّة، هذه المُنعطفات منها اكتشاف الجراثيم، ومنها اكتشاف الفيتامينات، وكيف أن الجراثيم سببٌ لبعض الأمراض الكثيرة، وكيف أن نقص الفيتامينات أيضاً سببٌ لبعض الأمراض الكثيرة، أما الشيء الذي اكتُشِف حديثاً والذي يُعَدُّ منعطفاً خطيراً في علوم الصحَّة والتغذية أنَّ الغذاء الخالي من الألياف.. أي أن المدنيَّة الحديثة عَلَّمتنا أن نشرب الفاكهة عصيراً، وأن نأكل الخبز أبيض نقيَّاً، وأن نستخدم السكَّر الأبيض الناعم، وأن تكون أغذيتنا كلُّها مصفَّاة نقيَّة.. العلماء اكتشفوا أن الألياف التي جعلها الله قِوام الفاكهة، وقِوام الخضراوات، وقِوام البقول والحبوب، ألياف أقرب مثل لها القمح، فيه مادَّة نشويَّة صرفة وفي قشور القمح.. أي النخالة.. فهذه ندعها جانباً، ونجعلها علفاً للحيوان، ونأخذ لُبَّ القَمح، كل شيء سكَّري أيضاً توجد معه ألياف.. سيلولوز.. هذه ندعها جانباً ونأخذ المادَّة السكريَّة المُصفَّاة.
قال بعض العلماء: كان العلماء يظنَّون أن الألياف عُنصراً زائداً عن الحاجة، وأن دورها يتميَّز بالسَلبيَّة، لذلك عرَّفوها على قدر علمهم المحدود بأنها جزءٌ من الطعام يعبُر القناة الهضميَّة إلى أن يُهْضَم، إذاً هي عبءٌ على جهاز الهضم، لذلك عمدوا إلى تنقية الطعام منها، فقدَّموا ما يسمَّى بالأطعمة النقيَّة، السكَّر النقي، والدقيق الأبيض، وعصير الفاكهة، وما شاكل ذلك، الآن اكتشف أن هذه الألياف هي سبب للهضم الجَيِّد، لأن حجم الألياف في الأمعاء يؤثِّر على جدران الأمعاء فيجعلها تتحرَّك حركةً تعينُ على هضم الطعام، هذه واحدة، فمن دون ألياف تتكاسل الأمعاء ويصاب الإنسان بالإمساك، مع وجود هذه الألياف بحجمها، وفاعليتها تجعل الهضم في أعلى درجة، هذه واحدة.
الثانية: اكتشف أن هذه الألياف تمتّصُّ الماء، وبامتصاص الماء يصبح الهضم ليِّناً.
الشيء الثالث: اكتشف أن هذه الألياف تمتصُّ المواد الدسمة في الجسم.

===========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.