مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

الاثنين، 14 مارس 2022

الدرس : 10 -و15- سورة يونس - تفسير للدكتور النابولسي

بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
الدرس : 10 - سورة يونس - تفسير الآيات 39 – 41*
1985-11-22
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ
1 ـ من الجهل الفاضح الحُكمُ على الشيء قبل تصوُّرِه :
الحقيقة أن في الإنسان صفاتٍ عديدة بعضها مقبول ، وبعضها جيد ، وبعضها مرذول ، من صفات الإنسان العقلية المرذولة أن يُكَذِّبَ قبل أن يحيط بالشيء علماً ، أي أن يحكم على الشيء قبل أن يعرفه ، كيف يتم ذلك ؟ إن هناك صفات خُلُقِيَّة مذمومة ، وهناك صفات عقلية مذمومة ، من الصفات العقلية المذمومة أن تكذِّب بالشيء قبل أن تعرفه ، أن تستخف به دون أن تحيط به علماً ، أن ترُدَّهُ وأنت جاهلٌ به ، هذه صفةٌ عقليةٌ ذميمةٌ في الإنسان ، من صفات السُذَّج ، من صفات عامة الناس ، من صفات الدَهْمَاء ، من صفات المتخلِّفين عقلياً ، أما أن تكذِّب بالشيء قبل أن تعرفه ، قبل أن تحيط به علماً ، قبل أن تدرك حقيقته ، قبل أن ترى أبعاده فربنا سبحانه وتعالى ذمَّ هؤلاء الذين كذَّبوا بالقرآن قبل أن يعلموه ، وكم من إنسانٍ في هذا العصر لا يعرف حقيقة هذا الكتاب ، يقول : هذا الكتاب ليس لهذا العصر ، فيه غيبيات ، لو عرف أن سعادته كلها ، لو عرف أن سعادته وسعادة مجتمعه ، والإنسانية جمعاء منوطةٌ بتطبيقه لاختلف الأمر ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
2 ـ الحقيقة إما منقولة وإما مبادَر إليها :
في هذه الآية شيئان هامان بارزان .. الشيء الأول : إن الإنسان أحياناً يبادر مبادرة ذاتية لمعرفة الحقيقة ، وأحياناً تُنْقَل إليه الحقيقة ، إذا كان قد بادرها أو نقلت إليه ، وعقلها ، وطبقها فهو في خير ، أي سواءٌ عليك أفكرت تفكيراً ذاتياً بربك وبآياته الكونية ، واستنبطت من هذه الآيات أن لك رباً عظيماً ، خالقاً قديراً حكيماً ، سوف يعيد الخلق مرةً ثانية ليجزي كل إنسانٍ بما عمل ، سواءٌ عليك أبادرت أنت لمعرفة الحقيقة أم نُقلت إليك الحقيقة ، لابدَّ من أن تعرف الحقيقة ، إما عن الطريق النظر ، وإما عن طريق السمع ، عن طريق النظر قال تعالى :
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض ﴾
(سورة يونسِ)
إنسان لم ينظر ، فإذا جاءه الحق عن طريق إنسان آخر ، وأسمعه إياه فقد صار هذا الحق حجةً عليه .
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ ﴾
(سورة الأنفال : من الآية 23 )
فإما أن تفكِّر أنت ، وإما أن تنظر ، وإما أن تسمع ، وأما الكفار فقد وصفهم ربنا عزَّ وجل فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6)خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾
(سورة البقرة)
لأن منفذي القلب هما السمع والبصر ..
﴿ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة ﴾
(سورة البقرة)
أي أن منفذ القلب عليه غشاوة ، وهو حب الدنيا ، صار عندنا منفذان للحق : إما أن تنظر ، وإما أن تسمع ، أما هؤلاء الذين كفروا بهذا الكتاب ، كذبوا به ، ولم ينظروا في آياته ودلالاتها ، ولم ينظروا في نظامه الاجتماعي ونظامه الاقتصادي ، ولم ينظروا في تشريعاته ، ولم ينظروا في دلالاته وآياته ، ولم ينظروا في مضامينه ، ولا في إعجاز صياغته وبيانه ، ولا في إعجازه الرياضي والحسابي والدلالي ، لم ينظروا في القرآن ، وحينما نقل إليهم تفسيره الصحيح أيضاً لم ينظروا في هذا التفسير .
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
3 ـ بين التفسير والتأويل :
أما التأويل فإنه يختلف عن التفسير ، أحياناً تقول : الصَّبا الرياح الشرقية هذا تفسير ، ولكن التأويل إذا ورد النص فيما يعارض الواقع فعليك أن تؤول النص بما لا يخالف الواقع ، فإذا قلت : في بيتنا بحرٌ ، البحر لا يكون في البيت ، إذاً : في بيتنا رجلٌ علمه كالبحر ، فانتقلنا من الحقيقة إلى المجاز .
وكمثل على التأويل ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
(سورة الفتح : من الآية 10)
الله عزَّ وجل منزه عن التبعيض ، ليس له شيء بعض منه ، منزَّه عن التجزيء ، لكن يد الله بمعنى قوته فوق أيديهم ، فحينما يتعارض النص مع الواقع عندئذٍ تحاول أن توفِّق بينه وبين الواقع ، هذا هو التأويل ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 7 )
هذه المتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله والراسخون في العلم ، لذلك أمرنا سبحانه قائلاً :
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا(59)﴾
(سورة الفرقان)
ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
التأويل هنا أي توضيح الآيات إيضاحَاً وتفسيراً ، وتوفيقاً مع الكمال الإلهي ، لو فرضنا أن أحداً قال لك : الله ضار ، طبعاً ، يضر لينفع ، يبتلي ليجزي ، يأخذ ليُعطي ، أنت أوَّلت هذا الاسم بشكلٍ يليق بكمال الله عزَّ وجل ، وإذا اكتفيت وقلت : الله يضر العباد ، فهذا فهمٌ قاصر ، الله سبحانه وتعالى يضرُّهم لينفعهم ، هذا هو التأويل ، أوَّلت الضرر لصالح العباد وبشكلٍ يتناسب مع كمال الله عزَّ وجل ، إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ))
[ صحيح مسلم عن أبي هريرة ]
هنا الذنب بمعنى الإحساس بالذنب ، أي إن لم تحسوا بذنوبكم لم يكن فيكم خيرٌ يرتجى ،
(( لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ))
أي أنَّهم إذا خالفوا أدق مخالفة ، إذا وقعوا في أصغر ذنب ، اشتعلت نفوسهم فرقاً من الله عزَّ وجل ، هؤلاء ناجون ، فحينما يَرِدُ النص بشكلٍ لا يتناسب مع قائله تُؤوِّلُهُ ، هذا مذهب بعض العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل ، فهنا الآية :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
أي أن الإنسان ليس له حق أن يكذب بآية أو يأخذ بآية مكانها قبل أن يعرف تأويلها ..
﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾
( سورة آل عمران : من الآية 7 )
هنا الوقف عند كلمة :
﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾
( سورة آل عمران : من الآية 7)
وقال تعالى أيضاً :
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾
( سورة آل عمران : من الآية 18)
من علامات العلماء الصادقين أنهم يشهدون للناس بعدالة الله عزَّ وجل .
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾
( سورة آل عمران : من الآية 18)
من خلال هذا الشرح السريع تبيَّن أن معنى التأويل توجيه النص توجيهاً يليق بقائله .. فصحابي جليل يقول : " أنا أصلي بغير وضوء ، وأحب الفتنة ، وأكره اليقين ، وأفر من رحمة الله ، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء " ، قالوا له : " ما هذا يا فلان ؟! " ، فدخل سيدنا عليٌ كرم الله وجهه على أمير المؤمنين عمر ، وقال له : " يقول فلان : كذا وكذا !! " ، قال له إنه يعني : " أنه يصلي على النبي بغير وضوء ، ويحب الفتنة ، وهي المال ، لأن الله تعالى يقول :
﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾
( سورة التغابن : من الآية 15)
ويكره اليقين ، واليقين هو الموت ..
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ(99)﴾
(سورة الحجر)
ويفر من رحمة الله ، يعني من المطر ، وله في الأرض زوجةٌ وولدٌ ما ليس لله في السماء " ، هذا التأويل أي أنك أولت الكلام بما يليق بصاحبه ، الكلام لا يُحْمَلُ على نَصِّهِ يحمل على قائله .
إذا قال الله سبحانه وتعالى :
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾
(سورة العنكبوت)
الفتنة معناها دقيق جداً ، ويليق بكمال الله عزَّ وجل ، فالفتنة هي الامتحان وإظهار ما في النفس ، إذا قال سيدنا موسى لرب العزة :
﴿ إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ ﴾
(سورة الأعراف : من الآية 155 )
فيجب أن تُؤول هذه الآية ، بمعنى هذا امتحانك وبلاؤك ، لتكشف الناس ، لتفرزهم ، لتميز الخبيث من الطيِّب ، هذا هو معنى الآية .
وإذا قال الله :
﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء ﴾
( سورة فاطر : من الآية 8)
هذه تؤوَّل بمعنى أنه من يشاء من العباد أن يهتدي فالله عزَّ وجل يهديه ، والإنسان مخير في أن يسلك أياً من السبيلين .
﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 7)
لذلك :
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾
(سورة الأحزاب)
هذه آية محكمة لا تحتاج إلى تفسير ، ولا إلى تأويل ، ولا إلى كتاب تفسير ، واضحة كالشمس ، معظم آيات القرآن الكريم من هذا النوع ، إن الله لا يحب الكاذبين .
﴿ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا(36)﴾
(سورة النساء)
هذه آيات محكمات .
مثلاً :
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)﴾
(سورة الصف)
هذه آية محكمة ليس فيها شيء غامض ، لكن :
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾
( سورة السجدة : من الآية 13)
هذه آية متشابهة ..
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 7)
الله لم يشأ لي الهدى ، هذه الآية تفسَّر ، الله لا يريدني أن أهتدي..
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 7)
فالإنسان إما أن يعرف التأويل أو أن يحضُر مجالس التأويل كي يكون على بينةٍ من ربه .
مثالٌ من واقع الناس عن التأويل غير الصحيح :
البارحة كنت مع شخص قال لي : يا أخي :
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾
( سورة التغابن : من الآية 16)
أي ببذل الحد الأدنى من استطاعتكم ، قلت له : لا ليس كذلك بل معناها :
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾
( سورة التغابن : من الآية 16)
ببذل الحد الأقصى ، هو أولها على الحد الأدنى ، أي على قدر ما تستطيع ، وتأويل هذه الآية على الحد الأقصى ، والدليل الآيات الأخرى :
﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 102)
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾
(سورة الحج : من الآية 78)
﴿ اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)﴾
(سورة الأحزاب)
هذه الآيات كلها تتناقض مع هذا التأويل الذي يطابق هوى نفسه ، أي ببذل الحد الأدنى من الاستطاعة .
إذاً التأويل أن توجِّهَ النصَّ توجيهاً يتناسب مع قائله ، يجب أن تفسِّر الانتقام كاسمٍ من أسماء الله بما يليق مع أسمائه الحسنى .
﴿ وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾
(سورة الأعراف : من الآية 180)
فالمنتقم ، والجبَّار ، والضار ، والقابض ، هذه كلها أسماءٌ لله حسنى ، يجب أن تؤولها تأويلاً يتناسب مع عظمة الله عزَّ وجل ، ومع كمالاته اللامحدودة ، هؤلاء تسرَّعوا ، كذَّبوا بهذا القرآن قبل أن يتأملوا في آياته ، في مضامينه ، في كل ما ينطوي عليه من حقيقة ، وما ينطوي عليه من منهجٍ رشيد .
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
(سورة الإسراء : من الآية 9)
كذبوا ..
قال لي صديق كان يعمل بعمل إداري وَّزع بلاغاً على من دونه .. كان مدير ثانوية .. البلاغ خال من أية كلمة ، ورقة بيضاء ، وضع فوقها ورقةً كتب عليها : إلى السادة المدرسين يرجى تبلغ البلاغ المُرْفَق .. يطلب التوقيع على البلاغ المرفق .. قال لي : فوجئت بأن معظمهم وقَّع ، والبلاغ المرفق كان ورقة بيضاء ، أي أنه وَقَّعَ على الورقة ، ولم يقرأ مضمونها ، هذه صفةٌ عقليةٌ ذميمة ، أن تكذِّب بالشيء قبل أن تحيط به علماً ، أو أن تصدقه قبل تحيط به علماً ، هذه صفةٌ ذميمة ، والأذم منها أن يأتيك التأويل الصحيح الذي يليق بحضرة الله عزَّ وجل وبعدها تنبذ هذا القرآن وراء ظهرك ولا توليه أي اهتمام .
﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا(30)﴾
( سورة الفرقان )
فنبذوه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
إذاً :
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
أي لم يحيطوا علماً به ، وقبل أن يستمعوا إلى التأويل الصحيح كذبوا به .
4 ـ معنى آخر للآية : وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ
من معني التأويل وقوعُ الوعد والوعيد :
وهناك تفسيرٌ آخر لهذه الآية لا يقلّ عن الأول ، تأويل القرآن الكريم يعني وقوع وعده ووعيده ، فإذا وعد اللهُ عزَ وجل المرابيَ بحربٍ من الله ورسوله ، أي أنْ تدمَّر أمواله وتصادر فهذا تأويل هذه الآية :
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِه ﴾
( سورة البقرة : من الآية 279)
هذه آية ، متى يأتي تأويلها ؟ إذا صودر المال كله ، أو احترق ، أو تلف ، أو دمِّر ، تدمير هذا المال تأويل الآية ، إذاً : هم كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، لكن تأويله لم يأتِ بعد ، هذه ( لما ) ، حرف جزم مثل لم ، وعندنا في علم النحو : لما ، ولام الأمر ، ولا الناهية ، حروف جزم تجزم الفعل المضارع ، و تختص لما بوضع دقيق فمثلاً إذا قلت : لم يحضر المدرس ، فهذه ( لم ) تنفي الفعل المضارع وتجعله ماضياً ، يُسَمّونها حرف جزمٍ ، ونفيٍ ، وقلب ، نفت حدوث الفعل ، وجزمته ، وقلبت معناه من المضارع إلى الماضي ، لم يحضر المدرس .
أما إذا قلت : لن يحضُر المدرس فهذه ( لن ) تنفي المستقبل مع أنها حرف ناصب ، ولكنك إذا قلت : لما يحضر المدرس ، أي حتى هذه الساعة لم يحضر ، لكن احتمال حضوره قائم ، مثلاً الساعة التاسعة يبدأ درسه ، صار الوقت الآن التاسعة وخمس دقائق مثلاً ، لا تقل : لم يحضر ، هذا غلط باللغة ، وإذا قلت : لن يحضر أيضاً غلط ، كأنك علمت الغيب بهذه الطريقة ، لو أنه خبَّر وقال : لن أحضر هذه الساعة تكتب للطلاب : لن يحضر المدرس لأداء الدرس هذه الساعة، لن للمستقبل ، وإذا كان عدم حضوره في الماضي تقول : لم يحضر بعد ما مضت الساعة بكاملها، والساعة انشطبت ، تكتب : لم يحضر المدرس ، يوقع الموجه ، تغيّب المدرس ، أما إذا كان تأخره لمدة خمس دقائق فلا تقل : لم يحضر ، ولا تقل : لن يحضر ، ولكن ماذا ؟ تقول : لما يحضر ، أي حتى الآن لم يحضر مع أن احتمال حضوره لا يزال قائماً .
مرابٍ قال لك : مضى علي زمن ، وأنا أرابي ، ولم يصبني شيء من ضرر ، هذه أموالي تزداد ، وآخذ فوائدها بالمائة ثمانية عشر ، أودعت مائة ألف دولار في بنك أجنبي ، فصار المبلغ الآن مائة ألف وثمانية عشر ألف دولار ، وما اعتراني ضرر ولا خطر ، وأنا مرتاح من كل هموم الحياة ، مبلغ ضخم يأتيني كل شهر ، أصرفه ، ولست مسؤولاً أمام أحد ، لا أعطي لأحد فاتورة ، ولا أريد بياناً ، ولا أريد إيضاحاً للحسابات ، نقول له :
﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾
تأويل هذه الآية ، آية الربا ، لما يأتِ بعد لكنه سوف يأتي ، أحد الناس مثلاً تجاوز حدوده في علاقته مع النساء ، قال لك : ماذا جرى ؟ نقول له : هذه الآية لما يأتِ تأويلها ، إذا وجد الرجل رجلاً آخر في بيته فقد وقع تأويل الآية :
مَن يزنِ يُزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
***
التأويل صار بمعنى آخر ، أي تحقق وعد الله ووعيده .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ ﴾
(سورة النور : من الآية 55 )
لو أن الله استخلفهم في الأرض لكان استخلافه لهم تأويلاً لهذه الآية .
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
(سورة طه : )
إذا رأيت إنساناً ضاقت به الدنيا ، وقال لك : الحياة لا تطاق ، همومٌ تكاد تمزِّق قلبي ، وحالي كما قال الشاعر :
رماني الدهر بالأرزاء حتى فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
كل نبل مصيبة .
فكنت إذا أصابتني سهامٌ تكسَّرت النصال على النصالِ
يعني أنه لم يَخلُ مكان في جسمي من رمية سهم .
إذا قال لك إنسان : الحياة شاقة ، أهون شيءٍ فيها الانتحار ، فقل هذا تأويل قوله تعالى :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)﴾
(سورة طه : )
وإذا التقيت بمؤمن ، وقال لك : ليس في الأرض من هو أسعد مني ، الحمد لله ، أنا غارقٌ في نِعَمِ الله ، فهذه الحالة تأويل قوله تعالى :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ﴾
(سورة فصلت : من الآية 30)
ما هو التأويل إذاً ؟ تحقُّقُ وعد الله ووعيده في الحياة ، حيثما تحقق وعد الله ووعيده في الحياة فهذا تأويل الآية .
إن رأيت صاحب مالٍ عريض صودرت أمواله كلها ، ورأيته على وشك الانهيار ، فهذا تأويل قوله تعالى :
﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾
(سورة البقرة : من الآية 279)
هذا التأويل .
اقرأ القرآن الكريم ، حيثما وردت آيةٌ فيها وعدٌ أو وعيد ، حيثما وردت آية تأخذ شكلَ قانونٍ ، أي علاقةٌ ثابتة بين متحولين ، ثم رأيتها تقع في الحياة ، فهذا هو التأويل ، فالبطولة ليست بأن تصدِّق بالشيء بعد أن يحدث ، مثلاً : بناء في وضع خطر براعة المهندس أن يكشف لك الخطورة قبل أن يقع البناء ، فإذا وقع هل لك أن تكذِّب وقوعه ؟ انتهى الأمر ، من منا يكذب أن بناء وقع ، لكن العلم يفيد قبل أن يقع البناء عندئذٍ تخلي البيت من السكان ، والحقيقة أنها إذا وقع التأويل لم ينفع ذكاء، وانتهى الأمر .
فرعون نفسه لما أدركه الغرق قال :
﴿ حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
(سورة يونس : من الآية 90)
فقال له الله تعالى :
أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ
(سورة يونس)
هذا الإيمان جاء بعد فوات الأوان ، جاء في وقتٍ غير مناسب ، هذا الإيمان لا يجدي ..z
﴿ وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ ﴾
(سورة النساء : من الآية 18)
هذه ليست توبة ، التوبة أن تكون وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخاف الفقر ، وتأمل الغنى ، أن تدفع من مالك الحلال لله عزَّ وجل ، هذا الوقت المناسب .
فمثلاً عندما أتنبَّأ بشيء بحسب فهمي لكتاب الله ، فهي بطولة ، لكن بعد أن يأتي الموت ، كما فعل فرعون عند الغرق ، إذ صار الأمر يقيناً ، ولا مجال للتوبة عندئذٍ ..
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)﴾
(سورة ق)
انتهى الأمر ، فإذا جاء تأويل الآيات انتهى الأمر ، فإذا آمنت أو لم تؤمن فأنت مرغمٌ على الإيمان ، تأويل القرآن بمعنى وقوع وعده ووعيده .
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
(سورة النحل : من الآية 97)
إذا صادفت أخوين ، أحدهما مستقيم والآخر غير مستقيم ، الأول طاهر النفس والآخر دَنِسٌ غير طاهر ، الأول كسبه حلال ، والآخر كسبه حرام ، وزرتهما بالعيد في يوم واحد ، وسمعت من الثاني شكوى ليس لها حدود ، وهو في ضيق ، وتبرُّم ، وينتهي قائلاً لك : الحياة تعيسة ، وسمعت من الأول حمداً ورضىً من دون حدود ، فهاتان الحالتان تأويل قوله تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
(سورة الجاثية)
إذاً بهذه الأمثلة فُهِم معنى التأويل ، وهو تحقق وعد الله ووعيده .
5 ـ التكذيب بعد وقوع التأويل مستحيل :
إن التكذيب بعد وقوع التأويل مستحيل ، فهذا المهندس بما أوتي من فهمٍ دقيق ، وإدراكٍ عميق ، كشف أن في البناء خطراً ، وأنذر أصحابه بوقوع البناء ، انتهت مهمته ، وهم إن كذَّبوه وقع البناء فوق رؤوسهم وقتلهم جميعاً ، وإن صدَّقوه نجوا ، لكن إذا كذَّبوه ثم وهم نائمون رأوا فجأةً البناء ينهار عليهم ، فهم خلال ثوانٍ يصدقون قوله ، لكن متى صدقوه ؟ بعد فوات الأوان ، فالبطولة أن تصدِّق قبل أن يأتي التأويل ، أما بعد أن يأتي التأويل فلن تجد مكذباً إطلاقاً ، لم يبق على وجه الأرض مكذِّب ، البطولة إذا رأيت ما يشبه القنبلة أن تسارع لمعرفة ما إذا كان فيها فتيل أم ليس فيها فتيل ، لكن إذا جربتها بنفسك لا سمح الله ووقع انفجار ، فإنك خلال ثانية تعرف ، لكن متى ؟ بعد أن أطاحت بصاحبها ، عرف أنها قنبلة ، هل استفاد من هذه المعرفة ؟ لا ، إن البطولة أن تعرفها قبل أن تنفجر ، هذا التأويل ، أن تعرف ما سيكون قبل أن يكون ، أن تعرف أن هناك يوماً آخر ، فيه ساعة اللقاء مع الله عزَّ وجل ، فيه حساب دقيق ..
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ ))
[ من سنن الدارمي عن معاذ بن جبل ]
هل أصبحنا بمستوى معلوماتنا خلال كذا درس ، خلال سنة من الدروس ؟ لقد صار لدينا معلومات دقيقة جداً فهل نحن في مستواها ؟ وهل كل شيء عرفناه طبقناه .. عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ؟ وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَ أَبْلاهُ ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا وَضَعَهُ ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
1 ـ علاقة الظلم بالتكذيب :
هذا كلام رب العالمين ، فما علاقة الظلم بالتكذيب ؟ وإليك بعض الأمثلة قالوا لك : حصل بركان ، وثار في كولومبيا ، قُتل من جرائه خمسة وثلاثون ألف نسمة ، قال آخر : خمسة وعشرون ، وأحدهم كذب الخبر ، فماذا يحصل ؟ هناك أشياء إذا كذبتها لا يحصل شيء ، كما في الخبر السابق ، و قال أحدهم : ليس من المعقول أن يكونوا قد صعدوا إلى القمر ، حجمه صغير لا يتسع لمركبة فضائية ، كذب بارتياد الفضاء الخارجي فليس لتكذيبه عواقب وخيمة لا عليه ولا على غيره .
أما بعد ؛ فاستمع لقوله تعالى :
﴿ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾
ما علاقة التكذيب بالظلم ؟ إن كل مكذبٍ بمنهج الله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يقع في الظلم ، فإذا كذبت بغض البصر فقد كذبت بهذا التشريع ، وأطلقت البصر كما تشاء فإطلاق البصر هذا لابدَّ من أن يبذر في النفس بذور الهوى ، ويثير كوامن الشهوة ، ويلهبها ، ثم لابدَّ من أن تعتدي على أعراض الآخرين ، والتكذيب بغض البصر لابدَّ من أن ينتهي بك إلى العدوان على أعراض الناس ، ومثله التكذيب بأن الربا محرم ، لابدَّ من أن يحملك على أكل الربا ، وأكل الربا ظلم ، الفكرة دقيقة ، فعلاقة التكذيب بالظلم علاقة إيجابية مسلم بها .
إذا كذبت بالمنهج الصحيح فالعاقبة وخيمة ، لو أن إنساناً كذب أن يكون الوقود السائل وقوداً للسيارة ، ووضع ماء مكانه ، هل تسير السيارة ؟ لا تسير ، هذا تكذيب له مضاعفات ، وضع الماء فبقيت السيارة في مكانها واقفة ، لما كذب أن الوقود بنزين ، فوضع مكان البنزين ماء ، معنى ذلك بقي أنه في أرضه جامدًا ، فليس كل تكذيب خطرًا ، إذا لم تصدق أنه قضى خمسة وثلاثون ألفاً في بركان ، بل قلت : خمسة وعشرون ألفاً ، فالأمر سيّان ، هذا تكذيب غير خطر ، لكن إذا كذبت بمنهج الله عزَّ جل فهذا تكذيب خطر ، تكذيب مدمر ، ينتهي بصاحبه إلى الظلم ، والظلم ظلماتٌ يوم القيامة ، هذه دقة الربط في القرآن .
﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾
2 ـ النتيجة عقب السبب : كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ
كذب الذي من قبلهم فانظر ، هذه الفاء للترتيب على التعقيب ، أي لابدَّ من أن تأتي النتيجة عقب السبب ، كذب بالآيات ..
﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾
أشخاصٌ كثيرون يحلفون يميناً غموساً في المحاكم ، لا تنقلهم أقدامهم مترين إلا ووقعوا في حالاتٍ مَرضيةٍ وبيلة ..
﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾
معاني الحروف المقطّعة :
1 ـ علاقة الفساد بعدم الإيمان :
ما علاقة الفساد هنا بعدم الإيمان ، أي إن لم تؤمن بهذا الكتاب فلابدَّ من أن تكون مفسداً في الأرض ، تفسد العلاقات بقولك ، بنظراتك ، بتعاملك مع الناس ، ما دمت لا تؤمن بهذا القرآن فلابدَّ من أن تكون مفسداً ، فإما أن تكون مصلحاً ، وإما أن تكون مفسداً ، كأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات يبين لنا ما ينتج عن الإيمان به ، وما ينتج عن عدم الإيمان به .
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾
إن لم تؤمن بهذا الشرع الحنيف بهذا المنهج القويم .
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
(سورة الإسراء)
فلابدَّ من أن تكون مع المفسدين .
﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ
1 ـ لا يرفعك مدحٌ ولا يخفضك جرحٌ :
عندك في البيت كيلو من معدن الحديد ، قلت للناس : هذا ذهب ، قالوا لك : كذب ، هذا حديد ، وهو ذهبٌ فعلاً ، مَن الخاسر ؟ هم ، من الرابح ؟ أنت ، ولو أن عندك كيلو من الحديد وقلت للناس : هذا ذهب ، وهو حديد ، فصدقوك ، كلهم صدقوك ، لكن مَن الذي يخسر ؟ أنت ، علاقتك مع نفسك ، كل محاولات الدجل ، والاستعراض ، وعرض العضلات أشياء سخيفة ليس لها وزن عند الله عزَّ وجل ، لك حقيقة عند الله ، لا تجرحها إساءة ظن الناس بك ، ولا يرفعها ثناء الناس عليك .
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾
(سورة البقرة : من الآية 134)
علاقتك مع نفسك ، فأرح نفسك من أقوال الناس ، لا تستجدِ ثناءهم .
(( أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ))
[ سنن الترمذي عن عقبة بن عامر ]
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، طوبى لمن وسعه بيته وبكى على خطيئته .
هذه النصيحة الإلهية ..
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ ))
[ الترمذي عن أبي هريرة ]
هذا المثل لا تنسوه أبداً ، معك كيلو من المعدن ، الناس جميعاً ظنوه حديدا ، وهو ذهبٌ ، ثمنه مائة وثمانية وخمسون ألفاً ، فهم واهمون ، وأنت مصيب ، معك كيلو من الحديد ، أوهمت الناس بأنه ذهب ، وصدقوك ، وهو حديد فأنت الخاسر المخادع .
﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾
2 ـ لا تملك إلا عملَك فأصلحْه :
عملي ملكي ، وكل شيء غيره عارية مستردة ، فالإنسان ماذا يملك ؟ هل يملك البيت ؟ لا يملكه ، لابدَّ من أن يخرج منه بشكلٍ أفقي ، أبداً ، إذا كان للواحد بيت يقول : أين سوف يغسلونني ؟ له غرفة خاصة فهل يغسلوه فيها أم في الحمام ، أو المطبخ ... لابدَّ من أن يخرج منه ، دخل إليه ، ثم يخرج منه بعد أن سكنه عشر سنوات مثلاً ، هناك خرجة ما بعدها رجعة ، فالبيت ليس لك ، السيارة ليست لك ، تؤخذ مفاتيحها ، ويركبها أناس آخرون ، وعندك خزانة فيها مقتنيات ثمينة ، ليست لك ، وعندك أرض ارتفع سعرها مائة ضعف ، ليست لك ، ليس لك إلا عملك ..
(( يا قُيَيس ، إن لك قريناً تدفن معه وهو حي ، ويدفن معك وأنت ميت ، فإن كان كريماً أكرمك وإن كان لئيماً أسلمك ، ألا وهو عملك ))
[ ورد في الأثر ]
﴿ وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
(سورة العصر)
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا (103)الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
(سورة الكهف)
﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ ﴾
لا تبالِ ، لأنّ مَن عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به .
﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾
أي ..
﴿ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾
(سورة فاطر)
كل إنسان محاسب على عمله ، لن تحاسبوا على عملي ، ولن أحاسب على أعمالكم .
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ(43)إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
طبعاً هذه الآيات تحتاج إلى شرحٍ تفصيليٍ إن شاء الله ننتقل إلى تفصيلها في درسٍ قادم .

===
بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
الدرس : 15 - سورة يونس - تفسير الآيات 74 – 82
1985-12-27
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، بعد أن وردت قصَّة سيدنا نوحٍ عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام ، وكيف أنَّ قومه كذَّبوه فأغرقهم الله قال الله سبحانه وتعالى :
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
1 ـ إرسال الرسل دليل على رحمة الله بالعباد :
الحقيقة أنَّ خلق السماوات والأرض يدلُّ على أسماء الله الحُسنى ، ومن بين هذه الأسماء الحُسنى قوَّته ، وغناه ، وعلمه ، وحكمته ، وإرسال المُرسلين إلى البشر يدلُّ على رحمته بالعباد ، فمثلاً أبٌ إن كان له ابنٌ شاردٌ لا يدَّخِرُ وسعاً في نصحه وإرشاده صباح مساء ، ليلا ونهارا ، فإرسال الأنبياء والمرسلين إلى البشر دليل رحمة الله سبحانه وتعالى ..
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ﴾
أي :
﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)﴾
( سورة الرعد )
2 ـ لكل قوم نبي يهديهم بطريقته :
وبعضهم فهم هذه الآية فهماً موسَّعاً ، لكل إنسان طريقةٌ يهتدي بها ؛ هذا يهتدي بالإقناع ، وهذا يهتدي بالتضييق ، وهذا يهتدي بالخَوْف ، وهذا يهتدي بمصيبةٌ تصيب ماله ، وهذا يهتدي بالمرض :
﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)﴾
( سورة الرعد )
ولكل قومٍ رجلٌ يدعوهم إلى الطريق الصحيح
إذاً :
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
3 ـ من سمات دعوة الأنبياء الوضوح :
أي أن الشيء البارز في دعوة الأنبياء الوضوح ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))
[ ابن ماجه عن العرباض بن سارية ]
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾
( سورة الأنعام : من الآية 83)
و ما اتخذ الله وليَّاً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه .
(( إن الله عالِمٌ يحبُّ كل عالِم ))
[ ورد في الأثر ]
من سمات دعوة الأنبياء البارزة الوضوح ، الأمور واضحةٌ جداً ، هناك تفسيرٌ كاملٌ للكون ، تفسير للحياة ، للموت ، للبعث من بعد الموت ، لما قبل الحياة ، لما بعد الحياة ، تفسير للعمل ، تفسير لكل شيء ، الأنبياء يقدِّمون تفسيراتٍ متكاملة لكل مظاهر الحياة ، بينما النظريَّات الأخرى تقدِّم تفسيرات مجتزأة ، مبتورة ، ناقصة ، غير كاملة ، لا تشفي الغليل ، الحق يثبت والباطل يبطُل أي يزول ..
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
(سورة الإسراء )
لأن هذه النظريَّة الوضعيَّة ليست مستندة إلى أساسٍ متين ، لذلك لا تقف على قدميها ، تتلاشى سريعاً ، تتداعى سريعاً ..
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
4 ـ البينات هي المعجزات :
بعضهم فسَّر البينات بالمعجزات ، والمعجزة دليلٌ قاطع على أن هذا الإنسان مرسلٌ عند الله ، لأن إحياء الميت لا يستطيعه أحد من بني البشر ، فإذا أحيا سيدنا عيسى ميّتاً فهذا بإذن الله ، إذاً هو رسول الله ، أن تنقلب العصا إلى ثعبانٍ مبين هذا لا يستطيعه بشر ، لابدَّ من أن هذا الذي فعل ذلك هو رسول الله ، الذي جعل البحر طريقاً يبساً هذا ينبغي أن يكون رسول الله ، الذي جاء بهذا التشريع المُعْجِز الذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرة هذا أيضاً رسول الله ..
﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
إذاً بعض تفسيرات البيِّنات المعجزات التي أيَّد الله بها أنبياءه .
5 ـ البينات هي الحجج القاطعة :
وبعضهم قال يضيف إلى هذا المعنى : " البينات هي الحجج القاطعة " ، كيف يُقال : إن محمداً سحر أصحابه ، بماذا سحرهم ؟ بالمنطق ، بالحق الذي لا يُرَدُّ عليه ، ماذا قال بعض الأعراب ؟ قالوا : " والله ما قال النبي شيئاً وقال العقل خلاف ذلك " ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( قِوام الرجل عقله ، ومن لا عقل له لا دين له ، ومن لا دين له لا عقل له ))
[ ورد في الأثر ]
(( وتبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، إن الرجلين ليستوي عملهما وبرُّهما وصومهما وصلاتهما ، ويختلفان في العقل كالذرَّة جنب أُحُد ))
[ ورد في الأثر ]
عندما خلق الله العقل قال له :
(( أقْبِلْ فأَقْبَلْ ، ثم قال له : أدْبِر ، فأدْبَر ، فقال : وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبَّ إليَّ منك بك أعطي وبك آخذ ))
[ ورد في الأثر ]
فإذا استخدم الإنسان عقله استخداماً صحيحاً لحظةً واحدة ، وأجرى محاكمةً منطقيَّة سَعِدَ إلى الأبد ، فإذا عطَّل عقله أو أساء استخدامه شقي إلى الأبد ، مناط السعادة والشقاء .. بك أعطي ، وبك آخذ .. فاستخدام العقل بشكلٍ صحيح مناط السعادة ، ومناط الشقاء تعطيله أو إساءة استخدامه ..
﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
6 ـ المؤمن له من هذه الآية نصيب :
المؤمن له من هذه الآية نصيب ..
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾
( سورة الأنعام : من الآية 83 )
مؤمن ، مخلص ، صادق معه حجَّة ، ويمشي على بيّنة ..
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ﴾
( سورة يوسف : من الآية 108 )
علامة المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه يدعوك على بصيرة ، الأمور عنده واضحةٌ تماماً ..
﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾
فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
التكذيب صفة للأمم الكافرة قديما وحديثا :
لهذه الآية مجموعة تفسيرات ، أوجه هذه التفسيرات : أن الكفر هو هُو ، قديماً وحديثاً ، كل أمةٍ كفرت بربها لها موقفٌ من الحق ثابت هو التكذيب ، التكذيب في الأمم جميعاً مهما اختلفت عصورها وأمصارها..
﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾
هذه الصيغة أشدُّ أنواع النفي ، لا تنفي الحَدَث إنما تنفي الشأن ، قلت هذا كثيراً سابقاً : إذا قلت : فلان لم يسرق فأنت بهذا نفيت عنه الحدث ، أما إذا قلتَ : فلان ما كان له أن يسرق نفيتَ عنه إمكانيَّة السرقة ، فهذا الذي يغرق في بحر شهواته ، وينغمس في الباطل ، ويعتدي، ويطغى ما كان له أن يؤمن ، فإذا أمضى الإنسان كل وقته في الملاهي ما كان له أن يكون طبيباً ، لا ننفي عنه حيازته لهذه الشهادة بل ننفي عنه إمكانيَّة أن يكون طبيباً ، هذا تقريب للواقع ، فهؤلاء الأقوام :
﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾
هذا الذي كذَّب به أسلافهم هم سيكذِّبون به ، ولم يؤمنوا ولن يؤمنوا لأن إمكانيَّة الإيمان وهم على ما هم عليه معدومة ، كأن تنظر إلى إنسانٍ غارق في ملذاته وفي شهواته ثم يقول لك : سأكون مهندساً ، تقول له : ما كان لك أن تكون مهندساً ، إنَّك في وادٍ والعلم في وادٍ آخر ، فهذا النفي المراد منه أشدُّ أنواع النفي ، المبالغة في النفي ..
﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِين
1 ـ الطبع على القلب نتيجة لكسب الإنسان :
أي أن الإنسان أحياناً لضيقٍ في أفقه أو لسرعةٍ في فهمه يظنُّ أن الله سبحانه وتعالى ختم على هذا القلب فلا يهتدي أبداً ، يقول لك : الأمر بيد الله ، فعلاً بيد الله هذه كلمة حق ، لكن إذا قلت في مَعْرِض الهداية ، إذا اعتذرت بعدم هدايتك أن الأمر بيد الله فهذه كلمة حقٍّ أريد بها باطلٍ ، أودُّ أن أضرب لكم بعض الأمثلة : فإذا دخلت إلى بيت صديقٍ لك يحمل الدكتوراه ، وهذه الشهادة معلَّقةٌ على الحائط ، فقرأتها فإذا فيها : " لقد منح مجلس الجامعة فلاناً الفلاني درجة الدكتوراه في الطب ، أو في الهندسة ، ونال حقوق هذه الشهادة وامتيازاتها "، أنت في هذا العصر هل تفهم من هذا الكلام أن رئاسة الجامعة طرقت أحد الأبواب ، وقالت لفلان : تعال لنعطيك الدكتوراه ، أم أن هذا الذي مُنحَ هذه الشهادة كان أهلاً لها ؟ أُلِّفَتْ لجنةٌ للإشراف على أطروحته ونُوقِشت هذه الرسالة ، وقد مضى على تأليفها سنواتٌ عدَّة ، وكان قبلها قد حاز الماجستير ، وقبلها قد حاز الِّليسانس ، وقبلها قد حاز الثانويَّة بعلاماتٍ مرتفعة ، فهل تفهم أيها الأخ الكريم من كلمة : منح مجلس الجامعة فلان الفلاني الدكتوراه ، هل تفهم من هذه الكلمة أن هذا المنح بلا مقابل ؟ بلا استحقاق ، بلا جهد ، بلا تعب ، بلا كسب ، بلا أهليَّة ، بلا اصطفاء ؟ أخي : الله جعل فلاناً نبيَّاً ، هذه النبوَّة هبة من الله ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾
( سورة آل عمران )
بالمقابِل إذا قرأت في بعض البلاغات : يُحْرَم فلان الفلاني من التقدُّم للامتحان ، فهل تظن أن مجلس الجامعة يحرم طالباً بلا سبب ؟ لا بل حرمه إما لانقطاعه عن الدوام ، أو لتطاوله على بعض المدرِّسين ؟ أو لإساءته للنظام ، فكلمة مُنِحَ وكلمة حُرِمَ بالبديهة من دون تعقيد مقابلها أعمال قام بها هذا الذي مُنْحَ الشهادة ، وأعمال سيَّئة قام بها هذا الذي حُرِمَها ، إذاً عندما يقول ربنا عزَّ وجل :
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
لا ينبغي لك يا أخي الكريم أن تفهم كلمة نطبع بمعنى أن الله عزَّ وجل شاءت إرادته أن يختم على قلب فلان فلا يهتدي ، لا ، الإنسان من بني البشر يترفَّع عن ذلك ، لا يَحْرِم ، ولا يعاقب ، ولا يفصل ، ولا يطرد ، ولا يمنح إلا ذا استحقاق ، فهل يُعقَل أن الله سبحانه وتعالى و بلا سبب طبع على قلب فلان ؟ إن طبع على قلب فلان فلا بد من سبب ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ
﴿ كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾))
[سنن الترمذي ]
2 ـ الفعل من الله والسبب من العبد :
إذاً : ربنا عزَّ وجل إذا عزا الفعل إليه فمعنى ذلك : أن هذا الفعل من حيث التنفيذ بيده ، أما من حيث السبب بيد فلان ، كأن تقول : المعلِّم رَسَّبَ فلاناً الفلاني ، قرار الترسيب بيد المعلِّم ، وهو الذي كتب رَسَبَ في صفِّه ، وهو الذي وقَّع ، لكن هذا الطالب رسب لاستحقاق ، لأنه كسول ، فإذا رأيت فعلاً في القرآن قد عُزِيَ إلى الله لا يذهبنَّ بك الظن إلى أن الله شاءت إرادته أن يفعل بفلانٍ كذا وكذا من دون اختيارٍ منه ، نحن مخيَّرون في إرادتنا ، ومسيَّرون في أعمالنا ، وتسييرنا لما اخترنا .
تسيير الله عزَّ وجل يُحْمَلُ على ثلاث احتمالات ، إما أن يسيرنا الله سبحانه وتعالى لتحقيق اختيارنا ، فهذا التسيير تجسيدٌ لاختيارنا ، وإما أن يسيرنا لتشجيعنا على نيات طيّبة أو عملٍ طيّب ، فهذا إكرام ، وإما تسييرٌ يؤدِّبنا فيه على تقصيرنا ، إذاً التسيير من الله تعالى إما تجسيد ، أو تشجيع ، أو تأديب ، وعمل الإنسان مبنيٌّ على اختياره ، والإنسان مخيَّر ، لكنَّه إذا اختار معصية الله عزَّ وجل يسيِّرُهُ الله لتحمُّل نتائج عمله ، كما لو أن مواطناً اختار أسلوباً خاطئاً في التعامل ، والقوانين تحظِّر هذا الأسلوب .. مثلاً .. هو اختار ذلك ، وبعد أن اختار ذلك ليس مخيَّراً بعدها في أن لا يلقى نتائج أعماله ، لابدَّ من أن يلقى نتائج أعماله بحسب اختياره ، فكلمة :
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
إذا عُزِيَ الطبع إلى الله عزَّ وجل فلأسبابٍ تعود كليَّةً إلى العبد لقوله تعالى :
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
( سورة الصف : من الآية 5 )
3 ـ الذي يعتدي لا بد له من عقاب :
هناك معنى آخر يُستنبط من هذه الآية ، وهو أن الذي يعتدي .. بالمعنى الواسع لا بد له من عقاب ..
العدوان هو تجاوز الحد :
الكلمات في القرآن الكريم تأخذ معنىً ضيّقاً ومعنىً واسعاً ، فالعدوان في القرآن بمعناه الواسع كل تجاوزٍ للحقوق ، لو تجاوز الإنسان على حقِّ إنسانٍ ما فقد اعتدى عليه ، لو جعلت إنساناً ينتظر بلا سبب ساعةً فقد اعتديت على وقته من دون سبب ، إذا سمحت لنفسك أن تأخذ من ماله فوق ما تستحق فقد اعتديت على ماله ، إذا نظرت إلى امرأةٍ لا تحلُّ لك فقد اعتديت على زوجها ، هذه عِرْضُهُ ، واعتديت عليه ، واعتديت على نفسك فَحَرَمْتَها الإقبال على الله عزَّ وجل ، فالعدوان بهذا المعنى واسعٌ جداً ، إلقاء نظرةٍ على امرأةٍ لا تحلُّ لك نوعٌ من أنواع العدوان ..
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)﴾
( سورة المؤمنون )
تجاوَزَ الحد ، إذا أساء إنسانٌ إليك فرددت عليه بإساءةٍ أكبر فأنت معتدٍ ..
﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾
( سورة الشورى : من الآية 40 )
4 ـ المعتدي لا يهتدي :
الملخَّص : المعتدي لا يهتدي ، لماذا ؟ تفسير ذلك أنه بعدوانه منقطعٌ عن الله عزَّ وجل ، وأنت تعرف الله بنور الله ، وتهتدي إلى الله بالله ، ولا ملجًأ من الله إلا إليه ، فالمعتدي بعدوانه محجوبٌ عن رَبِّه ، وإذا حُجِبَ عن الله عزَّ وجل حُجِبَ عن أنواره ، أنَّى لأنوار الله عزَّ وجل أن تدخل إلى قلبه ؟! ..
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾
لذلك :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
( سورة الماعون )
هو نفسه ..
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
( سورة القصص : من الآية 50 )
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)﴾
( سورة العلق )
انتهت الآية ، أي أن هذا الذي ينهاك عن الصلاة لا تُجَشِّم نفسك مشقَّة سماع كلامه إطلاقاً ، وليكفك منه أن تنظر إلى أفعاله الدنيئة ، إلى انحرافاته ، إلى شذوذه ، إلى أنانيَّته ، إلى حبِّه لذاته ، إلى استعلائه ، إلى بناء مجده على أنقاض الآخرين ، إلى بناء غناه على فقرهم ، إلى بناء حياته على موتهم ، هذا الذي ينهاك عن الصلاة لا تنظر إلى كلامه ، لا تنظر في فحوى كلامه ، بل انظر إلى أفعاله ، أفعاله تؤكِّد لك أنه ليس على الحق ، لو أنه على الحق لأمرك بالصلاة ..
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)﴾
انظر إلى أخلاقه ، إلى ورعه ، إلى عفَّته ، إلى كماله ، إلى شجاعته ، إلى كرمه ، انظر، لو لم يكن للمؤمن لسان فَعَمَلُهُ ينطق بأنه مؤمن ، ولو بقي الكافر صامتاً فَعَمَلُهُ وحده ينطق بأنَّه كافر ، فيه لؤم ، يقابل الإحسان بالإساءة ..
أعلِّمه الرماية كل يـومٍ فلمَّا اشتدَّ ساعده رماني
وكم علَّمته نظم القوافي فلمَّا قال قافيةً هـجاني
***
فلذلك :
﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾
بمعنى أن المعتدي لا يهتدي ، لذلك لا تُحمِّل نفسك مشقَّة مناقشة المعتدي لأنه لن يهتدي ..
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9)﴾
( سورة الأعلى )
ولكن شَمِّر لهداية المُستقيم فإنه قريب المأخذ ، سريع التأَثُّر ، سريع الاستجابة .
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
1 ـ هذا هو فرعون بطغيانه :
من فرعون ؟ ماذا قال فرعون ؟ قال فرعون :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
( سورة القصص : من الآية 38 )
هذا قاله في المرة الأولى ، أما في المرَّةِ ثانية :
﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
( سورة النازعات )
فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25)﴾
( سورة النازعات )
يعجب المفسِّر لماذا بدأ الله بالآخرة وثنَّى بالأولى ، مع أن الترتيب المنطقي الأولى والآخرة ، لأن قوله الآخر الثاني كان أشدَّ كفراً من قوله الأول ، فالله سبحانه وتعالى بدأ بالأقوى .
﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25)﴾
﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ(51)﴾
( سورة الزخرف )
رجل بدأ يناجي ربَّه فقال متعجباً : يا رب ..
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43)فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ﴾
( سورة طه )
2 ـ مع ذلك فلابد من اللين والرفق :
نبيٌّ كريم .. هو سيدنا موسى .. يأمره الله سبحانه وتعالى أن يُلين القول لمن قال :
﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
( سورة النازعات )
ولمن قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
( سورة القصص : من الآية 38 )
فأنت أيها الأخ الكريم المؤمن إذا كان فرعون على ما هو عليه من الكفر يجب أن تقول له قولاً ليناً ، فما قولك إذا دعوت إنساناً إلى الله عزَّ وجل ؟ فهل تقسو أنت عليه ؟
يروي التاريخ أن أحد الأمراء جاءه واعظ فقال له : " أيها الأمير سوف أعظك بغلظة " ، فقال هذا الأمير : "ولِمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله مَن هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني ، أرسل موسى إلى فرعون فقال له :
﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ﴾
( سورة طه من الآية 44 )
إذاً : مَن أمر بمعروفٍ فليكن أمره بمعروف ..
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾
( سورة آل عمران : من الآية 159)
ولن تستطيع أن تؤثِّر في قلوب الناس إلا بإحسانك قبل لسانك ، وقلوب أهل البلاد المفتوحة فُتِحَت للمسلمين قبل أن تُفْتَح بسيوفهم ..
(( رأس العقل بعد الإيمان بالله التودُّد إلى الناس ))
(( بُعِثْت بمداراة الناس ))
[ ورد في الأثر ]
والمداراة بذل الدنيا من أجل الدين ، بينما المُداهنة بذل الدين من أجل الدنيا ، لذلك التودُّد إلى الناس ، لين القول ، الرحمة ، العمل الطيّب ، الخدمة ، هذه رسل الهدى ، قبل أن تنصحه بالصلاة أَرِهِ من شخصك مثلاً أعلى في التعامل ، كن صادقاً معه ، كن رحيماً به ، كن عطوفاً عليه ، ابذل من وقتك ومالك لخدمته حتى يهتدي بهداك .
إذاً :
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾
حتى الكافر ..
وفي الأثر : " لو يعلم الكافر انتظاري لتركِ معاصيه لتقطَّعت أوصاله من حبّي ، و لمات شوقاً إليّ ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف إرادتي بالمقبلين " .
﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43)فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)﴾
( سورة طه )
قال أحد العلماء : علمت رحمتك بمن قال :
﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾
( سورة القصص : من الآية 38 )
فكيف رحمتك بمن قال : لا إله إلا الله ؟!
هذه الآيات تعلِّمنا الأدب ، تعلمنا اللطف في الدعوة إلى الله ، والآية الكريمة تكفي ..
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ(159)﴾
( سورة آل عمران )
جاءه أعرابيٌّ وقال له : " أعطني مما أعطاك الله " ، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام ، قال له : يا أعرابي هل أحسنت إليك ؟ " قال : " لا ولا أجملت " ، فهبَّ أصحاب النبي ليقتلوه لأنه تجاوز الحدود ، فقال النبي: " دعوه " ، أخذه إلى البيت وزاده من العطاء ، فقال : " يا أعرابي هل أحسنت إليك ؟ " ، قال : " نعم وأجملت " ، قال : " لقد جئتنا فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت ، وفي نفوس أصحابي من قولك شيء ، فإذا خرجت إليهم فقل لهم مثلما قلت إلي " ، فلمَّا خرج إليهم قال النبي الكريم : " إنَّ هذا الأعرابي سألنا فأعطيناه فقال الذي قال ، فلمَّا زدناه قال غير ذلك ، أهكذا يا أعرابي ؟ " قال : " نعم أحسنت وأجملت " . ثمَّ انطلق في سبيله ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : " مثلي ومثل هذا الأعرابي كرجلٍ له ناقة شردت عنه فجعل أصحابه يتبعونها فزادوها نفوراً فقال : خلَّوها إليّ ، تبعتها ووضعت لها من خشاش الأرض وأرحلتها فانقادت إليّ ، لو تركتكم وشأنكم لهلك وهلكتم " .
[ ورد في الأثر ]
هذه رحمته صلَّى الله عليه وسلَّم .
قال أعرابي جلف للنبي : " والله ما عدلت يا محمَّد " ، فقال عليه الصلاة والسلام وقد نبض عرقٌ في جبينه ، وكان هذا العرق إذا غضب ينبض ، قال له : " ويحك فمن يعدل إن لم أعدل ؟ " . مَنْ في الأرض يعدل إن لم أعدل ..
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾
3 ـ علية القوة قدوة لغيرهم :
إلى فرعون ومَلَئه ، ليس فرعون وحده هو المقصود بل عليَّة قومه ، هؤلاء الذين هم قدوةٌ للناس ، يميل الناس حيث يميلون ، إن سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصَّته قبل كل شيء وقال : " إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتينَّ بواحدٍ وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني " ، فعلَّق بعضهم على هذه القصَّة بقوله : " فصارت القرابة من عمر مصيبة " ، مصيبةٌ كبيرة أن تكون قريباً من عمر ، لأن العقاب سوف يتضاعف .
المقصود إذاً فرعون وملئه ، هؤلاء الذين ينظر الناس إليهم .. ويجلونهم .
﴿ بِآيَاتِنَا ﴾
الدالَّة على الرسالة والنبوَّة ؛ العصا ، وشقُّ البحر ، واليد البيضاء..
﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِين
1 ـ من أسباب الكفر الاستكبارُ ، والتواضع علامة الإيمان :
أحد عوامل الكفر الكِبْر ، ومن علامات المؤمن التواضع ، تواضعوا لما تتعلَّمون منه ، وتواضعوا لمن تعلِّمونه ، والتواضع لابدَّ منه في التعلُّم والتعليم ، وقال أحد العارفين بالله لبعض تلامذته وقد تجاوز حدَّه : " يا فتى نحن إلى أدبك أحوج منَّا إلى علمك " .
الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ(215)﴾
( سورة الشعراء )
2 ـ تواضع النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه :
اخفض جناحك ، كان عليه الصلاة والسلام يُكْرِمُ أصحابه كثيراً ، كان يحبُّهم ، كان يثني عليهم ، كان يعرف أقدارهم .. " والله يا معاذ إني لأحبُّك " .. ولسيدنا سعد : " هذا سعدُ ، هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ".
سيدنا أبو عبيدة أمين هذه الأمَّة ، كل صحابيٍّ جليل أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام وصفاً يليق به .. " لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر " .. "تسابقت أنا وأبو بكر فكنَّا كهاتين ، ما صُبَّ في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر " ، هكذا يجب أن تحبَّ من تعلّمه ، تحبَّهم ، أن تعرف أقدارهم ، أن تنزلهم منازلهم ، أن تقدِّر أعمالهم ، تضحيَّاتهم ، ورعهم ، استقامتهم لكي يحبُّوك ، يحبَّهم ويحبُّونه ..
﴿ فَاسْتَكْبَرُوا ﴾
أمَّا فرعون وملؤه فقد استكبروا ، والكِبْر مدمِّر ..
(( لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ))
[ مسلم عن عبد الله بن مسعود ]
ما من فاتحٍ على وجه الأرض فتح بلدةً إلا وأخذه التيهُ ، وأخذته الغطرسة والاستعلاء والعلو ، وما شاكل ذلك ، إلا النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة دخلها مطأْطِئَ الرأس ، فلمَّا جمعهم ، وكان بإمكانه أن يقضي عليهم وَاحداً واحداً ، هؤلاء الذين كذَّبوه ، هؤلاء الذين أخرجوه ، هؤلاء الذي ائتمروا على قتله ، هؤلاء الذين عذَّبوا أصحابه ، هؤلاء الذين قتَّلوا أصحابه ، هؤلاء الذين حاربوه ليستأصلوا شأفته ، هؤلاءِ هؤلاء لمَّا كانوا في قبضته وكان بإمكانه أن يقضي عليهم، وأن يدمِّرهم عن آخرهم قال لهم : " ما تظنُّون أني فاعلٌ بكم ؟ " ، قالوا : "أخٌ كريم وابن أخٍ كريم " . قال : " اذهبوا فأنتم الطُلقاء " . هكذا الرحمة ، هكذا الحكمة .
أبو سفيان قُبيل إسلامه قال له : " والله ما أعقلك ، ما أحكمك ، ما أرحمك ، ما أوصلك!"، قال عليه الصلاة والسلام : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " .. أي أن هذا زعيم قريش ، فجعل له شأناً .. من دخل الكعبة فهو آمن ، ومن دخل بيته فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن .. فلمَّا عَلِمَ أبو سفيان قال : " ما أعقلك ، ما أرحمك ، ما أحكمك ، ما أوصلك ! " .
﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾
عدي بن حاتم عندما رأى النبي يكلِّم امرأةً مسنَّةً ، ضعيفةً ، فقيرةً وقف معها طويلاً قال : " والله ما هذا بأمر ملك " ، هذا ليس ملك ، دخل إلى البيت وليس في بيت النبي الكريم إلا وسادة من أدمٍ محشوَّةً ليفاً ، قال له النبي : " اجلس عليها " ، قال : " بل أنت " ، قال : "بل أنت ضيفنا " ، قال : " فجلست عليها وجلس هو على الأرض " .
يا محمَّد أتحبُّ أن تكون نبيَّاً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال له : " بل نبيّاً عبداً أجوع يوماً فأذكره وأشبع يوماً فأشكره " ..
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)﴾
( سورة الأحزاب )
﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾
3 ـ أكبر جريمة أن تجرم في حق نفسك :
فكلمة جريمة لا يوصف بها إنسان لم يدفع فاتورة الهاتف أبداً ، هذا يقال له : مُقَصِّر، إن لم يدفع الفاتورة يقطعوا عنه التيار ، يدفع الغرامة مع الفاتورة ، هل تصف إنساناً خالف القانون مخالفة طفيفة بأنه مجرم ؟ لا ، كلمة مجرم للقصم ، لعمل كبير ، لعمل له مضاعفات خطيرة ، تقول : هذه جريمة يا أخي ، هذا مجرم قتل إنساناً بريئاً ، يجب أن يُقْتَل ، فإذا وصف الله سبحانه وتعالى إنساناً ما بأنَّه مجرم فمعنى هذا أنَّ جريمته كبيرةً جداً ، وهل مِن جريمةٍ أكبر من أن تكون مجرماً بحقِّ نفسك ؟ هذه النفس التي ملَّكَكَ الله إيَّاها ، جعلها أمانةً بين يديك ..
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
( سورة الشمس )
إنسان حضر مجلس علم ، تعرَّف إلى الله ، تعرَّف إلى شرع الله ، تعرَّف إلى أحكام القرآن ، تعرّف إلى هذا الدين الصحيح ، وطَبَّقه والتزم به فسعِد وأسعد ، هذا زكَّاها ، أما هذا الذي بقي جاهلاً ، وتاه في شهواته ، وانغمس في ملذَّاته ، وأكل من مالٍ حرام ، واعتدى وطغى وبغى ، ونسي المبتدى والمنتهى هذا مجرم ، ما قتل قتيلاً ، ما آذى أحداً ولكنه لَحِقَ شهواته ، هذا مجرمٌ بحقِّ نفسه ، هذه النفس بدل أن تَخْلُدَ في الجنَّة جعلها تخلد في جهنَّم ، وهل من جريمةٍ أكبر من أن يكون الإنسان مجرماً بحقِّ نفسه ؟ يكفي ألا تصلي ، ألا تذكر الله سبحانه وتعالى ، يكفي أن تدع نفسك وما تشتهي ، يكفي ألا تحاول تطهير نفسك من عيوبها ، فأنت بحقِّ نفسك مجرمٌ ..
﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(75)فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ﴾
مِنْ عند مَنْ ؟ من عند خالق الكون ، خالق السماوات والأرض ، رافع السماء بلا عمد ، من عند الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون..
(( لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ))
[ صحيح مسلم عن أبي ذر ]
ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه .
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ﴾
فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ
تهمة السحر قديمة متجددة :
من عند الذات العَلِيَّة ، مِن عند الرحمن الرحيم ، من عند الحكيم العليم ، من عند الغني ، من عند القوي ، من عند العزيز ، من عندنا ، لذلك قال بعضهم : " لا تنظر إلى صِغَر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت " ..
﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾
قالوا عن سيدنا موسى : إنَّه ساحر ، وقالوا عن سيدنا رسول الله : إنَّه ساحر ، وشتَّانَ بين المعجزتين ، تشابهت قلوبهم وتشابهت أقوالهم .
مرَّةً طُلِبَ من بعض البلاد الإسلاميَّة أن تُوفِد إلى عاصمة أوروبيَّة بعض المنشدين وبعض قُرَّاء القرآن ليُتلى في هذه العاصمة الأوروبيَّة على أنَّه فلكلور أي على أنه فن شعبي ، أي أنه مثل الرقص الشعبي .. تشابهت قلوبهم ، سحر ، تقاليد ، عادات ..
﴿ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾
أهذا سحر ؟! كتاب هداية يقال له : سحر ؟ لو عرفه البشر لآمنوا به ولسعدوا به ، سحر ؟! ..
﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ
هكذا تقولون ؟ حقٌّ واضحٌ كالشمس ، دلائل واضحة ، حجج قاطعة، معجزات ، أهذا سحر ؟
﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾
استمعوا الآن إلى حجَّتهم في ردِّ الحق :
﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ
1 ـ تهمة تغيير العادات والتقاليد :
أي أنت يا موسى هدفك أن تغيِّر عاداتنا وتقاليدنا ، أن تغيّر معالِم البيئة ، أن تغير طبيعة العلاقات فيما بيننا ، وهذا كلامٌ يقوله الناس اليوم ، هكذا نشأنا يا أخي ، هكذا رُبّينا ، أنت مِن أين جئت بهذا الدين الذي يفرِّق بيننا ؟ الإنسان المُعْرِض يحب أن يستمر على خطئه ، على ضلاله ، المفكِّر ليس له حق في أن يتقبَّل البيئة إلا إذا تطابقت مع كتاب الله ، ما هذه الدعوة الباطلة ؛ بيئة ، محيط ، تراث ، معطيات ، المحيط الخارجي ، المؤثِّرات ، التفاعل بين البيئة والمحيط ؟ لا يوجد إلا الحق ، فماذا بعد الحقِّ إلا الضلال .
جلس شاب مسلم على كرسي إلى جانب زوجته الشابَّة أمام مائتي امرأةٍ في أبهى زينة ، ما هذا ؟ عادات ، هكذا الأصول ، يصمد أمامهم ، فيقول عاقل ناصح ، ولكن لا يجوز ذلك ، فيجيبوه : لا لكي لا يتكلَّموا علينا نحن أهل الفرح ، يجب أن نري الناس أنَّ عندنا عروساً لائقاً ، أتعبد البيئة ؟ أتعبد التقاليد ؟ أتعبد العادات ؟ يجب أن تكون التقاليد غير الإسلاميَّة تحت أقدامنا ، أترتدي زوجتك هذه الثياب التي تبيّن خطوط جسمها ؟ هكذا الموضة ، أتعبدها من دون الله ؟ لا يجوز ، المسلم لا يبالي لا بتقاليد ، ولا بعادات ، ولا بأعراف ، ولا بأساليب ولا أنماط معيشة زائفة ، لا يبالي إلا بما في الحق من حق ، إلا بما في كتاب الله من دلائل ، وما عداه لا أفعله .
قالت أم سيدنا سعد له : " يا بني إن لم تكفر بمحمَّد لن أذوق الطعام حتى أموت " ، فقال سيدنا سعد : " يا أم لو أنَّ لكِ مائة نفسٍ فخرجت واحدةً وَاحدةً ما كنت لأكفر بمحمَّد ، فكلي إذا شئتِ أو لا تأكلين " ، بعد ذلك أكلت .
أحد الصحابة طلبت منه زوجته حاجةً لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام فقال لها : " والله يا فلانة إن في الجنَّة مِنْ الحور العين ما إنْ أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، َفَلأن أضحّي بكِ مِن أجلهن أفضل مِن أن أضحي بهنّ مِن أجلكِ " ، هكذا المؤمن حازم ، مواقفه صلْبَة ، مواقفه واضحة ، لا يلين ، يلين في الدنيا أما في أمور الدين فلا يلين .
﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾
أخي هذه تقاليد موروثة ، هكذا أصول الاحتفال بالزواج ، هكذا فعل آباؤنا وأجدادنا ، من أنت ؟
﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ﴾
2 ـ تهمة السعي وراء الجاه والرياسة والمنازعة عليها :
ظنَّ فرعون وملؤه بموسى الظنون ، ظنُّوه مثلهم يحبُّ الكِبْر ، لا فقد قيل : " إن الطيور على أشكالها تقعُ " ، الإنسان دائماً يظنُّ ما في نفسه ، الكذَّاب لا يُصدِّق الصادق ، يظنّه كذَّاب ، والصادق يصدِّق الكاذب ، ويظُّنه صادقا ، وإن الطيور على أشكالها تقع ، ففرعون اتهم سيدنا موسى بأنه إنما جاء بهذه الدعوة لينازعه على الكبرياء في الأرض ..
﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
التحدي الفرعوني :
أي أنَّ فرعون حوَّل هذه الدعوة إلى الله ، وهذه البينات ، وهذه المعجزات حوَّلها تحويلاً آخر ، ووصفها بأنَّها سحر ، أي أنَّ هذه الدعوة العظيمة كما يقال : فرَّغها من مضمونها ، ووصفها بوصفٍ ساذج ، بل ماكر خبيث ، وادعى أن هذا سحر ، وأنا عندي سحرة وسوف يردُّون عليك ..
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(79)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(80)فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين
1 ـ لا نجاح للمفسد :
أي أنه لا يمكن المفسد أن يحقِّق النجاح في الحياة ، المفسد لن يحقِّق النجاح لهذه الآية :
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
هؤلاء السحرة أرادوا إفساد هذه الدعوة الإلهيَّة فَسِحْرُهُم باء بالإخفاق ، سحرهم أبطله الله سبحانه وتعالى ، طبعاً القرآن الكريم من إعجازه أن الآية القرآنيّة الواحدة لها معنى في السياق ، فإذا نزعتها من بين أخواتها أصبحت مبدأً عاماً ، قاعدة ثابتة ، دعنا من هذه القصَّة كلِّها ، وانزع هذه الآية وحدها ، واكِّتبها على لوحة ..
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾
كل عمل هدفه الإفساد فأنت الذي تؤدي الثمن جراء إفسادك ، تبوء بالإخفاق ، لن يُصلِح الله عملك ، ما دامت النوايا سيئة ، ما دام الهدف دعم الباطل ، ما دام الهدف تبديل دين الله عزَّ وجل وشرعه ، إطفاء نور الله فلن يُصْلِح الله عملك ، لماذا ؟ لأنك تخالف سنَّة الكون ، ما معنى الحق ؟ الشيء الثابت ، ما معنى الباطل؟ الشيء الذي سوف يبطُل ، لا يقف على قدميه ، سرعان ما يتهاوى ..
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
( سورة الإسراء )
2 ـ الباطل زهوق :
أي أن من صفات الباطل الثابتة الزُهوق ، الزُهوق والباطل مترابطان ترابطاً وجودياً ، هذه فكرة دقيقة جداً ، فلنضرب الطائرة مثلاً تقول : شكل الطائرة كبير ، هناك بيت كبير أيضاً ، و بناء كبير ، و ساحة كبيرة ، هذا وصف غير صحيح ، ليس وصفاً جامعاً مانعاً ، صفها أيضاً تقول لي : فخمة ، هناك بيت فخم ، وهناك أثاث فخم ، وهناك سيَّارة فخمة ، هذا الوصف ليس صالحاً ، لازلت تقول كذا وكذا ، إلى أن تقول : تطير ، كلمة تطير هذه صفةٌ مترابطة مع الطائرة ترابطاً وجوديَّاً ، فإذا أُلغي الطيران أُلغيت الطائرة ، القرآن الكريم عبَّر عن هذه الحقيقة ، عن الترابط الوجودي بفعل كان التام .
فعل كان له معنيان ، توجد عندنا كان الناقصة مثل قولك : كان الجو ماطراً ، وأصل الجملة الجو ماطرٌ ، تركيب اسمي إسنادي ، إذا قلت : كان الجو ماطراً ، فأنت بهذا نقلت هذا التركيب الاسمي إلى الزمن الماضي ، فكان أفادت معنى المضي فقط ، ولم تفد معنى الحدث ، من هنا قالوا : فعل ماض ناقص ، لكنْ هنا كان ذات دلالة أخرى ، وهي كان التامَّة قلَّما ينتبه لها الناس ، وهي مثل : ما كان الإنسان ليظلم أخاه ، وهذه بمعنى ما وُجِدَ الإنسان ليظلم .
الآن :
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
أي منذ أن وُجِدَ الباطل صفته اللازمة المترابطة معه ترابطاً وجوديَّاً أنه زاهق ، فإذا كنت مع الباطل عقيدةً فأنت زاهقٌ معه ، وإن كنت مع رجل مُبْطِل فأنت زاهقٌ معه ..
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
أي أن الحق ثابت منذ الأزل وإلى الأبد ، وكلمات الله سبحانه وتعالى تبَيِّن الحق وتُحِقُّه وتوضِّحه ، وسوف نتابع هذه القصَّة إن شاء الله في درسٍ قادم .

======

ج2.سيدنا يونس للنابولسي


  
بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
الدرس : 08 - سورة يونس - تفسير الآيات 31 – 36
1985-11-08
 
 
 
 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
أيها الإخوة الأكارم ... وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
من دلائل ألوهية الله تعالى : 
 
الله مالكُ كل شيء فاطلبوا الرزق مِن عنده :
في هذه الآية مجموعة أدلة قاطعة على ألوهية الله سبحانه وتعالى وعلى ربوبيته ، من هذه الأدلة الرزق ، وكل إنسانٍ متعلقٌ برزقه ، فهذا الرزق من السماء والأرض ، فإذا كان الرجل يملك ثمن الطعام فهل يملك خلقه ؟ هل يملك صُنْعَهُ ، من جعل أشعة الشمس المسلَّطة على البحار منذ خمسة آلاف مليون سنة ؟ من جعل هذه البحار التي تزيد مساحتها على سبعين بالمائة من مساحة الأرض ؟ من جعل هذا الماء المالح يتبخر ماءً عذباً فراتاً ؟ من جعل الماء يعلق في الهواء على شكل بخار ماء ؟ من جعل الفروق الكبيرة في درجات الحرارة بين القطبين ، بين القطب الشمالي وخط الاستواء ؟ من خلال هذه الفروق الشاسعة تحرَّك الهواء ، إذا كان هناك حرٌ تمدد الهواء فتعرض المكان لضغط منخفض ، وإذا كان هناك بردٌ انكمش الهواء فصار هناك ضغطٌ مرتفع ، وبين الضغط المرتفع والمنخفض يتحرك الهواء ، من حرك الهواء ؟ من حركه حتى ساق هذا السحاب ؟ من جعله ينقلب إلى أمطار تنزل في الأماكن المناسبة ، وفي الأوقات المناسبة ، وفي الكميات المناسبة ، وفي الأنواع المناسبة ؟
 
قد تأتي الأمطار في أول العام فلا يستفاد منها الفائدة المطلوبة ، وقد تأتي في آخره بكمياتٍ قليلة فلا يستفاد منه ، وقد تقل الثلوج فلا تمتلئ الينابيع ، أمطارٌ غزيرة في مطلع العام ، في أواخر العام توقَّفت الأمطار ، نسبة الثلوج قليلةٌ جداً ، الينابيع معظمها جفَّ ، من يملك إنزال الأمطار من السماء ؟
ربنا عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة ووفق عدالةٍ مطلقة يمنع الأمطار عن بعض الشعوب ، عن بعض البلاد ماذا يحصل ؟
في إفريقيا سبع سنواتٍ عجاف ماذا نتج عنها ؟ كاد الناس يموتون جوعاً ، استنجدوا بأمم الأرض ، يبس النبات ، ومات الحيوان ، وكنت أرى في بعض الصور كيف أن مئات ألوف الأبقار ملقاةً على الأرض وهي ميَّتة عطشاً ، رأيت صورةً في أستراليا الأغنام تذبح وتلقى في الوديان لعدم وجود الكلأ ، من يملك هذا الماء من السماء ؟ من يملك الأمطار ؟ الثلوج ؟ من يبخِّر ؟ من يحرِّك ؟
﴿ وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا(14)لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا(15)﴾
( سورة النبأ )
نزل الماء من السماء بقدرة من ؟ من خلق هذه الأرض وما فيها من معادن ؟ الأرض فيها كالسيوم ، وفيها فوسفور ، وفيها مغنزيوم ، وفيها حديد ، وفيها مواد آزوت ، وفيها كربون ، ومعادن وأشباه معادن ، ومواد لازمة لإنبات النبات ، من جعل هذه التربة أنواعاً ، هذه تربة زراعية ، وتلك تربة كلسية ، وأخرى تربة غضارية ، هذه تربة لحقية ، من جعل أنواع التُرَب ؟ كل هذه المواد التي نحتاجها كامنةٌ في هذه التربة إنها نعمة من رب السماء والأرض وهذا هو الإمداد .
من خلق أنواع البذور ؟ بذور الأشجار المثمرة ، بذور المحاصيل ، القمح ، الشعير ، العدس، الحمص ، بذور الخضروات ، الكوسا ، الباذنجان ، اللوبياء ، الفاصولياء ، أنواع النباتات، الخضروات ، الخضروات الصيفية ، والشتوية ، والمحاصيل ، والأشجار المثمرة ، هذه البذرة الصغيرة ، من أعطاها هذه القدرة الكامنة ؟ لتكون شجرة لها شكلٌ خاص ، لها وظائف خاصَّة ، لها إثمارٌ في وقت خاص ، لثمرتها شكلٌ خاص ، وطعمٌ خاص ، ولونٌ خاص ، من خلق هذه البذور وأودع فيها خصائصها المتعددة ؟ من جعل الرشيم وهو الكائن الحي في البذرة ؟ من ؟ أإله مع الله ؟
خلق البحار ، وخلق الشمس ، وخلق القطب ، وخط الاستواء ، وخلق قانون التبخر ، من الذي جعل الماء يزداد حجمه إذا برد على خلاف عناصر الأرض كلها ، ولولا هذه الظاهرة لمات الإنسان والحيوان ولانعدم التبخُّر ؟
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
إذا كنت يا أخي الكريم تملك ثمن الفاكهة فتذكَّر أنك لا تملك خلقها ، ولا تملك صنعها ، أنواع منوَّعة ، ليس هناك مجالٌ واسع للحديث عن أنواع الخضراوات ، هذه فيها فيتامين ( سي ) ، وتلك فيها مواد مقوية ، هذه فيها ألياف سيلولوزية ، وأخرى فيها مادة مخاطية ترمم الجهاز الهضمي .. كل غذاء ، كل نبات ، هذه فيها فوسفور تفيد أصحاب الأعمال الفكرية ، فأنواع الخضراوات ، والنباتات ، والفواكه ، والثمار ، القمح ثلاثة آلاف وستمائة نوع ، فالله عزَّ وجل الذي خلقه ونوّعه وجعله ، ينبت في كل أماكن الأرض ، ينبت في الجبال ، وفي السهول ، وفي الأغوار ، وفي الصحارى ، وفي المناطق الحارة ، والباردة ، والمعتدلة ، والجافة ، والرطبة ، من ؟ أإله مع الله ؟
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
والأرض أودع فيها هذه المواد الأساسية ، أودع فيها المعادن ، أودع فيها أشباه المعادن ،
أودع فيها هذه البكتريات ، حينما ألقيت القنبلة الذريّة على كل من هروشيما ونكازاكي تعقَّمت التربة ، بمعنى أن الأحياء الدقيقة ماتت ، فلم تنبت شيئاً ، من خلق الكائنات الدقيقة ؟
انظر إلى طعامك :
من خلق ديدان الأرض ؟ قرأت عن ديدان الأرض مقالةً رهيبة ، لو أن ديدان الأرض ماتت لمات معها الإنسان ، لأنها عنصرٌ أساسيٌ في إنبات النبات ، ديدان الأرض ، من ؟ أإله مع الله ؟
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
فحينما تأكل هل ترى الله من خلال طعامك ؟
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
( سورة يونس : من الآية 101 )
﴿ فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا(26)فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا(27)وَعِنَبًا وَقَضْبًا(28)وَزَيْتُونًا وَنَخْلا(29)وَحَدَائِقَ غُلْبًا(30)وَفَاكِهَةً وَأَبًّا(31)مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ(32)﴾
( سورة عبس )
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
بدءاً من الشمس والقمر ، والرياح ، والحرارة ، والبرودة ، وتبدُّل الطقس ، والبحار ، واليابسة ، وهطول الأمطار ، من جعل الجبال مستودعاتٍ للأمطار ؟ من جعل الثلوج مغذِّياتٍ لهذه المستودعات ؟ من خلق أنواع النباتات ؟ من خلق البذور ؟ أإلهٌ مع الله ؟!
هذا الإله ألاَ يستحق العبادة ؟
هذا الذي يرزقنا ألا يقتضي أن نعبده ، هذه الذي يمدنا بالطعام والشراب ، هذا الذي ينزل علينا الأمطار ألا يستحق العبادة ؟ نعبد من دونه أُناساً مثلنا لا يملكون ضراً ولا نفعاً ، ولا حياةً ولا موتاً ولا نشورا ؟ من اعتز بمن يموت فإن عزَّه ميت ، لأن هذا الذي تعتز به إذا مات مات عِزُّك ، لكنك إذا اعتززت بالله الحي القيوم فإنك عزيزٌ كريم .
﴿ قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
فموضوع الرزق ، موضوع الطعام والشراب موضوع كبير جداً ، وهذا ما نتعامل معه كل يوم ثلاث مرات ، إذا جلست إلى مائدة الصباح تفكَّر فيما على المائدة صنفاً صنفاً ، صحناً صحناً، الجبن ، البيض ، اللبن ، الزيت ، من أين جاء الزيت ؟ من هذه الشجرة المباركة ، من الزيتون ، تفكَّر في الخبز ، في كأس الماء ، في كأس الحليب ، في لعقة العسل ، في كل شيءٍ تأكله آيةٌ على أنه هو الخالق ، هو المربي ، هو المسيِّر ، هذه فقرةٌ أولى في الآية .
﴿ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
1 ـ إعجاز الله ظاهر في السمع :
من شق لنا السمع والبصر ؟ فهذه الأذن ، لماذا جعل الله لنا أذنين ولم يجعل لنا أذناً واحدة ؟ سؤال ، لنا أنفٌ واحد ، ولنا أذنان ، لأنه لولا الأذنان لما عرفت مصدر الصوت ، بوجود أذنين والصوت من خلفك أودع الله سبحانه وتعالى جهازاً دقيقاً دقيقاً معقداً في المخ يحسب تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين ، فإذا وصل الصوت إلى هذه الأذن قبل هذه الأذن بواحد على ألف وستمائة وخمسين جزءا من الثانية ، يحكم الدماغ البشري على أن جهة الصوت من اليمين ، من جعل هذا الصيوان ؟ هذا الصيوان يُجَمِّع الأصوات ، ولو تصورنا إنساناً بلا صيوان لكان سمعه ضعيفاً جداً ، إذاً : بهذا الصيوان يقوى السمع .
أؤكد لكم هذه الحقيقة ، إذا وضع أحدكم يده هكذا يصله الصوت بشكلٍ أضخم ، وأقوى ، فهذا الصيوان من خلقه ؟ من خلقه بهذه التجاعيد ، هذه التجاعيد أي صوتٍ جاء من أي جهةٍ لابدَّ من أن يلقى سطحاً يعكسه إلى الداخل ، هذه التجاعيد من صنعٍ حكيمٍ عليم ، إن جاء الصوت بزاوية ثلاثين ، يجد سطحاً يعكسه إلى الداخل ، وعلى الزاوية ستين هناك سطح يتعاكس معه ، إن لهذا الصيوان سطوحاً من كل الاتجاهات ، فأي صوتٍ جاء إلى الأذن لابدَّ من أن يجد سطحاً يعكسه إلى الداخل ، فلو جعلنا هذا الصيوان أملس لضاع علينا صوتٌ كثير ، وضعف سمعنا .
من جعل ممرّ الأذن ضيِّقاً ؟ ولو كان أوسع من أحد أصابعنا لفقد الأطفال سمعهم لأتفه سبب ، لكن الله سبحانه وتعالى لحكمةٍ بالغة جعل قناة السمع أضيق منفذاً من أصغر إصبع في الإنسان ، ثم جعلها مِعْوَجَّة ، لو جعل غشاء الطبل في صدرها والخط مستقيم ، فقلم أو عود يفقد الإنسان سمعه ، لكن الله سبحانه وتعالى جعلها ضيقةً وجعلها معوَجَّةً ، وجعلها تنتهي بغشاء الطبل ، ما هذا الغشاء الذي يتجاوب مع أي صوت ؟ ويهتز اهتزازاتٍ قدرها العلماء بأرقام مائة وثلاثين اهتزازة بالثانية أو أكثر .. الرقم لا أذكره ، لكن هناك عتبات للسمع دقيقة جداً .. يهتز ثم يستعيد استقراره ليتلقى صوتاً جديداً ، مَن ربط هذا الغشاء بعظامٍ سمعيةٍ أربع تضخم الأصوات إلى أن يصل الصوت إلى الأذن الداخلية حيث العصب السمعي الذي يلتقط الأصوات ويرسلها إلى الدماغ ليدرك الإنسان فحوى الكلام ؟
يرن جهاز الهاتف ترفع السماعة يقول لك : هل عرفتني ؟ تقول له : أنت فلان ، كيف ؟ من زودك بذاكرةً للأصوات ؟ في مخ الإنسان ذاكرةٌ صوتية ، لاشك أن كل واحدٍ منا في حياته أكثر من مائة شخص يعرف أصواتهم واحداً واحداً ، من ؟
لا يزال علماء الجسم البشري في حيرةٍ من أن هناك صوتاً يسبب انزعاجاً سموه الضَجيج ، وأن هناك صوتاً يسبب ارتياحاً سموه النَغَم ، وما الفرق بين النغم والضجيج ؟ لا أحد يعرف سر هذا ، لماذا خلق الله سبحانه وتعالى الأذن مفتوحةً دائماً ، الإنسان بإمكانه أن يغلق عينيه ، الإنسان يغضُّ بصره عن المحارم ، لكنه لا يستطيع أن يغلق أذنه عن الأصوات ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( من استمع إلى صوت قينةٍ صب في أذنيه الآنك قيل : وما الآنك يا رسول الله ؟ قال : الرصاص المذاب ))
[ الجامع الصغير عن أنس ، وفي سنده مقال كبير ]
من استمع ، لم يقل من سمع ، أي جلست إلى جهاز اللهو ، واستمعت إلى الغناء ، وأنت تقصِدُ ذلك ، لكن إذا طرق سمعك نغمٌ لا يرضي الله وأنت لا ترضى عنه ، أغلب الظن أن هذا معفوٌ عنه ، والله وحده يعلم إن كنت راغباً في سماع هذا الصوت أو لست راغباً فيه ، ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا(11)﴾
( سورة الكهف )
لماذا قال على آذانهم ؟ لأن الأذن مفتوحة ، مفتوحةٌ دائماً ، ولماذا جعلها مفتوحةً دائماً ؟ لأنها دائرة أمنٍ للإنسان ، والإنسان إذا أغمض عينيه قد يأتيه الخطر من أقرب الناس إليه ، من أقرب شيءٍ إليه ، لكن الصوت يحذِّرُهُ ، فسائق السيارة قد لا يرى ماذا يحدث ، لكن صوتاً غريباً يجعله يقف ، فالأذن مفتوحةٌ دائماً ، رأيت مرةً جهازاً للهاتف له ضوء ، فبدل الجُلْجُل يتألَّق الضوء ، أي أن هناك مخابرة ، فقال صاحب هذا الجهاز : لو أنني لفتُّ وجهي هكذا أحدث إنساناً وجاءت مخابرة لا أدري ، لكن الصوت له وظيفة أخرى ، كيفما كنت يأتيك الصوت ، وهذا من حكمة الله عزَّ وجل .
﴿ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾
2 ـ إعجاز الله ظاهر في البصر :
وهذه العين ، المَحْجَر ، الحاجب ، كرة العين ، عضلات أنسيةٌ ، عضلاتٌ وحشيةٌ ، عضلاتٌ علويةٌ ، عضلاتٌ سفليةٌ ، عضلات مائلةٌ تحرِّكها في كل الاتجاهات ، هذه هي العين ، ثم القَرنية ذلك الجسم الشفَّاف شفافيةً تامة ، كيف تتغذى القرنية ؟ أين الشعريَّات ؟ أين الشرايين ؟
هذه القرنية لها سمةٌ خاصة تتغذى عن طريق الحلول ، أول خليةٍ تأخذ غذاءها وغذاء جارتها ، وينتقل الغذاء من خليةٍ إلى أخرى عَبْرَ الجدار الخلوي من دون أن يكون هناك شبكة شرايين وأوردة تعيق الرؤية وتحجبها ، هذه هي القرنية .
من جعل بعد القرنية القزحية ، عين فلان زرقاء اللون ، وتلك سوداء ، وأخرى عسلية ، هذه القُزَحية ؟
ظاهرة المطابقة في العينين :
من جعل فيها هذه العضلات تتسع وتضيق من دون أن تشعر ؟ إذا جاءها الضوء الكثيف ضاقت ، وأخذت من الضوء حاجتها ، وإذا قلّ الضوء اتسعت ، وأخذت من الضوء حاجتها ، فإذا نظرت إلى شيءٍ بعيد اتسعت أيضاً حتى تنضِح الرؤية وأنت في غفلةٍ عن هذا ، من جعل هذه العين ؟ من جعل هذا الجسم البلوري عدسة لكنها ذات حياة ؟ عدسةٌ مرنة يزداد إحديدابها ، أو يزداد انبساطها حيث يقع خيالها في الشبكية دائماً ، وهذا من الأشياء المعجزة ، كيف ترى الأشياء المتحرِّكة ، وتأتي جميع أخيلتها على الشبكية تماماً ؟ سمى العلماء هذه الظاهرة المطابقة ، وهي من أعقد ما يجري في العين ، هذا يعجز عنه أكبر علماء الأرض ، لأنك لو كنت تشاهد كرةً تتحرك في كل ثانيةٍ لها بعدٌ عن العين ، من يقيس هذا البعد ؟ ومن يضغط على الجسم البلوري ضغطاً يجعل خيال هذه الكرة تقع على الشبكية تماماً ؟ الله سبحانه وتعالى وهو معكم أينما كنتم .
إن ظاهرة المطابقة لا يمكن أن تشرح في مسجد لأنها تحتاج إلى صور ورسومات ، إلى توضيحات .
من جعلك ترى الأشياء المتحركة وأنت مرتاح ؟ لو أنك ترى الشيء بعد أربعين سنتيمترا فقط ما قيمة هذه العين ؟ بعد الأربعين لا تراه ، قبل الأربعين لا تراه ، لكن هذه العين تنظر إلى كل شيء ، وترى كل شيء وهي مرتاحة ، من جعل هذه الشبكية فيها مائة وثلاثون مليون عصية ومخروط ، الذي أحصى مخاريط العين ، وعصيَّاتها مُنِحَ جائزة نوبل في عام سبعة وستين وتسعمائة وألف للميلاد ، في عام سبعة وستين هناك عالمٌ توصَّل إلى أن في شبكية العين مائة وثلاثين مليون من المخاريط ومن العصيات ، يستقبل بعضها الألوان كلها ، وبعضها يستقبل اللون الأبيض والأسود فقط ، ثم من جمع هذه الشبكية في عصبٍ بصريٍ قوامه أربعمائة ألف عصب ، تذهب إلى الدماغ ؟ من جعل لك عينين من أجل أن ترى بهما البعد الثالث ؟ أن ترى الأشياء مجسَّمة ؟ أن ترى طولاً وعرضاً وعمقاً ، من ؟ إنك لن تستطيع بعينٍ واحدة أن ترى المسافات العُمقِية ، لن تستطيع أن ترى البعد الثالث في عينٍ واحدة ، ولكن العينين تريانك الأشياء مجسمةً ، لا يزال هذا سر ، إنك إذا صورت شيئاً بآلة تصوير فالصورة حجمها صغير ، ولكنك ترى الشيء بحجمه الحقيقي ، وعينك صغيرةٌ جداً ، كرةٌ صغيرة ، ترى الجبل جبلاً ، والجمل جملاً ، والإبرة إبرةً ، والنملة نملةً ، ترى الشيء بحجمه ، ولونه ، وبعده ، من خلق هذا ؟
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾
ومن زوَّدك بذاكرةٍ للبصريات ؟ .. هناك ذاكرة للمسموعات ، وذاكرة للمشاهد ، تقول هذا المنظر رأيته من قبل ، هذا الوجه أعرفه ، هذا الكتاب قرأته ، هذا الطفل شاهدته من قبل مع أبيه ، من زودك بهذه الذاكرة ؟ ألا يستحق منك العبادة ؟ ألا يستحق منك الطاعة ؟ ألا يستحق أن تكون محباً له ؟ .
﴿ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ ﴾
وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ
المعنى الأول :
فبحسب تفكير الناس البدائي الشيء الساكن ميِّت ، فالبيضة ميتة ، من أخرج منها الدجاجة ، افتح بيضة الآن ، اقلها أو اسلقها ، وانظر ما فيها ؟ بياض وصفار ، هل من السهل أن تنقلب هاتان المادَّتان إلى صوص ؟ له سمع ، وله بصر ، وله شم ، وله فم ، وله لسان ، وله مريء ، وله حُوَيصلة ، وله أمعاء ، وله قلب ، وله كبد ، وله بنكرياس ، وله كليتان ، وله عضلات ، وله عظام ، وله أعصاب ، من ؟ .
﴿ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ ﴾
الحيوان المنوي إذا لقَّح بويضةً يصبح إنساناً سوياً ، من أودع في هذا الحيوان المنوي وفي تلك البويضة خمسة آلاف مليون صفة ؟ سموها تعليمات ، وسموها أوامر ، والعلماء قالوا : لو أن هذه التعليمات ، وهذه الأوامر كُتِبَت في كتب لكان حجمها كحجم أكبر موسوعةٍ مؤلفةٍ حديثاً .
الآن عندنا موسوعات ، دائرة معارف ، مؤلفة من أربعين أو خمسين جزءاً ، كل جزء ثلاثة آلاف صفحة ، لو أن هذه الأوامر التي أودعها الله في الحيوان المنوي ، وفي البويضة ، أردنا أن نكتبها بكتب لاستغرقت أكبر الموسوعات العلمية .
إنسان له شعر ، وهناك أنواعٌ منوَّعَةٌ من الشعر ، هناك شعرٌ جَعِد ، وهناك شعر أملس ، وهناك شعر أسود ، وهناك شعر أشقر ، وهناك شعر خشن ، وهناك شعر حريري ، أنواع منوَّعة من الشعر ، في هذا الحيوان المنوي يكمن شكل الوجه ، أهو كروي أم مستطيل أم كمثري الشكل ، في هذا الحيوان المنوي يكمن نوع العينين ، لونهما ، حجمهما ، نوع الحاجبين، أزجّين ، مفترقين ، نوع الأنف أقنى ، طويل ، قصير ، نوع الشفتين ، نوع الخدين، أملسين ، أسيلين ، قصيرين ، نوع العنق ، نوع اليدين ، لون الجلد ، طبيعة الدم ، كيمياء الدم كلها كامنة في هذا الحيوان المنوي .
﴿ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ ﴾
ثمرة واحدة زيتونةٌ من خشب ترميها في الأرض ، فتصبح شجرةً لها جذور، ولها جذع ، ولها أغصان ، ولها أوراق ، تزرعها بعلاً تعطيك زيتوناً ، ممتلئاً زيتاً ، تأكله ، وتستفيد منه .
﴿ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ ﴾
وكلما تقدم العلم فُسِّرَت هذه الآية بحسب التقدم العلمي كيف تموت الخلايا وكيف تولد الخلايا ؟ خلايا الأمعاء عمرها ثمانيةٌ وأربعون ساعة ، خلايا القلب والدماغ عمرها يوازي عمر الإنسان ، خلايا الشعر تبقى ثلاث سنوات حيّة ، الشعرة تعيش ثلاث سنوات ثم تسقط ، ينبت مكانها شعرةٌ جديدة .
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ ﴾
المعنى الثاني :
وقد تفهم هذه الآية بشكلٍ آخر ، قد يلد الكافر مؤمناً ، وقد يلد المؤمن كافراً .
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ ﴾
هذا بعلم الله .
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ(45)قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾
( سورة هود )
عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أبوه أبو جهل .
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ ﴾
البيئة ليست حُجةً :
لا تقل : بيئتي صعبة ..
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ ﴾
قد يخرج عالمٌ من بيئةٍ جاهلة ، وقد يخلق أخلاقيٌ كبير من بيئةٍ منحطة ، وقد يخرج رجلٌ فاسقٌ من بيئةٍ صالحة ، لأن لكل إنسان اختيار..
﴿ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(56)﴾
( سورة القصص )
مدلول إخراج الحي من الميت والميت من الحي عامٌّ في جميع المخلوقات :
والمجال يطول ، هذه آيةٌ دلالاتها واسعةٌ جداً ، يطبق مضمونها على الإنسان ، كما يطبق على الحيوان ، وعلى النبات ، وبعد ذلك فهناك بحوث حديثة مفادها أن هناك مجَرَّات تخلق ، ومجرات تتلاشى على شكل غازات ، حتى في الكون هناك خلقٌ متجدد ، هناك خلقٌ جديد ، وهناك موتٌ لبعض الكواكب ، وهناك مناطق سوداء في الفضاء الخارجي إذا دخلتها الأرض أصبحت بحجم البيضة ، هناك كواكب غازية ، زحل غازي ، غازات متجمعة ، طبعاً كثافته قليلة ، من يحوِّل الصلب إلى سائل والسائل إلى غاز والغاز إلى صلب ؟ ثم هناك نظرية تقول : إن هناك أجراماً غازيةً تدخل في ثقوبٍ سوداء فتصبح كتلاً متراصَّة .
﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
1 ـ الله يدبِّر أمرَ المخلوقات كلها :
فأحياناً تجد أن الجو ارتفعت حرارته بشكلٍ غير طبيعي ، هذا من أجل أن يتفتَّح الزهر ، يسميه العوام : ( عبوء الزهر ) ، من يدبِّر الأمر ؟ أحياناً تأتي رياحٌ عاتية في أيام الربيع ، هذه رياحٌ لواقح من أجل إلقاح النباتات ، من يدبِّر الأمر ؟ يأتي بردٌ شديد فيهلك كل الكائنات الضارة في التربة ، يأتي حرٌ شديد فتكسب الفواكه طعمها الحلو المذاق ، من يدبِّر الأمر ؟ مِن إشراق الشمس إلى غروبها ، القمر ، الأرض ، يقول لك : منخفضات ، من يدبِّر الأمر ؟ منخفضات ، منخفض وراء منخفض ، هنا صقيع ، هنا برد ، هنا حر ، هنا جو رطب ، هنا رياح شديدة ، يقول لك: رياح شرقية لها فوائد ، رياح غربية لها فوائد ، الشرقية باردة ، الغربية دافئة ، الغربية يأتي معها أمطار ، الشرقية يرافقها صقيع ، هذا مفيد وهذا مفيد ، ومن يدبِّر الأمر ؟
2 ـ الله يدبِّر أمرَ الإنسان كلَّه :
شيء آخر : أمر الإنسان من يدبِّره ؟ إلى هنا تناولنا في شرحنا أمر الكون الذي تحدثت عنه الآية الكريمة ، لكن الآية مطلقة ..
﴿ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾
شاب يطلب الزواج ، يطلب العفة مثلاً ، فالله عزَّ وجل يجمعه مع إنسان يلهمه أن يسأله عن وضعه العائلي ، فيقول له الشاب : لست متزوجاً فيؤمّن له بيتاً ، فدّبر لهذا الشاب ، من يدبر الأمر ؟
أحد الناس يريد أن يشتغل في عمل يدرّ عليه أسباب معيشية وعائلته ، يلهمه مصلحة يشتغل فيها ، يأتيه الزبائن ، يبعثهم ربنا إلى متجره ، يبيع يشتري ويربح ، ويشتري طعاماً لأولاده ، يدخل بيته معه قوت عياله ، من يدبِّر الأمر ؟ الله سبحانه وتعالى ، هذه أدلةٌ قاطعة على ربوبية الله ، وعلى ألوهيته ، وعلى حكمته ، وعلى تسييره .
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
أمر عجيب ..
﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
إنه اعتراف لكن بغير تطبيق : فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
قال أعرابيٌ للنبي عليه الصلاة والسلام : جئتك لتعلمني من غرائب العلم ، فقال النبي الكريم: فماذا صنعت في أصل العلم ؟ قال : وما أصل العلم ؟ قال : هل عرفت الرب ؟ قال : ما شاء الله ؟ قال : فماذا صنعت في حقه ؟ قال : هل عرفت الموت ؟ قال : ما شاء الله ؟ قال : فماذا أعددت له ؟ فأدق نقطة بهذه الآية هذه الكلمة ، إذا كنت تعرف هذا تماماً فلماذا لم تأخذ حتى الآن موقف يتناسب مع هذا الإيمان ؟ إن كنت تقول : الله يرزقني ، والله جعل لي السمع والأبصار ، والله يدبِّر أمري ، فلمَ لا تطيعه ؟ ماذا تنتظر ؟
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمرك في المقال بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب مطيع
***
فإذا لم تأخذ موقفاً عملياً تجاه ربك ، وإذا لم تتقصَّ سُبُلَ طاعة الله عزَّ وجل ، إذا ما اجتنبت نواهيه ، فهذه المعرفة لا قيمة لها .
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾
( سورة الأنفال : من الآية 72 )
إذا لم يأخذ الإنسان موقفاً عملياً ، ويسمع الحق ، ويعمل به ، فإيمانه إدعاء ليس أكثر فلماذا هذه المعصية في البيت ؟ ماذا تنتظر ؟ ألا تحس بالتناقض ؟ هل تقول : هي حرام ، تجيبني : نعم حرام ؟ إذاً : لمَ لا تزيلها فوراً ؟ كيف يرضى الإنسان أن تركن نفسه ، وهناك خلل بين ما يعتقده وما يفعله ؟ كيف يرضى عن نفسه وهو لا يتِّبع ما يقتنع به من سبيل الإيمان ؟
﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ(31)فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ ﴾
فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال
أما هذه الآية ، والله الذي لا إله إلا هو لو عرفنا دلالاتها حق المعرفة ، لو فهمنا أبعادها لعقدنا التوبة من توِّنا دون تباطؤ أو تراخٍ ..
﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
1 ـ لا يمرُّ بين نقطتين إلا خطّ مستقيمٌ واحدٌ :
إذا كان الخط المستقيم يمر بين نقطتين فهل يمكن أن يمر بين هاتين النقطتين خطٌ آخر لا ينطبق عليه ، ويكون مستقيماً ؟ مستحيل ، بين نقطتين لا يمر إلا مستقيمٌ واحد ، فإذا قال ربنا عزَّ وجل :
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 33)
فلو أن المرأة لم تفعل هذا وتستجب لدعوة ربها وأمره لكانت في الضلال ، هذا هو الحق .
2 ـ الحق هو الشيء الثابت :
معنى الحق الشيء الثابت ، حق الشيء أي استقر ، فإذا بنيت جداراً على الشاقول تقول : هذا جدار حق ، أي يستمر ، يبقى ، فإذا بنيته من غير شاقول ، وكان مائلاً هذا سوف يقع ، فتعريف الحق أنه يثبت والباطل يزول .
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ﴾
( سورة الإسراء : من الآية 81 )
الحق الشيء الذي رسمه الله سبحانه وتعالى منهجاً للبشر ، فأي منهجٍ آخر فهو باطل ، إن لم تعتقد بالله رباً فعقيدتك باطلة ، إن لم تعتقد بالله إلهاً فعقيدتك باطلة ، إن لم تصل فأنت مبطل ، ولو تفلسف الإنسان ، وزعم أنه ذو فكرٍ مُنْفَتِح ، وأنه يقرأ ، وأنه يطالع ، ما دمت لا تصلي فأنت مبطل .
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
3 ـ إمّا الحق وإما الباطل :
العلماء قالوا : " ليس في الأرض منزلةٌ ثالثة بين الحق والباطل ، إما أنك على حق ، وإما أنك مبطل " ، إن لم يكن اسمك في قائمة الناجحين فماذا يعني هذا ؟ أنك راسبٌ ، فهل هناك قائمة ثالثة ؟ لا توجد قائمة ثالثة ، إما أن يكون اسمك في قائمة الناجحين ، وإما أنك راسب ، ولا توجد حالة ثالثة ، في بلد فيها جامعة واحدة ، إما أن تكون من طلاَّب هذه الجامعة ، أو خارجها ، لا توجد حالة ثالثة ، فالإنسان إن لم يعتقد بالله رباً ، إن لم يعتقد به خالقاً ، إن لم يعتقد به إلهاً يعبد ، فعقيدته باطلة ، فالأرباب الذين يزعمهم من دون الله مبطلون ، فالآلهة الذين يعتقدهم مبطلون .
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
أي إذا لم ينطبق سيرك على الخط المستقيم فشيء قطعي أنك مُبطل ، ولا توجد حالة ثالثة ، وهنا لا مجال للمجاملة ، قضية مصيرية ، قضية سعادة أبدية أو شقاء أبدي ، لا يوجد عندنا أنصاف حلول ، الإسلام إما أن تأخذه كله أو تدعه ، أما أن تأخذ منه ما شئت ، فأخذك منه ما شئت كأنَّك تركته كله ، فالأمر ليس هوىً يتبع .
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
الحق هو الذي حقَّه الله ، إنما الحق هذا القرآن ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ :
(( ... أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ... ))
[ البخاري ومسلم ]
4 ـ النشاط الإنساني إما حقٌّ وإما باطل :
هذه بعض مناجاته ربه في جوف الليل ، أي إن لم تؤمن بهذا النبي فإيمانك باطل ، إن لم تؤمن بهذا القرآن فعقيدتك باطلة ، ليس هناك شيء وضعي آخر يحل محله ، هذا هو الحق ، فلو أن التشريع الوضعي كان كالقرآن ، وانطبق عليه لكان حقاً ، بل وكان قرآناً ، وإن خالفه فهو باطل ، وهذا هو الحق ، ليس من حالة ثالثة ، غض البصر هو الحق ، العلاقة بالمرأة لها حق واحد وهو الزواج ، وأي علاقة أخرى باطلة .
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
وبالنسبة لكسب المال ، فإن الشرع حدد سبل كسبه ، فالهبة جائزة ، والإنسان يتملَّك المال حلالاً بالهبة ، وبالإرث ، وبالتجارة ، وبالكسب الحلال ، أي طريق آخر فهو باطل .
﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
والله قضية مصيرية وخطيرة ، الإنسان يتفحَّص سلوكه اليومي ، يتفحَّص قِيَمَه ، لماذا يؤمن ؟ ماذا يفعل في اليوم ؟ هل يفعل شيئاً خلاف القرآن ؟ إذاً هو مبطل .
5 ـ الحقُّ يقابل الضلالَ أيضًا :
ربنا عزَّ وجل مرة قابل الحق بالباطل ، ومرة أخرى قابله بالضلال ، إذا انطلق أحد باتجاه حمص مثلاً ، ولكنه سلك طريقاً لا يؤدي إلى حمص ، بل يؤدي إلى بغداد مثلاً ، فإننا نقول : ضل الطريق ، الضلال أن تسير في جهةٍ لا توصلك إلى هدفك ، فما هو الهدف الكبير ؟ السعادة ، فالضلال أي سلوكٍ يؤدي إلى الشقاء فهو الضلال .
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾
( سورة الإسراء : من آية 9 )
بالزواج تسعد ، وبغير الزواج تشقى ، بكسب المال الحلال تسعد ، وبكسبه حراماً تشقى ، باتصالك بالله تسعد ، وبانقطاعك عنه تشقى ، إذاً صار معنى الضلال هو الطريق الذي لا يوصلك إلى هدفك ، ولو عرف الضَّالون أنهم سائرون في طريق شقائهم لما ساروا .
6 ـ لابد من معرفة طريق السلامة حتى نسلكه :
إذاً ما هي الأزمة ؟ أزمة مَعْرفةٍ ، إما أن تعرف ، وإما ألا تعرف ، لو عرفت حُلَّت القضية ، ليس على وجه الأرض رجلٌ واحد يتمنَّى الشر لنفسه ، أو يتمنى الشقاء لنفسه ، فحب السلامة فطرةٌ في الإنسان ، إذاً : بقي عليك أن تعرف أين طريق السلامة ، إنه طريق الحق ، وغيره باطل ، باطل ، شيء آخر ربنا عزَّ وجل قابل الحق بالضلال وقابله بالباطل ، الحق من خصائصه الثبات والديمومة ، والباطل من خصائصه الإزهاق .
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾
( سورة الإسراء )
الإنسان المبطل يتلاشى هو ومبدؤه ، لكن من دعا إلى الله عزَّ وجل ، من تمسك بكتاب الله فهو خالدٌ خلود الحق ، إذاً من تعلق بالباطل زهق مع الباطل ، ومن تعلّق بالحق خَلُدَ في جنةٍ عرضها السماوات والأرض مع الحق .
﴿ فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾
تذكَّروا مثل الناجحين ، هناك قائمة واحدة للناجحين ، إن لم يكن اسمك في هذه القائمة فهذا الطالب راسبٌ حتماً ، إذا لم ينطبق سلوكك على القرآن فالحكم القطعي أن هذا الإنسان مُبْطِل ، وفي طريق الهاوية والشقاء ، والسعيد من عرف الحقيقة قبل فوات الأوان ، لكن جميع بني البشر سيعرفونها ، ولكن بعد فوات الأوان .
﴿ يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ(26)﴾
( سورة الفجر )
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27)يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا(28)﴾
( سورة الفرقان )
لكن متى ؟ بعد فوات الأوان .
﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴾
( سورة يونس : من الآية 90)
فقال له : أي لفرعون .
﴿ أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ﴾
( سورة يونس : من الآية 91)
7 ـ البطولة أن تعرف الحق في الوقت المناسب :
البطولة أن تعرف الحق في الوقت المناسب ، أن تعرفه وأنت شاب ، وأنت في مقتبل العمر ، أن تبني مستقبلك وفق الحق ، أن تبني زواجك على الحق ، أن تبني عملك على الحق ، فإذا عرف الإنسان الحق متأخراً وله أربٌ و مصلحة في أمرٍ ما ، ولا يستطيع أن يتخلى عن مأربه ، فالباطل يفترسه ، قال لي أحدهم : دعوت صاحبي للجامع مرتين وثلاثا وأربعا وخمسا ، فيقول لي : مصلحتي لا تتناسب مع الجامع ، أتناقض مع نفسي ، قلت له : غيِّرها ، قال لي : والله من الصعب أن أغيرها ، إذا عرفت الله عزَّ وجل في وقتٍ مبكِّر تبني زواجك وكل مصالحك على أساسه .
قال لي أخ آخر : إنه خطب امرأة أعجبه جمالها ، فلما اهتدى إلى الله أبت أن تهتدي معه ، وظلت على طريقتها التي لا ترضي الله ، الآن هو يشقى بها ، يشقى بهذه الزوجة ، فإذا عرفت الحق في وقتٍ مبكر تبني زواجك على أساسه ، وتبني عملك على أساسه ، فتسعد بزواج وبعملك .
﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾
في إعادة الحق إحقاقٌ للحق وإبطالٌ للباطل :
هل بين الشركاء المزعومين من يبدأ الخلق ، أي أنه يخلق ؟ فمن خلق الشمس ، والقمر ، والأرض ؟ من يعيد خلق الإنسان ؟ هذه الآية دقيقة جداً ، لو أن الله عزَّ وجل بدأ الخلق ولم يعده لكان في مبدأ الخلق نقص ، المحسن لم يأخذ جزاءه ، والمسيء لم ينل عقابه ، لكن الله عزَّ وجل بدأ الخلق ، وسوف يعيده لينال كل إنسان جزاء عمله ، هذا يوم الدين ، بدأنا خلقاً وسوف يعيدنا مرةً ثانية ليلقى كلٌ منا جزاء عمله .
﴿ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ﴾
( سورة النساء )
﴿ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)﴾
( سورة الأنبياء )
﴿ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾
هذه الآية جميلة الدلالة جداً ..
﴿ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾
في إعادة للخلق إحقاق للحق وإنصاف للعباد يتبعه تكريم للمؤمنين ، إذ يخلدون في جنة عرضها السماوات والأرض فأنت خُلقت ، وأعطيت سمعا وبصرا ، ودماغا ، وتفكيراً ، وحريةَ اختيار ، وشهوات أودعها الله فيك ، وقال لك : تصرف ، وسوف أحاسبك على كل حركةٍ وسكنة في يوم الدين ، مالك يوم الدين ، فهنيئاً لمن عرف الله في الحياة ، المشكلة ليست الآن ، لكن المشكلة في الخلق الثاني ، الطلاب جميعاً في العام الدراسي متساوون ، لكن المشكلة بعد الامتحان ، بالامتحان ينفرز الطُلاَّب إلى ناجحين وراسبين ، إلى أعزَّة وإلى أذلة ، إلى متفوقين يعلو وجوههم البشر ، وإلى مهزومين يعلو وجوههم القنوط .
﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ ﴾
إذاً نستدل على الله عزَّ وجل بخلقه .
الآن هناك دليل آخر ، لا يقلّ عنه :
﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ﴾
الله خلَق الخلق وهداه إرشادًا إلى الحق :
للتقريب مثلاً : تجد الدولة شقت طريقاً عريضاً ، بعد فترة وضعت عليه لافتات ، من هنا للمكان الفلاني ، هنا ممنوع المرور ، هنا مسموح ، هناك منعطف خطر ، أنت إذاً إزاء شيئين ، عملية بناء ، و عملية إرشاد ، باللافتات عملية إرشاد ، والدولة حريصة على أن يسلك الناس هذا الطريق ، وحريصةٌ على سلامتهم ، وعلى وصولهم إلى أهدافهم ، فشقت لهم هذا الطريق ، وأقامت لهم العلامات على جوانبه ، فدائماً بالنسبة لخلق الإنسان شيئان خلق وهدى ..
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾
( سورة فاطر : من الآية 1 )
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)﴾
( سورة الكهف )
خلق وهدى ..
﴿ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى(1)الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2)وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3)﴾
( سورة الأعلى )
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
( سورة الزمر )
فهنا :
﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ ﴾
أين أنت ذاهب ؟ فإذا كان الفحص غداً الساعة الثامنة ، وغرفتك جاهزة ، والكتاب مفتوح ، يقول الأب لابنه : أين أنت ذاهب ؟ لابد من أن تجتهد يا بني وتذاكر ، أنت في مرحلة إعداد ، والوقت ثمين جداً ، أين ذاهب ؟
﴿ فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ ﴾
فَأَنَّا تُؤْفَكُونَ
ما دام الله عزَّ وجل خلق الخلق ، وينتظر منك أن تطيعه ، فأنى تصرف عنه ؟ إلى أين تلتفت ؟
﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى ﴾
هذا الصنم ليس فيه ما يهديك ، لا يستطيع أن يتحرك من دون أن تحركه ، هل يتحرك بذاته ؟ معنى يَهِدِّي يتحرك ، لا يستطيع أن يتحرك إلا أن تحركه أنت ، هذا يهديك ؟
﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا
أي أن عقائد معظم الناس ، وتفكيرها ، وتصوراتها ، وثقافتها ، معارفها ، معلوماتها من نوع الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
قال عليه الصلاة والسلام :
(( قيدوا العلم بالكتابة ))
[ ورد في الأثر ]
أحدهم قرأ مقالة خلاصتها أن الدواء الفلاني يطيل العمر ، هذا باطل ، لأن ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(34)﴾
( سورة الأعراف )
أيُّ شيء يخالف كلام الله فهو باطل :
انتهى الأمر ، فهذه المقالة باطلة ضع عليها إشارة ضرب ، كلام فارغ جزاف ، أحدهم قال لك : أنا رأيت الجن ، كلام لا أصل له ، بل هراء .
﴿ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ﴾
( سورة الأعراف : من الآية 27 )
يمكنك أن تلغي مائة قصة بهذا الموضوع ، مائتي قصة ، مليون قصة، كله كذب ، صار باطلاً ، فأيّ علم ، أي قصة ، أي حادثة ، أي مقالة قرأتها وفق كتاب الله حق ، خلافه باطل ، فربنا عزَّ وجل سماه باسم ثالث ظن ، ليس مؤكداً ، فإذا بنى إنسان مصيره على أشياء غير صحيحة أو غير ثابتة ، فهو من أهل الظن والريب ، فإن مات وهو مسلم بالهوية ، أيريد بعد ذلك من رسول الله أن يشفع له ؟ هذا ظن .. بل وَهم .
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)﴾
( سورة الزمر )
الشفاعة حق ، ولكن لمن دخل الجامعة مثلاً ، فإذا دخل للجامعة فإنه يجد من يعاونه ، ويقدم له الكتب ، ويهيئ له قاعة مطالعة ، ومكتبة عامرة ، وقد يُعطى راتباً ، وغرفة بالمدينة الجامعية ، كلها لمن ؟ لمن دخل الجامعة ، أما إذا كنت خارج الجامعة الشفاعة ليست لك ، إذا ظن بعضهم أن الشفاعة لكل واحد انتمى انتماء شكلياً للنبي عليه الصلاة والسلام ، انتماؤه شكلي ، فهذا ظن ، والظن خطر ، يأكل مال حرام ، يغش الناس ، يختلس النظر ، يصافح النساء ، يتغزَّل ، يجلس جلسات منكرة ، وظنه أن رسول الله يشفع له يوم القيامة ، معنى ذلك أنه خرب بيته ، وعاقبته البوار لا محالة .
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾
أي أن الأمر خطير جداً ، تحقق من كل فكرة تعرفها ، من كل قصة تسمعها ، هناك قصص غير صحيحة ، اجعل القرآن إمامك ، قيدوا العلم بالكتاب ، فأي قصةٍ أو فكرةٍ أو عقيدةٍ ، وافقت كتاب الله فهي حق وإلا فهي باطل .

========

سورة يونس - تفسير الآيات 23 – 27 ..النابولسي



سورة يونس  تفسير القرآن الكريم/التفسير المطوللا(010) سورة يونس
 
بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم
الدرس : 07 - سورة يونس - تفسير الآيات 23 – 27
1985-11-01
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... وصلنا في الدرس الماضي في سورة يونس إلى قوله تعالى :
تقرير ما سبق في الدرس الماضي :
﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ ﴾
1 ـ لا ينجي من الشدائد إلا الله تعالى :
أي في سفينةٍ ..
﴿ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ(22)فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
2 ـ ما هو البغي ؟
هنا الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
البغي : التجاوز ، العدوان ، الاغتصاب ، الإسراف ، هذا البغي عائدٌ عليكم ، حجم البغي منصبٌ عليكم ..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
انتهى المعنى ، الآن جاءت فقرة أخرى ، وهي :
﴿ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
3 ـ إنْ كان للبغي ثمار فلا تعدو أن تكون دنيويةً زائلةً :
أي إن ثمار البغي إن كانت له ثمار ، ثمار البغي لا تستفيدون منه إلا في الحياة الدنيا ، والحياة الدنيا موقَّتة ، لو أن إنساناً اغتصب أرضاً ، يزرعها ، ويفلحها ، ويجني ثمارها ويبيع الثمار فلا يستفيد منها إلا في الحياة الدنيا ، فإذا جاء الموت انقطعت عنه وحُوسِبَ عليها ..
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
أتستأهل هذه الدنيا أن تأخذ ما ليس لك ، ثم تُعَذَّب إلى الأبد ؟
سألت مرَّة رجلاً قلت له : أجبني وأنصِف ، لو أعطيناك مبلغاً من المال كبيراً جداً إلى درجة أنه يصعب إحصاؤه ، وقلنا لك : تمتَّع فيه خلال خمسة أعوام في أي مكانٍ تشاء ، وانغمس في كل الملذَّات والشهوات ، ولا تدع مكاناً إلا وترِدُه ، ولا ملهىً إلا وتسكنه ، ثم لابدَّ من عذابٍ أليمٍ بئيسٍ لأسبوعٍ فوق طاقة التحمُّل ، هل ترضى ؟ قال : لا والله ولا ساعة ، ولكن كيف ترضى العكس ، أن تكون الحياة الدنيا محدودة ، ومتعتها محدودة ، والعذاب الذي تسبِّبه أبدي ؟ لذلك ربنا عزَّ وجل قال :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
4 ـ البغي يعود على صاحبه بالوبال :
البغي كلُّه عليك ، عائدٌ عليك .. أحد الناس كان في حالة سُكْرْ شديد .. هكذا قرأت قصَّة في جريدة .. وهو سكران ذبح امرأته وخمسة من أولاده ، أنا تصوَّرت أن أحداً لم يدر به ، وأن أحداً لن يحاسبه ، وأن أحداً لن يقبض عليه ، بعد أن ذهب السُكْرُ وصحا ، ورأى هذه الزوجة المخلصة الأمينة الوفيَّة ، الطيّبة الطاهرة ، وهؤلاء الأولاد كالملائكة كلُّهم غارقون في دمائهم ، تصوروا حالته عندئذٍ مثل هذا السكير لو أن أحداً لم يحاسبه ، فإنّ نفسه تحاسبه عندما يصحو
اعتدى إنسان على قريبته ذات يوم ، فأخذوه إلى السجن ، فذبح نفسه داخل السجن ، قطع الوريد ، ومات منتحراً لشدَّة ألمه النفسي .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
إيّاكم والظلم :
الإنسان أحياناً يفعل أفعالاً لا تحتملها نفسه لو صحا ، الآن هو في غيبوبة ، الآن في سُكْر ، الآن هو في نوم وغفلة ، والناس نيامٌ ، إذا ماتوا انتبهوا .. يفعل ، ويترك ، ويأكل ما ليس له ، ويعتدي ، ويؤذي ، ويسبِّب تعاسة فتاة إلى ما شاء الله من أجل لذَّةٍ طارئة ، حينما يصحو ضميره ، حينما تنقطع عنه الدنيا ، حينما يواجه الحقيقة ، حينما يصبح بصره حديداً وثاقباً عندئذٍ لا تحتمل نفسه تبعات عمله ، نفسه وحدها تحاسبه ، ويحكم على نفسه بالانتحار كما رأيتم مع الذي اعتدى على قريبةٍ ، لذلك : " إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول : يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى ، وإنه ليعلم ما فيها من شدَّة العذاب " .
هذا فضلاً عن عذاب النار المُحرِق ، وعن العذاب الجسدي الذي أكَّدته الآيات ، هذا الذي قتل زوجته وأولاده الخمسة لو لم يُحاسَب ، لو لم يُقبَض عليه ، لو لم يُسَق إلى السجن ماذا تفعل فيه نفسه ؟ إنها تُهلِكه ..
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
يجب على الإنسان ألا يكون مسرفاً ، ومن الممكن أن يتمنى في ساعة الغفلة وغمرة الشهوة أن يأخذ ما ليس له ، فإذا صحا وعرف حجم بغيه وعدوانه عندئذٍ يذوب ألماً قبل أن يعذِّبه الله عزَّ وجل ..
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
فهذا البغي متى تستفيد منه ؟ في الدنيا فقط ، كما قلت قبل قليل : لو أخذت أرضاً ليست لك ، فإذا جاء الموت ، انقطعت منفعتها ، وجاءت تبعتها ، فذاق ويلاتها ، ولو أن إنساناً سرق مبلغاً كبيراً ، وصرف جزءاً منه ، صرف مثلاً واحد بالمائة منه ، ثم ألقي القبض عليه ، وسيق للمحاكمة ، وصدر القرار بإعدامه ، وهو يصعد درجات المشنقة تكون المنفعة قد انقطعت ، وبدأت التبعة ، هذه هي المسؤوليَّة ، وهذا هو الجزاء ..
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
يجب على الإنسان ألا يطغي على زوجته ، ولا على جيرانه ، ولا على صانع عنده في المحل ، ولا على إنسان أدنى منه ، ولا على إنسان أضعف منه ، ولا على صغير لا يقوى على مناقشته .
﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾
علامة النضج الخوف من الله ..
﴿ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
أي أن هذا البغي لن تستفيدوا منه إلا في الحياة الدنيا فقط ، وحصراً ..
﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
5 ـ هذه هي حقيقة الحياة الدنيا في التمثيل القرآني :
الآيات القرآنيَّة مترابطة يأخذ بعضها برقاب بعض كأنَّها عِقْدٌ نفيس ، فما هي هذه الحياة الدنيا ؟ الله سبحانه وتعالى ساق لنا صورةً عن الحياة الدنيا فقال :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾
هذا النبات له جذور روّاها الماء ، فانتعشت ، نمت ، أزهر النبات فلبست الأرض حلَّةً قشيبة ، فانظروا إلى بستان في الربيع إنه مثل الجنَّة ..
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾
بعضهم قال :
﴿ كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ ﴾
أي اختلط الماء بالأرض ثم .. الاستئناف وتتمة الآية ..
﴿ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ ﴾
أي أن نبات الأرض بسببه ، أو اختلط الماء بالنبات اختلاطاً ، أي أن المواد الموجودة في التربة ذابت في الماء ودخلت إلى الجذر عن طريقه..
﴿ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ ﴾
أي أن شجرة التفَّاح أزهرت ، وشجرة المشمش أزهرت ، والقمح نما ، وبسقت أسواقه ، والشعير مثله ، والحمُّص والعدس كذلك ، والفول ظهرت بوادره ، وجميع أنواع الخضراوات ، وأنواع الفواكه ، والثمار ، والبرسيم طعام الأنعام أيضاً كلها آتت أكلها ، والحشائش الخضراء ، وأنواع الأزهار تفتحت والأعشاب تطاولت وارتفعت ..
﴿ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ ﴾
ففرح بها صاحبها .. وصار بستانه كالجَّنة ، أرضه خضراء ، أشجاره مورقة مثمرة ، مياهه عذبة ، أزهاره فوَّاحة نضرة..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾
أي أن الزخرف هو تمام الكمال ..
﴿ وَازَّيَّنَتْ ﴾
أي أن البستان أصبح مزَّيَّناً بالأزهار ، وغدا بهجة للناظرين ، مخضوضراً بالحشائش وتنوعت فيه الثمار وتنافت فيه طعومها ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
أي قادرون على جنيها ، وعلى قطافها ، وعلى توضيبها .. كما يقولون .. وعلى تسويقها ، وعلى بيعها ، وعلى قبض ثمنها ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
هذه الأمور كلُّها : كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ
هذه الآية من الآيات البليغة ، أي أن الحياة الدنيا كأرضٌ يأتيها ماءٌ المطر فتنبت الحشائش والأزهار والثمار ، ويصبح البستان مزداناً قشيب الحلة يأخذ بالألباب ، يفرح صاحبة ، تغمره النشوة ، يتخيَّل كيف سيبيع محصوله بأغلى الأسعار ، ويقبض ثمنه ، ويشتري بثمنه .. مثلاً .. قطعة أرضٍ ثانية ، أو بيتاً في الحي الفلاني ، أو سيارةً فارهة ، وهو في أحلامه ، وهو في خواطره المسعدة ..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
وكمثال آخر : قد يشتري إنسان محلاً يزيِّنه ، يُدَوكره ، يعتني فيه ، يفتتح المحل فترسل إليه باقات الورد تعبيراً عن التهنئة ، يداوم فيه شهراً أو شهرين ، يُلصق النعي على المحل ، ومازالت أول ميزانيَّة لم تظهر عنده بعد ، ما عرف أرباحه هذه السنة ، ما عرف حجم أرباحه ، ما قبض المسحوبات ، جاءته المنيَّة فعاجلته ، فالحياة الدنيا هذا شأنها ومثلها.. هذه الآية متعلِّقة بمتاع الحياة الدنيا ..
﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
أي أن محصِّلة هذا البغي لن تستطيعوا أن تستفيدوا منها إلا في الحياة الدنيا ، وهذه هي الحياة الدنيا ، أمطارٌ ، أعشابٌ ، أزهارٌ ، رياحين، أشجار مثمرة ، فرح ثم يأتي أمر الله عزَّ وجل فيجعل عاليها سافلها ، ويقبض صاحبها فلا يستطيع الاستفادة منها بل يدفع ثمن عتوه وانحرافه فيها غالياً ، وكأن الله سبحانه في هذه الآية نفسها قد أنبأنا عن ظروف الدنيا آخر الزمان فقال :
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ ﴾
أي المدن مزيَّنة ، مزدانة ، شوارع ، حدائق ، ناطحات سحاب ، جسور معلَّقة ، أنفاق تحت الأرض ، أبنية فخمة ، مطاعم من الدرجة الأولى ، فنادق من الدرجة الأولى ، متنزَّهات ، حدائق حيوان ، حدائق للإنسان ، أي أن الأرض فيها البهارج الجميلة جداً تأسر القلوب وتستبد بالعواطف الإنسانية ..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾
كل شيء جميل ، كل شيء مزيَّن ، كل شيء مزخرف يتلألأ ، لم يعد أحد يرضى أن يسكن في بيت من دون جبصين ، لا يُسْكَن فيه ، وتنقبض قسمات وجهه ، وتتغضض جبهته علامة كبرى على رفضه ..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا ﴾
هؤلاء كبراء العالَم الذين يملكون الأسلحة الذرِّيَّة ، النَّوويَّة ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
أي أن بيدهم مصير العالَم ، إن قامت حربٌ نوويَّةٌ انتهى العالَم ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
عندئذٍ جاءتهم الساعة ..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ﴾
فليلاً أو نهاراً هذه متعلِّقة بكرويًّة الأرض ، إذا كان أمر الله عامَّاً على مستوى الكرة الأرضيَّة فلابدَّ من أن يأتي قوماً ليلاً وقوماً نهاراً ، الآن في ساعة واحدة نكون نحن في الليل وفي أوروبا وأمريكا في النهار..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
إنّ ربنا عزَّ وجل يُطلعنا على نماذج مصغَّرة ، هذه الزلازل ، مدينة فخمة ، ناطحات سحاب ، أبنية من أجمل الأبنية ، وفترة زلزال قد تكون ثلاث ثوان ، وقد تطول إلى ثلاثين ثانية ، وهذا طويل جداً ، وأنت تتابع بناية تُعَمَّر عندك ، تصوَّر عندما حفروا الأساسات ، عندما وضعوا العضادات ، عندما صبَّوا الخليط الإسمنتي ، تصوَّر كم سنة لكي ترتفع البناية على العظم ويُفرغ من بنائها ؟ وكم سنة كسوتها ؟ وكم سنة زخرفتها ؟ وكم سنة فرشها ؟ والله تحتاج إلى عشرات السنين ، أطول زلزال لمدَّة ثلاثين ثانية ، وبعض الزلازل ثلاث ثوان كالذي جاء في أغادير ..
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
فهذه الآية لها تفسير آخر ..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا ﴾
الرفاهية المبنية على البغي مآلها الاندثار :
أي أن كل شيء صار جميلاً جداً ، كل شيء علته الزخارف وأنواع الزينات وألوانها الأخاذة ، كل شيء مريح للعين ، ألوان جميلة ، حاجات متقنة ، وسائل رفاه منقطعة النظير ، حياتنا كلِّها أزرار ، فإذا لم يكن لدى أحدهم في سيَّارته زر ليرفع البلور ينزعج ، هكذا سيبذل جهداً كبيراً ، لا يستطيع أن يرفع زجاج أبواب السيارة بيده هذا تخلف صناعي يورث مشقة لصاحب السيارة ..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا ﴾
لأن هذا الرفاه على حساب الآخرين ، لأن هذا الرفاه مبنيٌّ على جوع الإنسان وعلى ظلمه ..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
قد يقول الإنسان بعد قيام الساعة : هنا كانت لندن ، هنا في هذا المكان ..
﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ﴾
هذه الأبنية الشاهقة ، وهذه العمارات الفخمة ، وهذه الفنادق الرائعة ، وهذه المتنزَّهات ..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
لأنه ..
﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾
( سورة الروم : من الآية 41 )
أي أن الفساد في العالَم تفشى بشكل منقطع النظير ، أي أن كل شيء صار مسخَّراً لشهوة الإنسان ولانحرافه ، على كلٍ الآية وحدها إذا نزعتها من بين أخواتها فهي صورة من صور نهاية العالم ، مشهد أخَّاذ من مشاهد قيام السَّاعة، إن نزعتها وحدها ، وإذا قرأتها مع أخواتها فلها معنى آخر ، أي أن هذا البغي الذي يبغيه الإنسان من أجل قطعة أرضٍ ، من أجل بيتٍ ، من أجل متجرٍ، من أجل شيءٍ تافهٍ فإنه لا يستفيد منه إلا في الحياة الدنيا فقط ، ومصيره في الحياة الدنيا إلى زوال محتم ..
﴿ فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ(17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18)﴾
( سورة البقرة )
انظر الآن إلى الناس ، أحدهم يشتغل في عمل مضنٍ لكي يجمِّع دريهمات فيشتري بها هذا البيت ، ويزيِّنه ، يجعل نوافذه كلُّها من الألمنيوم وزجاجه من البلور العاكس ، وكله تركيبات ، ثم تجده لم يتمتَّع فيه إلا قليلاً ، فيذوي عوده ، ويموت
لي قريب جاره يسكن في منزل فوقه له محل تجاري ، راجت بضاعته كثيراً ، فزيَّن بيته إلى درجة متناهية في التزيين ، بعد أن انتهت زينة البيت بشهرين وافته المنيَّة .. وآخر قال لجيرانه في البناية : مدخل البناء غير لائق ، وقد يكون عند أحد سكان البناء عزاء مثلاً ، أو فرح ، فدعا إلى اجتماعين أو ثلاثة لسكان البناء ، وجمعوا مبلغاً معيناً من كل بيت ، دهَّنوه ووضعوا باب حديدٍ فخمٍ ، ووضعوا أنترفون ، بعدما انتهت العمليَّة بأسبوعين صاحب المشروع توفي .. طبعاً هو يعرف ماذا أمامه ، جاء الناس فوجدوا المدخل فخماً ودهانات وأنترفون ورخامات ، لكنه قد فاته القطف ، وهكذا الحياة الدنيا ، هكذا نهايتها ، لذلك :
﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
إن قرأناها مع أخواتها ..
﴿ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾
أي قادرون على جني الثمار ، وعلى بيعها ، وعلى استثمار مالها في مجالات أخرى هذا معنىً ، وإن أخذناها وحدها ..
﴿ وَظَنَّ ﴾
أكابر الأرض وقتها أنهم قادرون عليها ، عندئذٍ ..
﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا ﴾
أمرنا لا أمرهم ، أمرنا نحن ..
﴿ فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
6 ـ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَام
الله يدعو جميع الناس إلى دار السلام
يدعو مَنْ ؟ سؤال ، يدعو فعل مضارع ، والله سبحانه وتعالى هو الفاعل ، ولكن المفعول به مَنْ ؟ يدعو مَن ؟ لأن الله عزَّ وجل أغفل المفعول به فالدعوة عامَّة ، يدعو كل خلقه إلى دار السلام ، أي أنه خلقهم لدار السلام ، أي أنه خلقهم للجنَّة ، أي أنه خلقهم ليرحمهم فقط ..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو ﴾
الإنسن ، والجنَّ ، جميع بني البشر ، أسودهم ، وأبيضهم ، وأحمرهم ، وأصفرهم ، غنيُّهم وفقيرهم ، قويهم وضعيفهم ، مدنيُّهم وقرويُّهم..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
لكن الذي يطلب دار السلام وحده يهديه إلى صراطٍ مستقيم ، قال المفسِّرون : " الصراط المستقيم هو القرآن الكريم " . وقال بعضهم : "الصراط المستقيم هو دين الإسلام " ..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
ادعُ الله أن يهديك إلى صراطه المستقيم :
وهذا واقع ، أقول لك : تضرع إلى الله قائلاً : يا رب اهدني إلى طريق الحق ، قلها بصدق تر أن الله سبحانه وتعالى جمعك مع أهل الحق ، وانشرح صدرك لكلامهم ، ويسَّر لك تطبيق الحق ، وتجلَّى على قلبك بعض من تجليَّاته ، فسعدت بهذا التجلي وكنت من قبل شقيَّاً ، كل هذا جمعك مع أهل الحق ، وأسمعك كلامهم ، وانشرح صدرك لهم ، وطبَّقت دلالتهم ، وسعدت بتطبيقك ، كل هذا بفضل سؤالك لربِّك : يا رب دلني عليك ، دلني عليك ، ودلني على من يدلَّني عليك ، اللهمَّ ارزقنا حبَّك ، وحبَّ من يحبُّك ، وحبَّ عملٍ صالحٍ يقرِّبنا إلى حبِّك ..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
يقول بعضهم : أنا مكتوب عليَّ في الأزل أنني شقي ، هذا كلام فارغ ، هذا كلام الشيطان ..
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ﴾
( سورة الأنعام : من الآية 148 )
أما نحن فنقول له : أنت مخيَّر ..
﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ﴾
( سورة يونس : من الآية 19 )
أي أنه خلقهم وفق فطرةٍ واحدة ، ووفق بنيةٍ واحدة ، وفق استعداداتٍ واحدة ، ووفق حقيقةٍ واحدة ولهدفٍ واحد ، أي أن الإنسان خُلِق ليسعد ، أي إنسان ، فربنا عزَّ وجل قال :
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
شتَّان بين الدنيا ودار السلام :
فشتَّان بين الدنيا ودار السلام ، أحد الناس لديه مبلغ اشترى به سيَّارة ، وآخر مثله اشترى أرضاً ، الذي اشترى السيَّارة بهذا المبلغ الضخم بحادث واحد أصبحت أثراً بعد عين ، لكن الأرض تضاعفت خمسين ضعفاً ، باع جزءاً منها بسيطاً ، وعمَّر بجزء منها بيتا فخمًا ، ثم باع جزءاً ثانياً ، واشترى بالثمن سيَّارة .. مثلاً .. فهذا الإنسان الأول لم يوفَّق في اختياره ، لكن الثاني وفِّق في اختياره ، فعندما يختار الإنسان الدنيا فالدنيا كلها تنتهي إذا توقَّف القلب ، يقول أحدهم : هذه البناية كلها لي ، مؤلفة من ثلاثين طابقاً ، ما دام القلب يدق ضع السمَّاعة عليه ، مادام يخفق إذاً هي لك ، وإذا وقَّف القلب لم تعُد لك ، فمتى لك ؟ ما دام هذا القلب ينبض ، فإذا توقَّف عن النبض ليست لك .
إذا اختار الإنسان الدنيا هناك احتمال أن تتركها بعد ثانية واحدة ، وهناك احتمالٌ آخر أن تتركك هي ، عنده مال صُودِرَ ، عنده محل احترق ، له مصلحة وُقَّفت ، له زوجة توفِّيت ، له شأن اجتماعي فعزل من مكانه ، كل ذلك ممكن ، فإما أن تتركك ، وإما أن تتركها ، على كلٍ هي مغامرة ، بثوانٍ تنتهي الحياة كلّها ، ولا سيما في هذه الأيَّام حيث إن ضغط الحياة لا يحتمله القلب ، تجد الأب في السابعة والأربعين جاءته جلطة ، وذاك سكتة قلبيَّة ، وثالث انفجار بالدماغ ، هذا تضخُّم في القلب ، هذا عدم تروية للعضلة القلبيَّة ، أمراض كثيرة في سن الأربعينيات ، فهذه الحياة الدنيا سريعة الزوال ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( إن أكيسكم أكثركم للموت ذكراً ، وأحزمكم أشدُّكم استعداداً لها ، ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والتزوِّد لسكنى القبور ، والتأهُّب ليوم النشور ))
[ ورد في الأثر ]
إذا فكَّر الإنسان في اليوم خمس دقائق في الموت بعد صلاة الفجر ، أو بعد السُّنة وبين السنَّة والفرض وقت قصير ، فكَّر هل نبقى في هذا البيت ؟ الله أعلم ، هل أدرك السنة الثانية ، الآن نحن في الخامسة والثمانين هل نلحق إلى التسعين ؟ لا أعرف ، هل سأكتب ألف وتسعمائة وتسعين ؟ يمكن ألا أكتبها ، يمكن إلى التاسعة والثمانين ، يمكن بالسادسة والثمانين ألا نعيش لوقتها ، الإنسان يفكِّر في النهاية لكي يهون عليه الإقبال على طاعة الله عزَّ وجل ، ويهون عليه ترك البغي والعدوان ..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
الله تعالى لا يهدي إلى صراطه المستقيم إلاّ المستقيمَ الصادقَ :
الصراط هو القرآن الكريم ، فلماذا لم يشأ الله ؟ لأن الله سبحانه وتعالى لا يهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم إلا إذا كان صادقاً في طلبه ، وإلا إذا دفع الثمن ، لابدَّ من أن تكون صادقاً في هذا الطلب السامي ، ولابدَّ من دفع الثمن ، ودفع الثمن الاستقامة على أمر الله، فمن كان صادقاً وعلامة الصدق الاستقامة يأخذ الله بيده ، ويهديه إلى الصراط المستقيم ، أي أنه يفتِّح قلبه لمعاني كتابه ، يفهمها ، يتفاعل معها ، يطبِّقها ، يسعد بها ، يقول لك : أنا أسعد الناس ..
﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
لا مقارنة بين دار الدنيا ودار السلام :
فإذا أجريت موازنةً بين دار السلام ، لماذا سمَّاها الله دار السلام ؟ لأن في الجنَّة سلامٌ في سلام ، لا نغص ، ولا همَّ ، لا يمكن أن تخلو حياة الإنسان من منغصات ، فإذا مرض ابنه تجد أنه شعر بضيق ، وكذلك إذا كان له تعويض في دائرة عمله ، وصدر قرار بإلغائه ، أو إذا كان يدخل عليه ألف ليرة فوق راتبه وتوقف صرف الألف له ، وصعب عليه أن يدبِّر معيشته بالراتب فقط ، شعر بضيق ، وكذلك إذا كان في منصب مرموق فشعر بمن ينافسه عليه ، ولن يتركوه في المنصب فإنه يحس بضيق يملأ عليه نفسه ، عَمِلَ تخطيطاً لقلبه فوجد فيه تسرُّعاً ، فإنه يشعر بضيق كذلك إذا عمل فحص دم فوجد أن هناك مادَّة مرتفعة عن حد المعدل فيشعر بالضيق ، إذا كان ساكنا في بيت فظهر أنه مُعرّض للاستيلاء عليه من قِبَل المحافظة فهذه مشكلة تملأ حياته كدراً وهمّاً ، أي أن الحياة كلها متاعب ، إما من طرف البيت ، و إما من طرف الصحَّة ، وإما من طرف الزوجة ، وإما من طرف الأولاد ، وإذا كان له قريب يمدَّه ببعض الحاجات فتوفي هذا القريب ، وانقطع رفد ذلك القريب إنها مشكلة ، وهكذا الحياة كلها ضيق وتعب ، ورحم الله القائل :
تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغبٍ في ازدياد
(( إن هذه الدنيا دار التواءٍ لا دار استواء ، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ))
ـ لأن الرخاء مؤقَّت .. إذا ركب رجلٌ أفخر سيَّارة لينقلوه إلى المشنقة فهل يفرح بمقاعدها ؟ يقول : انظروا إلى المقعد ما أجمله ! أي مقعد هذا ؟! يكون أحمق إذا فرح فيها ..
(( لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ـ كذلك الشقاء مؤقَّت ـ هذه الدنيا قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عُقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سبباً ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، فيأخذ ليعطي ويبتلي ليجزي ))
[ ورد في الأثر ]
إذاً : معنى دار السلام أي أنه ليس في هذه الدار لا نغص ، ولا قلق ، ولا حزنٌ ، ولا غمَّ ، ولا همَّ ، ولا خوف ، ولا اضطراب ، ولا حسرة ، ولا ندم ، جميع المتاعب التي تنتاب الإنسان في الدنيا معافى منها في الجنَّة، جميع المُقْلِقات ، جميع المنغِّصات ، جميع المخاوف ، جميع الأحزان التي تنتاب الإنسان في الدنيا فالله سبحانه وتعالى عافى أهل الجنَّة منها ..
﴿ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ(48)﴾
( سورة الحجر )
جاء البرد يحتاج إلى وقود ، والوقود ارتفع سعره ، يشعر بضيق ، جاء الحر ، موجة حر شديدة ولا يوجد عنده أجهزة تكييف في البيت ، بيته آخر طابق ، يشعر بانقباض ، لا حر، ولا قر ، ولا خوف ، ولا مرض ، ولا أثر لأي بلاء فيه ، ولكن ظهر بعض من الشعر الشائب في رأسه ، وبعد هذا بصره ضعُف ، وانحنى ظهره ، كذلك شعر بالضيق ، معنى هذا أنه قربت أسباب المنيّة ، هناك في الجنة لا شيء يدعو للقلق أو الهلع ، شبابٌ دائم ، صحَّةٌ دائمة ، حيويةٌ دائمة ، الفواكه لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة ، نهر من لبن ، ما الذي يزعجك من اللبن في الدنيا ؟ إنه يحمِّض ، قال :
﴿ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾
( سورة محمد : من الآية 15 )
ما الذي يحبِّبك في العسل ؟ أن يكون مصفَّى رائقاً ، شفَّافاً ، له سيولة معيَّنة ، قال :
﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ﴾
﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ﴾
( سورة محمد : من الآية 15 )
في الخمر لذَّة ولا أثر للحرقة ، لا تغتال العقول ، الفاكهة ما الذي يزعجك في الدنيا منها ؟ أنها غير متوافرة أحياناً ، فلو أن أحداً ذا يسر وغنى لكن الموسم انتهى وانقضى ، كالعنب مثلاً .. فإنه يستطيع أن يبتاعه مهما غلا الثمن حتى ولو كان من بلد آخر ، أما في الجنة فهي :
﴿ لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33)﴾
( سورة الواقعة )
﴿ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ(42)﴾
( سورة الصافات )
فهذه الجنَّة التي قال الله عزَّ وجل عنها في الحديث القدسي الذي رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ))
[ متفق عليه ]
أهذه الجنَّة يزهد فيها ؟ أتضعها وراء ظهرك ؟ لا تلتفت إليها ؟ بل تلتفت للدنيا ؟! هذا من تعاسة الإنسان أن يرضى بالدنيا ، ويُعْرِض عن الدار الآخرة .
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
الله تعالى مصدر السلام :
السلام اسمٌ من أسماء الله عزَّ وجل ، أي أن هذه الجنَّة داره..
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
الله عزَّ وجل مصدر السلام في الكون ، إذا كنت معه ، وهذا المعنى لا يعرفه إلا من ذاقه ، إذا كنت مُقْبِلاً عليه ، ولائذاً بحماه ، ومعتزاً به تشعر بسلام في نفسك عجيب ، لا يخيفك إنسان في الأرض ، ولا تخيفك كلمة تسمعها ، ولا تهديد يُلقى عليك أبداً ، أنت عبد السلام ، الله هو السلام ، مصدر السلام ..
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ :
(( اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ ، وَمِنْكَ السَّلَامُ ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ))
[ مسلم ]
أول معنى أنها دارٌ لا قلق فيها ، دار السلام .
والمعنى الثاني : أنها دارٌ الله سبحانه وتعالى الذي هو السلام ، ويتجلَّى فيها على عباده المؤمنين فيسعدون به .
والمعنى الثالث : السلام هو التحيَّة ، أي أن الإكرام في الجنة منقطع النظير ، أحياناً الإنسان يأتيه ضيف فيقول له كل دقيقتين : يا أهلاً وسهلاً ، هذه مبالغة بالإكرام ، قلتها له أول مرَّة ، والثانية ، والثالثة ، بعد ربع ساعة يا أهلاً ، يرحِّب فيه بألوان الترحيب ، إذاً هذا من الإكرام .
المؤمنون في الجنة في موضع ترحيب وإكرام :
المعنى الثالث أن هؤلاء المؤمنين في الآخرة ، وهم في الجنَّة يتلقَّون تحيَّاتٍ من ربِّهم بشكلٍ مستمر ، هنيئاً لكم ..
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾
( سورة الحاقة )
هنيئاً لكم ..
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)﴾
( سورة الذاريات )
إلى آخر الآيات ، فالمؤمن يوم القيامة موضع كل تكريم .. وإذا وضع أحد لك طعاماً شهياً نفيساً ، ولم يرحِّب بك فإنك تنزعج ، ولعل الترحيب عندك أغلى من الأكل ، قال لك : تفضل كل ، أأنت جئت لتأكل ؟ أم جئت لتزوره .. لكن إذا رحَّب بك إنسان آخر ، وقال : آنستنا ، هذه الكلمات يمكن أن تدغدغ لك عواطفك ، تشعر بنشوة عجيبة جداً ، سيدنا إبراهيم عندما قرَّب الطعام للضيف قال :
﴿ أَلا تَأْكُلُونَ(27)﴾
( سورة الذاريات : من الآية 27 )
تفضَّلوا ، هذه من آداب الضيافة ، إن أول آداب الضيافة البِشر و الاستعداد ..
﴿ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69)﴾
( سورة هود )
فهيَّأ حاله ، والكرماء يهيِّؤون حالهم ، عنده كمية من الخبز احتياطاً ، عنده حاجات مدخرة للضيافة ، وإذا طرأ ضيف فيجب أن يقدم له وجبة عشاء مع الاحتفاء والترحيب ..
﴿ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ(69)﴾
﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴾
(سورة الذاريات : من الآية 27 )
كذلك تقريب الطعام للضيف من السُنَّة ، إذا كان الصحن بعيداً فإنه يستحي أن يقول لك : أريد أن آكل من الصحن الفلاني ، إنه جالس ينظر إليه ، وهو مستحٍ ، وجعله منه قريباً ..
﴿ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ ﴾
بعد هذا قال : تفضَّلوا وكلوا ..
﴿ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(27)﴾
الاستعداد ، وتقريب الطعام للضيف ، ودعوته للطعام هذا من آداب الضيافة .
إذاً :
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾
عرفنا أن دار السلام هي الجنَّة ، والعباد كلُّهم مدعوَّون ، أحياناً يقول لك : الدعوة عامَّة كل من يحب يشرِّفنا حضوره ، أحياناً توجد بطاقة بيضاء ، البيضاء أي أول صف ، الحمراء ثاني صف ، الخضراء ثالث صف ، توجد درجات ، لكن أحياناً يقول لك : الدعوة عامَّة ، أي كلكم مدعوَّون لدار السلام ، لكن لا بد من الثمن ، الثمن أن تكون صادقاً في طلب دار السلام ، وأن تدفع الثمن وهو الاستقامة على أمر الله ، فإذا فعلت هذين الشرطين عندها يأخذ الله بيدك ، ويهديك إلى صراطٍ مستقيم ، ويجمعك مع أهل الحق ، يشرح صدرك لكلامهم ، ويهدوك لتطبيق كلام الله ، ويمسِّكوك بالكتاب ، تطبِّقه ، تسعدُ به ، لذلك :
هم الأحبَّة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهم معدلُ وإن عدلوا
والله إن فتتوا في حبهم كبدي باقٍ على حبِّهم راضٍ بما فعلوا
***
إذا صار للإنسان مع الله عزَّ وجل مودَّة ، وانعقدت أواصرها فلابد من أن يذوب محبَّة في الله عزَّ وجل ، ففي قلب المؤمن سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها .. " لو يعلم المُلُوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف " ، هكذا قال إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه ، هو مع الله ، وكل شيءٍ بيد الله ، هو الجميل ، هو الغني ، هو الحميد ، هو القوي ، هو العزيز ،
(( وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ))
[ أبو داود عن الحسن بن علي ]
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾
وإليك معنى آخر : يهدي من يشاء هو سبحانه ، ومشيئته مرتبطة بصدق العبد وباستقامته .
والمعنى الآخر : ويهدي من يشاء منكم حسب اختياره للهدى أيها العباد جميعاً ..
﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
والدعوة أيضاً عامَّة ، لك أن تفهم هذه الآية بأن تعزو المشيئة إلى الله عزَّ وجل بمعنى : أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي هذا الإنسان إلى صراطٍ مستقيمٍ إلا إذا دفع الثمن ، والثمن استقامته على أمره .
والمعنى الآخر : ويهدي من يشاء من العباد كلِّهم بمعنى أن العباد مخيَّرون ..
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ﴾
( سورة فصلت : من الآية 17 )
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
( سورة البقرة : من الآية 148 )
هذا المعنى الآخر ..
﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(25)لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾
7 ـ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ
الحسنى هي الجنة ، والزيادة هي النظر إلى وجه الله تعالى :
أحسنوا بماذا ؟ قال : هذا من إعجاز القرآن الكريم ، قال : الذين أحسنوا النظر ، فكَّر فرأى أن الدنيا موقَّتة والآخرة أبديَّة ، فكَّر فرأى أنه إذا أطاع فلاناً ، وفلان عبد مثله ضعيف لا ينفعه ، لكنَّه إذا أطاع الله عزَّ وجل فإن الله عزَّ وجل الله حيٌّ لا يموت ، قال :
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ﴾
أي أنهم أحسنوا النظر في العاقبة ، أو أحسنوا النظر في أمر الآخرة ، أي أحسنوا التفكير .
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ﴾
بعضهم قال : للذين أحسنوا في العمل ، والذين أحسنوا في الدعوة إلى الله ، الآية مطلقة ، فعل مطلق في إشارته للإحسان ودلالته عليه ..
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ﴾
في تفكيرهم ، وفي تعبيرهم ، وفي محاكمتهم ، وفي نظرهم ، وفي قولهم ، وفي عملهم ، وفي دعوتهم ..
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ﴾
هي الجنَّة ..
﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾
ما هي الزيادة ؟ هي النظر إلى وجه الله عزَّ وجل ، فإن المؤمنين ينظرون إلى وجه الله عزَّ وجل نظرةً يغيبون معها خمسين ألف سنةٍ من نشوة النظر ، والدليل على ذلك قوله تعالى :
﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ ﴾
لا هَمّ للمؤمنين في الجنة :
أي أنَّ هذا الوجه الذي نظر إلى الله عزَّ وجل فسعِد بهذه النظرة لا يرهقه قترٌ ، القتر هو الغم ، أحياناً يقول لك أحدهم : ما بك ؟ وجهك غير طبيعي ؟ كأنك في همٍّ وقلق ، والإنسان حينما يتألَّم يظهر ألمه القلبي على صفحة وجهه .
نتابع الآية الأخيرة :
﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ﴾
في الحياة الدنيا كل آلامه النفسيَّة تنعكس على صفحة وجهه ، تنعكس قلقاً ، يقول لك : علائم وجهه حزينة ، يوحي وجهه بانقباض ، نفسه كما يوحي بخوفٍ يؤرقه ، هذا هو القتر ، وأحياناً الإنسان يخون شريكه ، وحينما يكتشف شريكه خيانته يُحِسُ بالذلِّ والعار ، وأحياناً طالب صغير يأخذ قلماً ليس له ، فيظهر أن القلم في جيبه ، فالمعلِّم قبل أن يعنّفه ، أو قبل أن يُحاسبه فإن هذا الطفل يُحسُّ بالخزي والعار ، يترجم هذا الإحساس علائم ذلَّة مسحت وجهه ، أما أهل الجنَّة في الجنَّة فلا قتر يعلو الوجوه ، ولا ذلَّة ..
﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ﴾
لماذا لا توجد الذلَّة ؟ أطاعوا الله في الدنيا واعتزُّوا به ، وها هو قد كافأهم على طاعتهم بجنِّةٍ عرضها السماوات والأرض ، لماذا القلق والحزن ؟ هم آمنون من كل شيء ، في طمأنينة ما بعدها طمأنينة ..
﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
إلى الأبد ، اجعل موازنة بين دار السلام والحياة الدنيا ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ))
[ ورد في الأثر ]
﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(26)وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ ﴾
8 ـ عدل الله المطلق : جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
وبالمُقَابِل ، لا عقاب فوق طاقتكم ، مائة ضعف ، لا ..
﴿ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾
الطاعة عزٌّ والمعصية ذلٌّ :
وإليك على عز الطاعة : أحد التابعين كان يمشي مشيةً فيها اعتزاز ، فظنَّها بعضهم أنها كِبْر ، فقالوا : " يا فلان أَكِبْرٌ ؟ " قال : لا هذا عزُّ الطاعة " ، الشاب المطيع لله عزَّ وجل يشعر بعزَّة وبمكانة لا يعلمها إلا الله ، يحس أنه في رعاية الله ، فإنك بأعيننا ، يحس أن الله معه ، أن الله آخذٌ بيده كلَّما عثر ، أن الله يدافع عنه ، أن الله يسدد خُطاه ، يسدِّد أقواله وأفعاله ، هذا عزُّ الطاعة ..
﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾
والنظر إلى ذلَّة المعصيَّة ، سيدنا يوسف خرج في موكبه بعد أن صار عزيز مصر ، وكانت قد رأت الموكب امرأة العزيز بعد أن شاخت ، وخارت قواها ، وتبدل حالها فقالت هذه الكلمة الشهيرة : " سبحان من جعل العبيد ملوكاً بطاعته ـ تعني أن يوسف كان عبداً فصار عزيزاً ـ ومن جعل الملوك عبيداً بمعصيته " ، تعني نفسها .
إذاً إن كان أحد يريد عزاً لا يفنى فليطع الله عزَّ وجل ، إذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتق الله ، وإذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكَّل على الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يديِ الله أوثق منك بما في يديك ..
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾
9 ـ لا عاصم إلا الله :
أي لا مجال للالتجاء لأحد أيا كان ، فإن هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله عبادٌ أمثالكم، ضعاف ، مثلاً : عصابة سرقةٍ لها زعيم له سلطة على أفراد العصابة وهيمنة وشأن ، فلمَّا أُلقي القبض عليهم جميعاً صار زعيمهم واحداً مثلهم ، اقعد يقعد ، ازحف يزحف ، هرول يهرول الخ .... هذا الذي كان ذا هيمنة عليهم ، صار كأحدهم هكذا الشركاء في الدنيا ..
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾
لهم وجوه أسود من الليل لشدَّة بعدهم ومعصيتهم وطغيانهم وما اقترفوه في حقِّ العباد ..
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾
خاتمة :
درسنا آيتين ، فيهما موازنة بين الحياة الدنيا التي تذهب في لمحة البصر وتتلاشى..
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا ﴾
والآيتان معلَّقتان بوشائج محسوسة مع الآية السابقة عليهما :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
أي أن ثمار البغي لن تفيدكم إلا في الحياة الدنيا ، والحياة الدنيا موقَّتة ، وسريعة الزوال ، وشيكة التحوُّل ، أما دار السلام ، من اسمها دار السلام ..
﴿ سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)﴾
( سورة الزمر )
إلى أبد الآبدين ، ولنجر موازنة بين الحياة الدنيا ودار السلام ، إن دار السلام الدعوة لها عامَّة ، وإذا كان أحد يريد تفصيلات ، فأحياناً يحوّل إلى دفتر شروط ، هذه المناقصة لكل المواطنين ، ودفتر الشروط يؤخذ من المكان الفلاني من الساعة كذا إلى كذا ، فدار السلام دعوة عامَّة ، وبعد هذا :
﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
القرآن الكريم ، أو الإسلام هما أو أحدهما الصراط المستقيم .
=

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.