مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

الاستقامة لابن تبمبة من 11 الي 17.





******************************
/11


الاستقامة/11

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/10 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/12










وعلى هذا يجري الأمر على محبة الإنسان للشئ الجميل من الصورة والنظر إليه وما يدخل في ذلك من قوة الحب والزيادة فيه التي تسمى العشق فإن ذلك إذا خلا عن المفسدة الراجحة مثل أن يحب الإنسان امرأته وجاريته حبا معتدلا أو يحب ما لا فتنة فيه كحبه للجميل من الدواب والثياب ويحب ولده وأباه وأمه ونحو ذلك من محبة الرحم كنوع من الجمال الحب المعتدل فهذا حسن

أما إذا أحب النساء الاجانب أو المردان ونحو ذلك فهذا الحب متضمن للمحبة الحيوانية وليس في ذلك مجرد محبة الجمال والمحبة الحيوانية مما يبغضها الله ويمقتها وتوابعها منهى عنها مع ذلك سواء كان مع المحبة فعل الفاحشة الكبرى أو كانت للتمتع بالنظر والسماع وغير ذلك

فالتمتع مقدمات الوطء فإن كان الوطء حلالا حلت مقدماته وإن كان الوطء حراما حرمت مقدماته وإن كان في ذلك رفض للجمال كما فيه رفض للذة الوطء المحرم فإن ما في ذلك مما يبغضه الله ويمقت عليه أعظم مما في مجرد الجمال من الحب المتضمن وذلك متضمن لتفويت محاب الله من التقوى والعفاف والإقبال على مصالح الدين والدنيا أعظم بكثير مما فيها من مجرد حب الجمال فلهذا كانت هذه مذمومة منهيا عنها حتى حرم الشارع النظر في ذلك بلذة وشهوة وبغير لذة وشهوة إذا خاف الناظر الفتنة والفتنة مخوفة في النظر إلى الأجنبية الحسنة والأمرد الحسن في أحد قولي العلماء الذي يصححه كثير من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما وهذا قد يختلف بأختلاف العادات والطبائع وأما النظر للحاجة من غير شهوة ولا لذة فيجوز

ولهذا لم يأمر الله ولا رسوله ولا أهل العلم والإيمان بعشق الصور الجميلة ولا أثنوا على ما كان كذلك وكذلك العقلاء من جميع الأمم ولكن طائفة من المتفلسفة والمتصوفة تأمر بذلك وتثنى عليه لما فيه زعموا من إصلاح النفس ورياضتها وتهذيب الأخلاق واكتساب الصفات المحمودة من السماحة والشجاعة والعلم والفصاحة والاختيال ونحو ذلك من الأمور حتى أن طائفة من فلاسفة الروم والفرس ومن اتبعهم من العرب تأمر به وكذلك طائفة من المتصوفة حتى يقول أحدهم ينبغي للمريد أن يتخذ له صورة يجتمع قلبه عليها ثم ينتقل منها إلى الله وربما قالوا إنهم يشهدون الله في تلك الصورة ويقولون هذه مظاهر الجمال ويتأولون قوله ﷺ إن الله جميل يحب الجمال على غير تأويله

فهؤلاء وأمثالهم ممن يدخل في ذلك يزعمون أن طريقهم موافق لطريق العقل والدين والخلق وإن اندرج في ذلك من الأمور الفاحشة ما اندرج

وهؤلاء لهم نصيب من قوله تعالى وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء سورة الأعراف 28

لكن العرب الذين كانوا سبب نزول هذه الآية إنما كانت فاحشتهم التي قالوا فيها ما قالوا طوافهم بالبيت عراة لاعتقادهم أن ثيابهم التي عصوا الله فيها لا تصلح أن يعبد الله فيها فكانوا ينزهون عبادة الله عن ملامسة ثيابهم فيقعون في الفاحشة التي هي كشف عوراتهم

وأما هؤلاء فأمرهم أجل وأعظم إذ غاية ما كان أولئك يفعلون طواف الرجال والنساء عراة مختلطين حتى كانت المرأة منهم تقول ... اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله ...

ولم يكن ذلك الاختلاط والاجتماع إلا في عبادة ظاهرة لا يتأتى فيها فعل الفاحشة الكبرى ولم يقصدوا بالتعري إلا التنزة من لباس الذنوب بزعمهم

فالذين يجتمعون من الرجال والنساء والمردان لسماع المكاء والتصدية ويطفئون المصابيح حتى لا يرى أحدهم الآخر حتى اجتمعوا على غناء وزنا ومطاعم خبيثة وجعلوا ذلك عبادة فهؤلاء شر من أولئك بلا ريب فأن هؤلاء فتحوا أبواب جهنم

كما روى أبو هريرة قال سئل رسول الله ﷺ ما أكثر ما يدخل الناس النار فقال الأجوفان الفم والفرج قال الترمذي حسن صحيح

وكذلك روى عنه أنه قال أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن

وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره وفي رواية مسلم حفت مكان حجبت

وإذا كانت النار محجوبة ومحفوفة بالشهوات لم يدخل النار إلا بها وإذا كانت الجنة محجوبة ومحفوفة بالمكاره لم يدخل الجنة إلا بها

وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول الله ﷺ قال من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة وما بين لحييه يتناول الكلام والطعام

كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي شريح الخزاعي أن رسول الله ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت

فبين ﷺ أنه من ضمن له هذين ضمن له الجنة وهذا يقتضي أن من هذين يدخل النار ولهذا حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن وحرم أيضا انتهاك الأعراض وجعل في القذف بالفاحشة من العقوبة المقدرة وهي حد القذف ثمانين جلدة

وبين ﷺ أن الزنا من الكبائر وأن قذف المحصنات الغافلات من الكبائر وهو وهو من نوع الكبائر إذ لم يأت عليه القاذف بأربعة شهداء وإن كان قد وقع فإنه أظهر ما يحب الله إخفاؤه

كما قال تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة سورة النور 19

وفي الحديث الصحيح قال النبي ﷺ كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا بات يستره ربه ويصبح يكشف ستره

وقال من ابتلى من هذه القاذورة بشئ فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الله

وفي الصحيحين عن صفوان بن محرز أن رجلا سأل ابن عمر كيف سمعت النبي ﷺ يقول في النجوى قال يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيقول عملت كذا وكذا فيقول نعم ويقول عملت كذا وكذا فيقول نعم فيقرره ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ولهذا يكثر وقوع الناس في أحد هذين الذنبين

فمن الناس من يبتلى بالفاحشة وإن كان ممسكا عن الكلام ومن الناس من يبتلي بالكلام والاعتداء على غيره بلسانه وإن كان عفيفا عن الفاحشة

وأيضا فإن من الكلام المنهى عنه الخوض في الدين بالبدع والضلالات مع تضمنه لشهوة الطعام وما بين الفرجين يتضمن أقوى الشهوات وذلك من الاستمتاع بالخلاق في الدنيا كما جمع الله تعالى بينهما بقوله فاستمعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا سورة التوبة 69 الأول يتضمن الشبهات والثاني يتضمن الشهوات الأول يتضمن الدين الفاسد والثاني يتضمن الدنيا الفاجرة

وكان السلف يحذرون من هذين النوعين من المبتدع في دينه والفاجر في دنياه كل من هذين النوعين وإن لم يكن كفرا محضا فهذا من الذنوب والسيئات التي تقع من أهل القبلة

وجنس البدع وإن كان شرا لكن الفجور شر من وجه آخر وذلك أن الفاجر المؤمن لا يجعل الفجور شرا من الوجه الآخر الذي هو حرام محض لكن مقرونا بأعتقاده لتحريمه وتلك حسنة في أصل الاعتقاد وأما المبتدع فلا بد ان تشتمل بدعته على حق وباطل لكن يعتقد ان باطلها حق أيضا ففيه من الحسن ما ليس في الفجور ومن السئ ما ليس في الفجور وكذلك بالعكس

فمن خلص من الشهوات المحرمة والشهوات المبتدعة وجبت له الجنة وهذه هي الثلاثة الكلام المنهى عنه والطعام المنهى عنه والنكاح المنهى عنه فإذا اقترن بهذه الكبائر استحلالها كان ذلك أمرا فكيف إذا جعلت طاعة وقربة وعقلا ودينا

وهؤلاء هم الذين يستحقون عقوبة أمثالهم من الأمم كما ثبت في الصحيح أنه يكون في هذه الأمة من يمسخ قردة وخنازير وكما روى أنه سيكون فيها خسف وقذف ومسخ

وقال بعض السلف في قوله تعالى وما هي من الظالمين ببعيد سورة هود 83 أي من ظالمي هذه الأمة وفي ذلك من الأحاديث ما يضيق هذا الموضع عن ذكره وفي عامتها يذكر استحلالهم لها

وأصل الضلال والغي من هؤلاء الذين يستحسنون عشق الصور ويحمدونه ويأمرون به وإن قيدوه مع ذلك بالعفة أن المحبة هي أصل كل حركة في العالم فالنفس إذا لم يكن فيها حركة ولا هي قوية الهمة والإرادة حتى تحصل لها محبة شديدة كانت تلك المنهيات عنها هي أصول الشر وهي التي إذا ظهرت قامت الساعة

كما في الصحيح عن أنس أنه قال لأحدثنكم حديثا لا يحدثكمونه أحد بعدي سمعته من النبي ﷺ سمعت النبي ﷺ يقول إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد

فمن ظهور الجهل ظهور الكلام في الدين بغير علم وهو الكلام بغير سلطان من الله وسلطان الله كتابه ومن ظهور الزنا ظهور اللواط وإن كان له اسم يخصه فهو شر نوعي الزنا ولكون ظهور شهوات الغي البطن والفرج هي أغلب ما يدخل الناس النار كما ذكر ذلك النبي ﷺ فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال النبي ﷺ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد

والسرقة بالمال الذي هو أعظم مقصود الأكل ولهذا يعبر عن اخذه بالأكل كقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل سورة البقرة 188

وهذه الثلاثة هي التي يعقد الفقهاء فيها أبواب الحدود باب حد الزنا باب حد السرقة باب حد شرب الخمر ورابعها باب حد القذف مندرجة فيما بين لحييه وبين رجليه

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لا يزني العبد حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ولا يقتل وهو مؤمن قال عكرمة قلت لابن عباس كيف ينزع الإيمان منه قال هكذا وشبك بين أصابعه ثم أخرجها فإن تاب عاد إليه هكذا وشبك بين أصابعه

فإذا اقترن بهذه الكبائر تلك المحبة في نفس صاحبها فإنها توجب حركتها وقوة إرادتها فيعطي من المال ما لم يكن يعطيه ويقدم على مخاوف لم يكن يقدم عليها ويحتال ويدبر ما لم يكن يحتاله ويدبره قبل ذلك ويصير والها من التفكر والنظر ما لم يكن قبل ذلك فلما رأوا ما فيه من هذه الأمور التي هي من جنس المحمودات حمدوه بذلك وهذا من جنس من حمد الخمر لما فيها من الشجاعة والكرم والسرور ونحو ذلك

وذلك أن هؤلاء كلهم لحظوا ما فيها من جنس المحبوب وأغفلوا ما تتضمنه من جنس المذموم فإن الذي يورثه العشق من نقص العقل والعلم وفساد الخلق والدين والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود

وأصدق شاهد على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم وسماع أخبار الناس في ذلك فهو يغني عن معاينة ذلك وتجريبه ومن جرب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته

ولهذا قال أبو القاسم القشيري في رسالته ومن أصعب الآفات في هذه الطريقة صحبة الأحداث ومن ابتلاه الله بشئ من ذلك فبإجماع الشيوخ هذا عبد أهانه الله وخذله بل عن نفسه شغله ولو لألف الف كرامة أهله وهب أنه بلغ رتبة الشهداء لما في الخبر من التلويح بذلك أليس قد شغل ذلك القلب بمخلوق وأصعب من ذلك تهوين ذلك على القلب حتى يعد ذلك يسيرا وقد قال تعالى وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم سورة النور 15

وهذا الواسطي رحمه الله يقول إذا أراد الله هوان عبد ألقاه إلى هؤلاء الأنتان والجيف

وقال سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول سمعت محمد بن أحمد النجار يقول سمعت أبا عبد الله الحصري يقول سمعت فتحا الموصلي يقول صحبت ثلاثين شيخا كانوا يعدون من الابدال فكلهم أوصوني عند فراقي إياهم وقالوا لي اتق معاشرة الاحداث ومخالطتهم

ومن ارتقى في هذا الباب عن حال الفسق وأشار إلى أن ذلك من بلايا الأرواح وأنه لا يضر فما قالوه من وساوس القائلين بالسماع وإيراد حكايات عن بعض الشيوخ كان الأولى بهم إسبال الستر على هناتهم وآفاتهم فذلك نظير الشرك وقرين الكفر

فليحذر المريد من مجالسة الأحداث ومخالطتهم فإن اليسير منه فتح باب الخذلان وبدء حال الهجران ونعوذ بالله من قضاء السوء

وهنا أصل عظيم نافع يجب اعتباره وهو ان الأمور المذمومة في الشريعة كما ذكرناه هو ما ترجح فساده على صلاحه كما أن الأمور المحمودة ما ترجح صلاحه على فساده فالحسنات تغلب فيها المصالح والسيئات تغلب فيها المفاسد والحسنات درجات بعضها فوق بعض والسيئات بعضها أكبر من بعض فكما أن أهل الحسنات ينقسمون إلى الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين فأهل السيئات ينقسمون إلى الفجار الظالمين والكفار المكذبين وكل من هؤلاء هم درجات عند الله

ومن المعلوم أن الحسنات كلما كانت أعظم كان صاحبها أفضل فإذا انتقل الرجل من حسنة إلى أحسن منها كان في مزيد التقريب وإن انتقل إلى ما هو دونها كان في التأخر والرجوع وكذلك السيئات كلما كانت أعظم كان صاحبها أولى بالغضب واللعنة والعقاب

وقد وقال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأمولهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة سورة النساء 95

وقال أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام إلى قوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون سورة التوبة 19 20

وقال لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل سورة الحديد 10

وقال يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات سورة المجادلة 11

وكذلك قال في السيئات إنما النسئ زيادة في الكفر سورة التوبة 37

وقال زدناهم عذابا فوق العذاب سورة النحل 88

وقال وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم سورة التوبة 125

وقال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا سورة البقرة 10

وقال وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا سورة الإسراء 82

ومعلوم أن التوبة هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات ولهذا لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة والردة هي جماع الرجوع من الحسنات إلى السيئات ولهذا لا يحبط جميع الحسنات إلا الردة عن الإيمان

وكذلك ما ذكرناه في تفاوت السيئات هو في الكفر والفسق والعصيان فالكفار بعضهم دون بعض ولهذا يذكر الفقهاء في باب الردة والإسلام انتقال الرجل كأحد الزوجين من دين إلى دين آخر انتقال إلى دين خير من دينه أو دون دينه أو مثل دينه فيقولون إذا صار الكتابي مجوسيا أو مشركا فقد انتقل إلى شر من دينه وإذا صار المشرك أو المجوسي كتابيا فقد انتقل إلى خير من دينه وإذا تهود النصراني أو بالعكس فقد انتقل إلى نظير دينه والتمجس يقر عليه بالاتفاق وأما الإشراك فلا يقر عليه إلا بعض الناس عند بعض العلماء والصابئة نوعان عند المحققين وعلى قولين عند آخرين ومعرفة مراتب الأديان محتاج إليها في مواضع كثيرة لمعرفة مراتب الحسنات

والفقهاء يذكرون ذلك لأجل معرفة أحكامهم وتناكحهم وذبائحهم وفي دمائهم و قتالهم وإقرارهم بالجزية المضروبة عليهم ونحو ذلك من الأحكام التي جاء بها الكتاب والسنة في أهل الملل والأحزاب الذين قال الله فيهم ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده سورة هود 17

وقد قال الله تعالى لنبيه فلذلك فآدع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم سورة الشورى 15

والعدل وضع كل شئ في موضعه كما أن الظلم وضع الشئ في غير موضعه

ولهذا لما اقتتلت فارس المجوس والروم النصارى وكان النبي ﷺ بمكة إذ ذاك وهو في طائفة قليلة ممن آمن به كان هو وأصحابه يحبون أن تغلب الروم لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب فارس لأنهم من جنسهم ليسوا أهل كتاب فأنزل الله في ذلك آلم غلبت الروم في أدنى الأرض سورة الروم 12 والقصة مشهورة في كتب الحديث والتفسير والمغازي

وإذا كان كذلك فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة فينتقل إلى ما هو أقل منها شرا وأقرب إلى الخير فيكون حمد تلك الطريقة ومدحها لكونها طريقة الخير الممدوحة مثال ذلك أن الظلم كله حرام مذموم فأعلاه الشرك فإن الشرك لظلم عظيم والله لا يغفر أن يشرك به وأوسطه ظلم العباد بالبغي والعدوان وأدناه ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله فإذا كان الرجل مشركا كافرا فأسلم باطنا وظاهرا بحيث صار مؤمنا وهو مع إسلامه يظلم الناس ويظلم نفسه فهو خير من أن يبقى على كفره ولو كان تاركا لذلك الظلم

واما إذا أسلم فقط وهو منافق في الباطن فهذا في الآخرة في الدرك الأسفل من النار وأما في الدنيا فقد يكون أضر على المسلمين منه لو بقى على كفره وقد لا يكون كذلك فإن إضرار المنافقين بالمؤمنين يختلف بآختلاف الأحوال

لكن إذا أسلم نفاقا فقد يرجى له حسن الإسلام فيصير مؤمنا كمن أسلم تحت السيف وكذلك من أسلم لرغبة أو لرهبة أو نحو ذلك فالإسلام والإيمان أصل كل خير وجماعة

وكذلك من كان ظالما للناس في نفوسهم واموالهم وأعراضهم فانتقل عن ذلك الى ما يظلم به نفسه خاصة من خمر وزنا فهذا أخف لأثمة وأقل لعذابه

وهكذا النحل التي فيها بدعة قد يكون الرجل رافضيا فيصير زيديا فلذلك خير له وقد يكون جهميا غير قدري أو قدريا غير جهمي أو يكون من الجهمية الكبار فيتجهم في بعض الصفات دون بعض ونحو ذلك

فهؤلاء المتفسلفة ونحوهم ممن مدح العشق والغناء ونحو ذلك وجعلوه مما يستعينون به على رياضة أنفسهم وتهذيبها وصلاحها من هذا الباب فإن هؤلاء في طريقهم من الشرك والضلال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال فإن المتفلسفة قد يعبدون الأوثان والشمس والقمر ونحو ذلك فإذا صار أحدهم يروض نفسه بالعشق لعبادة الله وحده أو رياضة مطلقة لا يعبد فيها غير الله كان ذلك خيرا له من أن يعبد غير الله

وكذلك الاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق أو يقولون إنه يحل في الصور الجميلة متى تاب الرجل منهم من هذا وصار يسكن نفسه بعشق بعض الصور وهو لا يعبد إلا الله وحده كانت هذه الحال خيرا من تلك الحال

فهذه الذنوب مع صحة التوحيد خير من فساد التوحيد مع عدم هذه الذنوب ولهذا نجد الناس يفضلون من كان من الملوك ونحوهم إنما يظلم نفسه بشرب الخمر والزنا أو الفواحش ويتجنب ظلم الرعية ويتحرى العدل فيهم على من كان يتجنب الفواحش والخمر والزنا وينتصب لظلم الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم

وهؤلاء الظالمون قد يجعلون الظلم دينا يتقربون به بجهلهم كما أن أولئك الظالمين لأنفسهم قد يجعلون ذلك بجهلهم دينا يتقربون به فالشيطان قد زين لكثير من هؤلاء وهؤلاء سوء عملهم فرأوه حسنا

لكن كثير من الناس يجمعون بين هذا وهذا فإن من عقوبة السيئة السيئة بعدها ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها والحسنات والسيئات قد تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا

فالصدق مفتاح كل خير كما ان الكذب مفتاح كل شر ولهذا يقولون عن بعض المشايخ إنه قال لبعض من استتابه من أصحابه أنا لا أوصيك إلا بالصدق فتأملوا فوجدوا الصدق يدعوه إلى كل خير

ولهذا فرق الله سبحانه بين أهل السعادة وأهل الشقاوة بذلك فقال فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 32 35

وترتيب الكبائر ثابت في الكتاب والسنة كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال قلت يا رسول أي الذنب أعظم قال أن تجعل الله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال أن تزاني بحليلة جارك وتصديق ذلك في كتاب الله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله بالحق ولا يزنون الفرقان 68

ولهذا قال الفقهاء أكبر الكبائر الكفر ثم قتل النفس بغير حق ثم الزنا لكن النبي ﷺ ذكر لابن مسعود من جنس أعلى فأعلى الكفر هو أن تجعل الله ندا بخلاف الكتابي الذي ليس بمشرك فإنه دون ذلك وأعظم القتل ولدك وأعظم الزنا الزنا بحليلة الجار

وهذا كما ذكرنا أن الظلم ثلاث مراتب الشرك ثم الظلم للخلق ثم ظلم النفس فالقتل من ظلم الخلق فإذا كان قتلا للولد الذي هو بعضه منك كان فيه الظلمان والزنا هو من ظلم النفس لكن إذا كان بحليلة الجار صار فيه الظلمان أيضا لكن المغلب في القتل ظلم الغير والظلم في الزنا ظلم النفس

ولهذا كان القود حقا للآدمي إن شاء استوفاه وإن شاء عفا عنه وكان حد الزنا حدا لله ليس لآدمي فيه حق معين لكن قد يقترن ببعض انواع الزنا ويقتضي أمورا تضر الناس يكون بها أعظم من قتل لا يضر به إلا المقتول فقط

وأيضا فقتل النفس يدخل فيه من التأويل ما ليس يدخل في الزنا فإن حلاله بين من حرامه بخلاف القتل فإن فيه ما يظهر تحريمه وفيه ما يظهر وجوبه أو استحبابه أو حله وفيه ما يشتبه ولهذا جعل الله فيه شيئا ولم يجعل ذلك في الزنا بقوله ولا يقتلون النفس الآية سورة الفرقان 68
في الغيرة وانواعها وما فيها من محمود ومذموم

في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ قال ما احد اغير من الله من اجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما احد احب اليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه

وفي رواية لمسلم وليس احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك انزل الكتاب وارسل الرسل جمع النبي ﷺ في هذا الحديث بين وصفة سبحانه بأكمل المحبة للممادح واكمل البغض للمحارم

وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة قال قال سعد بن عبادة لو رأيت رجلا مع امرأتي لأضربنه بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال تعجبون من غيرة سعد والله لأنا اغير منه والله اغير منى ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها

وما بطن ولا احد احب اليه العذر من الله من اجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا احد احب اليه المدحة من الله من اجل ذلك وعد الله الجنة

وقال البخاري وقال عبيد الله بن عمرو عن عبد الملك لا شخص اغير من الله وترجم البخاري على ذلك باب

وفي الصحيح عن ابي هريرة عن النبي ﷺ انه قال ان الله يغار وغيره الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه

وفي الصحيح عن اسماء انها سمعت رسول الله ﷺ يقول لا شيء اغير من الله

وفي الصحيحين عن عائشة ان النبي ﷺ قال يا أمة محمد ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته

وفي السنن عن النبي ﷺ انه قال ان من الغيرة ما يحبها الله ومن الغيرة ما يكرهها فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة وان من الخيلاء ما يحبها الله ومن الخيلاء ما يبغضها الله فالخيلاء التي يحبها اختيال الرجل نفسه عند الحرب وعند الصدقة والخيلاء التي يبغضها الله اختيال الرجل في البغي والفخر

وقد ثبت في الصحاح ان النبي ﷺ قال لعمر دخلت الجنة فرأيت امرأة تتوضأ الى جانب قصر فقلت لمن هذا فقالوا لعمر بن الخطاب فأردت ان ادخله فذكرت غيرتك فقال عمر بن الخطاب يا رسول الله بأبي وامي او عليك اغار

وكذلك في الصحيحين حديث اسماء لما كانت تنقل النوى للزبير قالت فلقيت رسول الله ﷺ ومعه نفر من الانصار فدعاني ثم قال إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت ان اسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته وكان اغير الناس فعرف رسول الله ﷺ اني قد استحييت فمضى فجئت الزبير فقلت لقيني رسول الله ﷺ وعلى رأسي النوى ومعه نفر من اصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه وذكرت غيرتك فقال والله لحملك النوى كان اشد على من ركوبك معه قالت حتى ارسل الى ابي ابو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما اعتقني

فقد اخبر النبي ﷺ لا احد اغير من الله وقال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يعم جميع المحرمات

وقال ومن اجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فهذا تخصيص لغيرته من الفواحش وكذلك في حديث عائشة لا احد اغير من الله ان يزني عبده او تزني امته فهذه الغيرة من الفواحش

وكذلك عامة ما يطلق من الغيرة انما هو من جنس الفواحش وبين النبي ﷺ انه اغير من غيره من المؤمنين وان المؤمن يغار والله يحب الغيرة وذلك في الريبة ومن لا يغار فهو ديوث وقد جاء في الحديث لا يدخل الجنة ديوث

فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى وهذه الغيرة هي ان تنتهك محارم الله وهي ان تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة لكن غيرة العبد الخاصة هي من ان يشركه الغير في اهله فغيرته من فاحشة اهله ليست كغيرته من زنا الغير لأن هذا يتعلق به وذاك لا يتعلق به الا من جهة بغضه لمبغضة الله

ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على اهله واعظم ذلك امرأته ثم اقاربه ومن هو تحت طاعته ولهذا كان له اذا زنت ان يلاعنها لما عليه في ذلك من الضرر بخلاف ما اذا زنا غير امرأته ولهذا يحد قاذف المرأة التي لم يكمل عقلها ودينها اذا كان زوجها محصنا في احد القولين وهو احدى الروايتين عن احمد

فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي والغيرة المستحبة ما اوجبت المستحب من الصيانة واما الغيرة في غير ريبة وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه فهي مما لا يحبه الله بل ينهى عنه اذا كان فيه ترك ما امر الله ولهذا قال النبي ﷺ لا تمنعوا اماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن

واما غيرة النساء بعضهن من بعض فتلك ليس مأمورا بها لكنها من امور الطباع كالحزن على المصائب وفي الصحيحين عن النبي ﷺ انه قال كلوا غارت امكم لما كسرت القصعة وقالت عائشة او لا يغار مثلى على مثلك وقالت ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة

وعن فاطمة انها قالت للنبي ﷺ ان الناس يقولون انك لا تغار لبناتك لما اراد على ان يتزوج بنت ابي جهل وخطب النبي ﷺ وذكر صهرا له من ابي العاص وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفاني وقال ان بني العاص استأذنوني في ان يزوجوا بنتهم عليا واني لا آذن ثم لا آذن الا ان يريد ابن ابي طالب ان يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل ابدا

فهذه الغيرة التي جاءت بها سنة رسول الله ﷺ وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه وغيرته ان يزني عبده او تزني امته وغيرة المؤمن ان يفعل ذلك عموما وخصوصا في حقه والغيرة التي يحبها الله الغيرة في ريبة والغيرة التي يبغضها الله الغيرة التي في غير ربية وهنا انقسم بنو آدم اربعة اقسام

قوم لا يغارون على حرمات الله بحال ولا على حرمها مثل الديوث والقواد وغير ذلك ومثل اهل الاباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق ومنهم من يجعل ذلك سوكا وطريقا واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء سورة الاعراف 28

وقوم يغارون على ما حرمه الله وعلى ما امر به مما هو من نوع الحب والكره يجعلون ذلك غيرة فيكره احدهم من غيره امورا يحبها الله ورسوله ومنهم من جعل ذلك طريقا ودينا ويجعلون الحسد والصد عن سبيل الله وبغض ما احبه الله ورسوله غيرة

وقوم يغارون على ما امر الله به دون ما حرمه فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها بل يبغضون الصلوات والعبادات كما قال تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا سورة مريم 59

وقوم يغارون مما يكرهه الله ويحبون ما يحبه الله هؤلا هم اهل الايمان
فصل

ومن اسباب ذلك ما وقع من الاشراك في لفظ الغيرة في كلام المشايخ اهل الطريق فإنهم تكلموا فيها بمعاني بعضها موافق لعرف الشارع وبعضها ليس كذلك وبضعهم حمد منها ما حمده الشارع وبعضهم حمد منها ما لم يحمده الشارع بل ذمه

وقد تقدم ان الغيرة التي وصف الله بها نفسه اما خاصة وهو ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واما عامة وهي غيرته من الفواحش ما ظهر منها وما بطن

واما الغيرة في اصطلاح طائفة من اهل الطريق فقال ابو القاسم القشيري الغيرة كراهة مشاركة الغير واذا وصف الحق بالغيرة فمعناه انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له تعالى من طاعة عبده له

فقوله الغيرة كراهة مشاركة الغير اشار بلفظ الغير الى اشتقاق لفظ الغيرة وهذا اقرب فإن الغيرة اما من تغير الغائر واما من مزاحمه الغير

لكن قوله كراهة مشاركة الغير هو اصطلاح خاص ليس بمطابق لاصطلاح الشارع بل هو اعم منه من وجه واخص منه من وجه

اما كونه اعم فإنه يدخل فيه مشاركة الغير المباحة كالمشاركة في الاموال والعبادات والطاعات وهذه ليست غيرة مأمورا بها بل بعضها محرم وهو حسد ويدخل فيها المشاركة في البضع والغيرة على ذلك غيرة مشروعة

وأما كونه اخص فانه يخرج منه الغيرة التي لا يشاركه فيها مثل غيرة المؤمن ان يزني اقاربه او غيرته ان تنتهك محارم الله فإن الله يغار من ذلك والمؤمن موافق لربه فيحب ما احب ويكره ما كره ولهذا وصف غيرة الله بما يوافق اصطلاحة فقال غيرة الله انه لا يرضى بمشاركة الغير معه فيما هو حق له من طاعة عبده وهذه الغيرة اعم مما ذكره النبي ﷺ من وجه وابعد عن مقصود الغيرة التي ذكرها النبي ﷺ من غيرة الحق سبحانه فقد فسر غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وبأن يزني عبده او تزني امته وقال من اجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن فجعل الغبرة مطلقة متعلقة بفعل المحرمات وجعل عظمها وسلطانها في اتيان الفواحش ما ظهر منها وما بطن

ومن جعلها لنفي المشاركة في حقه كان دخول الشرك في الله في باب الغيرة عنده اولى من دخول الفواحش وكان استعمال لفظ الغيرة في الشرك اولى من استعمال لفظ الغيرة في الزنا

وايضا اذا جعلناها لنفي المشاركة فيما هو حق له من طاعة عبده فقد يدخل في ذلك ما يفعله العبد من المباحات على غير وجه التقرب فان هذا لم يفعله لله ومع هذا فليس من غيرة الله التي وصف الرسول بها ربه

وايضا فالمشاركة فيما هو حق له فد لا يدخل فيه فعل الفواحش والمحرمات اذا لم يقصد العبد بها طاعة غيره وان كان مطيعا فيها للشيطان وانما يدخل فيه ما فعله من الطاعات لله ولغيره برا ونحوه ومع هذا فقد يقال بل كل ما كان من ترك واجب او فعل محرم ففيه مشاركة الغير معه ما يستحقه من طاعة عبده

وعلى هذا فيدخل كل ذنب فيما يغار الله منه سواء كان ترك واجب ما او فعل محرم

وهذا المعنى حسن موافق للشريعة فإن الله يبغض ذلك ويمقته فيكون لفظ الغيرة مرادافا للفظ البغض والمقت والسخط لكن هو اعم مما يظهر في عرف الشارع حيث جعل غيرته ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وجعل غيرته ان يزني عبده او تزني امته ومن غيرته ان حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن

وهذه الغيرة اخص من مطلق البغض الا ان يقال ترك للشريعة واما تسميته غيرة فهو امر اصطلاحي والنزاع فيه لفظي ثم انه ذكر عن بعض المشايخ مذهبين في الغيرة احدهما يتضمن الغيرة مما لا يغار الله منه بل يحبه والثاني يتضمن ترك الغيرة مما يغار الله منه ويحب الغيرة منه ويأمر ذلك

وكلاهما مذهب مذموم متضمن اما لترك مأمور يحبه الله او لفعل مكروه يكرهه الله

وذكر من كلامه وكلام المشايخ ما هو حسن مقبول فاشتمل كلامه في الغيرة على الاقسام الثلاثة فالاول من الغيرة كراهة توبة العاصين وعبادة المقصرين كما ذكر عن الشبلى انه سئل متى يستريح قال اذا لم ار له ذاكرا

وقال حكى ان الشبلي مات ابن له كان اسمه ابو الحسن فحزنت امه عليه وقطعت شعرها ودخل الشبلي الحمام وتنور بلحيته فكل من اتاه معزيا له قال ايش هذا يا ابا بكر فكان يقول موافقة لأهلي فقال له بعضهم اخبرني يا ابا بكر لم فعلت هذا قال علمت انهم يعزونني على الغفلة ويقولون آجرك الله تعالى ففديت ذكرهم لله تعالى على الغفلة بلحيتي قال واذن الشبلي مرة فلما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك قال وسمع النورى رجلا يؤذن فقال طعنة وسم الموت وسمع كلبا ينبح فقال لبيك وسعديك فقيل له ان هذا ترك للدين فإنه يقول للمؤذن في تشهده طعنة وسم الموت ويلبي عند نباح الكلاب فسئل عن ذلك فقال اما المؤذن فانه يذكره على رأس الغفلة واما الكلب فإن الله يقول وان من شيء الا يسبح بحمده سورة الاسراء 44

ومثل هذا الكلمات والحكايات لا تصلح ان تذكر للاقتداء او سلوك سبيل وطريقة لما فيها من مخالفة امر الله ورسوله والذي يصدر عنه امثال هذه الامور ان كان معذورا بقصور في اجتهاده او غيبة في عقله فليس من اتبعه بمعذور مع وضوح الحق والسبيل وان كانت سيئتة مغفورة لما اقترن بها من حسن قصد وعمل صالح فيجب بيان المحمود والمذموم لئلا يكون لبسا للحق بالباطل

وابو الحسين النوري وابو بكر الشبلي رحمة الله عليهما كانا معروفين بتغيير العقل في بعض الاوقات حتى ذهب الشبلي الى المارستان مرتين والنوري رحمه الله كان فيه وله وقد مات بأجمة قصب لما غلبه الوجد حتى ازال عقله ومن هذه حاله لا يصلح ان يتبع في حال لا يوافق امر الله ورسوله وان كان صاحبها معذورا او مغفورا له وان كان له من الايمان والصلاح والصدق والمقامات المحمودة ما هو من اعظم الامور فليس هو في ذلك بأعظم من السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان فانهم يتبعون في طاعة ولا يذكرون الا بالجميل الحسن وما صدر منهم من ذنب او تأويل وليس هو مما امر الله به ورسوله لا يتبعون فيه فهذا اصل يحب اتباعه

فحلق اللحيه منهى عنه ومثلة كرهها الله ورسوله والمعزي او المؤذن وان لم يكن معه كمال الحضور فلا يجوز سبه وذمه على ما اظهره من ذكر الله بل يؤمر بما يكمل ذلك من حقائق القلوب المحمودة وان كان ذاكرا لله بلسانه فأعظم المراتب ذكر الله بالقلب واللسان ثم ذكر الله بالقلب ثم ذكر الله باللسان

وقد روي ان الملائكة حضرت محتضرا لم تجد له حسنة الا ان لسانه يتحرك بذكر الله فكان ذلك مما رحمه الله به

وقد قال رجل للنبي ﷺ اوصني فان شرائع الاسلام قد كثرت على فقال لا يزال لسانك رطبا بذكر الله

وقال الله تعالى انا مع عبدي ما ذكرني والذكر يكون بلسان الانسان ولكن يكون لقلبه من ذلك نصيب اذ الاعضاء لا تتحرك الا بارادة القلب لكن قد تكون الغفلة غالبة عليه وذلك الكلام خير من العدم والله يحبه ويأمر به

وكان النبي ﷺ وسلم اذا سمع المؤذن لا يغزو الا اغار وكثير من المؤذنين لا يكون كامل الحضور بل المنافقون الذين يظهرون الايمان بألسنتهم دون قلوبهم يقرون على ذلك في الظاهر بأمر الله ورسوله فكيف بالمؤمن

وفي الصحيحين عن ابي هريرة عن النبي ﷺ انه قال اذا سمعتم نهاق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فانها رأت شيطانا واذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله فإنها رأت ملكا

وفي سنن ابي داود عن جابر قال قال رسول الله ﷺ اذا سمعتم نباح الكلاب ونهيق الحمر بالليل فتوذوا بالله منهن فإنهن يرين ما لا ترون

وثبت في الصحيحين عنه من حديث ابي هريرة انه قال اذا اذن المؤذن ادبر الشيطان وله ضراط لا يسمع التأذين فإذا قصى التأذين اقبل فاذا ثوب بالصلاة ادبر فإذا قضى التثويب اقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه فيقول اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل لم يدر كم صلى

فإذا كان التأذين يطرد الشيطان ونباح الكلاب يكون عن رؤية الشياطين كيف يصلح ان يقال لهذا طعنة وسم الموت لأجل تقصير هذا بغفلة في قلبه ولهذا لبيك وسعديك لكون الكلب يسبح بحمده فإن هذه حجة فاسدة

اما ذلك الغافل فإن اجره ينقص بغفلته كما روى ابو داود في السنن عن عمار عن النبي ﷺ انه قال ان العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له منها الا نصفها الا ثلثها الا ربعها الا خمسها الا سدسها حتى قال الا عشرها

فلا ريب ان الاجر ينقص بالغفلة لكن استحقاق العقوبة نوع آخر واذا استحق العقوبة لم يجز ان تكون عقوبته مقابلة لما اظهره من الحسنة

واما نباح الكلب ان كان تسبيحا فصوت المؤذن اولى ان يكون تسبيحا فبكل حال لا يكون نباح الكلاب الذي يقترن به الشيطان ادنى من ذلك من صوت المؤذن الذي هو سبب لهروب الشياطين فإن ذلك ان كان لدلالته على الربوبية فصوت المؤذن اكمل وان كان لعبادته بما يستحقه الرب من الالهية فصوت المؤذن اعظم عبادة لله من نباح الكلب

فتسبيح كل شيء بحمده يدخل فيه المؤذن بكل حال اعظم مما يدخل فيه الكلب فكيف يدخل الكلب النابح ويخرج المؤذن لنوع من الغفلة فهذا والكلب محرم اقتناؤه الا لضرورة من صيد او حرث او ماشية ومن اقتنى كلبا بغير هذه الثلاثة نقص كل يوم من عمله قيراط وتلبية الكلب في نباحه امر منكر لا وجه له اصلا فلا يتبع احد في ذلك وان كان معذورا او مغفورا له مشكورا على حسنات غير هذا

وكذلك الحكاية عن الشبلي انه لما انتهى الى الشهادتين قال لولا انك امرتني ما ذكرت معك غيرك فان ذكر هذا في باب الغيرة منكر من القول وزور لا يصلح الا ان نبين ان هذا من الغيرة التي يبغض الله صاحبها بل الغيرة من الشهادة لرسله بالرسالة من الكفر وشعبه وهل يكون موحدا شاهدا لله بالالهية الا من شهد لرسله بالرسالة وقد بينا في غير موضع من القواعد وغيرها ان كل من لم يشهد برسالة المرسلين فإنه لا يكون الا مشركا يجعل مع الله الها اخر وان التوحيد والنبوة متلازمان وكل من ذكر الله عنه في كتابه انه مشرك فهو مكذب للرسل ومن اخبر عنه انه مكذب للرسل فانه مشرك ولا تتم الشهادة لله بالالهية الا بالشهادة لعبده بالرسالة

كما جاء مرفوعا في قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك سورة الانشراح 4 قال لا اذكر الا ذكرت معي ولا تتم لامتك خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا انك عبدي ورسولي

وكذلك الحكاية التي سمعتها من بعض الفقراء عن ابي الحسن الخزفاني انه قال لا اله الا الله من داخل القلب محمد رسول الله من القرط

قال ابو القاسم ومن ينظر الى ظاهر هذا اللفظ يتوهم انه استصغر الشرع ولا كما يخطر بالبال اذ الاخطار للأغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة في التحقيق

وهذه الحكاية ايضا من اقبح الكلام وافحشه وذكر هذا في باب الغيرة من انكر المنكر فإن هذا الكلام لا يقال انه استصغار للشرع بل هو من اكبر شعب النفاق واعظم اركان الكفر وصاحبه ان لم يغفر الله له لحسن قصده في تعظيم الرب كما غفر للذي قال اذا انا مت فاحرقوني واسحقوني وذروني في اليم فغفر له شكه في قدرته على اعادته لخشيتة منه ولم يتب من مثل هذا الكلام والا كان هذا الكلام موجبا لعظيم عقابه

وذلك ان الايمان بالرسل عليهم السلام ليس من باب ذكر الاغيار بل لا يتم التوحيد لله والشهادة له بالوحدانية والايمان به الا بالايمان بالرسالة فمن جعل الايمان بملائكة الله وكتبه ورسله مغايرا للإيمان به وجعل الاعراض عنه من باب الغيرة المعظمة عند المشايخ فقد ضل سعيه وهو يحسب انه يحسن صنعا ومن لم تكن الشهادة بالرسالة داخله في ضمن قلبه بالشهادة بالألوهية فليس بمؤمن

وفي مثل هذا جاء الحديث المتفق عليه في الصحيحين عن اسماء عن النبي ﷺ انه قال انه اوحى الي انكم تفتنون في قبوركم مثل وقريبا من فتنة الدجال يؤتى الرجل في قبره فيقال له ما علمك بهذا الرجل الذي بعث فيكم فأما المؤمن او الموقن فيقول هذا هو محمد عبد الله ورسوله جاء بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه واما المنافق او المرتاب فيقول آه آه لا ادري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته

ثم انك تجد هؤلاء الذين يغلون بزعمهم في التوحيد حتى يعرضون عن الكتاب والسنة ويستخفون بحرمتهما ويعظم احدهم شيخه ومتبوعه اكثر مما يعظم الرسول ﷺ وتحدهم يشركون بالله في استغاثتهم بغيره وخوفهم ورجائهم لغيره ومحبتهم لغيره فتجد فيهم من انواع الشرك الجلى والخفي التي نهى الله عنها ورسوله ما الله به عليم ومع هذا فيعرضون عما هو من تمام التوحيد زعما انهم يحققون التوحيد

واما اعتذار ابي القاسم عنه بأن الاخطار للاغيار بالإظافة الى قدر الحق متصاغرة فعذر باطل وذلك ان الشاهد للرسول بالرسالة لم يجعله ندا لله ولا شريكا له ولا ظهيرا حتى يفاضل بينهما

هذا الكلام يليق بمن يقول ان الله ثالث ثلاثة او يجعل الله شريكا وولدا او بمن يستغيث بمخلوق ويتوكل عليه او يعمل له او يشتغل به عن الله فيقال له فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا سورة مريم 65 ويقال له فاعبد الله مخلصا له الدين الا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه اولياء ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى ان الله يحكم بينهم يوم القيامة فيا هم فيه يختلفون سورة الزم 2 3 وقوله تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل او لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جيمعا سورة الزمر 4443 الى امثال ذلك مما في كتاب الله من الآيات التي فيها تجريد التوحيد وتحقيقه وقطع ملاحظة الاغيار في العبادة والاستغاثة والدعاء والمسألة والتوكل والرجاء والخشية والتقوى والانابة ونحو ذلك مما هو من خصائص حق الربوبية التي لا تصلح لملك مقرب ولا نبي مرسل

فأما الايمان بالكتاب والرسول فهذا من تمام الايمان بالله وتوحيده لا يتم الا به وذكر الله بدون هذا غير نافع اصلا بل هو سعى ضال وعمل باطل لم يتنازع المسلمون في ان الرجل لو قال اشهد ان لا اله الا الله ولم يقر بان محمدا رسول الله انه لم يكن مؤمنا ولا مسلما ولا يستحق الا العذاب ولو شهد ان محمدا رسول الله لكان مؤمنا مسلما عند كثير من العلماء وبعضهم يفرق بين من كان معترفا بالتوحيد كاليهود ومن لم يكن معترفا به وبعضهم لا يجعله مسلما الا بالنطق بالشهادتين وهي ثلاثة اقوال معروفة في مذهب احمد وغيره

وهذا معنى ما يروي في بعض الآثار يا محمد تذكر ولا اذكر فأرضى واذكر ولا تذكر فاقبض يعني ذكره بالرسالة ومن ذكره بالرسالة فقد تضمن ذلك ذكر الله واما من ذكر الله ولم يذكره بالرسالة فإنه لا يكون مؤمنا وحيث جاء في الاحاديث يخرج من النار من قال لا اله الا الله واسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا اله الا الله مخلصا من قلبه ونحو ذلك فلأن ذلك مستلزم الايمان بالرسالة كما بيناه في غير هذا الموضع وانه لا تصح هذه الكلمة الا من المقرين بالرسالة وبما وقع فيه هؤلاء وامثالهم من ضعف الايمان بالكتاب والرسول وبعض انواع الضلالة والجهالة حتى في الشرك الذي زعموا انهم فروا منه فنسأل الله مقلب القلوب ان يثبت قلوبنا على دينه

وكذلك قول الشبلي لما سئل متى تستريح فقال اذا لم ار له ذاكرا وذكر هذا في الغيرة التي هي من طريق اولياء الله وعباده الصالحين من اعظم المنكرات ومن القول الذي يبغضه الله ورسوله واولياؤه من الاولين والآخرين ايغار المؤمن ان يذكر الله او يغار ان تنتهك محارم الله وليس لهذا القول وجه يحمد به واما قائله فلعله كان مسلوب العقل حين قال ذلك فقد كان كثيرا ما يزول عقله فان قصد به ان احدا لا يذكره كما يستحقه فالذي يستحقه هو العبادة التي هي حقه على عباده وهو لا يكلفهم اكثر من طاقتهم وهذا هو الذي يؤمرون به ويقبله الله منهم

وان قصد انهم يقصرون في الواجب فبعض الواجب خير من تركه كله وإن كان هذا لضيق في نفسه وحرج في فؤاده فهذا من الغيرة التى يبغضها الله ورسوله وهو شر من حسد ومما يشبه هذا ما ذكره له مرة بعد اصحابنا الفقراء وفيه خير ودين ومعرفة انه كان يصلي بالليل فقام آخر يصلي قال فأخذتني الغيرة فقلت له هذا حسد وضيق عطن وظلم ليس بغيره انما لغيره اذا انتهكت محارم الله والله تعالى واسع عليم يسع عباده الاولين والأخرين وهو يحب ذلك ويأمر به ويدعو اليه فكيف يبغض المؤمن ما يحبه

وهذا القدر واقع كثير من ارباب الاحوال حتى يقتل بعضهم بعضا ويعتدى بعضهم على بعض يؤذى بعضهم بعضا ويقولون هذا غيرة على الحق وانما هو تعدي لحدوده وظلم لعباده وصد عن سبيله وتمثيل فيه للحق تعالى بالمرأة او الامرد الذي يتغاير عليهم الفساق لضيق المحل غير الاشراك واصل ذلك من طلب الفساد والعلو في الارض وطلب الانفراد بالتأله لا لأجل الله لكن لاجل الاستعلاء في الارض فهو من الكبر والحسد من جنس ذنب ابليس وفرعون واخي ابن ادم لا من اعمال عوام الخلق فضلا عن مؤمنيهم فضلا عن اولياء الله المتقين





*****************************************
/12
الاستقامة/12

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/11 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/13










ولهذا نجد امثال هؤلاء من اقل الناس غيرة اذا انتهكت محارم الله ويكون المؤمنون منهم في تعب والمشركون منهم في راحة ضد ما نعت الله به المؤمنين حيث قال اشداء على الكفار رحماء بينهم سورة الفتح 29 وقال اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين سورة المائدة 54 فشأنهم من جنس الخوارج الذين قال فيهم النبي ﷺ يقتلون اهل الاسلام ويدعون اهل الاوثان

واما المذهب الثاني فإنه قال ومن الناس من قال ان الغيرة من صفات اهل البدائة وان الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار وليس له فيما يجري في المملكة تحكم بل الحق سبحانه اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى

وقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول سمعت ابا عثمان المغربي يقول الغيرة من عمل المريدين فأما اهل الحقائق فلا

قال سمعته يقول سمعت ابا نصر الاصبهاني يقول سمعت الشبلي يقول الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب

قلت اما نفي الغيرة مطلقا وجعلها من عمل المريدين فهذا يضاهي قول من يشهد توحيد الربوبية وان الله خالق كل شيء وربه ومليكه لا يشهد توحيد الالهية وما يستحقه الرب من عبادته وطاعته وطاعة رسله فلا يفرق بين المؤمن والكافر والاعمى والبصير والظلمات والنور واهل الجنة واهل النار

وهذا من جنس قول المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما اشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء سورة الانعام 148 فإن المشركين استدلوا بالقدر على نفي الامر والنهي والمحبوب والمكروه والطاعة والمعصية ومن سلك هذا المسلك فهو في نوع من الكفر البين

وقول القائل ان الموحد لا يتصف بالاختيار كلام مجمل فإن اراد به انه لا يختار بنفسه ولنفسه فقد احسن وان اراد به انه لا يختار ما اختاره الله وامر به واحبه ورضيه وامره هو ان يختاره ويريده ويحبه فهذا كفر وإلحاد بل المؤمن عليه ان يريد ويختار ويحب ويرضى ويطلب ويجتهد فيما امر الله به واحبه ورضيه واراده واختاره دينا وشرعا

وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يعارض الله في امره ونهيه فهذا حسن وحق فإن عليه ان يرضى بما امر الله به ويسلم لله ومن ذلك التسليم لرسوله

كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما سورة النساء 65

وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم سورة الاحزاب 36

وقال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فاحبط اعمالهم سورة محمد 47

وقال تعالى ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما انزل اله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم اسرارهم سورة محمد 26

وقال تعالى واذا ما انزلت سورة فمنهم من يقول ايكم زادته هذه ايمانا فأما الذين امنوا فزادتهم ايمانا وهم يستبشرون واما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهو كافرون سورة التوبة 125 124 وامثال هذا كثير

وقال النبي ﷺ من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في امره رواه ابو داود وغيره

وقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار فالتوحيد الذي بعث الله به رسله وانزل به كتبه هو ان يعبد الله وحده لا شريك له فهو توحيد الالوهية وهو مستلزم لتوحيد الربوبية وهو ان يعبد الحق رب كل شيء فأما مجرد توحيد الربوبية وهو شهود ربوبية الحق لكل شيء فهذا التوحيد كان في المشركين كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون سورة يوسف 106

وكذلك ان اراد اعترافه بأنه لا حول ولا قوة الا بالله وشهوده لفقره وعبوديته وفقر سائر الكائنات وان الله هو رب كل شيء وعالم بكل شيء ومليكه لا يخلق ولا يرزق الا هو ولا يعطى ولا يمنع الا هو لا مانع لما اعطى ولا مطعي لما منع ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده سورة فاطر 2 قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله ان ارادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون سورة الزمر 38 وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم سورة يونس 107 يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد سورة فاطر 15

فإن اراد هذه المشهد فهذا ايضا من الايمان والدين فالاول الاقرار بالامر والنهي واتباع ذلك هو عبادته وهذا الاقرار بالقضاء والقدر وشهود الافتقار الى الله هو استعانته

ولهذا قال في الصلاة اياك نعبد واياك نستعين سورة الفاتحة 5 قال الله فهذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل وعلى

وعلى هذا يخرج قول ابي يزيد اريد الا اريد أي اريد الا اريد بنفسي ولنفسي بل لا أريد الا ما امرتني انت بإرادته واما عدم الإرادة مطلقا فمحال طبعا وطلبه محرم شرعا والمقر بذلك فاسد العقل والدين

والمريد لجميع الحوادث المأمور بها والمنهى عنها كافر بدين الله وما جاءت به رسله واما المريد لما امر ان يريده ويعمله والكاره لما نهى عنه فهذا هو المؤمن الموحد فإن اراد بقوله الموحد لا يشهد الغيرة ولا يتصف بالاختيار انه لا يختار شيئا اصلا لا مما امر به ولا مما نهى عنه فهذا مع بطلانه في الواقع وفساده في العقل فهو من اعظم المروق من دين الله اذ عليه ان يريد كل ما يحبه الله تعالى ويرضاه له ويحبه له ويستعين الله على هذه الارادة والعمل بها فإنه لا حول ولا قوة الا به

كما كان النبي ﷺ يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك

واصل صلاح القلب صلاح ارادته ونيته فإن لم يصلح ذلك لم يصلح القلب والقلب هو المضغة التي اذا صلحت صلح لها سائر الجسد واذا فسدت فسد لها سائر الجسد

وكذلك قوله ليس له فيما يجري في المملكة تحكم ان اراد به انه لا يغار اذا انتهكت محارم الله ولا يغضب الله ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يجاهد في سبيل الله فهذا فاسق مارق بل كافر وان اظهر الاسلام فهو منافق وان كان له نصيب من الزهد والعبادة ما كان فيه

ومعلوم ان المؤمن لا يخلو من ذلك بالكلية ومن خلا من ذلك بالكلية فهو منافق محض وكافر صريح اذا المؤمن لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما ولا بد ان يتبرأ من الاشراك بالله واعداء الله كما قال تعالى لقد كان لكم اسوة حسنة في ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم إنا براء منكم ومما تعبدون نم دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده سورة الممتحنة 4

وقال عن ابراهيم عليه السلام افرأيتم ما كنتم تعبدون انتم واباؤكم الاقدمون فإنهم عدو لي الا رب العالمين سورة الشعراء 77

وقال تعالى واذ قال ابراهيم لابيه وقومه انني براء مما تعبدون الا الذي فطرني فإنه سيهدين سورة الزخرف 2627

وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم او اخوانهم او عشيرتهم اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه سورة المجادلة 22

وقال تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما انزل اليه ما اتخذوهم اولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون سورة المائدة 80 81

وقال لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين اوتوا الكتاب من قبلكم والكفار اولياء سورة المائدة 57

وقال لا تتولوا قوما غضب الله عليهم سورة الممتحنة 13 وهذا كثير جدا

وايضا فالقائل لذلك لا يثبت عليه بل لا بد ان يكره امورا كثيرة مضرة وكثيرا ما يعتدى في انكارها حتى يخرج عن العدل فهذا خروج عن العقل والدين وعن الانسانية بالكلية اذا اخذ على عمومه واما ان قبل ذلك في بعض الامور بحيث يترك الكراهة احيانا لما كرهه الله والغيرة احيانا اذا انتهكت محارم اله فهذا ناقص الايمان بحسب ذلك

بل قد ثبت في الصحيح عن ابي سعيد عن النبي ﷺ انه قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان فإن لم يكن في القلب انكار ما يكرهه ويبغضه لم يكن فيه ايمان

وفي الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة نفاق وتحقيق ذلك في قوله تعالى قل ان كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وازواجكم وعشيرتكم واموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها احب اليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا الاية سورة التوبة 24

وقد ذكر الله في سورة براءة وغيره من صفة المنافقين ما فيه غبرة لهؤلاء ووصف المؤمنين والمؤمنات بقوله والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله اولئك سيرحمهم الله سورة التوبة 71

وكذلك قوله بل الحق اولى بالاشياء فيما يقضى على ما يقضى فيه تقصير في خلق الرب وامره فإن قوله اولى قد يفهم منه ان له شريكا بل لا خالق الا الله ولا رب غيره قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا تملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الارض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن اذن له الاية سورة سبأ 22 23

واما الامر فانه سبحانه امر العباد ونهاهم فعلى العبد ان يفعل ما امره به من الغيرة وغيرها فإذا كان قد امره بأن يغار لمحارمه اذا انتهكت وان ينكر المنكر بما يقدر عليه من يده ولسانه وقلبه فلم يفعل فإنما هو فاسق عن امر ربه لا تارك لمشاركته اذ سبيل له الى الشركة بحال وهو سبحانه لا اله الا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

فالاحتجاج بكونه اولى من العبد بخلقه على ترك ما امر به من محبوبة ومرضية وطاعته وعبادته في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه امران قبيحان توهم نوع مشاركة من العبد له اذا اطاعه وعبده واسقاط ما امر به واحبه من الغيرة

وهذا الكلام كأن قائله لم يغالب المقادير بنفسه لنفسه مثل الملوك المتغالبين والامم المتعادين من أهل الجاهلية الذين ليس فيهم من هو مطيع لله ورسوله بجهاده بل كلاهما متبع هواه خارج عن طاعة مولاه اذا اعرض المؤمن عنهم ولم يعاون واحدا منهما لا بباطنه ولا بظاهرة اذا كانا في معصية الله سواء فهو محسن في ذلك واما اذا كان الامر عبادة لربه وهو مستعين به فيه فكيف يكون الاعراض عن هذا الامر طريقة عباد الله الصالحين واولياء الله المتقين وهل الاعراض عن هذا الا من طريقة الجاهلين الظالمين الفاسقين عن امر رب العالمين

واما قول الشيخ ابي عثمان الغيرة من عمل المريدين فأما هل الحقائق فلا فلم يرد والله اعلم بذلك الغيرة على محارم الله وهي الغيرة الشرعية فإن قدر الشيخ ابى عثمان اجل من أن يجعل الغيرة التي وصف الله بها نفسه وكان رسوله فيها اكمل من غيره وهي مما اوجبه الله واحبه من عمل المريدين دون اهل الحقائق وانما يعني الغيرة الاصطلاحية التي يسميها هؤلاء المتأخرون غيرة كا قدمناه مثل الغيرة المتضمنة للمنافسة والحسد مثل ان يغار احدهم اذا رأى احدا سبقه الى الحق او نال منه نصيبا وافرا ونحو ذلك فإن هذا كثير جدا في السالكين فقال الشيخ ان هذه الغيرة تعرض للمريدين حيث لم يشهدوا الحقائق وان الله هو المعطي المانع فأما اهل الحقائق الذين يشهدون ان الله هو المعطى المانع وانه لا رب غيره فإنهم لا يغارون على ما وهبه الله عباده من هباته المستحبة او المباحة ولا يعتبون على الحوادث كما يفعله من يفعله من الناس في سبهم الدهر

كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر بيده الامر يقلب الليل والنهار

وقال يقول الله تعالى يؤذيني ابن ادم يسب الدهر وانا الدهر بيدي الامر اقلب الليل والنهار فهذا الذي فسر به الشيخ ابو عثمان هو فرقان

وكذلك ما ذكره الشبلي انه قال الغيرة غيرتان فغيرة البشرية على النفوس وغيرة الالهية على القلوب قال الشبلي غيرة الالهية على الانفاس ان تضيع فيما سوى الله اذا فسر بأن البشر يغارون على الحظوظ مما هو من جنس المنافسة والمحاسدة وليس هذا بمحمود

واما الغيرة الالهية على القلوب على ما يفوتها من محاب الحق ومراضيه فهذا كلام حسن من احسن كلام الشبلي رحمة الله عليه فإن كان هذا يغار على نفسه فلا كلام وان كان يغار من حال غيره ففيه شبه ما من قول النبي ﷺ لا حسد الا في اثنتين رجل اتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ورحل اتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق فإنه اخبر انه لا ينبغي لأحد الا يغبط احدا الا على هذا

وكذلك ما ذكره ابو القاسم القشيري بعد ذلك حيث قال والواجب ان يقال الغيرة غيرتان غيرة الحق على العبد وهو ان لا يجعله للخلق فيضن به عليهم وغيرة العبد للحق وهو ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فلا يقال انا اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله فإن الغيرة على الله جهل وربما تؤدي الى ترك الدين والغيره لله توجب تعظيم حقوقه وتصفية الاعمال له

فهذا كلام جيد لكنه بالاصطلاح الحادث ليس هو بالاصطلاح القديم فإن النبي ﷺ قد بين ان غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه وهذا يشترك فيه السابقون والمقتصدون وهم اولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ثم السابقون يجعل اعمالهم كلها لله فإنهم الذين لا يزالون يتقربون الى الله بالنوافل حتى يحبهم ومن احب الله وابغض لله واعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان فإذا صانهم عن العمل لغيره فصارت اعمالهم كلها لله تركوا المحارم واتوا بالواجبات والمستحبات

وقد شبه تنزيههم عن فضول المباح وعن فعل المكروهات وترك المستحبات غيرة من الحق عليهم فهذا امر اصطلاحى لكن المعنى صحيح موافق الكتاب والسنة

واما قوله غيرة العبد للحق ان لا يجعل شيئا من احواله وانفاسه لغير الحق فهذا غيرة على نفسه ان يكون شيء من عمله لغير الله

وهذا ايضا حال هؤلاء السابقين الاتين بالفرائض والنوافل المجتنبين للمحارم والمكاره قال الله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات سورة فاطر 32

ولا ريب انه يدخل في هذا غيرته اذا انتهكت محارم الله فانه اذا لم يغر لله حينئذ مع امر الله له بالغيرة لم يكن عمله الذي اشتغل به عن هذا الحق لله وكان للشيطان

وكذلك قوله لا يقال اغار على الله ولكن يقال انا اغار لله كلام حسن جيد كما قال الغيرة على الله جهل وهي كما قدمناه حسد وكبر يسمونه غيره فيحب احدهم ان لا يشركه غيره في التقرب الى الله وابتغاء الوسيلة اليه ويريدون ان يسموا ذلك باسم حسن لئلا يذموا عليه ويسمونه غيرة لان من عادة البشر اذا احب احدهم انسانا محبة طبيعية سواء كانت محبتة محرمة كمحبة الأمور والمرأة الأجنبية أو غير محرمة كمحبة أم أنه ببشر يته يغار من ان يشاركه في ذلك احد فجعلوا محبتهم لله بمنزلة هذه المحبة وهذا من اعظم الجهل والظلم بل محبة الله من شأنها ان يحب العبد ان جميع المخلوقات يشركونه في ذلك

كما قال النبي ﷺ والذي نفس بيده لا يؤمن احدكم حتى يحب لاخيه من الخير ما يحبه لنفسه

ومثل هذه الغيرة المذمومة ما ذكره طائفة من السلف قالوا لا تقبل شهادة القراء او قالوا الفقهاء بعضهم على بعض لأن بينهم حسد كحسد النفوس على زريبة الغنم ويقال فلان وفلان يتصاولان على الرياسة تصاول الفحلين فلا ريب ان فحول البهائم تتغاير وتتحاسد وتتصاول على اناثها يطلب كل منها من الاخر ان لا يزاحمه كما يتغاير الفحول الادميون على مناكحهم وهذا فيما امر الله به محرم

كما قال رسول الله ﷺ لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله اخوانا وكذلك شبه تغاير الضراير

لكن هنا قد يعترض امر فيه شبهة وهو ان يكون من المعارف والاحوال ما يقال فيه انه لا يصلح لبعض الناس فيغار احدهم ان تكون تلك الامور كذلك المنقوص الذي يصنع مثل ذلك ويصفون الله بالغيرةان يجعل هذا كهذا فهذا قد يكون حقا وان لم يسم في الشرع غيرة فان الله سبحانه يكره ويبغض ان يكون مع العبد ما يستعين به على معصية الله دون طاعته وان يكون ما جعله للمؤمنين مع الكفار والمنافقين وكذلك المؤمنون ينبغي ان يكرهوا ذلك فكل ما نهى الله عنه وامر المؤمنين بالمنع منه وازالته فهو يكرهه

وهذا كقوله تعالى سأصرف عن اياتي الذين يتكبرون في الارض بغير الحق سورة الاعراف 146 قال طائفة من السلف امنع قلوبهم عن فهم القرآن

هذا ما ذكره عن السري انه قرئ بين يديه واذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاخرة حجابا مستورا سورة الاسراء 45 فقال السري لاصحابه اتدرون ما هذا الحجاب هذا حجاب الغيرة ولا احد اغير من الله تعالى

فهذا يشبه قوله ونقلب افئدتهم وابصارهم كما لم يؤمنوا به اول مرة سورة الانعام 110 وقوله فلما زاغوا ازاغ الله قلوبهم سورة الصف 5 فإن الله عاقب المعرض عن اتباع ما بعث به رسله بالحجاب الذي في قلوبهم فسمى السري هذا حجاب الغيرة لأنه تعالى يكره ويبغض ان يكون هؤلاء الذين كفروا وفسقوا عن امره يعطون ما يعطاه المؤمن من الفهم لسبب هذه الغيرة التي وصف الرسول بها ربه فان غيرته ان يأتي العبد ما حرم عليه ذكرها النبي ﷺ وهي غيرة على ما هو من افعال العبد التي نهى عنها واما هذه الغيرة فهي غيرة على ما هو من فعل الرب

والنبي ﷺ لم يصف الله بانه يغار على ما يقدر عليه من الافعال ولكن لما رأى السري ان الشيء المحبوب النفس تغار عليه ان يكون في غير محله سمى ذلك حجاب الغيرة والله يحب لعباده ان يفعلوه من جهة كونهم مأمورين به لكنه سبحانه لا يفعله بهم ولا يحب من يفعله بهم فلا بد من التفريق بين مواقع الامر والنهي ومواقع القضاء والقدر وان كانت الافعال الواقعة من العباد يشترك فيها الامر والنهي واما احوال القلب وانفاسه فإن الاحوال تحولات القلب والنفس والهوى الذي يحمل الصوت واحوال القلب فهما الطف ما في الايمان

قال ابو القاسم ربط الحق بأقدامهم الخذلان واختار لهم البعد واخرجهم عن محل القرب ولذلك يؤخروا وفي معناه انشدوا

انا اصب لن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء رأى الموالى

وقال وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد سمعت الاستاذ ابا علي يقول سمعت العباس المروزي يقول كان لي بداية حسنة فكنت اعرف كم بقي بيني وبين الوصول الى مقصودي من الظفر بمرادي فرأيت ليلة من الليالي في المنام كأنني اتدهده من حالق جبل فأردت الوصول الى ذروته قال فحزنت واخذني النوم فرأيت قائلا يقول يا عباس الحق لم يرد منك ان تصل الى ما كنت طلبت ولكنه فتح على لسانك الحكمة قال فأصبحت وقد الهمت كلمات الحكمة

وقال سمعت الاستاذ ابا علي يقول كان شيخ من الشيوخ له حال ووقت مع الله فخفى مدة لم ير بين الفقراء ثم ظهر بعد ذلك لا على ما كان عليه من الوقت فسئل عنه فقال واه وقع الحجاب

قال وكان الاستاذ ابو علي اذا وقع شيء في خلال المجلس يشوش قلوب الحاضرين يقول هذا من غيرة الحق يريد ان لا يجرس ما يجري من صفاء هذا الوقت وانشدوا في معناه ... همت بإتياننا حتى اذا نظرت ... الى المراة نهاها وجهها الحسن ... ما كان هذا جزائي من محاسنها ... عذبت بالهجر حتى شفني الحزن ...

قلت ذكر هذه الامور في باب الغيرة مضر ومع ان الحق يغار ان يعطي بعض الناس ما يعطيه لأوليائه المتقين من السابقين والمقربين فقد سموا منع الحق غيرة كما تقدم لكن هذا اللفظ يشعر بأن الحق منع ذلك العبد العطاء العظيم عنده وكون العبد ليس اهلا له كما يغار على الكريمة ان تتزوج بغير الكفء

وهذا المعنى صحيح كما قال تعالى واذا جاءتهم اية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتي الله الله اعلم حيث يجعل رسالته سورة الانعام 124

وكما قال تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا اهؤلاء من الله عليهم من بيننا اليس الله بأعلم بالشاكرين سورة الانعام 52 53

وهذا المعنى اذا ذكر العبد وظلمه واقامة الحجة عليه او بيان حكمة الرب وعدله كان حسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم سورة الشورى 30 وهو لا يمنع من ذلك ما يستحقه العبد اصلا ولا يمنع الثواب الا اذا منع سببه وهو العمل الصالح فأما مع وجود السبب وهو العمل الصالح فإنه من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112

وهو سبحانه المعطي المانع لا مانع لما اعطى ولا معطي لما منع لكن من على الانسان بالايمان والعمل الصالح ثم لم يمنعه موجب ذلك اصلا بل يعطيه من الثواب والقرب مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وحيث منعه ذلك فلا يبقى سببه وهو العمل الصالح

ولا ريب انه يهدي من يشاء ويضل من يشاء لكن ذلك كله حكمة منه وعدل فمنعه للأسباب التي هي الاعمال الصالحة من حكمته وعدله واما المسببات بعد وجود اسبابها فلا يمنعها بحال الا اذا لم تكن اسبابا صالحة اما لفساد في العمل واما السبب يعارض موجبه ومقتضاه فيكون لعدم المقتضى او لوجود المانع واذا كان منعه وعقوبته من عدم الايمان والعمل الصالح ابتداء حكمة منه وعدل فله الحمد في الحالين وهو المحمود على كل حال كل عطاء منه فضل وكل عقوبة منه عدل

وهذا الموضع يغلط فيه كثير من الناس في تمثلهم بالاشعار وفي مواجيدهم فإنهم يتمثلون بما يكون بين المحب والمحبوب والسيد والعبد من العباد من صدق المحب والعبد في حبه واستفراغه وسعه وبحب المحبوب والسيد واعراضه وصده كالبيت الذي انشده حيث قال

انا صب بمن هويت ولكن ... ما احتيالي لسوء راى الموالي ...

وفي معناه قالوا سقيم لا يعاد ومريد لا يراد

وهذا التمثيل يشعر بأن العبد صادق الارادة تام السعي وانما الاعراض من المولى وهذا غلط بل كفر فإن الله يقول من تقرب الي شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت اليه باعا ومن اتاني يمشي اتيته هروله وقد اخبر انه من جاء بالحسنة فله عشر امثالها وانه يضاعفها سبعمائة ضعف ويضاعفها اضعافا كثيرة واخبر انه من هم بحسنة كتبت له حسنة كاملة فإن عملها كتبت له عشر حسنات الى سبعمائة ضعف الى اضعاف كثيرة ومن هم بسيئة لم تكتب عليه فإن تركها لله كتبت له حسنة كاملة وان عملها لم تكتب عليه الا سيئة واحدة

وقال سبحانه والذين اهتدوا زادهم هدى واتاهم تقواهم سورة محمد 17

وقال ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما سورة طه 112

وقال من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه سورة الشورى 20 الى امثال ذلك

فكيف يظن او يقال ان العبد يتقرب اليه كما يتقرب العبد والمحب الصادق الى محبوبة وسيده وهو مع ذلك لا يقربه اليه ولا يتقرب منه بل يصده ويمنعه كما يفعل ذلك المخلوق اما لبخله واما لتضرره واما لغير ذلك

وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحاح انه قال لله اشد فرحا بتوبة عبده من احدكم يرى راحلته اذا وجدها عليها طعامه وشرابه لن يكون بتوبة التائب اعظم فرحا من الواجد لطعامه وشرابه ومركبه بعد الخوف المفضى الى الهلاك كيف يتمثل له بالتجنى والصد والاعراض وسوء رأى الموالي وبحق الله مما يفعله السادة بعبيدهم والمحبوب مع محبه وكيف يتمثل له بقولهم سقيم لا يعاد ومريد لا يراد وهل في الصادقين مع الله سقيم لا يعاد وهل اراد الله احد بصدق فلم يرده الله

وقد ثبت في صحيح مسلم ان الله يقول عبدي مرضت فلم تعدني قال رب كيف اعودك وانت رب العالمين فيقول ان عبدي فلانا مرض فلم تعده اما انك لوعدته لوجدتني عنده

والله قد اخبر انه من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه وقال ومن اراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأؤلئك كان سعيهم مشكورا سورة الاسراء 19

وفي الجملة فهذا الباب تكذيب بما وعده الله عباده الصالحين ونسبة الله الى ما نزه نفسه عنه من ظلم العباد بإضاعة اعمالهم الصالحة بغير ذنب لهم ولا عدوان وتمثيل لله بالسيد البخيل الظالم ونحوه واقامة لعذر النفس ونسبة لها الى اقامة الواجب ففيه من الكبر والدعوى ما فيه

والحق الذي لا ريب فيه ان ذلك جميعه لا يكون الا لتفريط العبد وعدوانه بأن لا يكون العمل الذي عمله صالحا او يكون له من السيئات ما يؤخر العبد وإنما العبد ظالم جاهل يعتقد انه قد اتى بما يستوجب كمال التقريب ولعل الذي اتى به انما يستوجب به اللعنة والغضب بمنزلة من معه نقد مغشوش جاء ليشتري متاعا رفيعا فلم يبيعوه فظن انهم ظلموه وهو الظالم وهو في ذلك شبيه بأحد ابني ادم اذ قربا قربانا فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الاخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27

وعلى هذا الاصل تخرج حكاية عباس وامثالها فإنه لم يعين مطلوبه ومراده وما العمل الذي عمله فقد طلب امرا ولم يأت بعمله الذي يصلح له واما كون الحق لم يرد منه ان يصل الى مطلوبه فقد يكون لعدم استئهاله وقد يكون لتضرره لو حصل له وكم ممن يتشوق الى الدرجات العالية التي لا يقدر ان يقوم بحقوقها فيكون وصوله اليها وبالا في حقه

وهذا في امر الدنيا كما قال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن اتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما اتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه سورة التوبة 75 77

وغالب من يتعرض للمحن والابتلاء ليرتفع بها ينخفص بها لعدم ثباته في المحن بخلاف من ابتلاه الحق ابتداء كما قال تعالى ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رايتموه وانتم تنظرون سورة آل عمران 143

وقال يا ايها الذين امنوا لم تقولون مالا تفلعون كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون سورة الصف 3

وقال النبي ﷺ يا عبد الرحمن لا تسأل الامارة فانك ان اعطيتها عن مسألة وكلت اليها وان اعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها وقال اذا سمعتم بالطاعون ببلد فلا تقدموا عليه واذا وقع بأرض وانتم بها فلا تخرجوا فرارا منها

قال ابو القاسم واعلموا ان من سنة الحق مع اوليائه انهم اذا ساكنوا غيرا او لاحظوا شيئا او ضاجعوا بقلبوهم شيئا شوش عليهم ذلك فيغار على قلوبهم بأن يعيدها خالصة لنفسه فارغة عما ساكنوه

وقال سمعت السلمى يقول سمعت ابا زيد المروزي الفقيه يقول سمعت ابراهيم بن سنان سمعت محمد بن حسان يقول بينما انا ادور في جبل لبنان اذ خرج علينا رجل شاب قد احرقته السموم والرياح فلما نظر الى ولى هاربا فتبعته وقلت له تعظنى بكلمة فقال احذروه فإنه غيور لا يحب ان يرى في قلب عبده سواه

وقال سمعت السلمى يقول سمعت النصراباذي يقول الحق غيور ومن غيرته انه لم يجعل اليه طريقا سواه

قلت هذه الغيرة تدخل في الغيرة التي وصفها النبي ﷺ اذ قال غيرة الله ان يأتي المؤمن ما حرم عليه واعظم الذنوب ان تجعل لله ندا وهو خلقك وتجعل معه الها اخر والشرك منه جليل ومنه دقيق فالمقتصدون قاموا بواجب التوحيد والسابقون المقربون قاموا بمستحبه مع واجبه ولا شيء احب الى الله من التوحيد ولا شيء ابغض اليه من الشرك ولهذا كان الشرك غير مغفور بل هو اعظم الظلم

وقد قال النبي ﷺ مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تارة تميلها وتعدلها اخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الارز لا تزال ثابته على اصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة

فالله تعالى يبتلى عبده المؤمن ليطهره من الذنوب والمعايب ومن رحمته بعبده المخلص ان يصرف عنه ما يغار عليه منه كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وكما قال انه ليس له سلطان على الذين امنوا وعلى ربهم يتوكلون سورة النحل 99 فاذا صرف عنه ما يغار عليه منه كان ذلك من رحمته به واصطفائه اياه وان كان في ذلك مشقة عليه فهو تارة يمنعه مما يكرهه له وتارة ليطهره منه بالابتلاء فاذا كان يغار من ذلك فاذا فعل العبد ما يغار عليه فقد يعاقبه على ذلك بقدر ذنبه

كما قال ابو القاسم وحكى عن السري انه قال كنت اطلب رجلا صديقا مرة من الاوقات فمررت في بعض الجبال فإذا انا بجماعة زمنى ومرضى وعميان فسألت عن حالهم فقالوا ها هنا رجل يخرج في السنة مرة فيدعو لهم فيجدون الشفاء فصبرت حتى خرج ودعا لهم فوجدوا الشفاء فقفوت اثره وتعلقت به وقلت له بي علة باطنة فما دواؤها فقال يا سري خل عني فإنه غيور لا يراك تساكن غيره فتسقط من عينه

وهذا من قوله تعالى لا تجعل مع الله الها اخر فتقعد مذموما مخذولا سورة الاسراء 22

وقوله فلا تدع مع الله الها اخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء

وقوله ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير او تهوى به الريح في مكان سحيق سورة الحج 31

وقوله ولقد اوحى اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين سورة الزمر 65 66

وقوله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون سورة الانعام 88

وقوله فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين يوسف 42

واما مقام الرجل وامثاله في ذلك الزمان بجبل لبنان فان جبل لبنان ونحوه كان ثغرا للمسلمين لكونه بساحل البحر مجاورا للنصارى بمنزلة عسقلان والاسكندرية وغيرهما من الثغور وكان صالحو المسلمين يقيمون بالثغور للرباط في سبيل الله وما ورد من الاثار في فضل هذه البقاع فلفضل الرباط في سبيل الله واما بعد غلبة النصارى عليها والقرامطة والروافض فلم يبق فيها فضل وليس به في تلك الاوقات احد من الصالحين ولا يشرع في ديننا سكنى البوادي والجبال الا عند الفرار من الفتن اذ كان المقيم بالمصر يلجأ اليها عند الفتنة في دينه فيهاجر الى حيث لا يفتن فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقد بسطنا هذا في غير الموضع

قلت فقد ظهر انهم يعنون بغيرة الحق نحو ما وصف به الرسول ﷺ ان من غيرته على عبده ان يأتي محارمه فيدخلون في ذلك ما لا يحبه من فضول المباح وقد يعنون بها غيرته على مواجده وعطاياه التي لأوليائه ان يضعها في غير محلها فجعلوا الغيرة تارة في امره ونهيه وتارة في قضائه وقدره

واما الغيرة من اهل الطريق فقد يعني بها المعنى الشرعي وهو ان يغار المؤمن ان تنتهك محارم الله ويدخلون في ذلك اباء المقربين من غيرتهم ان يكون الشيء من امورهم لغير الله وذلك قد يعني بها ان يغار الانسان على محاب الحق ومرضاته ان تكون في غير محلها وهذا قريب

وقد يعني بها ان يغار الانسان ان يشاركه غيره في طريق الحق ومواهبه ويكون هذا حسدا واستكبارا وشبها بغيرة الضرائر على الرجل او غيره الفحول على الانثى

وقد يعني بها ان يغار على الحق ان يذكره احد او ان يعرفه احد او ان ينظر اليه احد كما يغار الانسان على محبوبه العزيز عنده

كما تقدم عن الشبلي وكما حكاه عن بعضهم قال قيل لبعضهم اتريد ان تراه فقال لا قيل ولم قال انزه وذلك الجمال عن نظر مثلى

قال وفي المعنى انشدوا

اني لأحسد ناظري عليكا ... حتى اغض اذا نظرت اليكا ...

واراك تخطر في شمائلك التي ... هي فتنتي فأغار منك عليكا ...

وكما ذكر في باب المحبة فقال سمعت الشيخ ابا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت الشبلي يقول المحبة ان تغار على المحبوب ان يحبه مثلك

وهذا ايضا وجه فاسد جدا وهو جهل بالله وبما يستحقه وتشبيه له بالمحبوب من البشر وظن من هذا القائل انه اذا رأى الله حصل بذلك نقص في حق الله او ضرر عليه فان الانسان انما يغار على محبوبه مما فيه عليه ضرر او علي المحب فيه ضرر فيغار من الشركة لما فيه من الضرر وقد يغار عليه من نفسه لاستشعاره به ان ذلك نقص وذلك كله محال في حق الله

ومن قال هذا قد يقول اغار عليه من ان احبه ومثلى لا يصلح ان يعبده وانما اعبد من يعبده ونحو ذلك مما زينه الشيطان للمشركين واهل الضلال وذلك انهم قد يدخلون في غيرة الله منعه لمواهبه وعطاياه من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتقربوا اليه بأصناف القربات كما قد يمنع السيد والمحبوب عبيده ومحبيه ما يستحقونه وهذا ايضا جهل بالله وتكذيب بوعده وتجوير له وتزكية لنفوسهم وهو باطل

وفي الجملة فالغيرة المحمودة اما ترك ما نهى الله عنه او ترك ما لم يأمر الله به ولا اوجبه ومن لم يكن فيه احد الحالين فهو ممن فسق عن امر ربه والثانية حال الكمل الصادقين

فأما الغيرة على ما لم يحرمه او على ما اباحه الله لعباده ان يفعلوه وهو لا يكرهه ولا يسخطه فهو مذموم كله كما تقدم

فهذه الغيرة الاصطلاحية من مدحها مطلقا فقد أخطأ ومن ذمها مطلقا فقد أخطأ والصواب ان يحمد منها ما حمده الله ورسوله ويذم منها ما ذمه الله ورسوله وهذا يقع كثيرا للسالكين في هذا الخلق وغيره فإنه يلبس الحق بالباطل ولهذا السبب ينكر كثير من الناس مثل هذا الطريق لما فيه من لبس الحق بالباطل والآخرون يعظمونه لما فيه من الحق والصواب الفرقان ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور سورة النور 40
فصل

فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي سليمان الداراني رحمه الله انه قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذ به من النار فان الناس تنازعوا في هذا الكلام فمنهم من انكره ومنهم من قبله والكلام على هذا الكلام من وجهين

أحدهما من جهة ثبوته عن الشيخ ابي سليمان والثاني من جهة صحته في نفسه وفساده

اما المقام الاول فينبغي ان يعلم ان الاستاذ ابا القاسم القشيري لم يذكره عن الشيخ ابي سليمان بإسناد وانما ذكره مرسلا عنه في رسالته عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين والمشايخ وغيرهم تارة يذكره بإسناد وتارة يذكره مرسلا وكثيرا ما يقول في الرسالة وقيل عنه كذا ثم الذي يذكره الاستاذ ابو القاسم بالإسناد تارة يكون اسناده صحيحا وتارة يكون ضعيفا بل موضوعا وما يذكره مرسلا ومحذوفا لقائل اولى وهذا كما يوجد ذلك في مصنفات الفقهاء فإن فيها من الاحاديث والآثار ما هو صحيح ومنها ما هو ضعيف ومنها ما هو موضوع فالموجود في كتب الرقائق والتصوف من الاثار المنقولة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع

وهذا امر متفق عليه بين جميع المسلمين لا يتنازعون في ان هذه الكتب فيها هذا وفيها هذا بل نفس الكتب المصنفة في الحديث والاثار فيها هذا وهذا وكذلك الكتب المصنفة في التفسير فيها هذه وهذا مع ان اهل الحديث اقرب الى معرفة المنقولات وفي كتبهم هذا وهذا فكيف غيرهم

والمصنفون قد يكونون أئمة في الفقه او التصوف او الحديث ويروون هذا تارة لأنهم لم يعلموا انه كذب وهو الغالب على اهل الدين فإنهم لا يحتجون بما يعلمون انه كذب وتارة يذكرونه وان علموا انه كذب اذ قصدهم رواية ما روى في ذلك الباب

ورواية الاحاديث المكذوبة مع بيان انها كذب جائز واما روايتها مع الإمساك عن ذلك رواية عمل فإنه حرام عند العلماء لما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال من حدث عني بحديث وهو يرى انه كذب فهو احد الكاذبين

وقد فعل ذلك كثير من العلماء متأولين انهم لم يكذبوا وانما نقلوا ما رواه غيرهم وهذا يسهل اذ رووه ليعرف انه روى لا لأجل العمل به والاعتماد عليه

والمقصود هنا ان ما يوجد في الرسالة وامثالها من كتب الفقه والتصوف والحديث من المنقولات عن النبي ﷺ وغيره من السلف فيه الصحيح وفيه الضعيف وفيه الموضوع فالصحيح الذي قامت الدلالة على صدقه والموضوع الذي قامت الدلالة على كذبه عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وإن كان هو لا يتعمد واما لاتهامه ولكن يمكن ان يكون صادقا فيه فإن الفاسق قد يصدق والغالط قد يحفظ

وغالب ابواب الرسالة فيه الاقسام الثلاثة ومن ذلك باب الرضا فإنه ذكر فيه عن النبي ﷺ حديثا صحيحا في اثناء الباب وهو حديث العباس بن عبد المطلب عن النبي ﷺ انه قال ذاق طعم الايمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا

وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه وان كان الاستاذ لم يذكر ان مسلما رواه لكن رواه بإسناد صحيح وذكر في اول هذا الباب حديثا ضعيفا بل موضوعا وهو حديث جابر الطويل الذي رواه من حديث الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر فهو وان كان اول حديث ذكره في الباب فإن حديث الفضل بن عيسى من اوهى الاحاديث واسقطها ولا نزاع بين الائمة انه لا يعتمد عليها ولا يحتج بها فإن الضعف ظاهر عليها وان كان هو لا يعتمد الكذب فإن كثيرا من الزهاد والفقهاء لا يحتج بحديثهم لسوء الحفظ لا لاعتماد الكذب وهذا الرقاشي اتفقوا على ضعفه كما يعرف ذلك ائمة هذا الشأن حتى قال ايوب السختياني لو ولد فضل اخرس لكان خيرا له وقال سفيان بن عيينة لا شيء وقال الامام احمد والنسائي هو ضعيف وقال يحيى بن معين رجل سوء وقال ابو حاتم وابو زرعة منكر الحديث

وكذلك ما ذكره من الاثار فانه قد ذكر اثارا حسنة بأسانيد حسنه مثل ما رواه عن الشيخ ابي سليمان الداراني انه قال اذا سلا العبد عن الشهوات فهو راض فإن هذا رواه عن شيخه ابي عبد الرحمن السلمي بإسناده والشيخ ابو عبد الرحمن كانت له عناية بجمع كلام هؤلاء المشايخ وحكاياتهم وصنف في الاسماء كتاب الطبقات طبقات الصوفية وكتاب زهاد السلف وغير ذلك وصنف في الابواب كتاب مقامات الاولياء وغير ذلك ومصنفاته تشتمل على الاقسام الثلاثة

وذكر عن الشيخ ابي عبد الرحمن انه قال سمعت النصراباذي يقول من اراد ان يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه

فإن هذا الكلام في غاية الحسن فإنه من لزم ما يرضى الله من امتثال اوامره واجتناب نواهيه لا سيما اذ قام بواجبها ومستحبها يرضي الله عنه كما انه من لزم محبوبات الله احبه الله كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرب الي عبدي بمثل اداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فإذا احببته الحديث

وذلك ان الرضا نوعان احدهما الرضا بفعل ما امر به وترك ما نهى عنه ويتناول ما اباحه الله من غير تعد الى المحظور

كما قال تعالى والله ورسوله احق ان يرضوه ان كانوا مؤمنين سورة التوبة 62 وقال تعالى ولو انهم رضوا ما اتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون سورة التوبة 59 فهذا الرضا واجب

وكذلك ذم من تركه بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون سورة التوبة 58

والنوع الثاني الرضا بالمصائب كالفقر والمرض والذل فهذا الرضا مستحب في احد قولي العلماء وليس بواجب وقد قيل انه واجب والصحيح ان الواجب هو الصبر كما قال الحسن البصري رحمه الله الرضا عزيز ولكن الصبرمعول المؤمن

وقد روى في حديث ابن عباس ان النبي ﷺ قال له ان استطعت ان تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا

واما الرضا بالكفر والفسوق والعصيان فالذي عليه ائمة الدين انه لا يرضى بذلك فإن الله لا يرضاه كما قال تعالى ولا يرضى لعباده الكفر سورة الزمر 7

وقال والله لا يحب الفساد سورة البقرة 205

وقال تعالى فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين سورة التوبة 96

وقل تعالى فجزاؤه حهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما سورة النساء : 93

وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم سورة محمد 28

وقال وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم سورة التوبة 68

وقال لبئس ما قدمت لهم انفسهم ان سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون سورة المائدة 80

وقال فلما آسفونا انتقمنا منهم سورة الزخرف 55

فإذا كان الله سبحانه لا يرضى لهم ما عملوه بل يسخطه ذلك وهو يسخط عليهم ويغضب عليهم فكيف يسوغ للمؤمن ان يرضى ذلك وان لا يسخط ويغضب لما يسخط الله ويغضبه







*****************************
/13
الاستقامة/13
< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الاستقامة/12 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/14










وانما ضل هنا فريقان من الناس قوم من اهل الكلام المنتسبين الى السنة في مناظرة القدرية ظنوا ان محبة الحق ورضاه وغضبه وسخطه يرجع الىارادته وقد علموا انه مريد لجميع الكائنات خلافا للقدرية وقالوا هو ايضا محب لها مريد لها ثم اخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه فقالوا لا يحب الفساد بمعنى لا يريد الفساد أي لا يريده للمؤمنين ولا يرضى لعباده الكفر بمعنى لا يريده أي لا يريده للمؤمنين

وهذا غلط عظيم فإن هذا عندهم بمنزلة ان يقال لا يحب الايمان ولا يرضى لعباده الايمان بمعنى لا يريده للكافرين ولا يرضاه للكافرين

وقد اتفق اهل الاسلام على ان ما امر الله به فإنه يكون مستحبا يحبه ثم قد يكون مع ذلك واجبا وقد يكون مستحبا ليس بواجب سواء فعل او لم يفعل والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع

والفريق الثانى من غالطي المتصوفة شربوا من هذه العين فشهدوا ان الله رب الكائنات جميعها وعلموا انه قدر كل شيء وشاءه وظنوا انهم لا يكونون راضين حتى يرضوا بكل ما يقدره الله ويقضيه من الكفر والفسوق والعصيان حتى قال بعضهم المحبة نار تحرق من القلب كل ما سوى مراد المحبوب قالوا والكون كله مراد المحبوب وضل هؤلاء ضلالا عظيما حيث لم يفرقوا بين الارادة الدينية والكونية والاذن الديني والكوني والامر الديني والكوني والبعث الكوني والديني والارسال الكوني والديني كما بسطناه في غير هذا الموضع

وهؤلاء يؤول بهم الامر الى ان لا يفرقوا بين المحظور والمأمور واولياء الله واعداء الله والانبياء والمتقين ويجعلون الذين امنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض ويجعلون المتقين كالفجار ويجعلون المسلمين كالمجرمين ويعطلون الامر والنهي والوعد والوعيد والشرائع

وربما سموا هذا حقيقة ولعمري انه حقيقة كونية لكن هذه الحقيقة الكونية قد عرفها عباد الاصنام كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله سورة لقمان 25 وقال قل لمن الارض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولون لله قل افلا تذكرون الايات سورة المؤمنون 84 85

فالمشركون الذين يعبدون الاصنام كانوا مقرين بان الله خالق كل شيء وربه ومليكه فمن كان هذا منتهى تحقيقه كان غايته ان يكون كعباد الاصنام

والمؤمن انما فارق الكفر بالإيمان بالله وبرسله وبتصديقهم فيما اخبروا وطاعتهم فيما امروا واتباع ما يرضاه الله ويحبه دون ما يقضيه ويقدره من الكفر والفسوق والعصيان ولكن يرضى بما اصابه من المصائب لا بما فعله من المعايب فهو من الذنوب يستغفر وعلى المصائب يصبر

كما قال تعالى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذبنك سورة غافر 55 فيجمع بين طاعة الامر والصبر على المصائق كما قال تعالى وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا سورة ال عمران 120

وقال تعالى وان تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الامور سورة ال عمران 186

وقال يوسف عليه السلام انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين سورة يوسف 90

والقصد هنا ان ما ذكره القشيري عن النصراباذي من احسن الكلام حيث قال من اراد ان يبلغ محل الرضا فليلزم ما جعل الله رضاه فيه

وكذلك قول الشيخ ابي سليمان اذا سلا البعد عن الشهوات فهو راض وذلك ان العبد انما يمنعه من الرضا والقناعة طلب نفسه لفضول شهواتها فاذا لم يحصل سخط فاذا سلا عن شهوات نفسه رضي بما قسم الله له من الرزق

وكذلك ما ذكره عن الفضيل بن عياض انه قال لبشر الحافي الرضا افضل من الزهد في الدنيا لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته كلام حسن لكن اشك في سماع بشر الحافي من الفضيل

وكذلك ما ذكره معلقا قال وقيل قال الشبلي بين يدي الجنيد لا حول ولا قوة الا بالله فقال الجنيد قولك ذا ضيق صدر وضيق الصدر لترك الرضا بالقضاء فإن هذا من احسن الكلام

وكان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة ومن احسنهم تعليما وتأديبا وتقويما وذلك ان هذه الكلمة هي كلمة استعانة لا كلمة استرجاع وكثير من الناس يقولها عند المصائب بمنزلة الاسترجاع ويقولها جزعا لا صبرا

فالجنيد انكر على الشبلي حاله في سبب قوله لها اذ كانت حالا ينافي الرضا ولو قالها على الوجه المشروع لم ينكر عليه

وفيما ذكره آثار ضعيفة مثل ما ذكره معلقا قال وقيل قال موسى الهي دلني على عمل اذا عملته رضيت عني فقال انك لا تطيق ذلك فخر موسى ساجدا متضرعا فأوحى الله اليه يا ابن عمران رضائي في رضائك عني

فهذه الحكاية الاسرائيلية فيها نظر فإنه قد يقال لا يصلح ان يحكى مثلها عن موسى عليه السلام ومعلوم ان هذه الاسرئيليات ليس لها اسناد ولا تقوم بها حجة في شيء من الدين الا اذا كانت منقوله لنا نقلا صحيحا مثل ما ثبت عن نبينا ﷺ انه حدثنا به عن بني اسرائيل ولكن منه ما يعلم كذبه مثل هذه فإن موسى عليه السلام من أعظم اولى العزم واكابر المرسلين فيكف يقال انه لا يطيق ان يعمل ما يرضي الله به عنه والله تعالى رضي عن السابقين الاولين من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان افلا يرضى عن موسى بن عمران كليم الرحمن

وقال تعالى ان الذين امنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهارخالدين فيها ابدا رضي الله عنهم ورضوا عنه سورة البينة 867 ومعلوم ان موسى عليه السلام من افضل الذين امنوا وعملوا الصالحات ثم ان الله خص موسى بمزية فوق الرضا حيث قال والقيت عليك محبة منى ولتصنع على عيني سورة طه 39

ثم ان قوله له في الخطاب يا ابن عمران يخالف ما ذكره الله من خطابه له في القرآن حيث قال يا موسى وذلك الخطاب فيه نوع غض منه كما يظهر

ومثل ما ذكره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه كتب لأبي موسى الاشعري اما بعد فإن الخير كله في الرضا فإن استطعت ان ترضى والا فاصبر فهذا الكلام كلام حسن وان لم يعلم اسناده

واذا تبين ان فيما ذكره مسندا ومرسلا ومعلقا ما هو صحيح فهذه الكلمة لم يذكرها عن ابي سليمان الا مرسلة وبمثل ذلك لا تثبت عن ابي سليمان باتفاق الناس فإنه وان قال بعض الناس ان المرسل حجة فهذا لم يعلم ان المرسل هو مثل الضعيف وغير الضعيف فأما اذا عرف ذلك فلا تبقى حجة باتفاق العلماء كمن علم انه تارة يحفظ الاسناد وتارة يغلط فيه

والكتب المسندة في اخبار هؤلاء المشايخ وكلامهم مثل كتاب حلية الاولياء لأبي نعيم وطبقات الصوفية للشيخ ابي عبد الرحمن و صفوة الصفوة لابن الجوزي وامثال ذلك لم يذكروا فيها هذه الكلمة عن الشيخ ابي سليمان وقد ذكروا فيها عن الشيخ ابي سليمان الاثر الذي رواه عنه مسندا حيث قال لاحمد دبن ابي الحواري يا احمد لقد اوتيت من الرضا نصيبا لو القاني في النار لكنت بذلك راضيا

فهذا الكلام مأثور عن ابي سليمان بالإسناد ولهذا اسنده عنه القشيري من طريق شيخه ابي عبد الرحمن بخلاف تلك الكلمة فإنها لم تسند عنه فلا اصل لها عن الشيخ ابي سليمان ثم ان القشيري قرن هذه الكلمة الثابتة عن ابي سليمان بكلمة احسن منها فإنه قبل ان يرويها قال وسئل ابو عثمان يعني ابا عثمان الحيري النيسابوري عن قول النبي ﷺ أسألك الرضا بعد القضاء فقال لأن الرضا بعد القضاء هو الرضا فهذا الذي قاله الشيخ ابو عثمان كلام حسن سديد

ثم اسند بعد هذا عن الشيخ ابي سليمان انه قال ارجو ان اكون عرفت طرفا من الرضا لو انه ادخلني النار لكنت بذلك راضيا

فتبين بذلك ان ما قاله ابو سليمان ليس هو رضى وانما هو عزم على الرضا وانما الرضا ما يكون بعد القضاء واذا كان هذا عزما على الرضا فالعزم قد يدوم وقد ينفسخ وما اكثر انفساخ عزائم الناس خصوصا الصوفية ولهذا قيل لبعضهم بم عرفت الله قال بفسخ العزائم ونقض الهمم

وقد قال تعالى لمن هو افضل من هؤلاء المشايخ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل ان تلقوه فقد رأيتموه وانتم تنظرون سورة آل عمران 143

وقال تعالى يا ايها الذين امنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا مالا تفعلون ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص سورة الصف 42

وفي الترمذي ان بعض الصحابة قالوا للنبي ﷺ لو علمنا أي العمل احب الى الله لعملناه فأنزل الله هذه الاية وقد قال تعالى الم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة واتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله او اشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الى اجل قريب الاية سورة النساء 77 فهؤلاء الذين كانوا قد عزموا على الجهاد واحبوه لما ابتلوا به كرهوه وفروا منه واين الم الجهاد من الم النار وعذاب الله الذي لا طاقة لأحد به

مثل هذا يذكر عن سمنون المحب انه كان يقول ... وليس لي في سواك حظ ... فكيف ما شئت فاختبرني ...

فأخذه الاسر من ساعته أي حصر بوله فكان يدور على المكاتب ويفرق الجوز على الصبيان ويقول ادعوا لعمكم الكذاب

وحكى ابو نعيم الاصبهاني عن ابي بكر الواسطي انه قال قال سمنون يا رب قد رضيت بكل ما تقضيه على فاحتبس بوله اربعة عشر يوما فكان يتلوى كما تتلوى الحية على الرمل يتلوى يمينا وشمالا فلما اطلق بوله قال يا رب تبت اليك

قال ابو نعيم فهذا الرضا الذي ادعى سمنون ظهر غلطه فيه بأدنى بلوى هذا مع ان سمنون كان يضرب به المثل في المحبة وله مقام مشهور حتى روى عن ابراهيم بن فاتك انه قال رأيت سمنونا يتكلم على الناس في المسجد الحرام فجاء طائر صغير فقرب منه ثم قرب فلم يزل يدنو منه حتى جلس على يده ثم لم يزل يضرب بمنقاره الارض حتى سقط منه دم ومات الطائر

قال ورأيته تكلم يوما في المحبة فاصطفقت قناديل المسجد وكسر بعضها بعضا

وقد ذكر القشيري في باب الرضا عن رويم المقري رفيق سمنون حكاية تناسب هذا حيث قال قال رويم الرضا ان لو جعل جهنم عن يمينه ما سأل الله ان يحولها عن يساره فهذا يشبه قول سمنون فكيف ما شئت فامتحني واذا لم يطق الصبر على عسر البول افيطيق ان تكون جهنم عن يمنيه

والفضيل بن عياض كان اعلى طبقة من هؤلاء وابتلى بعسر البول فغلبه الالم حتى قال بحبي لك الا فرجت عني فانفرج عنه

ورويم وان كان من رفقاء الجنيد فليس هو عندهم من هذه الطبقة بل الصوفية يقولون انه رجع الى الدنيا وترك التصوف حتى روى عن جعفر الخلدي صاحب الجنيد انه قال من اراد ان يستكتم سرا فليفعل كما فعل رويم كتم حب الدنيا اربعين سنة فقيل وكيف يتصور ذلك قال ولى اسماعيل بن اسحاق القاضي قضاء بغداد وكانت بينهما مودة اكيدة فجذبه اليه وجعله وكيلا على بابه فترك لبس التصوف ولبس الخز والقصب والديبقى وأكل الطيبات وبنى الدور واذا هو كان يكتم حب الدنيا ما لم يجدها فلما وجدها اظهر ما كان يكتم من حبها هذا مع انه رحمه الله كان له من العبادات ما هو معروف وكان فقيها على مذهب داود

وهذه الكلمات التي تصدر عن صاحب حال لم يفكر في لوازم اقواله وعواقبها لا تجعل طريقة ولا تتخذ سبيلا ولكن قد يستدل بها على ما لصاحبها من الرضا والمحبة ونحو ذلك وما معه من التقصير في معرفة حقوق الطريق وما يقدر عليه من التقوى والصبر وما لا يقدر عليه من التقوى والصبر

والرسل صلوات الله عليهم اعلم بطريق سبيل الله واهدى وانصح فمن خرج عن سنتهم وسبيلهم كان منقوصا مخطئا محروما وان لم يكن عاصيا او فاسقا او كافرا

ويشبه هذا الاعرابي الذي دخل عليه النبي ﷺ وهو مريض كالفرخ فقال هل كنت دعوت الله بشيء فقال كنت اقول اللهم ما كنت معذبي به في الاخرة فعجله لي في الدنيا فقال سبحان الله لا تستطيعه او لا تطيقه هلأ قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار

فهذا ايضا حمله خوفه من عذاب الاخرة ومحبته لسلامة عاقبته على ان يطلب تعجيل ذلك في الدنيا وكان مخطئا في ذلك غالطا والخطأ والغلط مع حسن القصد وسلامته وصلاح الرجل وفضله ودينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدا فليس من شرط ولي الله ان يكون معصوما من الخطأ والغلط بل ولا من الذنوب

وافضل اولياء الله بعد الرسل ابو بكر الصديق رضي الله عنه وقد ثبت في الصحيح ان النبي ﷺ قال له لما عبر رؤيا اصبت بعضا وأخطأت بعضا

ويشبه والله اعلم ان ابا سليمان لما قال هذه الكلمة لو القاني في النار لكنت بذلك راضيا ان يكون بعض الناس حكاه بما فهمه من المعنى انه قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار

وتلك الكلمة التي قالها ابو سليمان مع انها لا تدل على رضاه بذلك ولكن تدل على عزمة بالرضا بذلك ونحن نعلم ان ذلك العزم لا يستمر بل ينفسخ وان مثل هذه الكلمة كان تركها احسن من قولها وانها مستدركة كما استدركه دعوى سمنون ورويم وغير ذلك فإن بين هذه الكلمة وبين تلك فرقا عظيما فان تلك الكلمة مضمونها ان من سأل الله الجنة واستعاذه من النار لا يكون راضيا وفرق بين من يقول انا اذا فعل بي كذا كنت راضيا وبين من يقول لا يكون راضيا الا من لا يطلب خيرا ومن لا يهرب من شر

وبهذا وغيره يعلم ان الشيخ ابا سليمان كان اجل من ان يقول مثل هذا الكلام فإن الشيخ ابا سليمان من اجلاء المشايخ وساداتهم ومن اتبعهم للشريعة حتى انه كان يقول انه ليمر بقلبي النكتة من نكت القوم فلا اقبلها الا بشاهدين الكتاب والسنة فمن لا يقبل نكت قلبه الا بشاهدين يقول مثل هذا الكلام

وقال الشيخ ابو سليمان ايضا ليس لمن ألهم شيئا من الخير ان يفعله حتى يسمع فيه بأثر فإذا سمع فيه بأثر كان نورا على نور بل صاحبه احمد بن ابي الحواري كان من اتبع المشايخ للسنة فكيف ابو سليمان

وتمام تزكية ابي سليمان من هذا الكلام يظهر بالكلام في المقام الثاني وهو قول القائل كائنا من كان الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار ونقدم قبل ذلك مقدمة يتبين بها اصل ما وقع في مثل هذه الكلمات من الاشتباه والاضطراب وذلك ان قوما كثيرا من الناس من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة وغيرهم ظنوا ان الجنة ليست إلا التنعم بالمخلوق من اكل وشرب و لباس ونكاح وسماع اصوات طيبة وشم روائح طيبة ولم يدخلوا في مسمى الجنة نعيما غير ذلك ثم صاروا حزبين حزبا انكروا ان يكون للعباد نعيم غير تنعمهم بهذه الامور المخلوقة واشباهها ثم من هؤلاء من انكر ان يكون المؤمنون يرون ربهم كما ذهب الى ذلك الجهمية من المعتزلة وغيرهم

ومنهم من اقر بالرؤية اما الرؤية التي اخبر بها النبي ﷺ كما هو مذهب اهل السنة والجماعة واما برؤية فسرها بزيادة كشف او علم او جعلها بحاسة سادسة ونحو ذلك من الاقوال التي ذهب اليها ضرار بن عمرو وطوائف من اهل الكلام المنتسبين الى نصر اهل السنة في مسألة الرؤية وان كان ما يثبتونه من جنس ما نفته المعتزلة والضرارية والنزاع بينهم لفظي ونزاعهم مع اهل السنة معنوي ولهذا كان بشر المريسي وامثاله يفسرون الرؤية بنحو من تفسير هؤلاء

والمقصود هنا ان مثبتة الرؤية منهم من انكر ان يكون المؤمن ينعم بنفس رؤيته ربه قالوا لأنه لا مناسبة بين المحدث والقديم كما ذكر ذلك الاستاذ ابو المعالي الجويني في الرسالة النظامية وكما ذكره ابو الوفاء بن عقيل في بعض كتبه

ونقلوا عن ابن عقيل انه سمع قائلا يقول أسألك لذة النظر الى وجهك فقال يا هذا هب ان له وجها اله وجه يتلذذ بالنظر اليه

وذكر ابو المعالي ان الله يخلق لهم نعيما ببعض المخلوقات مقارنا للرؤية فأما التنعم بنفس الرؤية فأنكره وجعل هذا من اسرار التوحيد

واكثر مثبتي الرؤية يقرون بتنعم المؤمنين برؤية ربهم وهو مذهب سلف الامة وأئمتها ومشايخ الطريق

كما جاء في الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن النبي ﷺ اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم اني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر الى وجهك وأسألك الشوق الى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين

وفي صحيح مسلم وغيره عن صهيب عن النبي ﷺ قال اذا دخل اهل الجنة الجنة ناد مناد يا اهل الجنة ان لكم عند الله موعدا يريد ان ينجزكموه فيقولون ما هو الم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه فما اعطاهم شيئا احب اليهم من النظر اليه

وكلما كان الشيء احب كانت اللذة بنيله اعظم وهذا متفق عليه بين السلف والائمة ومشايخ الطريق كما روى عن الحسن البصري انه قال لو علم العابدون انهم لا يرون ربهم في الاخرة لذابت نفوسهم في الدينا شوقا اليه وكلامهم في ذلك كثير

ثم هؤلاء الذين وافقوا السلف والائمة والمشايخ على التنعم بالنظر الى الله تعالى وتنازعوا في مسألة المحبة التي هي اصل ذلك فذهب طوائف من المتكلمين والفقهاء الى ان الله لا تحب نفسه وانما المحبة محبة طاعته وعبادته وقالوا هو ايضا لا يحب عباده المؤمنين وانما محبته ارادته للإحسان اليهم ولإثابتهم

ودخل في هذا القول من انتسب الى نصر السنة من اهل الكلام حتى وقع فيه طائفة من اصحاب مالك والشافعي واحمد كالقاضي ابي بكر والقاضي ابي يعلى وابي المعالي الجويني وامثال هؤلاء وهذا في الحقيقة شعبة من التجهم والاعتزال فإن اول من انكر المحبة في الاسلام الجعد بن درهم استاذ الجهم بن صفوان فضحى به خالد بن عبد الله القسري وقال ايها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم انه زعم ان الله لم يتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه

والذي دل عليه الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الامة وأئمتها وجميع مشايخ الطريق ان الله يحب ويحب ولهذا وافقهم على ذلك من تصوف من اهل الكلام كأبي القاسم القشيري وابي حامد الغزالي وامثالهما ونصر ذلك ابو حامد في الاحياء وغيره وكذلك ابو القاسم ذكر ذلك في الرسالة على طريق الصوفية كما في كتاب ابي طالب المكي المسمى بقوت القلوب

وابو حامد مع كونه تابع في ذلك الصوفية استند في ذلك لما وجده من كتب الفلاسفة من اثبات نحو ذلك حيث قالوا يعشق ويعشق

وقد بسطت الكلام على هذه المسألة العظيمة في القواعد الكبار بما ليس هذا موضعه

وقد قال الله تعالى يحبهم ويحبونه سورة المائدة 54 وقال تعالى والذين امنوا اشد حبا لله سورة البقرة 165 وقال تعالى احب اليكم من الله ورسوله سورة التوبة 24

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ انه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما وان يحب المرء لا يحبه الا لله وان يكره ان يرجع في الكفر بعد ان انقذه الله منه كما يكره ان يقذف في النار

والمقصود هنا ان هؤلاء المتجهمة من المعتزلة ومن وافقهم الذين ينكرون حقيقة المحبة يلزمهم ان ينكروا التلذذ بالنظر اليه ولهذا ليس في الحقيقة عندهم الا التنعم بالأكل والشرب ونحو ذلك وهذا القول باطل بالكتاب والسنة واتفاق سلف الامة ومشايخها فهذا احد الحزبين الغالطين

والحزب الثاني طوائف من المتصرفة والمتفقرة والمتنسكة وافقوا هؤلاء على ان المحبة ليست الا هذه الامور التي يتنعم بها المخلوق ولكن وافقوا السلف والائمة على اثبات رؤية الله والتنعم بالنظر اليه واصابوا في ذلك وصاروا يطلبون هذا النعيم وتسمو همتهم اليه ويخافون فواته وصار احدهم يقول ما عبدتك شوقا الى جنتك ولا خوفا من نارك ولكن لانظر اليك او اجلالا لك وامثال هذه الكلمات ومقصودهم بذلك طلب ما هو اعلى من الاكل والشرب والتمتع بالمخلوق ولكن غلطوا في اخراج ذلك من الجنة وقد يغلطون ايضا في ظنهم انهم يعبدون الله بلاحظ ولا ارادة وان كل ما يطلب منه فهو حظ النفس وتوهموا ان البشر يعمل بلا ارادة ولا مطلوب ولا محبوب وهو سوء معرفة بحقيقة الايمان والدين والاخرة

وسبب ذلك ان همة احدهم المتعلقة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تقنيه عن نفسه حتى لا يشعر بنفسه واراداتها فيظن انه يفعل بغير مراد والذي طلبه وعلق به همته هو غاية مراده ومحبوبه ومطلوبه

وهذا كحال كثير من الصالحين والصادقين وارباب الاحوال والمقامات يكون لاحدهم وجد صحيح وذوق سليم لكن ليس له عبارة تبين مراده فيقع في كلامه غلط وسوء ادب مع صحة مقصوده وان كان من الناس من يقع منه غلط في مراده واعتقاده فهؤلاء الذين قالوا مثل هذا الكلام اذا عنوا به طلب رؤية الله تعالى اصابوا في ذلك لكن أخطأوا من جهة انهم جعلوا ذلك خارجا عن الجنة فأسقطوا حرمة اسم الجنة ولزم من ذلك امور منكرة

ونظير ذلك ما ذكره عن الشبلي رحمه الله انه سمع قارئا يقرأ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الاخرة سورة آل عمران 152 فصرخ وقال اين من يريد الله فيحمد منه كونه اراد الله ولكن غلط في ظنه ان الذين ارادوا الأخرة ما ارادوا الله

وهذه الاية في اصحاب النبي ﷺ الذين كانوا معه بأحد وهم افضل الخلق فإن لم يريدوا الله افيريد الله من هو دونهم كالشبلي وامثاله

ومثل ذلك ما اعرفه عن بعض المشايخ انه سئل مرة عن قوله ان الله اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة سورة التوبة 111 قال فإذا كانت الانفس والاموال في ثمن الجنة فالرؤية بم تنال فأجابه مجيب بما يشبه هذا السؤال

والواجب ان نعلم ان كل ما اعده الله لأوليائه من نعيم بالنظر اليه وما سوى ذلك فهو في الجنة كما ان كل ما توعد به اعداءه هو في النار وقد قال تعالى فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين سورة السجدة 17

وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ يقول الله اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطعتم عليه

وكذلك في قوله في حديث ابن عمر عن النبي ﷺ ان ادنى اهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه من مسيرة الف عام وان اعلاهم منزلة من ينظر الى وجه الله بكرة وعشيا

وقوله في حديث صهيب اذا دخل اهل الجنة الجنة نادى مناد يا اهل الجنة ان لكم عند الله موعدا الحديث ثم قال فيكشف الحجاب فينظرون اليه وشبه ذلك

واذا علم ان جميع ذلك وامثاله داخل في الجنة فالناس على درجات متفاوته كما قال تعالى انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللأخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا سورة الاسراء 21 وكل مطلوب للعبد بعبادة وقربة او دعاء او غير ذلك من مطالب الاخرة هو في الجنة

وطلب الجنة والاستعاذة من النار طريق انبياء الله ورسله وجميع اولياء الله السابقين المقربين واصحاب اليمين كما في السنن ان النبي ﷺ سأل بعض اصحابه كيف تقول في دعائك قال اقول اللهم اني أسألك الجنة واعوذ بك من النار اما اني لا احسن دندنتك ولا دندنة معاذ فقال النبي ﷺ حولها ندندن فقد اخبر انه هو ﷺ ومعاذ وهو افضل الائمة الراتبين بالمدينة في حياة النبي ﷺ انما يدندنون حول الجنة أفيكون قول احد فوق قول رسول الله ﷺ ومعاذ ومن يصلي خلفهما من المهاجرين والانصار ولو طلب هذا العبد ما طلب كان في الجنة وأهل الجنة نوعان سابقون مقربون وأبرار أصحاب يمين

قال تعالى كلا ان كتاب الابرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ان الابرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون سورة المطففين 18 27

قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشربها المقربون صرفا

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال اذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا على فانه من صلى على مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فانها درجة في الجنة لا تنبغي الا لعبد من عباد الله وارجو ان اكون انا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة

فقد اخبر ان الوسيلة التي لا تصلح الا لعبد واحد من عباد الله ورجا ان يكون هو ذلك العبد هي درجة في الجنة فهل بقي بعد الوسيلة شيء اعلى منها يكون خارجا عن الجنة يصلح للمخلوقين

وثبت في الصحيح ايضا في حديث الملائكة الذين يلتمسون الناس في مجالس الذكر قال فيقولون للرب تعالى وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك قال فيقول وما يطلبون قالوا يطلبون الجنة قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا قال فيقول فكيف لو رأوها قال فيقولون لو رأوها لكانوا اشد لها طلبا قال ومما يستعيذون قالوا يستعيذون من النار قال فيقول فهل رأوها قال فيقولون لا قال فيقول فيكف لو رأوها قالوا لو رأوها لكانوا اشد منها استعاذه قال فيقول اشهدكم اني قد اعطيتهم ما يطلبون واعذتهم مما يستعيذون او كما قال قال فيقولون فيهم فلان الخطاء جاء لحاجة فجلس معهم قال فيقول هم القوم لا يشقى بهم جليسهم فهؤلاء الذين هم من افضل اولياء الله كان مطلوبهم الجنة ومهربهم من النار

وايضا فالنبي ﷺ لما بايع الانصار ليلة العقبة وكان الذين بايعوه من افضل السابقين الاولين الذين هم افضل من هؤلاء المشايخ كلهم قالوا للنبي ﷺ اشترط لربك ولنفسك ولاصحابك قال اشتر لنفسي ان تنصروني مما تنصرون منه انفسكم واهليكم واشترط لأصحابي ان تواسوهم قالوا فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا امدد يدك فوالله لا نقيلك ولا نستقيلك وقد قالو له في اثناء البيعة ان بيننا وبين القوم حبالا وعهودا وانا ناقضوها

فهؤلاء الذين بايعوه هم من اعظم خلق الله محبة لله ورسوله وبذلا لنفوسهم واموالهم في رضا الله ورسوله على وجه لا يلحقهم فيه احد من هؤلاء المتأخرين قد كان غاية ما طلبوه بذلك الجنة فلو كان هناك مطلوب اعلى من ذلك لطلبوه لكنهم علموا ان في الجنة كل محبوب ومطلوب بل وفي الجنة ما لا تشعر به النفوس لتطلبه فإن الطلب والحب والارادة فرع عن الشعور والاحساس والتصور فما لا يحسه الانسان ولا يتصوره ولا يشعر به يمتنع ان يطلبه ويحبه ويريده

والجنة فيها هذا وهذا كما قال تعالى لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد سورة ق 35 وقال وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين سورة الزخرف 71 ففيها كل ما يشتهونه وفيها مزيد على ذلك وهو ما لم يبلغه علمهم ليشتهوه كما قال ﷺ ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وهذا باب واسع

فإذا عرفت هذه المقدمة فقول القائل الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار ان اراد بذلك ان لا تسأل الله ما هو داخل في مسمى الجنة الشرعية فلا تسأله النظر اليه ولا غير ذلك مما هو مطلوب جميع الانبياء والاولياء وانك لا تستعيذ به لا من احتجابه عنك ولا من تعذيبك في النار فهذا الكلام مع كونه مخالفا لجميع الانبياء والمرسلين وسائر المؤمنين فهو متناقض في نفسه فاسد في صريح المعقول

وذلك ان الراضي الذي لا يسأل انما لا يسأله لرضاه عن الله ورضاه عنه انما هو بعد معرفته به ومحبته له فإذا قدر انه حجب فرضي بزوال كل نعيم فرضي بزوال رضاه عن الله وبزوال محبته لله واذا لم يبق معه رضا عن الله ولا محبة لله فكأنه قال يرضي ان لا يرضى وهذا جمع بين النقيضين ولا ريب انه كلام من لم يتصور ما يقول ولا عقله

يوضح ذلك ان الراضي انما يحمله على احتمال المكاره والآلام ما يجده من لذة الرضا وحلاوته فإذا فقد تلك الحلاوة واللذة امتنع ان يحتمل الما ومرارة فكيف يتصور ان يكون راضيا وليس معه من حلاوة الرضا ما يحمل به مرارة المكاره

وانما هذا من جنس كلام السكران والفاني الذي وجد في نفسه حلاوة الرضا فظن ان هذا يبقى معه على أي حال كان وهذا غلط عظيم منه كغلط سمنون كما تقدم

وان اراد بذلك ان لا يسأل التمتع بالمخلوق بل يسأل ما هو اعلى من ذلك فقد غلط من وجهين من جهة انه لم يجعل ذلك المطلوب من الجنة وهو أعلى نعيم الجنة ومن جهة انه ايضا اثبت انه طالب مع كونه راضيا فإذا كان الرضا لا ينافي هذا الطلب فلا ينافي طلبا اخر اذا كان محتاجا الى مطلوبه

ومعلوم ان تنعمه بالنظر لا يتم الا بسلامته من النار وبتنعمه من الجنة بما هو دون النظر وما لا يتم المطلوب الا به فهو مطلوب فيكون طلبه للنظر طلبا للوازمه التي منها النجاة من النار فيكون رضاه لا ينافي طلب حصول المنفعة ولا دفع المضرة عنه ولا طلب حصول الجنة ودفع النار ولا غيرهما مما هو من لوازم النظر فتبين تناقض قوله

وايضا فإذا لم يسأل الله الجنة لم يستعذ به من النار فإما ان يطلب من الله ما هو دون ذلك مما يحتاج اليه من جلب منفعة ودفع مضرة واما ان لا يطلبه فإن طلب ما هو دون ذلك واستعاذ مما هو دون ذلك فطلبه للجنة اولى واستعاذته من النار اولى

وان كان الرضا ان لا يطلب شيئا قط ولو كان مضطرا اليه ولا يستعيذ من شيء قط ولو كان مضرا به فلا يخلو اما ان يكون ملتفتا بقلبه الى الله في ان يفعل به ذلك واما ان يكون معرضا عن ذلك فإن التفت بقلبه الى الله فهو طالب مستعيذ بحاله

ولا فرق بين الطلب بالحال والقال بل هو بهما اكمل واتم فلا يعدل عنه وان كان معرضا عن جميع ذلك فمن المعلوم انه لا يحيا ويبقى الا بما يقيم حياته ويدفع مضاره فذلك الذي به يحيا من طلب جلب المنافع ودفع المضار اما ان يحبه ويطلبه ويريده من احد او لا يحبه ولا يطلبه ولا يريده فإن احبه وطلبه واراده من غير الله كان مشركا مذموما فضلا على ان يكون محمودا

وان قال لا احبه ولا اطلبه ولا اريده لا من الله ولا من خلقه

قيل هذا ممتنع في الحي فإن الحي يمتنع عليه ان لا يحب ما به يبقى وهذا امر معلوم بالحس ومن كان بهذه المثابة امتنع ان يوصف بالرضا فإن الراضي موصوف بحب وارادة خاصة اذ الرضا مستلزم لذلك فكيف يسلب عنه ذلك كله فهذا وامثاله مما يبين فساد هذا الكلام في العقل

واما الرضا في سبيل الله وطريقه ودينه فمن وجوه

احدها ان يقال الراضي لا بد ان يفعل ما يرضاه الله الا فكيف يكون راضيا عن الله من لا يفعل ما يرضاه الله وكيف يسوغ رضا ما يكرهه الله ويسخطه ويذمه وينهى عنه

وبيان هذا ان الرضا المحمود اما ان يكون الله يحبه ويرضاه

واما ان لا يحبه ويرضاه فإن لم يكن يحبه ويرضاه لم يكن هذا الرضا مأمورا به لا امر ايجاب ولا امر استحباب فإن من الرضا ما هو كفر كرضا الكفار بالشرك وقتل الانبياء وتكذيبهم ورضاهم بما يسخطه الله ويكرهه

قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم سورة محمد 28 فمن اتبع ما يسخط الله برضاه وعمله فقد اسخط الله

وقال النبي ﷺ ان الخطيئة اذا عملت في الارض كان من غاب عنها ورضيها كمن شهدها ومن شهدها وسخطها كان كمن غاب عنها وانكرها وقال ﷺ سيكون بعدي امراء تعرفون وتنكرون فمن انكر فقد برئ ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع

وقال تعالى يحلفون لكم لترضوا عنهم فان ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين سورة التوبة 96 فرضانا عن القوم الفاسقين ليس مما يحبه الله ويرضاه وهو لا يرضى عنهم

وقال تعالى ارضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل سورة التوبة : 38 فهذا رضى قد ذمه الله

وقال تعالى ان الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها سورة يونس 7 فهذا أيضا مذموم وشواهد هذا كثيرة

فمن رضي بكفره وكفر غيره وفسقه وفسق غيره ومعاصيه ومعاصي غيره فليس هو متبعا لرضا الله ولا هو مؤمن بالله بل هو مسخط لربه وربه غضبان عليه لا عن له ذام له متوعد له بالعقاب

وطريق الله التي يأمر بها المشايخ المهتدون انما هي الامر بطاعة الله والنهي عن معصيته فمن امر واستحب او مدح الرضا الذي يكرهه الله ويذمه وينهى عنه ويعاقب اصحابه فهو عدو لله لا ولي لله وهو يصد عن سبيل الله وطريقه ليس بسالك لسبيله وطريقه

واذا كان الرضا الموجود في بني آدم منه ما يحبه الله ومنه ما يكرهه ويسخطه ومنه ما هو مباح لا من هذا ولا من هذا كسائر اعمال القلوب من الحب والبغض وغير ذلك كلها ينقسم الى محبوب لله ومكروه لله ومباح فإذا كان الامر كذلك فالراضي الذي لا يسأل الله الجنة ولا يستعيذه من النار يقال له سؤال الله الجنة واستعاذته من النار اما ان تكون واجبة واما ان تكون مستحبة واما ان تكون مباحة واما ان تكون محرمة واما ان تكون مكروهة ولا يقول مسلم انها محرمة ولا مكروهة وليست ايضا مباحة مستوية الطرفين ولو قيل انها كذلك ففعل المباح المستوى الطرفين لا ينافي الرضا اذ ليس من شرط الراضي ان لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يفعل امثال هذه الامور فإذا كان ما يفعله من هذه الامور لا ينافي رضاه اينافي رضاه دعاء وسؤال هو مباح

واذا كان الدعاء والسؤال كذلك واجبا او مستحبا فمعلوم ان الله يرضى بفعل الواجبات والمستحبات فكيف يكون الراضي الذي هو من اولياء الله لا يفعل ما يرضاه الله ويحبه بل يفعل ما يسخطه ويكرهه وهذه صفة اعداء الله لا اولياء الله

والقشيري قد ذكر هذا في اوائل باب الرضا فقال اعلم ان الواجب على العبد ان يرضى بقضاء الله الذي امر بالرضا به اذ ليس كل ما هو بقضائه يجوز للعبد او يجب على العبد الرضا به كالمعاصي وفنون محن المسلمين وهذا الذي قاله قاله قبله وبعده وغيره ومعه غير واحد من العلماء كالقاضي ابي بكر والقاضي ابي يعلى وامثالهما لما احتج عليهم بعض القدرية بأن الرضا بقضاء الله مأمور به فلو كانت المعاصي بقضاء الله لكنا مأمورين بالرضا بها الرضا بما نهى الله عنه لا يجوز فأجابهم اهل السنة عن ذلك بثلاثة اجوبة

أحدها وهو جواب هؤلاء وجماهير الائمة ان هذا العموم ليس بصحيح فلسنا مأمورين ان نرضى بكل ما قضى وقدر ولم يجيء في الكتاب والسنة امر بذلك ولكن علينا ان نرضى بما امرنا بالرضا به كطاعة الله ورسوله وهذا هو الذي ذكره ابو القاسم

والجواب الثاني انهم قالوا انا نرضى بالقضاء الذي هو صفة الله او فعله ولا نرضى بالمقضى الذي هو مفعوله وفي هذا الجواب ضعف قد بيناه في غير هذا الموضع

الثالث انهم قالوا ان هذه المعاصي لها وجهان وجه الى العبد من حيث هي فعله وصنعه وكسبه ووجه الى الرب من حيث انه خلقها وقضاها وقدرها فنرضى من الوجه الذي يضاف به الى الله ولا نرضى من الوجه الذي يضاف به الى العبد اذ كونها شرا وقبيحة ومحرمة وسببا للعذاب والذم ونحو ذلك انما هو من جهة كونها مضافة الى العبد وهذا مقام فيه من كشف الحقائق والاسرار ما قد ذكرنا منه ما ذكرنا في غير هذا الموضع ولا يحتمله هذا المكان فإن هذا متعلق بمسائل الصفات والقدر وهو من اعظم مطالب الدين واشرف علوم الاولين والاخرين وادقها على عقول اكثر العالمين

والمقصود هنا ان مشايخ الصوفية وغيرهم من العلماء قد بينوا أن من الرضا ما يكون جائزا ومنه مالا يكون جائزا فضلا عن كونه مستحبا او من صفات المقربين وان ابا القاسم ذكر في الرسالة ذلك ايضا

فإن قيل هذا الذي ذكرتموه امر بين واضح فمن اين غلط من قال الرضا ان لا تسأل الله الجنة ولا تستعيذه من النار وغلط من يستحسن مثل هذا الكلام كائنا من كان

قيل غلطوا في ذلك لأنهم رأوا ان الراضي بأمر لا يطلب غير ذلك الامر فالعبد اذا كان في حال من الاحوال فمن رضاه ان لا يطلب غير تلك الحال ثم انهم رأوا ان اقصى المطالب الجنة واقصى المكاره النار فقالوا ينبغي ان لا يطلب شيئا ولو انه الجنة ولا يكره شيئا ولو انه النار فهذا وجه غلطهم ودخل الضلال عليهم من وجهين

احدهما ظنهم ان الرضا بكل ما يكون امر يحبه الله ويرضاه وان هذا من اعظم طرق اولياء الله فجعلوا الرضا بكل حادث وكائن او بكل حال يكون فيها العبد طريقا الى الله فضلوا ضلالا مبينا الطريق الى الله انما هي ان ترضيه بأن تفعل ما يحبه ويرضاه لا ان ترضى بكل ما يحدث ويكون فإنه هو لم يأمرك بذلك ولا رضيه لك ولا احبه بل هو سبحانه يكره ويسخط ويبغض على اعيان او افعال موجودة لا يحصيها الا هو

وولاية الله موافقته بأن تحب ما يحب وتبغض ما يبغض وتكره ما يكره وتسخط ما يسخط وتوالي من يوالي وتعادي من يعادي فإذا كنت تحب وترضى ما يسخطه ويكرهه كنت عدوه ولا وليه وكان كل ذم نال من رضي ما اسخط الله قد نالك فتدبر هذا فإنه تنبيه على اصل عظيم ضل فيه من طوائف النساك والصوفية والعباد العامة من لا يحصيهم الا الله

الوجه الثاني انهم لم يفرقوا بين الدعاء الذي امروا به امر ايجاب وامر استحباب وبين الدعاء الذي نهوا عنه او لم يؤمروا به ولم ينهوا عنه فإن دعاء العبد لربه ومسألته اياه ثلاثة انواع

نوع امر به العبد اما امر ايجاب واما امر استحباب مثل قوله اهدنا الصراط المستقيم سورة الفاتحة 6 ومثل دعائه في اخر الصلاة كالدعاء الذي كان النبي ﷺ يأمر به اصحابه فقال اذا قعد احدكم في التشهد فليستعذ بالله من اربع من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال فهذا دعاء امر به النبي ﷺ الصحابة ان يدعوا به في اخر صلاتهم وقد اتفقت الامة على انه مشروع يحبه الله ورسوله ويرضاه وتنازعوا في وجوبه فأوجبه طاووس وطائفة وهو قول في مذهب احمد والأكثرون قالوا هو مستحب

والادعية التي كان النبي ﷺ يدعو بها او يعلم اصحابه ان يدعوا بها لا تخرج عن ان تكون واجبة او مستحبه وكل واحد من الواجب والمستحب فالله يحبه ويرضاه ومن فعله رضي الله عنه وارضاه فهل يكون من الرضا ترك ما يحبه ويرضاه

ونوع من الدعاء ينهى عنه كالاعتداء في الدعاء مثل ان يسأل الرجل ما لا يصلح له مما هو من خصائص الانبياء وليس هو بنبي وربما هو من خصائص الرب سبحانه وتعالى مثل ان يسأل لنفسه الوسيلة التي لا تصلح الا لعبد من عباده او يسأل الله ان يجعله افضل من اولياء الله حتى يكون افضل من ابي بكر وعمر او يسأل الله ان يجعله بكل شيء عليم او على كل شيء قدير او يرفع عنه كل حجاب يمنعه من مطالعة الغيوب وامثال ذلك او مثل من يدعوه ظانا انه محتاج الى عباده وانهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب منه ذلك الفعل ويذكر انه اذا لم يفعله حصل له ضير من الخلق فهذا ونحوه جهل بالله واعتداء في الدعاء وان وقع في نحو ذلك طائفة من الشيوخ

ومثل ان يقول اللهم اغفر لي ان شئت فيظن ان الله قد يفعل الشيء مختارا وقد يعقله مكرها كالملوك فيقول اغفر لي ان شئت

وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك وقال لا يقل احدكم اللهم اغفر لي ان شئت اللهم ارحمني ان شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ومثل ان يقصد السجع في الدعاء ويتشهق ويتشدق وامثال ذلك

فهذه الادعية ونحوها منهى عنها ومن الدعاء ما هو مباح كطلب الفضول التي لا معصية فيها

والمقصود ان الرضا الذي هو من طريق الله لا يتضمن ترك واجب ولا ترك مستحب فالدعاء الذي هو واجب او مستحب لا يكون تركه من الرضا كما ان ترك سائر الواجبات لا يكون من الرضا المشروع ولا فعل المحرمات من الرضا المشروع

فقد تبين غلط هؤلاء من جهة ظنهم ان الرضا مشروع بكل مقدور ومن جهة انهم لم يميزوا بين الدعاء المشروع ايجابا او استحبابا والدعاء غير المشروع وقد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان طلب الجنة من الله والاستعاذة به من النار هو من اعظم الادعية المشروعة لكل احد من المرسلين والنبيين وجميع الصديقين والشهداء والصالحين وان ذلك لا يخرج عن كونه واجبا او مستحبا وطريق اولياء الله التي يسلكونها لا تخرج عن فعل واجبات ومستحبات اذ ما سوى ذلك محرم او مكروه او مباح لا منفعة فيه في الدين

ثم انه مما اوقع هؤلاء في هذا الغلط انهم وجدوا كثيرا من الناس لا يسألون الله جلب المنافع ودفع المضار حتى طلب الجنة والاستعاذة من النار من جهة كون ذلك عبادة وطاعة وخيرا بل من جهة كون النفس تطلب ذلك فرأوا ان من الطريق ترك ما تختاره النفس وتريده وان لا يكون لأحدهم ارادة اصلا بل يكون مطلوبه الجريان تحت القد كائنا من كان وهذا هو الذي ادخل كثيرا منهم في الرهبانية والخروج عن الشريعة حتى تركوا من الاكل والشرب واللباس والنكاح ما يحتاجون اليه وما لا تتم مصلحة دينهم الا به فانهم رأوا العامة تعد هذه الامور عبادة بحكم الطبع والهوى والعادة ومعلوم ان الافعال التي تقع على هذا الوجه لا تكون عبادة ولا طاعة ولا قربة فرأى اولئك ان الطريق الى الله ترك هذه الامور لأنها من الطبيعيات والعادات فلازموا من الجوع والسهر والخلوة والصمت وغير ذلك مما فيه ترك الحظوظ واحتمال المشاق ما اوقعهم في ترك واجبات ومستحبات وفعل مكروهات ومحرمات

وكلا الأمرين غير محمود ولا مأمور به ولا طريق الى الله طريق المفرطين الذين فعلوا هذه الامور المحتاج اليها على غير وجه العبادة والقربة الى الله وطريق المعتدين الذين تركوا هذه الافعال بل المشروع ان تفعل بنية التقرب الى الله وان يشكر الله

قال تعالى كلوا من الطيبات واعملوا صالحا سورة المؤمنون 51 وقال تعالى كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله سورة البقرة 172 فأمر بالأكل والشكر فمن أكل ولم يشكر كان مذموما ومن لم يأكل لم يشكر كان مذموما

وفي الصحيح عن النبي ﷺ انه قال ان الله ليرضى عن العبد ان يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها

وقال النبي ﷺ لسعد انك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله الا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة ترفعها الى في امرأتك

وفي الصحيح ايضا انه اذا انفق الرجل على اهله يحتسبها فهو له صدقة





******************************
/14
الاستقامة/14

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/13 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/15










فكذلك الادعية هب ان من الناس من يسأل الله جلب المنفعة له ودفع المضرة عنه طبعا وعادة لا شرعا وعبادة فليس من المشروع لي ان ادع الدعاء مطلقا لأجل تقصير هذا وتفريطه بل افعله انا شرعا وعبادة

ثم اعلم ان الذي يفعله شرعا وعبادة انما يسعى في مصلحة نفسه وطلب حظوظه المحمودة فهو يطلب مصلحة دنياه واخرته بخلاف الذي يفعله طبعا فإنه انما يطلب مصلحة دنياه فقط كما قال تعالى فمن الناس من يقول ربنا اتنا في الدنيا وما له في الاخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار اولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب سورة البقرة 200 202 وحينئذ فطالب الجنة والمستعيذ من النار انما يطلب حسنة الاخرة فهو محمود

ومما يبين الامر في ذلك ان يرد قول هؤلاء بأن العبد لا يفعل مأمورا ولا يترك محظورا فلا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق ولا يحج ولا يجاهد ولا يفعل شيئا من الخير فإن ذلك انما فائدته حصول الثواب ودفع العقاب فاذا كان هو لا يطلب حصول الثواب الذي هو الجنة ولا دفع العقاب الذي هوالنار فلا يفعل مأمورا ولا يترك محظورا ويقول انا راض بكل ما يفعله بي وان كفرت وفسقت وعصيت بل يقول انا اكفر وافسق واعصي حتى يعاقبني وارضى بعقابه فأنال درجة الرضا بقضائه وهذا قول من هو اجهل الخلق واحمقهم واضلهم واكفرهم

اما جهله وحمقه فلأن الرضا بذلك ممتنع متعذر ولأن ذلك مستلزم الجمع بين النقيضين واما كفره فلأنه مستلزم لتعطيل دين الله الذي بعث به رسله وانزل به كتبه ولا ريب ان ملاحظة القضاء والقدر اوقعت كثيرا من اهل الارادة من المتصوفةفي ان تركوا من المأمور وفعلوا من المحظور ما صاروا به إما ناقصين محرومين وإما عاصين وإما فاسقين وإما كافرين وقد رأيت من ذلك الوانا ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور سورة النور 40

وهؤلاء والمعتزلة ونحوهم من القدرية في طرفي نقيض

هؤلاء يلاحظون القدر ويعرضون عن الامر واولئك يلاحظون الامر ويعرضون عن القدر والطائفتان تظن ان ملاحظة الامر والقدر متعذر كما ان طائفة تجعل ذلك مخالفا للحكمة والعدل

وهذه الاصناف الثلاثة هي القدرية المجوسية والقدرية المشركية القدرية الابليسية وقد بسطنا الكلام على هذه الفرق في غير هذا الموضع

واكثر ما يبتلى به السالكون اهل الاراداة والعامة في هذا الزمان هي القدريةالمشركية فيشهدون القدر ويعرضون عن الامر كما قال فيهم بعض العلماء انت عند الطاعة قدرى وعند المعصية جبري أي مذهب وافق هواك تمذهبت به وانما المشروع العكس وهوان يكون عند الطاعة يستعين الله عليها قبل الفعل ويشكره عليها بعد الفعل ويجتهد ان لا يعصى فإذا اذنب وعصى بادر الى التوبة والاستغفار

كما في الحديث سيد الاستغفار ان يقول العبد ابوء لك بنعمتك علي وابوء بذنبي فاغفر لي وكما في الحديث الصحيح الالهي يا عبادي انما هي اعمالكم احصيها لكم ثم اوفيكم اياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك لا يلومن الا نفسه

ومن هذا الباب دخل قوم من اهل الارادة في ترك الدعاء واخرون جعلوا التوكل والمحبة ونحو ذلك من مقامات العامة وامثال هذه الاغاليط التي قد تكلمنا عليها في غير هنا الموضع

وبينا الفرق بين الصواب والخطأ في ذلك ولهذا وامثاله يوجد في كلام ائمة هؤلاء المشايخ الوصية باتباع العلم والشريعة كقول سهل بن عبدالله التستري رحمه الله العمل بلا اقتداء عيش النفس والعمل بالاقتداء عذاب على النفس وقال كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل وقال الجنيد بن محمد من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة وقال احمد بن ابي الحواري من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول ﷺ فباطل عمله
فصل في السكر واسبابه وأحكامه

قد تكلمت فيما مضى من القواعد على معاني الفناء الموجود في كلام المشايخ والصوفية وانه ثلاثة اقسام قسم كامل للسابقين وقسم ناقص لأصحاب اليمين وقسم ثالث للظالمين الفاسقين والكافرين

فالأول الفناء عن عبادة ما سوى الله والاستعانة به بحيث لا يعبد الا الله ولا يستعين الا بالله وهذا هو دين الاسلام

والثاني الفناء عن شهود ما سوى الله بحيث يغيب بمشهوده عن شهوده وهذا لمن لم يقدر على الجمع بين شهود الحقائق وعبادة الخالق بل ما شهده عنده ومعبوده واحد فمشهوده واحد وهذا يعتري كثيرا كالعيسوية من هذه الامة الذين لهم وصف العبادة دون الشهادة فلهم قوة في العبادة والانابة والمحبة يجتذبهم ذلك الى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم وليس لهم قوة مع ذاك على شهود سائر ما يقوم به من الكائنات وما يستحقه من الاسماء والصفات فهؤلاء اذا لم يتركوا واجبا لم يضرهم وان تركوا مستحبا مشتغلين عنه بما هو افضل منه لم ينقلوا عن مقامهم وان اشتغلوا عما تركوه من المستحب بما ليس مثله فانتقالهم الى ذلك الافضل افضل اذا امكن والا ففعل المقدور عليه من الصالحات خير من الاهتمام بما يعجز عنه ويصد عن غيره وان تركوا واجبا او فعلوا محرما مع امكان العلم والقدرة فهم مؤاخذون على ذلك وان كان مع سقوط التمييز لسبب يعذرون به مثل زوال عقل بسبب غير محظور او سكر بسبب غير محظور او عجز لا تفريط فيه فلا ذم عليهم وان كان مع التكليف فسبب الذم قائم ثم لهم حكم الله فيهم كما لسائر المؤمنين من كون الذنب صغيرا او كبيرا مقرونا بحسنات ماحية او غير ذلك من احكام السيئات مالم يخرجوا الى القسم الثالث وهو فناء الكافرين وهو جعل وجود الاشياء هو عين وجود الحق او جود نفسه عين وجوده كما بيناه من مذاهب اهل الحلول والاتحاد في غير هذا الموضع فان هذا كفر وصاحبه كافر بعد قيام الحجة عليه وان كان جاهلا او متأولا لم تقم عليه الحجة كالذي قال اذا انا مت فاحرقوني ثم ذروني في اليم فهذا امره الى الله تعالى

كما قال تعالى يا ايها الذين امنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون سورة النساء 43 فجعل الغاية التي يزول بها حكم السكر ان يعلم ما يقول فمتى كان لا يعلم ما يقول فهو في السكر واذا علم ما يقول خرج عن حكمه فهذا اصل يجب اعتماده وهذا هو حد السكران عند جمهور العلماء

قال احمد بن حنبل بما نقله عن سعيد بن جبير انه قال اذا لم يعلم بثيابه من ثياب غيره ولا نعله من نعال غيره فجعل ذلك عدم التمييز بين ثوبه وثوب غيره ويروي عن الشافعي انه قال اذا اختلط كلامه المنظوم وافشى سره المكتوم

فالسكر يجمع معنيين وجود لذة وعدم تمييز والذي يقصد السكر قد يقصد احدهما وقد يقصد كلاهما وهو اثم فإن النفس لها اهواء وشهوات تلتذ بنيلها وادراكها والعقل والعلم بما في تلك الافعال من المضرة في الدنيا والاخرة يمنعها عن ذلك فإذا زال العقل الحافظ انبسطت النفس في اهوائها

وحرم الله السكر لسببين ذكرهما الله في كتابه بقوله انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة سورة المائدة 91 فأخبر انه يوجب المفسدة الفاشية من النفس بعدم العقل ويمنع المصلحة التي لا تتم الا بالعقل التي خلق لها العبد وهي ذكر الله والصلاة

وقد يكون سبب السكر من الألم كما يكون من اللذة كما قال تعالى وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد سورة الحج 2 فأخبر انهم يرون سكارى وما هم بسكارى

فإذا عرف ذلك فسبب السكر ما يوجب اللذة ويمنع العلم فمنه السكر بالأطعمه والاشربة المسكرة فإن طاعمها يحصل له بذلك لذة وسرور وهو الحامل لأكثر الناس على شربها ويغيب عقله فتغيب عنه الهموم والاحزان تلك الساعة

ومن الناس من يقصد المنفعة للبدن ولكن يحصل له من المضرة بالأفعال والأقوال التي تتولد عن السكر ويمنع عن المنفعة من ذكر الله والصلاة وغيرهما ما هو اعظم اثما من منفعتها فإن اللذة الحاصلة بذكر الله والصلاة باقية دافعة للهموم والاحزان ليس دفعه اياه وقت الصلاة فقط كما قال تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة سورة البقرة 45 وقال ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر سورة العنكبوت 45 ففي هذه اللذة والمنفعة العظيمة الشريفة الدافعة للمضار ما يغني عن تلك القاصرة المانعة مما هو اكمل منها والجالبة لمضرة تربي عليها وهذا السكر جسماني

ومن السكر ما يكون بحب الصور اما النساء واما الصبيان فإنه اذا استحكم الحب وحصل للمحب اتصال فقد يسكر كما قال بعضهم ... سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى إفاقة من به سكران ...

ووقت الجماع ينقص تمييز اكثر الناس ايضا وهو مبدأ سكر

ومن السكر ايضا ما يكون بحب الرياسة والمال او شفاء الغيظ فإنه اذا قوى ذلك اوجب سكرا وانما كانت هذه الاشياء قد توجب سكرا لأن السكر شبيه ما يوجب اللذة القاهرة التي تغمر العقل

وسبب اللذة ادراك المحبوب فإذا كانت المحبة قوية وادراك المحب قويا والعقل والتمييز ضعيفا كان ذلك سببا للسكر لكن ضعف العقل تارة يكون من ضعف نفس الانسان المحب وتارة يكون من قوة السبب الوارد ولهذا يحصل من السكر للمبتدئين في ادراك الرياسة والمال والعشق والخمر ما لا يحصل لمن اعتاد ذلك وتمكن فيه
فصل

ومن أقوى الأسباب المقتضية للسكر سماع الأصوات المريبة من وجهين من جهة انها في نفسها توجب لذة قوية ينغمر معها العقل ومن جهة أنها تحرك النفس إلى نحو محبوبها كائنا ما كان فتحصل بتلك الحركة والشوق والطلب مع ما قد تخيل المحبوب وتصوره لذات عظيمة تقهر العقل أيضا فتجتمع لذة الألحان والاشجان ولهذا يقرن سماع الألحان بالشرب كثيرا إما شراب الأجسام وإما شراب النفوس وإما شراب الأرواح وهو ما يقترن بالصوت من الأقوال التي فيها ذكر الحب والمحبوب وأحوالهما فإن سماع الأقوال شراب وغذاء وقوت للقلوب فيجتمع سماع الحروف الطيبة والاصوات الطيبة فإن ذلك اقوى مما اذا انفرد احدهما مثل سماع كلام يطيب للمستمع بلا اصوات ملحنة مثل من يناجي بحديث لحنه او يجهر به جهرا قريبا ومثل سماع اصوات طيبة لا حروف فيها كأصوات الطيور الطيبة واصوات الآلات المصنوعة من العيدان والاوتار والشبابة والصوت الذي يلحنه الآدمي بلا حروف ونحو ذلك فأما اذا اجتمع هذا وهذا فهو اقوى ويؤثر في النفوس تأثيرا عظيما كتأثير الخمر او اشد
فصل

اذا تبين هذا فاعلم ان اللذة والسرور امر مطلوب بل هو مقصود كل حي وكونه امرا مطلوبا ومقصودا امر ضروري من وجود الحي وهو في المقاصد والغايات بمنزلة الحس والعلوم البديهية في المبادئ والمقدمات

فإن الانسان بل وكل حي له علم واحساس وله عمل وارادة فعلمه لا يجوز ان يكون كله نظريا استدلاليا يقف على الدليل بل لا بد له من علم بديهي اولى لأنه لو وقف كل علم على علم اخر لزم الدور او التسلسل فإنه اذا توقف العلم الثاني على علم اول فالأول ان توقف على ذلك الثاني بحيث لا يكون الا بعده لزم الدور وان توقف على شيء قبل ذلك الاول لزم التسلسل فلا بد من علم اول يحصل ابتداء بلا علم قبله ولا دليل ولا حجة ولا مقدمة

وذلك علم بده النفس وابتدئ فيها وهو اول فيسمى بديهيا واوليا وهو من نوع ما تضطر النفس اليه فيسمى ضروريا فإن النفس تضطر الى العلم تارة والى العمل اخرى

وذلك العمل الاختيار الارادي له مراد فذلك المراد اما ان يراد لنفسه او لشيء اخر ولا يجوز ان يكون كل مراد لغيره لانه ان كان الذي قبله دائما لزم الدور وان كان الذي بعده دائما لزم التسلسل فلا بد من مراد مطلوب محبوب لنفسه فإذا حصل المحبوب المطلوب المراد فاقتران اللذة والنعمة والفرح والسرور به على مقدار قوة محبته وارادته وقوته في نفسه امر ذوقي وجودي ضروري ولهذا غلب على كلام العباد الصوفية اهل الارادة والعمل اسم الذوق والسرور والنعمة

فالشهوة والارادة والمحبة والطلب ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة اذا تعقبها الذوق والوجد والادراك والوصول والنيل والاصابة ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة تعقب ذلك النعمة والسرور واللذة والطيب ونحو ذلك من الاسماء المتقاربة

فان جنس اللذة يتعقب ادراك الملائم المطلوب ليس هومدرك الملائم المطلوب كما يعتقده بعض اهل الفلسفة والكلام وكما غلب على اهل التصوف والعبادة ذكر ذلك وغلب على كلام العلماء المتكلمين اهل النظر والبحث والكلام اهل البديهة والنظر والضرورة والدليل والاستدلال

وكل واحد من هذين الامرين تحته اجناس واصناف بعضها حق وبعضها باطل فلهذا وجب اعتبار ذلك جميعه بالكتاب والسنة فخير الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد

ولهذا كان ائمة الهدى ممن يتكلم في العلم والكلام او في العمل والهدى والتصوف يوصون باتباع الكتاب والسنة وينهون عما خرج عن ذلك كما امرهم الله والرسول وكلامهم في ذلك كثير منتشر مثل قول سهل بن عبد الله التستري كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل
فصل

واذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي انما تذم اذا اعقبت الما اعظم منها او منعت لذة خيرا منها وتحمد اذا اعانت على اللذة المستقرة وهو نعيم الاخرة التي هي دائمة عظيمة كقوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوا منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين ولأجر الاخرة خير للذين امنوا وكانوا يتقون سورة يوسف 56 57

وقال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والاخرة خير وابقى سورة الاعلى 16 17 وقال تعالى عن السحرة الذين امنوا فاقض ما انت قاض انما تقضي هذه الحياة الدنيا الى قوله والله خير وابقى سورة طه 72 73

والله سبحانه انما خلق الخلق لدار القرار وهي الجنة والنار فأما الدار الدنيا فمنقطعة ولذاتها لا تصفوا ولا تدوم ابدا بخلاف الاخرة فإن لذاتها ونعيمها صاف من الكدر دائم غير منقطع ليس فيها حزن ولا نصب ولا لغوب واهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يمتخطون بل فيها ما تشتهي الانفس وتلذ الاعين وهم فيها خالدون فشهوة النفوس ولذة العيون هو النعيم الخالص والخلود هو الدوام والبقاء فلا تعلم نفس ما اخفى لهم من قرة اعين جزاء بما كانوا يعملون سورة السجدة 17 فإن الله اعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعهم عليه

وهذا المعنى هو الذي قاله العبد الصالح حيث قال يا قوم اتبعوني اهدكم سبيل الرشاد ياقوم انما هذه الحياة الدنيا متاع وان الاخرة هي دار القرار سورة غافر 38 39 فأخبر ان الدنيا متاع نتمتع بها الى غيرها وان الاخرة هي المستقر

واذا عر ف ان لذات الدنيا ونعيمها انما هي متاع ووسيلة الى لذات الاخرة وكذلك خلقت فكل لذة اعانت على لذات الاخرة فهو مما امر الله به ورسوله ويثاب على تحصيل اللذة بما يئوب اليه منها من لذات الآخرة التي اعانت هذه عليها ولهذا كان المؤمن يثاب على ما يقصد به وجه الله من اكله وشربه ولباسه ونكاحه وشفاء غيظه بقهر عدوه في الجهاد في سبيل الله ولذة علمه وايمانه وعبادته وغير ذلك ولذات جسده ونفسه وروحه من اللذات الحسية والوهمية والعقلية

وكل لذة اعقبت الما في الدار الاخرة او منعت لذة الاخرة فهي محرمة مثل لذات الكفار والفساق بعلوهم في الارض وفسادهم مثل اللذة التي تحصل بالكفر والنفاق كلذة الذين اتخذوا من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله ولذة عقائدهم الفاسدة وعباداتهم المحرمة ولذة غلبهم للمؤمنين الصالحين وقتل النفوس بغير حقها والزنا والسرقة وشرب الخمر ولهذا اخبر الله ان لذاتهم املاء ليزدادوا اثما وانها مكر واستدراج مثل اكل الطعام الطيب الذي فيها سم وهذا المعنى قد قررته ايضا في قاعدة السكر

واما اللذة التي لا تعقب لذة في دار القرار ولا الما ولا تمنع لذة دار القرار فهذه لذة باطلةاذ لا منفعة فيها ولا مضرة وزمانها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد ان تشغل عما هو خير منها في الاخرة وان لم تشغل عن اصل اللذة في الاخرة

وهذا هو الذي عناه النبي ﷺ بقوله كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فانهن من الحق رواه مسلم وكقوله لعمر لما دخل عليه وعنده جواري يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال ان هذا رجل لا يحب الباطل فإن هذا اللهو فيه لذة ولولا ذلك لما طلبته النفوس

ولكن ما اعان على اللذة المقصودة من الجهاد والنكاح فهو حق واما ما لم يعن على ذلك فهو باطل لا فائدة فيه ولكن اذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه ولكن قد يكون فعله مكروها لأنه يصد عن اللذة المطلوبة اذ لو اشتغل اللاهي حين لهوه بما ينفعه ويطلب له اللذة المقصودة لكان خيرا له والنفوس الضعيفة كنفوس الصبيان والنساء قد لا تشتغل اذا تركته بما هو خير منها لها بل قد تشتغل بما هو شر منه او بما يكون التقرب الى الله بتركه فيكون تمكينها من ذلك من باب الاحسان اليها والصدقة عليها كإطعامها واسقائها فلهذا قال النبي ﷺ ان بعض انواع اللهو من الحق وكان الجواري الصغيرات يضربن بالدف عنده وكان ﷺ يمكنهن من عمل هذا الباطل بحضرته احسانا اليهن ورحمة بهن وكان هذا الامر في حقه من الحق المستحب المأمور به وان كان هو في حقهن من الباطل الذي لا يؤمر احد سواهن به كما كان اعطاؤه المؤلفة قلوبهم مأمورا به في حقه وجوبا أو استجابا وإن لم مأمور به لأحد كما كان مزاحه مع من يمزح معه من الاعراب والنساء والصبيان تطييبا لقلوبهم وتفريحا لهم مستحبا في حقه يثاب عليه وان لم يكن اولئك مأمورين بالمزح معه ولا منهيين عن ذلك

فالنبي ﷺ يبذل للنفوس من الاموال والمنافع ما يتألقها به على الحق المأمور ويكون المبذول مما يلتذ فيه الاخذ ويحبه لان ذلك وسيلة الى غيره ولا يفعل ﷺ ذلك مع من لا يحتاج الى ذلك كالمهاجرين والانصار بل بذل لهم انواعا اخر من الاحسان والمنافع في دينهم ودنياهم

وعمر رضي الله عنه لا يحب هذا الباطل ولا يحب سماعه وليس هو مأمورا اذ ذاك من التأليف بما امر به النبي ﷺ حتى تصبر نفسه على سماعه فكان اعراض عمر عن الباطل كمالا في حقه وحال النبي ﷺ اكمل

ومحبة النفوس للباطل نقص لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال ولا يمكن ذلك فيهم فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة لم يحرم عليهم ما لا يمنعهم من دخولها

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا اربعة

هذا مع العلم بأن الجنة يدخلها كثير من النساء والرجال اكثر من الذين كملوا من الطائفتين
فصل

فإذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وهو اللذة وعدمي وهو عدم العقل والتمييز وقد تقدم الكلام على اللذة وان جنسها لا يذم إلا لمعارض راجح من فوات منفعة او دخول مضرة وتحمد اذا كانت مقصودة او معينة على المقصود

واما الوصف الاخر وهو عدم العقل والتمييز فهذا لا يحمد بحال من جهة نفسه فليس في كتاب الله ولا سنة رسوله مدح وحمد لعدم العقل والتمييز والعلم

بل قد مدح الله العلم والعقل والفقه ونحو ذلك في غير موضع وذم عدم ذلك في مواضع مثل قوله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون سور الزمر 9

وقال وما يستوي الاحياء ولا الاموات سورة فاطر 22

وقال تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون اولئك الذين خسروا انفسهم وضل عنهم ما كانو يفترون الى قوله مثل الفريقين كالأعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا افلا تذكرون سورة هود 24

وقال ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم اعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها اولئك كالأنعام بل هم اضل اولئك هم الغافلون سورة الاعراف 179

وقال ام تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم اضل سبيلا سورة الفرقان 44

وقال شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولوا العلم سورة آل عمران 18

وقال لتعلموا ان الله على كل شيء قدير وان الله قد احاط بكل شئ علما سورة الطلاق 12

وقال فاعلم انه لا اله الا الله سورة محمد 19

وقال وقل رب زدني علما سورة طه 114

وقال اعلموا ان الله شديد العقاب وان الله غفور رحيم سورة المائدة 98

وقال افلا يتدبرون القرآن ام على قلوب اقفالها سورة محمد 24

وقال او لم ينظروا في ملكوت السموات والارض وما خلق الله من شيء سورة الاعراف 185 وقال فاعتبروا يا اولي الابصار سورة الحشر 2

وهذا كثير في القرآن يأمر ويمدح التفكر والتدبر والتذكر والنظر والاعتبار والفقه والعلم والعقل والسمع والبصر والنطق ونحو ذلك من انواع العلم واسبابه وكماله ويذم اضداد ذلك

فصل فإذا تبين أن جنس عدم العقل والفقه لا يحمد بحال في الشرع بل

يحمد العلم والعقل ويؤمر به أمر إيجاب أو أمر استجاب ولكن من العلم مالا يؤمر به الشخص نوعا أو عينا إما لأنه لا منفعة فيه له لأنه يمنعه عما ينفعه وقد ينهى عنه إذا كان فيه مضرة له وذلك ان من العلم مالا يحمله عقل الانسان فيضره كما قال علي بن ابي طالب رضي الله عنه حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون اتحبون ان يكذب الله ورسوله وقال عبد الله بن مسعود ما من رجل يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم الا كان فتنة لبعضهم

ومن الكلام ما يسمى علما وهو جهل مثل كثير من علوم الفلاسفة واهل الكلام والاحاديث الموضوعة والتقليد الفاسد واحكام النجوم ولهذا روى ان من العلم جهلا ومن القول عيا ومن البيان سحرا

ومن العلم ما يضر بعض النفوس لاستعانتها به على اغراضها الفاسدة فيكون بمنزلة السلاح للمحارب والمال للفاجر ومنه ما لامنفعة فيه لعموم الخلق مثل معرفة دقائق الفلك وثوابته وتوابعه وحركة كل كوكب فإنه بمنزله حركات التغير عندنا ومنه ما يصد عما يحتاج اليه فإن الانسان محتاج الى بعض العلوم والى اعمال واجبة فاذا اشتغل بما لا يحتاج اليه عما يحتاج اليه كان مذموما

فبمثل هذه الوجوه يذم العلم بكونه ليس علما في الحقيقة وان سماه اصحابه وغيرهم علما وهذا كثير حدا او يكون الانسان يعجز عن حمله او يدعوه ويعينه على ما يضره او يمنعه عما ينفعه

وقد يكون في حق الانسان لا محمودا ولا مذموما هذا كله في جنس العلم

وكذلك القوة التي بها يعلم الانسان ويعقل وتسمى عقلا فهذه لا يحمد عدمها ايضا الا اذا كان بوجودها يحصل ضرر فان من الناس من لو جن لكان خيرا له فإنه يرتفع عنه التكليف وبالعقل يقع في الكفر والفسوق والعصيان

فإن العقل قد يراد به القوة الغريزية في الانسان التي بها يعقل وقد يراد به نفس ان يعقل ويعى ويعلم

فالأول قول الامام احمد وغيره من السلف العقل غريزة والحكمة فطنة

والثاني قول طوائف من اصحابنا وغيرهم العقل ضرب من العلوم الضرورية

وكلاهما صحيح فإن العقل في القلب مثل البصر في العين يراد به الادراك تارة ويراد به القوة التي جعلها الله في العين يحصل بها الادراك فإن كل واحد من علم العبد واداركه ومن علمه وحركته حول ولكل منهما قوة ولا حول ولا قوة الا بالله

ولهذا تجد المشايخ الاصحاء من الصوفية يوصون بالعلم ويأمرون باتباعه كما تجد الاصحاء من اهل العلم يوصون بالعمل ويأمرون به لما يخاف في كل طريقة من ترك ما يجب من الاخرى
فصل

فهكذا زوال العقل بالسكر هو من نوع زواله بالإغماء والجنون ونحو ذلك فهذا لا يؤمر به المؤمنون بحال ولا يحمد منهم وان حصل لهم مع ذلك ذوق ايماني ووجد عرفاني مما هو محمود ومأمور به فذاك هوالمحمود لا عدم العقل والتمييز

ولهذا لم يكن في الصحابة من حاله السكر لا عند سماع القرآن ولا عند غيره ولا تكلم الاولون بالسكر وانما تكلم به طائفة من متأخري الصوفية صار يحصل لهم نوع سكر بما في قلوبهم من الذوق والوجد مع سقوط التمييز والعقل ويفرقون بين الصحو والسكر

والسكر لهؤلاء هو من جنس الاغماء والغشي الحاصل عند السماع الذي حدث في بعض التابعين من البصريين وغيرهم فإن لسكر والاغماء والغشي كلها زوال العقل والتمييز لكن تفترق اسبابها واذواقها فقد يكون احد الذوقين والوجدين عن محبة ولذة وقد يكون عن خشية والم وقد يكون عن عجز عن الاداراك لفرط العظمة التي تجلت للإنسان كما وقع لموسى عليه السلام

فهذه الامور يجب ان يعرف انها ليست كمالا مطلقا كالفناء لكن يحمد ما فيها من الامور المحمودة الايمانية من ذوق او وجد ايماني مشروع او محبة ايمانية اوخشية ايمانية ولا يحمد منها ما زاد على المستحب وما شغل عن ما هو احب منه

ويذم منها ما تضمن ترك واجب من علم او عمل اوفعل محرم لكن اذا كان المذموم بغير تفريط من العبد ولا عن عدوان منه لم يذم منه

وكما ذكرت مثل ذلك في قاعة المولهين وعقلاء المجانين والمغلوبين في احوالهم ومن يسلم اليه حاله ومن لا يسلم اليه حاله فإن السكر نوع من الغلبة ويذم من لم يحصل له من هذه الاحوال ما يجب حصوله كما ينقص من عدم منها ما يستحب حصوله فهكذا يجب التفصيل في هذه الاحوال والله اعلم
فصل

فقد تبين ان احد وصفي السكر منفعة في الاصل والوصف الاخر اثم كما قال تعالى عن الخمر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس واثمهما اكبر من نفعهما سورة البقرة 219 وقد يقترن باللذة ما يمنع ان تكون مصلحة اذا استعين بها على اثم وعدوان كما يستعان بالاكل والشرب على الكفر والفسوق والعصيان وقد يقترن بعدم العقل ما يمنع ان يكون مفسدة اذا استعين به على ترك الاثم والعدوان

فالاصل حمد علم القلب وذوقه ولذته ما لم يشتمل على مفسدة راجحة بل وذوق الجسم ولذته مع علم القلب وعقله لأن هذه كلها خيرات فإن العلم خير وذوق القلب خير واللذة به خير لكن قد يعارضها ما يجعلها شرا

واذا لم يجتمع التمييز واللذة بل اما صحو بلا لذة او لذة بلا صحو فقد يترجح هذا تارة وهذا تارة فأما المؤمنون فالصحو خير لهم فإن السكر يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة ويوقع بينهم العداوة والبغضاء وكذلك العقل خير لهم لأنه يزيدهم ايمانا

واما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين اما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة بل يصده عن الكفر والفسق واما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء فيكون ذلك خيرا للمؤمنين وليس هذا اباحة للخمر والسكر ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما

ولهذا كنت امر اصحابنا ان لا يمنعوا الخمر عن اعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم واقول اذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة بل عن الكفر والفساد في الارض ثم انه يوقع بينهم العداوة والبغضاء وذلك مصلحة للمسلمين فصحوهم شر من سكرهم فلا خير في اعانتهم على الصحو بل قد يستحب او يجب دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره

فهذا في حق الكفار ومن الفساق الظلمة من اذا صحا كان في صحوه من ترك الواجبات واعطاء الناس حقوقهم ومن فعل المحرمات والاعتداء في النفوس والاموال ما هو اعظم من سكره فإنه اذا كان يترك ذكر الله والصلاة في حال سكره ويفعل ما ذكرته في حال صحوه وإذا كان في حال صحوه يفعل حروبا وفتنا لم يكن في شربه ما هو اكثر من ذلك ثم اذا كان في سكره يمتنع عن ظلم الخلق في النفوس والاموال والحريم ويمسح ببذل اموال تؤخذ على وجه فيه نوع من التحريم ينتفع بها الناس كان ذلك اقل عذابا ممن يصحو فيعتدى على الناس في النفوس والاموال والحريم ويمنع الناس الحقوق التي يجب اداؤها

فالحاصل انه تجب الموازنة بين الحسنات والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وامثاله وجودا وعدما كما قررت مثل ذلك في قاعدة تعارض السيئات والحسنات فان السكر والصحو قد يكونان من هذا الباب وهكذا الكسر والصحو في الأذواق الايمانية والمواجيد العرفانية

فمن السالكين من اذا حصل له سكر حصل له فيه منفعة وايمان وان كان فيه من النقص وعدم التمييز مما يحتاج معه الى العقل ما فيه فيكون خيرا من صحو ليس فيه الا الغفلة عن ذكر الله وقسوة القلوب والكفر والفسوق والخيلاء ونحو ذلك من ترك الحسنات وفعل السيئات

واما الصحو المشتمل على العلم والايمان وتذوق صاحبه طعم الايمان ووجد حلاوته فهو خير من السكر بلا شك فعليك بالموازنة في هذه الاحوال والاعمال الباطنة والظاهرة حتى يظهر لك التماثل والتفاضل وتناسب احوال اهل الاحوال الباطنة لذوي الاعمال الظاهرة لا يسما في هذه الازمان المتأخرة التي غلب فيها خلط الاعمال الصالحة بالسيئة في جميع الاصناف لنرجح عند الازدحام والتمانع خير الخيرين وندفع عند الاجتماع شر الشرين

ونقدم عند التلازم تلازم الحسنات والسيئات ما ترجح منها فإن غالب رؤوس المتأخرين وغالب الامة من الملوك والامراء والمتكلمين والعلماء والعباد واهل الاموال يقع غالبا فيهم ذلك

واما الماشون على طريقة الخلفاء الراشدين فليسوا اكثر الأمة ولكن على هؤلاء الماشين على طريقة الخلفاء ان يعاملوا الناس بما امر الله به ورسوله من العدل بينهم واعطاء كل ذي حق حقه واقامة الحدود بحسب الامكان اذ الواجب هو الامر بالمعروف وفعله والنهي عن المنكر وتركه بحسب الامكان فإذا عجز اتباع الخلفاء الراشدين عن ذلك قدموا خير الخيرين حصولا وشر الشرين دفعا والحمد لله رب العالمين
فصل

قال الله تعالى لما اهبط آدم ومن معه الى الارض قلنا اهبطا منها جميعا فأما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا فيها يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا اولئك اصحاب النار هم فيه خالدون سورة البقرة 38 39

وقال تعالى فاما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن اعرض عن ذكري فان له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة اعمى قال رب لم حشرتني اعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك اتتك آياتنا فسيتها وكذلك اليوم تنسى سورة طه 123 126

وقال قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريشسا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من ايات الله لعلهم يذكرون يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم انا جعلنا الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون سورة الاعراف 24 27

فأخبر سبحانه بنعمته على بني آدم بما انزله من اللباس الذي يواري سواءتهم ومن الريش وانزاله له كما قال وانزلنا الحديد سورة الحديد 25 وانزل لكم من الانعام سورة الزمر 6

وفي الحديث الصحيح عن النبي ﷺ ما انزل الله داء الا انزل له شفاء

واخبر سبحانه ان لباس التقوى خير من هذا اللباس كما قال لما امرهم بالزاد فقال وتزودوا فإن خير الزاد التقوى سورة البقرة 197 فهما لباسان وزادان

ثم قال يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما من سوءاتهما سورة الاعراف 27 فنهى بنى آدم أن يفتتنوا بفتنة الشيطان كما فتن أبويهما وذلك بمعصية الله وطاعة الشيطان في خلاف أمر الله ونهيه وأنه لما نزع عن الأبوين لبأسهم فكذلك قد ينزع عن الذرية لباس التقوى ولباس البدن ليريها سوءاتهما

قال تعالى أنه يراكم هو وقبيلة من حيث لا يرونهم إنا جعلنا الشيطان أولياء للذين لا يؤمنون سورة الأعراف 27 فأخبر ان الشياطين اولياء للذين لا يؤمنون بهدى الله الذي بعث به رسله

كما قال ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وانهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون انهم مهتدون حتى اذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين سورة الزخرف 36 38

وكذلك قال الشيطان فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين سورة ﷺ 82 83 قال هذا صراط على مستقيم ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين سورة الحجر 41 42 وقال انه ليس له سلطان على الذين امنوا على ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون سورة النحل 99 100

وقال وان الشياطين ليوحون الى اوليائهم ليجادلوكم وان اطعتموهم انكم لمشركون سورة الانعام 121

ثم اخبر عن اولياء الشيطان الذين لا يؤمنون فقال واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 28 فقولهم والله امرنا بها يقتضي انهم متدينون بها يرونها عبادة وطاعة كما كان مشركو العرب يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها إلا الحمس قريش وحلفاؤها فكانوا يطوفون في ثيابهم وكان غيرهم قد يطوف في ثياب احمسى ان حصل له ذلك والا طاف عريانا حتى كانت المرأة تطوف عريانة وربما سترت فرجها بيدها وتقول ... اليوم يبدو بعضه او كله ... وما بدا منه فلا احله ...

وكان من طاف في ثيابه من الحمس القاها فسميت لقى وحرمت عليه

وكانوا ايضا في الاحرام لا يأكلون من الدهن الذي في الانعام ولهذا لما فتح النبي ﷺ مكة وغزا تبوك انزل الله براءة وامره الله بالبراءة الى اهل العهد المطلق من الشرك وبسيرهم في الارض اربعة اشهر

وقال فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم سورة التوبة 5 فبعث النبي ﷺ ابا بكر الصديق اميرا على الحاج وامره ان ينادي ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف عريان فكانوا يصرخون بها من الموسم كما ثبت ذلك في الصحيح وغيره في حديث ابي هريرة وغيره وهو من المتواتر واردفه النبي ﷺ بعلي بن ابي طالب ان لا ينبذ للمعاهدين عهودهم لأن عادتهم كانت ان لا يقبلوا بنبذ العهد وحله الا من الكبير او بعض اهل بيته فأخرهم النبي ﷺ اذ ذاك على عادتهم ليقبلوا ذلك وكان ابو بكر هو الامام الذي يقيم للناس مناسكهم ويصلي بهم ويحكم فيهم وعلى معه ليبلغ رسالة البراءة الى اهل العهود

فكان اولياء الشيطان اذا فعلوا هذه الفاحشة وهي ابداء السوءات في الطواف يحتجون بشيئين يقولون وجدنا عليها آباءنا وهذا هو الرجوع الى العادة والاتباع والتقليد للأسلاف ويقولون والله امرنا بها وهذا قول بغير علم

ولهذا قال تعالى قل ان الله لا يأمر بالفحشاء سورة الاعراف 28 فان الفحشاء قبيحة منكرة تنكرها القلوب بفطرتها والله لا يأمر بمنكر وهذا يقتضي ان الافعال القبيحة السيئة تكون على صفات تمنع معها ان الله يأمر بها وفي هذا نزاع معروف بين الناس بيناه في غير هذا الموضع

ثم قال اتقولون على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 28 أي اتقولون انه امر بهذا وانتم لا تعلمون انه امر به اذ ليس معكم الا عادة ابائكم ودينكم وانتم لا تعلمون ان الله انزل بهذا سلطانا

فهذه الاية يدخل فيها كل من تعبد بفاحشة وامر منكر وان احتج بالعادة التي لسلفه او زعم ان الله يأمر بذلك او لما يذكره من الاسباب كقول مشركي العرب هذه الثياب عصينا الله فيها فلا نطوف له فيها يريدون وقت العبادة ان يجتنبوا ثياب المعصية

وكذلك تقسيمهم الناس الى قسمين حمس وغير حمس واباحتهم للحمس ما يحرم على غيرهم من الطواف في الثياب ومن الطعام وعدم دخول البيوت المنقوبة في الاحرام من ابوابها واسقاطهم عن الحمس الافاضة من عرفة بالافاضة من مزدلفة

فمن هذا الباب ما يدعي قوم من اشراف بني هاشم ومن يزعمون انهم منهم لموافقتهم لهم على رأي كالتشيع وغيره انهم مختصون به في العبادات والمحظورات فهذا نظير ما كانت الحمس تدعيه

ومن هذا الباب ما يفعله قوم من المتزهدة من كشف سوءاتهم في سماعاتهم وحماماتهم او غير ذلك ويقولون هذا طريقنا وهذا في طريقنا فهذا مثل قولهم وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها

وابلغ من ذلك تعبد طوائف من المتزهدة والمتعبدة بمعاشرة الاحداث المردان والنساء الاجانب والنظر اليهم والخلوة بهم والمحبة والهوى فيهم وبما قد يكون وقد لا يكون وراء ذلك من الفاحشة الكبرى

وهذا ابتدأه المشركون من الصابئة وغير الصابئة الذين هم اولياء الشياطين الذين هم مشركون كما ذكر ابن سينا في إشاراته وزعم انه مما يعين على السلوك والتأله العشق العفيف واستماع الاصوات الملحنة كما ذكر ايضا الشرك بعبادة الصور ويذكر هو وطائفته عبادة الكواكب

وهذا في النصارى ايضا منه جانب قوي وهم ايضا قد ابتدعوا شركا لم ينزل الله به سلطانا كما قال تعالى اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 31

ولهذا كثر هذا في طوائف الزهاد والعباد من هذه الامة من المبتدعة الخارجين عن الشريعة ورسالة محمد ﷺ من هذا الوجه وان كانوا من وجه اخر داخلين فيها

فهذا شأن الطرائق المبتدعة كلها يجتمع فيها الحق والباطل ومن المعلوم ان هذا الذي يفعلونه من الفواحش الظاهرة او الباطنة

وقد قال تعالى قال انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 33

وقال تعالى وذروا ظاهر الاثم وباطنه سورة الانعام 120

وقد قال في الصحيحين عن ابن عباس ابي هريرة عن النبي ﷺ انه قال العينان تزنيان وزناهما النظر الاذنان تزنيان وزناهما السمع واللسان يزني وزناه النطق والقلب يتمنى ذلك ويشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه

فما كان من السمع والبصر واللسان في هذا الباب فهو من زناه والزنا من الفواحش والله لا يأمر بالفحشاء فالله تعالى لا يأمر ان يعبده ويتقرب اليه بالعشرة للمردان الصباح والنظر اليهم والاصغاء الى كلامهم ونحو ذلك اتقولون على الله مالا تعلمون سورة الاعراف 28

بل قد حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وان اتي هذه الفواحش معتقدا تحريمها فهو من المسلمين الذين قال فيهم النبي ﷺ في حديث ابي ذر من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وان زنا وان سرق

فإن المسلم الذي يأتي بفاحشة اما ان يتوب الى الله ويستغفره فيدخل في قوله والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون اولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ونعم اجر العاملين سورة ال عمران 135 136 وقال تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما سورة النساء 110

وقال تعالى واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات سورة هود 114

وفي الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي ﷺ ان رجلا اصاب من امرأة قبله فأتى رسول الله ﷺ فذكر ذلك له فأنزل عليه واقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات الاية سورة هود 114 قال الرجل الى هذه الاية قال لمن عمل بها من امتي

وقد قال تعالى والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون سورة الشورى 37

وقال الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش الا اللمم ان ربك واسع المغفرة سورة نجم 32 قال ابن عباس ما رأيت شيئا اشبه باللمم مما قال ابو هريرة عن النبي ﷺ ان العينين تزنيان وزناهما النظر وذكر الحديث

والمسلم اذا اتى الفاحشة لا يكفر وان كان كمال الايمان الواجب قد زال عنه كما في الصحيحين عن النبي ﷺ انه قال لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس اليه فيها ابصارهم وهو مؤمن

فأصل الايمان معه وهو قد يعود الى المعصية ولكنه يكون مؤمنا اذا فارق الدنيا كما في الصحيح عن عمر ان رجلا كان يدعي حمارا وكان يشرب الخمر وكان كلما اتي به الى النبي ﷺ امر بجلده فقال رجل لعنه الله ما اكثر ما يؤتى به الى النبي ﷺ فقال النبي ﷺ لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله فشهد له بأنه يحب الله ورسوله ونهى عن لعنته كما تقدم في الحديث الاخر الصحيح وان زنا وان سرق

وذلك ان معه اصل الاعتقاد ان الله حرم ذلك ومعه خشيه عقاب الله ورجاء رحمة الله وايمانه بأن الله يغفر الذنب ويأخذ به فيغفر الله له به

كما في الصحيح عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم

وقال اذنب عبد ذنبا فقال أي رب اني اذنبت ذنبا فاغفر لي فقال ربه علم عبدي ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم اذنب ذنبا اخر فقال أي رب اذنبت ذنبا فاغفره لي فقال ربه علم عبدى أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدى ثم أذنب ذنبا آخر فقال أي رب قد اذنبت ذنبا فاغفره لي فقال علم عبدي ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء

وكذلك في الصحاح من غير وجه حديث الذي لم يعمل خيرا قط وقال لأهله اذا انا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم ريح الحديث فقال الله له ما حملك على ما فعلت قال خشيتك يا رب فغفر الله له بتلك الخشية

وكذلك من افضل اعمال المؤمن التوبة كما قال النبي ﷺ للغامريه التي اقرت بالزنا حتى رجمها لقد تابت توبة لو تابها مكس لغفر له وهل وجدت توبة افضل من ان جادت بنفسها لله

وحديث صلاة التوبة محفوظ في السنن عن علي عن ابي بكر الصديق عن النبي ﷺ انه قال ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله الا غفر له وقرأ هذه الاية والذين اذا فعلوا فاحشة او ظلموا انفسهم ذكروا الله سورة آل عمران 135

وهذا باب واسع فان الذنوب التي يبتلى بها العباد يسقط عنهم عذابها اما بتوبة تجب ما قبلها واما باستغفار واما بحسنات يذهبن السيئات واما بدعاء المسلمين وشفاعتهم او بما يفعلونه له من البر واما بشفاعة النبي ﷺ وغيره فيه يوم القيامة واما ان يكفر الله خطاياه بما يصيبه من المصائب فقد تواتر عن النبي ﷺ ان ما يصيب المسلم من اذى شوكة فما فوقها الا حط الله بها خطاياه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها





**********************************
/15
الاستقامة/15

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/14 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/16










واصناف الحسنات التي تكفر بها السيئات كثيرة اكثر من السيئات من انواع البر جميعها كما جاء ذلك في الاحاديث النبوية المطابقة لكتاب الله تعالى

واهل السنة والجماعة متفقون على انه لا يكفر المسلم بمجرد الذنب كما يقوله الخوارج ولا انه يخرج من الايمان بالكلية كما يقوله المعتزلة لكن ينقص الايمان ويمنع كماله الواجب وان كانت المرجئة تزعم ان الايمان لا ينقص ايضا فمذهب اهل السنة المتبعون للسلف الصالح ان الايمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

فأما استحلال ما حرم الله ورسوله من الفواحش وغيرها فهو كفر وبمثله اهلك الله قوم لوط الذين استحلوا الفاحشة وفعلوها معلنين بها مستحلين لها قال تعالى فلما جاء امرنا جعلنا عاليها سافلها وامطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد سوة هود 82 83

وقد روى عن قتادة من الظالمين من هذه الامة وقد روى انه يكون فيها خسف وقذف ومسخ

وقد شرع الله سبحانه في شريعة اهل التوراة وشريعة اهل القرآن رجم الزاني المحصن بالحجارة كما رجم الله اهل الفاحشة واما اهل الفاحشة واللوطية فيرجمان سواء كانا بكرين او ثيبين عند جمهور العلماء كما رجم الله قوم لوط وليس في الذنوب ما يعاقب اهله بالرجم الا اهل هذه الفاحشة

وقد رجم النبي ﷺ غير واحد رجم اليهوديين ورجم ما عز بن مالك ورجم الغامدية ورجم اخر وكذلك رجم خلفاؤه الراشدون ايضا

وكذلك ما يعاقب الله به اهل ذلك كما روى البخاري في صحيحه تعليقا مجزوما به وهو داخل في الصحيح الذي شرطه عن عبد الرحمن بن غنم الاشعري انه سمع النبي ﷺ يقول ليكونن من امتي اقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن اقوام الى جنب علم يروح عليها بسارحة لهم يأتيهم لحاجتهم فيقولون ارجع الينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ اخرين قردة وخنازير الى يوم القيامة

فالعقوبة بما عوقبت به الامم المتقدمة من قذف ومسخ وخسف انما يكون لمن شاركهم فاستحل ما حرمه الله ورسوله كما قال النبي ﷺ ليكونن من امتي اقوام يستحلون ثم قد يستحل بعضهم بعض انواع الخمر بتأويل كما استحل ذلك اهل الكوفة كما روى في الحديث ليكونن من امتي اقوام يستحلون الخمر يسمونها باسم غير اسمها

فالاستحلال الذي يكون من موارد الاجتهاد وقد أخطأ المستحل في تأويله مع ايمانه وحسناته هو مما غفره الله لهذه الامة من الخطأ في قوله ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او اخطأنا سورة البقرة 286 كما استحل بعضهم بعض انواع الربا واستحل بعضهم نوعا من الفاحشة وهو اتيان النساء في حشوشهن واستحل بعضهم بعض انواع الخمر واستحل بعضهم استماع المعازف واستحل بعضهم من دماء بعض بالتأويل ما استحل

فهذه المواضع التي تقع من اهل الايمان والصلاح تكون سيئات مكفرة او مغفورة او خطأ مغفورا ومع هذا فيجب بيان ما دل عليه الكتاب والسنة من الهدي ودين الحق والامر بذلك والنهي عن خلافة بحسب الامكان

ثم هذه الامور التي كانت من اولئك تكثر وتتغلظ في قوم اخرين بعدهم حتى تنتهي بهم الى استحلال محارم الله والخروج عن دين الله واذا تغلظت هذه الامور عاقب الله اصحابها بما يشاء

وقد كان بعض الصحابة ظن ان الخمر حرمت على العامة دون الذين امنوا وعملوا الصالحات فشربها متأولا فأحضره عمر واتفق هو وائمة الصحابة كعلي وغيره على انهم ان اصروا على استحلالها كفروا وان اقروا بالتحريم جلدوا فأقروا بالتحريم ثم حصل لذلك نوع من اليأس والقنوط لما فعل فكتب اليه عمر حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب سورة غافر 1 3 واظنه قال ما ادري أي ذنبيك اعظم اسحلالك الرجس ام يأسك من رحمة الله

وهذا من علم امير المؤمنين وعدله فإن الفقيه كل الفقيه لا يؤيس الناس من رحمة الله ولا يجرئهم على معاصي الله واستحلال المحرمات كفر واليأس من رحمة الله كفر

ولهذا كان دين الله بين الحرورية والمرجئة فالمسلم يذنب ويتوب كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ فيما يروي عن ربه يا عبادي انكم تخطئون بالليل والنهار وانا اغفر الذنوب فاستفغروني اغفر لكم

وفي صحيح مسلم عنه ايضا من حديث ابي هريرة قال والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ونحوه في الصحيح من رواية ابي ايوب

وقال لعائشة لما قيل فيها الإفك يا عائشة ان كنت الممت بذنب فاستغفري الله وتوبى اليه فإن العبد اذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه وان كنت برئية فسيبرئك الله

وفي الصحيح عن جندب ان النبي ﷺ حدث ان رجلا قال لا يغفر الله لفلان وان الله قال من الذي يتألى على اني لا أغفر لفلان فإني قد غفرت لفلان واحبطت عملك

وقال الترمذي وابن ماجة عن انس قال قال رسول الله ﷺ كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون

وقال ان العبد اذا اذنب نكتت في قلبه نكته سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وان زاد فيها حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى فيه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين 14 وفي صحيح مسلم عن ابي موسى عن النبي ﷺ قال ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وهذا الباب واسع

والله تعالى يقبل توبة العبد من جميع الذنوب الشرك فما دونه كما قال تعالى يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم الاية سورة الزمر 53

وقال ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا الاية سورة البروج 10

وقال تعالى فان تابوا واقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين سورة التوبة 11

وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة وما من اله الا اله واحد وان لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب اليم افلا يتوبون الى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم سورة المائدة 73 74

وقال قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف سورة الانفال 38

فمن تاب من هذه الاعتقادات الفاسدة وهو استحلال شيء من المحرمات او التدين بشيء منها قبل الله توبته واما من استحل ذلك او تدين به وان لم يفعله فالذي يفعل ذلك وهو معتقد للتحريم خير منه فإن هذا مؤمن مذنب واما الاستحلال لها والتدين بها فهو كفر

فأما اهل الاباحة الذين لا يحرمون شيئا من الفواحش وغيرها فهؤلاء كفار من اعظم الناس كفرا

وكذلك استحلال التلو مثل من يظن ان قوله او ما ملكت ايمانكم سورة النساء 3 يتناول الذكران او يظن قوله ولعبد مؤمن خير من مشرك سورة البقرة 221 هو في الموطوء لا في الزوج او يظن ان ذلك يباح في السفر او بعد اربعين يوما او نحو ذلك فهذا يكفر بإجماع المسلمين

ومثل هؤلاء قد يعاقبهم الله بما عاقب به قوم لوط وقد يحشر معهم لأن دينه دينهم بخلاف المقر بتحريم ذلك فإنه مسلم

واما التدين بذلك فهو اعظم من استحلاله وهؤلاء المتدينون ما يكادون يتدينون بنفس فعل الفاحشة الكبرى ولكن بمقدماتها من النظر والتلذذ به والمباشرة والعشق للنسوان الاجانب والصبيان ويزعمون ان ذلك يصفي نفوسهم وارواحهم ويرقيهم الى الدرجات العالية وفيهم من يزعم انه يخاطب من تلك الصورة وتتنزل عليه اسرار ومعارف وفيهم من يترقى لغير ذلك فيقول انه يتجلى له فيها الحقائق وربما زعم ان الله يحل فيها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا وقد يسجدون لها

ومن هؤلاء من يزعم ان دحية الكلبي كان امردا وان جبريل كان يأتي النبي ﷺ في صورة امرد ويقول له ما احب ان تأتيني الا في صورة امرد

وفيهم من يتأول قوله ﷺ رأيت ربي في أحسن صورة وفي صورة كذا وكذا ويجعل الأمرد ربه

وهؤلاء الحلولية والاتحادية منهم من يخصه بالصور الجميلة ويقول مظاهر الجمال ومنهم من يقول بالاتحاد المطلق والحلول المطلق لكن هو يتخذ لنفسه من المظاهر ما يحبه

فهو كما الله تعالى أرايت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا سورة الفرقان 43 وقال أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون سورة الجاثية 23

وهؤلاء يجعل أحدهم معبود من جنس موطوئة وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها اباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاءأتقولون على الله مالا تعلمون سورة الأعراف قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون سورة الاعراف 33

وكثير من هؤلاء انما ينكر بكلامه اباحة ذلك التعبد به ولكن حاله حال من يتعبد به حتى انهم يتواصون فيما بينهم بأن المريد السالك ينبغي ان يتخذ لنفسه صورة يجتمع عليها ثم يترقى منها الى الله او انه يشاهد فيها الله
فصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي انزل الله به كتبه وارسل به رسله وهو من الدين فان رسالة الله اما اخبار واما انشاء

فالاخبار عن نفسه عز و جل وعن خلقه مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد والانشاء الامر والنهي والاباحة

وهذا كما ذكر في الحديث ان قل هو الله احد سورة الاخلاص تعدل ثلث القرآن لتضمنها الثلث الذي هو التوحيد لأن القرآن توحيد وامر وقصص

وقوله سبحانه في صفة نبينا ﷺ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث سورة الاعراف 157 هو لبيان كمال رسالته فإنه ﷺ هو الذي امر الله على لسانه بكل معروف ونهى عن كل منكر واحل كل طيب وحرم كل خبيث

ولهذا روى عنه ﷺ انه قال انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق وقال في الحديث المتفق عليه أنما مثلى ومثل الانبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها الا موضع لبنة فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ويقولون لولا موضع اللبنة فأنا تلك اللبنة فبه أكمل الله الدين المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر واحلال كل طيب وتحريم كل خبيث

واما من كان قبله من الرسل فقد كان يحرم على اممهم بعض الطيبات كما قال الله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم سورة النساء 160 وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث كما قال تعالى كل الطعام كان حلا لبني اسرائيل الا ما حرم اسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة سورة آل عمران 93

وتحريم الخبائث يندرج في معنى النهي عن المنكر كما ان احلال الطيبات يندرج في معنى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن تحريم الطيبات هو مما نهى الله عنه وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم الا للرسول الذي تمم الله به مكارم الاخلاق المندرجة في المعرفة

وقد قال الله تعالى اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا سورة المائدة فقد اكمل الله لنا الدين واتم علينا النعمة ورضي لنا الاسلام دينا

وكذلك وصف الله الامة بما وصف به نبيها حيث قال كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله سورة آل عمران 110 وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر سور التوبة 71

ولهذا قال ابو هريرة رضي الله عنه كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الاقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة فبين الله سبحانه ان هذه الامة خير الامم للناس فهم انفعهم لهم وأعظمهم أحسانا إليهم لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر حيث امروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل احد واقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم واموالهم وهذا كمال النفع للخلق

وسائر الامم لم يأمروا كل احد بكل معروف ولا نهوا كل احد عن كل منكر ولا جاهدوا على ذلك بل منهم من لم يجاهدوا والذين جاهدوا كبنى اسرائيل فغاية جهادهم كان لدفع عدوهم من ارضهم كما يقاتل الصائل الظالم لا لدعوة المجاهدين الى الهدى والخير ولا لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما قال موسى لقومه ياقوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على ادباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى ان فيها قوما جبارين وانا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون الى قوله فاذهب انت وربك فقاتلا انا ها هنا قاعدون سورة المائدة 2421

وكما قال تعالى الم تر الى الملا من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم ان كتب عليكم القتال الا تقاتلوا قالوا وما لنا الا نقاتل في سبيل الله وقد اخرجنا من ديارنا وابنائنا سورة البقرة 246 فعللوا القتال بأنهم اخرجوا من ديارهم وابنائهم ومع هذا كانوا ناكلين عما امروا به من ذلك ولهذا لم تحل الغنائم لهم ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين

ومعلوم ان اعظم الامم المؤمنين قبلنا هم بنو اسرائيل كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج علينا النبي ﷺ فقال عرضت على البارحة الانبياء بأممهم فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه احد ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق وفي رواية فإذا الطريق ممتلئة بالرجال فرجوت ان يكون امتي فقلت هذه امتي فقيل هذا موسى في بني اسرئيل ولكن انظر هكذا وهكذا

فرأيت سوادا كثيرا قد سد الافق فقيل هؤلاء امتك ومع هؤلاء سبعون الفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يتبين لهم فتذاكر اصحاب النبي ﷺ فقالوا اما نحن فولدنا في الشرك ولكنا امنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء أبناؤنا فبلغ النبي ﷺ فقال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال امنهم انا يا رسول الله قال نعم فقام اخر فقال امنهم انا فقال سبقك بها عكاشة

ولهذا كان اجماع هذه الامة حجة لأن الله قد اخبر انهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر فلو اتفقوا على اباحة محرم او اسقاط واجب او تحريم حلال او اخبار عن الله او خلقه بباطل لكانوا متصفين بالامر بمنكر والنهي عن معروف والامر بالمنكر والنهي عن المعروف ليس من الكلم الطيب والعمل الصالح بل الاية تقتضي ان ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف وما لم تنه عنه فليس من المنكر واذا كانت امرة بكل معروف ناهية عن كل منكر فكيف يجوز ان تأمر كلها بمنكر او تنهي كلها عن معروف

والله سبحانه وتعالى كما اخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد اوجب ذلك على الكفاية منها بقوله ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون سورة آل عمران 104

واذا اخبر بوقوع الامر بالمعروف والنهي عن المنكرمنها لم يكن من شرط ذلك ان يصل امر لامر ونهى الناهي منها الى كل مكلف في العالم اذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة فكيف يشترط فيما هو من توابعها بل الشرط ان يتمكن المكلفون من وصول ذلك اليهم ثم اذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله اليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه كان التفريط منهم لا منه

وكذلك وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل احد بعينه بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد ايضا كذلك فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه اثم كل قادر بحسب قدرته اذ هو واجب على كل انسان بحسب قدرته

كما قال النبي ﷺ من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان

واذ كان كذلك فمعلوم ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واتمامه بالجهاد هو من اعظم المعروف الذي امرنا به ومن النهي عن المنكر اقامة الحدود على من خرج من شريعة الله ويجب على اولى الامر وهم علماء كل طائفة وامراؤها ومشايخها ان يقوموا على عامتهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر فيأمرونهم بما امر الله به ورسوله مثل شرائع الاسلام وهي الصلوات الخمس في مواقيتها وكذلك الصدقات المشروعة والصوم المشروع وحج البيت الحرام ومثل الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر والايمان بالقدر خيره وشره ومثل الاحسان وهو ان تبعد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فانه يراك

ومثل ما امر الله به ورسوله من الامور الباطنة والظاهرة ومثل اخلاص الدين لله والتوكل على الله وان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما والرجاء لرحمة الله والخشية من عذابه والصبر لحكم الله والتسليم لأمر الله

ومثل صدق الحديث والوفاء بالعهود واداء الامانات الى اهلها وبر الوالدين وصلة الارحام والتعاون على البر والتقوى والاحسان الى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والصاحب والزوجة والمملوك والعدل في المقال والفعال ثم الندب الى مكارم الاخلاق مثل ان تصل من قطعك وتعطى من حرمك وتعفو عن ظلمك

ومن الامر بالمعروف كذلك الامر بالائتلاف والاجتماع والنهي عن الاختلاف والفرقة وغير ذلك

واما المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله فأعظمه الشرك بالله وهو ان يدعو مع الله الها اخر كالشمس والقمر والكواكب او كملك من الملائكة او نبي من الانبياء او رجل من الصالحين او احد من الجن او تماثيل هؤلاء او قبورهم او غير ذلك مما يدعى من دون الله تعالى او يستغاث به او يسجد له فكل هذا واشباهه من الشرك الذي حرمه الله على لسان جميع رسله

ومن المنكر كل ما حرمه الله كقتل النفس بغير الحق واكل اموال الناس بالباطل بالغصب او بالربا او الميسر والبيوع والمعاملات التي نهى عنها رسول الله ﷺ وكذلك قطيعة الرحم وعقوق الوالدين وتطفيف المكيال والميزان والاثم والبغي وكذلك العبادات المبتدعة التي لم يشرعها الله ورسوله ﷺ وغير ذلك

والرفق سبيل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا قيل ليكن امرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر

واذا كان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من اعظم الواجبات او المستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد ان تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة اذ بهذا بعثت الرسل وانزلت الكتب والله لا يحب الفساد بل كل ما امر الله به فهو صلاح وقد اثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين امنوا وعملوا الصالحات وذم الفساد والمفسدين في غير موضع فحيث كانت مفسدة الامر والنهي اعظم من مصلحته لم يكن مما امر الله به وان كان قد ترك واجب وفعل محرم إذ لمؤمن عليه ان يتقى الله في عباد الله وليس عليه هداهم وهذا من معنى قوله تعالى يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم سورة المائدة 105

والاهتداء انما يتم بأداء الواجب فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضال وذلك يكون تارة بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد

فأما القلب فيجب بكل حال اذا لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن كما قال النبي ﷺ وذلك ادنى او اضعف الايمان وقال ليس وراء ذلك من الايمان حبه خردل وقيل لأبن مسعود رضي الله عنه من ميت الاحياء فقال الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وهذا هو المفتون الموصوف بأن قلبه كالكوز مجخيا في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في الصحيحين تعرض الفتن على القلوب عرض الحصير الحديث وهنا يغلط فريقان من الناس

فريق يترك ما يجب من الامر والنهي تأويلا لهذه الاية كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته ايها الناس انكم تقرأون هذه الاية عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم سورة المائدة 105 وانكم تضعونها في غير موضعها واني سمعت النبي ﷺ يقول ان الناس اذا رأوا المنكر فلم يغيروه او شك ان يعمهم الله بعقاب منه

والفريق الثاني من يريد ان يأمر وينهي اما بلسانه واما بيده مطلقا من غير فقه ولا حكم ولا صبر ولا نظر في ما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه وما لا يقدر كما في حديث ابي ثعلبه الخشني سألت عنها اي الاية رسول الله ﷺ فقال بل ائتمروا بالعروف وتناهوا عن المنكر حتى اذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودينا مؤثرة واعجاب كل ذي رأى برأيه ورأيت امرأ لا يدان لك به فعليك بنفسك ودع عنك امر العوام فإن من ورائك ايام الصبر الصبر فيهن مثل قبض على الجمر للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله فيأتي بالأمر والنهي معتقدا انه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده كما نصب كثير من اهل البدع والاهواء نفسه للأمر والنهي كالخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم من غلط فيما اتاه من الامر والنهي والجهاد وغير ذلك فكان فساده اعظم من صلاحه

ولهذا امر النبي ﷺ بالصبر على جور الائمة ونهى عن قتالهم ما اقاموا الصلاة وقال ادوا اليهم حقوقهم وسلوا الله حقوقكم وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع

ولهذا كان من اصول اهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الائمة وترك القتال في الفتنة واما اهل الاهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من اصول دينهم

ويجعل المعتزلة اصول دينهم خمسة التوحيد الذي هو سلب الصفات والعدل الذي هو التكذيب بالقدر والمنزلة بين المنزلتين وانفاذ الوعيد والامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي فيه قتال الائمة وقد تكلمت على قتال الائمة في غيرهذا الموضع

وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما اذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات او تزاحمت فانه يجب ترجيح الراجح منها فيما اذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد فإن الأمر والنهى وإن كان متضمنا لتحصل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له فإن كان الذي يفوت من المصالح او يحصل من المفاسد اكثر لم يكن مأمورا به بل يكون محرما اذا كانت مفسدته اكثر من مصلحته لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة فمتى قدر الانسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ولا اجتهد رأيه لمعرفة الاشباه والنظائر وقل ان تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الاحكام

وعلى هذا اذا كان الشخص اوالطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما بل اما ان يفعلوهما جميعا او يتركوهما جميعا لم يجز ان يؤمروا بمعروف ولا ان ينهوا عن منكر بل ينظر فإن كان المعروف اكثر امر به وان استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف اعظم منه بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله ﷺ وزوال فعل الحسنات

وان كان المنكر اغلب نهي عنه وان استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ويكون الامر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه امرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله

وان تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما فتارة يصلح الامر وتارة يصلح النهي وتارة لا يصلح لا امر ولا نهي حيث كان المنكر والمعروف متلازمين وذلك في الامور المعينة الواقعة

واما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا وينهى عن المنكر مطلقا وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بحيث لا يتضمن الامر بمعروف فوات معروف اكبر منه او حصول منكر فوقه ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول ما هو انكر منه او فوات معروف ارجح منه واذا اشتبه الأمر استثبت المؤمن حتى يتبين له الحق فلا يقدم على الطاعة الا بعلم ونية واذا تركها كان عاصيا فترك الامر الواجب معصية وفعل ما نهى عنه من الامر معصية وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة الا بالله

ومن هذا الباب اقرار النبي ﷺ لعبد الله بن ابي وامثاله من ائمة النفاق والفجور لما لهم من الاعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة ازاله معروف اكبر من ذلك بغضب قومه وحميتهم وبنفور الناس اذا سمعوا ان محمدا يقتل اصحابه

ولهذا لما خطب الناس في قصةالإفك بما خاطبهم به واعتذر منه وقال له سعد بن معاذ قوله الذي احسن فيه حمى له سعد بن عبادة مع حسن ايمانه وصدقه وتعصب لكل منهم قبيله حتى كادت تكون فتنة

واصل هذا ان تكون محبة الانسان للمعروف وبغضه للمنكر وارادته لهذا وكراهته لهذا موافقا لحب الله وبغضه وارادته وكراهته الشرعيتين وان يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته فإن الله لا يكلف نفسا الا وسعها وقد قال فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16

فأما حب القلب وبغضه وارادته وكراهته فينبغي ان تكون كاملة جازمة لا يوجب نقص ذلك الا نقص الايمان واما فعل البدن فهو بحسب قدرته ومتى كانت ارادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل كما قد بيناه في غير هذا الموضع

فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وارادته وكراهته بحسب محبته نفسه وبغضها لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله وهذا من نوع الهوى فإن اتبعه الانسان فقد اتبع هواه ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص 50 فإن اصل الهوى هو محبة النفس ويتبع ذلك بغضها والهوى نفسه وهو الحب والبغض الذي في النفس لا يلام العبد عليه فإن ذلك لا يملكه وانما يلام على اتباعه

كما قال تعالى يا داود انا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله سورة ﷺ 26

وقال تعالى ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص 50

وقال النبي ﷺ ثلاث منجيات خشية الله في السر والعلانية والقصد في الفقر والغنى وكلمة الحق في الغضب والرضا وثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع واعجاب المرء بنفسه

والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض ووجد وارادة وغير ذلك فمن اتبع ذلك بغير امر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله بل قد يتمادى به الامر الىان يتخذ الهه هواه

واتباع الاهواء في الديانات اعظم من اتباع الاهواء في الشهوات فإن الاول حال الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين كما قال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم انما يتبعون اهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين سورة القصص 50

وقال تعالى ضرب لكم مثلا من انفسكم هل لكم مما ملكت ايمانكم الاية الى قوله بل اتبع الذين ظلموا اهواءهم بغير علم سورة الروم 28 29

وقال تعالى وقد فضل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم اليه وان كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم سورة الانعام 119 الاية

وقال تعالى يا اهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواء قوم قد ضلوا من قبل واضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77

وقال تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل ان هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت اهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير سورة البقرة 120 وقال تعالى في الاية الاخرى ولئن اتبعت اهواءهم من بعد ما جاءك من العلم انك اذا لمن الظالمين سورة البقرة 145 وقال وان احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم سورة المائدة 49

ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من المنسوبين الى العلماء والعباد يجعل من اهل الاهواء كما كان السلف يسمونهم اهل الاهواء وذلك ان كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه والعلم بالدين لا يكون الا بهدي الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه و سلم

ولهذا قال الله تعالى في موضع وان كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم سورة الانعام 119

وقال في موضع اخر ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله سورة القصص 50

فالواجب على العبد ان ينظر في نفس حبه وبغضه ومقدار حبه وبغضه هل هو موافق لأمر الله ورسوله وهو هدى الله الذي انزله على رسوله ﷺ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله فإنه قد قال تعالى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله سورة الحجرات 1

ومن احب او ابغض قبل ان يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله

ومجرد الحب والبغض هو هوى لكن المحرم منه اتباع حبه وبغضه بغير هدى من الله ولهذا قال الله لنبيه داود ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد سورة ﷺ 21 فأخبر ان من اتبع هواه اضله ذلك عن سبيل الله وهو هداه الذي بعث به رسوله وهو السبيل اليه

وتحقيق ذلك ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من اوجب الاعمال وافضلها واحسنها وقد قال تعالى ليبلوكم ايكم احسن عملا سورة الملك 2 وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله خلصه واصوبه فإن العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل واذا كان صواباه ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة

فالعمل الصالح لا بد ان يراد به وجه الله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل من العمل الا ما اريد به وجهه وحده كما في الحديث الصحيح عن ابي هريرة عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا اشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو كله للذي اشرك

وهذا هو التوحيد الذي هو اصل الاسلام وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله وله خلق الخلق وهو حقه على عباده ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ولا بد مع ذلك ان يكون العمل صالحا وهو ما امر الله به ورسوله وهو الطاعة فكل طاعة عمل صالح وكل عمل صالح طاعة وهو العمل المشروع المسنون اذ المشروع المسنون هو المأمور به امر ايجاب او استحباب وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر وهو الخير وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والشر والظلم والبغي

ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين النية والحركة كما قال النبي ﷺ اصدق الاسماء حارث وهمام فكل احد حارث وهمام له عمل ونية لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها هي ان يراد الله وحده بذلك العمل والعمل المحمود هو الصالح وهو المأمور به

ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا

واذا كان هذا حد كل عمل صالح فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب ان يكون كذلك هذا في حق الامر الناهي بنفسه ولا يكون عمله صالحا ان لم يكن بعلم وفقه كما قال عمر بن عبد العزيز من عبدالله بغير علم كان ما يفسد اكثر مما يصلح وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه العلم امام العمل والعمل تابعه

وهذا ظاهر فإن القصد والعمل ان لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم وهذا هو الفرق بين اهل الجاهلية واهل الاسلام فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما ولا بد من العلم بحال المأمور وحال المنهي ومن الصلاح ان يأتي بالامر والنهي على الصراط المستقيم وهو اقرب الطرق الى حصول المقصود

ولا بد في ذلك من الرفق كما قال النبي ﷺ ما كان الرفق في شيء الا زانه ولا كان العنف في شيء الا شانه وقال ﷺ ان الله رفيق يحب الرفق في الامر كله وقال ان الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف

ولا بد ايضا ان يكون حليما صبورا على الاذى فلا بد ان يحصل له اذى فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد اكثر مما يصلح

كما قال لقمان لابنه وامر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما اصابك ان ذلك من عزم الامور سورة لقمان 17

ولهذا امر الله الرسل وهم ائمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر كقوله لخاتم الرسل عليه السلام بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة فإنه اول ما ارسل انزلت عليه سورة يا ايها المدثر بعد ان انزلت عليه سورة اقرأ التي به نبئ فقال الله تعالى يا ايها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر سورة المدثر 1 7 فافتتح آيات الارسال الى الخلق بالامر بالانذار وختمها بالامر بالصبر ونفس الانذار امر بالمعروف ونهي عن المنكر فعلم انه يجب بعد ذلك الصبر

وقال تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا سورة الطور 48 وقال تعالى واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا سورة المزمل 10 وقال فاصبر كما صبر اولوا العزم من الرسل سورة الاحقاف 35 وقال فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت سورة القلم 48 وقال واصبر وما صبرك الا بالله سورة النحل 127 وقال واصبر فإن الله لا يضيع اخر المحسنين سورة هود 115

فلا بد من هذه الثلاثة العلم والرفق والصبر العلم قبل الأمر والنهي والرفق معه والصبر بعده وان كان كل من الثلاثة لا بد ان يكون مستصحبا في هذه الاحوال

وهذا كما جاء في الاثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا ذكره القاضي ابو يعلى في المعتمد لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر الا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فما ينهي عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه

وليعلم ان اشتراط هذه الخصال في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبته على كثير من النفوس فيظن انه بذلك يسقط عنه فيدعه وذلك قد يضره اكثر مما يضره الامر بدون هذه الخصال او اقل فإن ترك الامر الواجب معصية وفعل ما نهى عنه في الامر معصية فالمنتقل من معصية الى معصية اكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار والمنتقل من معصية الى معصية كالمتنقل من دين باطل الى دين باطل قد يكون الثاني شرا من الاول وقد يكون دونه وقد يكونان سواء فهكذا تجد المقصر في الامر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا اعظم وقد يكون ذنب ذاك اعظم وقد يكونان سواء

ومن المعلوم بما ارانا الله من اياته في الافاق وفي انفسنا وبما شهد به في كتابه ان المعاصي سبب المصائب فسيئات المصائب والجزاء هي من سيئات الاعمال وان الطاعة سبب النعمة فإحسان العبد العمل سبب لاحسان الله

قال تعالى وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير سورة الشورى 30 وقال تعالى ما اصابك من حسنة فمن الله وما اصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 وقال تعالى ان الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان انما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم سورة آل عمران 155 وقال تعالى او لما اصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم انى هذا قل هو من عند انفسكم سورة آل عمران 165 وقال او يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير سورة الشورى 34 وقال وان تصبهم سيئة بما قدمت ايديهم فإن الانسان كفور سورة الشورى 48 وقال تعالى وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون سورة الانفال 33

وقد اخبر الله سبحانه بما عاقب به اهل السيئات من الامم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط واصحاب مدين وقوم فرعون في الدنيا واخبر بما سيعاقبهم به في الاخرة

ولهذا قال مؤمن آل فرعون يا قوم اني اخاف عليكم مثل يوم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم اني اخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد سورة غافر 30 33

وقال تعالى كذلك العذاب ولعذاب الاخرة اكبر سورة القلم 33

وقال سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم سورة التوبة 101 وقال ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر لعلهم يرجعون سورة السجدة 21 وقال فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين سورة الدخان 10 الى قوله يوم نبطش البطشة الكبرى انا منتقمون سورة الدخان 16

ولهذا يذكر الله في عامة سور الانذار ما عاقب به اهل السيئات في الدنيا وما اعده لهم في الاخرة وقد يذكر في السورة وعد الاخرة فقط اذ عذاب الاخرة اعظم وثوابها اعظم وهي دار القرار وانما يذكر ما يذكره من الثواب والعقاب في الدنيا تبعا

كقوله في قصة يوسف وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين ولأجر الأخرة خير للذين أمنوا وكانوا يتقون سورة يوسف 56 57

وقال فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الاخرة سورة آل عمران 148

وقال والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبؤئنهم في الدنيا حسنة ولأجرة الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون سورة النحل 41 42 وقال عن ابراهيم عليه الصلاة و السلام وآتيناه اجره في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين سورة العنكبوت 27

واما ذكره لعقوبة الدنيا والاخرة ففي مثل والنازعات غرقا والناشطات نشطا سورة النازعات 201 ثم قال يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة سورة النازعات فذكر القيامه مطلقا

ثم قال هل اتاك حديث موسى اذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى اذهب الى فرعون انه طغى سورة النازعات 15 17 - الى قوله ان في ذلك لعبرة لمن يخشى سورة النازعات 26

ثم ذكر المبدأ او المعاد مفصلا فقال أأنتم اشد خلقا ام السماء بناها الى قوله فإذا جاءت الطامة الكبرى سورة النازعات 34 الى قوله تعالى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى سورة النازعات 37 41 الى آخر السورة

وكذلك في المزمل ذكر قوله وذرنى والمكذبين اولى النعمة ومهلهم قليلا ان لدينا انكالا وجحيما سورة المزمل 11 12 الى قوله فأخذناه اخذا وبيلا سورة المزمل 16

وكذلك في سورة الحاقة ذكر قصص الامم كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة

وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة سورة الحاقة 13 14 الى تمام ما ذكره من امر الجنة والنار

وكذلك في سورة ن والقلم ذكر قصة اهل البستان الذين منعوا حق اموالهم وما عاقبهم به ثم قال كذلك العذاب ولعذاب الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون سورة القلم 33

وكذلك في سورة التغابن قال ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال امرهم ولهم عذاب اليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا ابشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد سورة التغابن 5 6 ثم قال زعم الذين كفروا ان لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن سورة التغابن 7 وكذلك في سورة ق ذكر حال المخالفين للرسل وذكر الوعد والوعيد في الاخرة

وكذلك في سورة القمر ذكر هذا وهذا وكذلك في ال حم مثل حم غافر والسجدة والزخرف والدخان غير ذلك الى غير ذلك مما لا يحصى فإن التوحيد والوعد والوعيد من اول ما انزل

كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال اني عند عائشة ام المؤمنين رضي الله عنها اذا جاءها عراقي فقال أي الكفن خير قالت ويحك وما يضرك قال يا ام المؤمنين اريني مصحفك قالت لم قال لعلي أؤلف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف قالت وما يضرك ايه قرأت قبل انما نزل اول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى اذا ثاب الناس الى الاسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل اول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر ابدا ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا ابدا لقد نزل بمكة على محمد ﷺ واني لجارية العب بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر سورة القمر 46 وما نزلت سورة البقرة والنساء الا وانا عنده قال فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور





********************************
/16
الاستقامة/16

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/15 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية الاستقامة/17










واذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يندب الرجل أو الطائفة ويسكت أخرون عن الامر والنهي فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليهم اخرون انكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من اعظم الفتن والشرور قديما وحديثا اذ الانسان ظلوم جهول والظلم والجهل انواع فيكون ظلم الاول وجهله من نوع وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع اخر واخر

ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك ورأى ان ما وقع بين امراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها ومن تبعهم من العامة من الفتن هذا اصلها يدخل في ذلك اسباب الضلال والغي التي هي الاهواء الدينية والشهوانية وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا

وذلك ان اسباب الضلال والغي التي هي البدع في الدين والفجور في الدنيا مشتركة تعم بني آدم لما فيهم من الظلم والجهل فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره بفعل الزنا او التلوط او غيره او بشرب خمر او ظلم في المال بجناية او سرقة او غصب ونحو ذلك

ومعلوم ان هذه المعاصي وان كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة في الطباع ايضا ومن شأن النفوس انها لا تحب اختصاص غيرها بشيء وزيادته عليها لكن تريد ان يحصل لها ما حصل له وهذا هو الغبطة التي هي ادنى نوعي الحسد فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه او تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وان لم يحصل ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه انها تختص عن غيرها بالشهوات فكيف اذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها

فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي واما الاخر فظلوم حسود وهذان يقعان في الامور المباحة والامور المحرمة لحق الله فما كان جنسه مباحا من اكل وشرب ونكاح ولباس وركوب واموال اذا وقع فيها الاختصاص حصل بسببه الظلم والبخل والحسد واصلها الشح

كما في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال إياكم والشح فان الشح اهلك من كان قبلكم امرهم بالبخل فبخلوا وامرهم بالظلم فظلموا وامرهم بالقطيعة فقطعوا

ولهذا قال الله تعالى في وصف الانصار والذين تبوأوا الدار والايمان من قبلهم أي من قبل المهاجرين ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا سورة الحشر 9 أي لا يجدون الحسد مما اوتي اخوانهم من المهاجرين ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة سورة الحشر 9

ثم قال ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون سورة التغابن 16

ورؤي عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول رب قنى شح نفسي رب قني شح نفسي رب قنى شح نفسي فقيل له في ذلك فقال اذا وقيت شح نفسي فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة او كما قال

فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه والظلم بأخذ مال الغير ويوجب قطيعة الرحم ويوجب الحسد وهو كراهة ما اختص به الغير وتمنى زواله والحسد فيه بخل وظلم فانه بخل بما اعطيه عن غيره وظلمه بطلب زوال ذلك عنه

فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة فكيف بالمحرمة كالزنا وشرب الخمر ونحو ذلك واذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان

أحدهما احدهما بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم كما يقع في الامور المباحة الجنس

أحدهما والثاني بغضها لما في ذلك من حق الله ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام

احدها ما فيه ظلم للناس كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق والحسد ونحو ذلك

والثاني ما فيه ظلم للنفس فقط كشرب الخمر والزنا اذا لم يتعد ضررهما

والثالث ما يجتمع فيه الأمران مثل ان يأخذ المتولى أموال الناس يزنى بها ويشرب بها الخمر ومثل ان يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان

وقد قال الله تعالى قل انما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله مالا تعلمون سورة الاعراف 33

وامور الناس انما تستقيم في الدنيا مع العدل الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض انواع الإثم اكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وان لم يشترك في اثم

ولهذا قيل ان الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام

وقد قال النبي ﷺ ليس ذنب اسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم فالباغي يصرع في الدنيا وان كان مغفورا له مرحوما في الاخرة

وذلك ان العدل نظام كل شيء فإذا اقيم امر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الأخرة من خلاق ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الايمان ما يجزي به في الاخرة فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه الحسد له والتعدي عليه في حقه وفيها داعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنا وأكل الخبائث فهي قد تظلم من لا يظلمها وتؤثر هذه الشهوات وان لم يفعلها غيرها فإذا رأت نظراءها قد ظلموا او تناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات او الظلم فيها اعظم بكثير وقد تصبر ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين وان امره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب والجهاد على ذلك من الدين

والناس هنا ثلاثة اقسام قوم لا يقومون إلا في اهواء نفوسهم فلا يرضون الا بما يعطونه ولا يغضبون الا لما يحرمونه فإذا اعطى احدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال او الحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرا ينهى عنه ويعاقب عليه ويذم صاحبه ويغضب عليه مرضيا عنه وصار فاعلا له وشريكا فيه ومعاونا عليه ومعاديا لمن ينهى عنه وينكر عليه

وهذا غالب في بني آدم يرى الانسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه الا الله وسببه ان الانسان ظلوم جهول فلذلك لا يعدل بل ربما كان ظالما في الحالين يرى قوما ينكرون على المتولى ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم فيرضى اولئك المنكرين ببعض الشيء من منصب او مال فينقلبون اعوانا له واحسن احوالهم ان يسكنوا عن الانكار عليه

وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي حتى يدخلوا احدهم معهم في ذلك او يرضوه ببعض ذلك فتراه حينئذ قد صار عونا لهم

وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم الى اقبح من الحال التي كانوا عليها وقد يعودون الى ما هو دون ذلك او نظيره

وقوم يقومون قومه ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما اوذوا فهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير امة اخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله

وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا وهم غالب المؤمنين فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم ارادة الطاعة وارادة المعصية وربما غلب هذا تارة وهذا تارة

وهذه القسمة الثلاثية كما قيل الانفس ثلاث امارة ومطمئنة ولوامة فالأولون هم اهل الانفس الامارة التي تأمرهم بالسوء والأوسطون هم اهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الي ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي سورة الفجر 27 30

والاخرون هم اهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه وتتلوم تارة كذا وتارة كذا او تخلط عملا صالحا وأخر سيئا وهؤلاء يرجى ان يتوب عليهم اذا اعترفوا بذنوبهم كما قال الله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم ان الله غفور رحيم سورة التوبة 102

ولهذا لما كان الناس في زمن ابي بكر وعمر اللذين امر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال ﷺ اقتدوا باللذين من بعدي ابي بكر وعمر اقرب عهدا بالرسالة وأعظم ايمانا وصلاحا وأئمتهم اقوم بالواجب واثبت في الطمأنينة لم تقع فتنة اذ كانوا في حكم القسم الوسط

ولما كان في اخر خلافة عثمان في خلافة على رضي الله عنهما كثر القسم الثالث فصار فيهم شهوة وشبهة مع الايمان والدين وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا ثم كثر ذلك بعد فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين واختلاطما بنوع من الهوى والعصبية في الطكرفين وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وان معه الحق والعدل ومع هذا التأويل نوع من الهوى ففيه نوع من الظن وما تهوى الانفس وان كانت احدى الطائفتين اولى بالحق من الاخرى فلهذا يجب على المؤمن ان يستعين بالله ويتوكل عليه في ان يقيم قلبه ولا يزيغه ويثبته على الهدى والتقوى ولا يتبع الهوى

كما قال تعالى فلذلك فادع واستقم كما امرت ولا تتبع اهواءهم وقل امنت بما انزل الله من كتاب وامرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم سورة الشورى 15 وهذا ايضا حال الامة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات

وهذه الامور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين فإنهم يحتاجون الى شيئين الى دفع الفتنة التي ابتلى بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضى لها فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم

فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضى عندهم كما هو الواقع فيقوى الداعي الذي في نفس الانسان وشيطانه ودواعي الخير كذلك وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير

فكم من الناس لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره لا سيما ان كان نظيره يفعله ففعله فإن الناس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بعضهم ببعض

ولهذا كان المبتدئ بالخير وبالشر له مثل من تبعه من الاجر والوزر كما قال النبي ﷺ من سن سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها الى يوم القيامة من غير ان ينقص من اجورهم شيئا ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة من غير ان ينقص من اوزارهم شيئا وذلك لاشتراكهم في الحقيقة وان حكم الشيء حكم نظيره وشبيه الشيء منجذب اليه

فإذا كان هذان داعيين قويين فكيف اذا انضم اليهما داعيان اخران

وذلك ان كثيرا من اهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه ويبغضون من لا يوافقهم وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وكذلك في امور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختار اهلها ويؤثرون من يشاركهم في امورهم وشهواتهم اما للمعاونة على ذلك كما في المتغلبين من اهل الرياسات وقطاع الطريق ونحو ذلك واما لتلذذهم بالموافقة كما في المجتمعين على شرب الخمر مثلا فإنهم يحبون ان يشرب كل من حضر عندهم واما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير اما حسدا له على ذلك وما لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم وإما لئلا يكون له عليهم حجة وإما لخوفهم من معاقبته لهم بنفسه او بمن يرفع ذلك اليهم ولئلا يكونوا تحت منته وحظره ونحو ذلك من الاسباب

قال الله تعالى ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد ايمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم من بعد ما تبين لهم الحق سورة البقرة 109 وقال تعالى في المنافقين ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء سورة النساء 89 وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن

والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في شرب الخمر والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع الثاني كالزاني الذي يود ان غيره يزني او السارق الذي يود ان غيره يسرق لكن في غير العين التي زنى بها او سرقها

وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر فإن شاركهم والا عادوه وآذوه على وجه قد ينتهي الى حد الاكراه او لا ينتهي الى حد الاكراه

ثم ان هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم او يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه متى شاركهم وعاونهم واطاعهم انتقصوه واستخفوا به وجعلوا ذلك حجة عليه في امور اخرى وان لم يشاركهم عادوه وآذوه وهذه حال غالب الظالمين القادرين

وهذا الموجود في المنكر موجود نظيره في المعروف وابلغ منه كما قال الله تعالى والذين امنوا اشد حبا لله سورة البقرة 165 فإن داعي الخير اقوى فإن الانسان فيه داع يدعوه الى الايمان والعلم الصدق والعدل واداء الامانة فاذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع اخر لا سيما اذا كان نظيره لا سيما مع المنافسة وهذا محمود حسن فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ومن يبغضه اذا لم يفعل ذلك صار له داع ثالث فإذا امروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع

ولهذا يؤمر المؤمنون ان يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات كما يقابل الطبيب المرض بضده فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه وذلك بشيئين بفعل الحسنات وبترك السيئات وهذه اربعة انواع

ويؤمر ايضا بإصلاح غيره بهذه الانواع الاربعة بحسب قدرته وامكانه قال تعالى والعصر ان الانسان لفي خسر الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر سورة العصر 1 3

وروى عن الشافعي رضي الله عنه انه قال لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم وهو كما قال فإن الله تعالى اخبر فيها ان جميع الناس خاسرون الا من كان في نفسه مؤمنا صالحا ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر

واذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الاجر كما سئل النبي ﷺ اي الناس اشد بلاء قال الانبياء ثم الصالحون ثم الامثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وان كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الارض وليس عليه خطيئة وحينئذ فيحتاج من الصبر الى ما لا يحتاج اليه غيره وذلك هو سبب الامامة في الدين كما قال تعالى وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون سورة السجدة 24

فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور وترك السيء المحظور ويدخل في ذلك الصبر على الاذى وعلى ما يقال والصبر على ما يصيبه من المكاره والصبر عن البطر عند النعم وغير ذلك من انواع الصبر

ولا يمكن العبد ان يصبر ان لم يكن له ما يطمئن له ويتنعم به ويغتذى به وهو اليقين

كما في الحديث الذي رواه ابو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي ﷺ انه قال يا ايها الناس سلوا الله اليقين والعافية فانه لم يعط احد بعد اليقين خيرا من العافية فسلوهما الله وكذلك اذا امر غيره بحسن او احب موافقته له على ذلك او نهى غيره عن شيء فيحتاج ان يحسن الى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصود من حصول المحبوب واندفاع المكروه فإن النفوس لا تصبر على المر الا بنوع من الحلو لا يمكن غير ذلك

ولهذا امر الله تعالى بتأليف القلوب حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات وقال تعالى لنبيه ﷺ خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين سورة الاعراف 199 وقال تعالى وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة سورة البلد 17 فلا بد ان يصبر وان يرحم وهذا هو الشجاعة والكرم

ولهذا يقرن الله تعالى بين الصلاة والزكاة تارة وهي الاحسان الى الخلق وبينها وبين الصبر تارة

ولا بد من الثلاثة الصلاة والزكاة والصبر لا تقوم مصلحة المؤمنين الا بذلك في صلاح نفوسهم واصلاح غيرهم لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة فإن الحاجة الى ذلك تكون اشد فالحاجة الى السماحة والصبر عامة لجميع بنى آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا ديناهم الا بهما

ولهذا فإن جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى ان ذلك عامة ما يمدح به الشعراء ممدوحيهم فس شعرهم وكذلك يتذامون بالبخل والجبن

والقضايا التي يتفق عليها عقلاء بني آدم لا تكون الا حقا كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل وذم الكذب والظلم

وقد قال النبي ﷺ لما سأله الاعراب حتى اضطروه الى سمرة فتعلقت بردائه فالتفت اليهم وقال والذي نفسي بيده لو ان عندي عدد هذه العضاة نعما لقسمته عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا

ولكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات فإنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرئ من نوى ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن ومدح الشجاعة والسماحة في سبيل الله دون ما ليس في سبيله

فقال النبي ﷺ شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع وقال النبي ﷺ من سيدكم يا بني سلمة فقالوا الجد بن قيس على انا نزنه بالبخل فقال وأي داء أدوى من البخل وفي رواية ان السيد لا يكون بخيلا بل سيدكم الابيض الجعد بشر بن البراء بن معرور

وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما اما ان تعطيني واما ان تبخل عني فقال تقول واما ان تبخل عني واي داء ادوى من البخل فجعل البخل من اعظم الامراض

وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال قال عمر رضي الله عنه قسم النبي ﷺ قسما فقلت يا رسول الله والله لغير هؤلاء احق به منهم فقال انهم خيروني بين ان يسألوني بالفحش وبين ان يبخلوني ولست بباخل يقول انهم يسألوني مسألة لا تصلح فإن اعطيتهم والا قالوا هو بخيل فقد خيروني بين امرين مكروهين لا يتركوني من احدهما المسألة الفاحشة والتبخيل والتبخيل اشد فأدفع الاشد بإعطائهم

والبخل جنس تحته انواع كبائر وغير كبائر قال الله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة سورة آل عمران 180

وقال واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين احسانا سورة النساء 36 الى قوله ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل سورة النساء 36 37 و

قال تعالى وما منعهم ان تقبل منهم نفقاتم الا انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة الا وهم كسالى ولا ينفقون الا وهم كارهون سورة التوبة 54

وقال فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم الى يوم يلقونه سورة التوبة 76 77

وقال ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه سورة محمد 38

وقال فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون سورة الماعون 407

وقال والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهروهم الاية سورة التوبة 3435 - وكثير من الآي في القرآن من الامر بالايتاء والاعطاء وذم من ترك ذلك كله ذم للبخل

وكذلك ذمه للجبن كثير في مثل قوله ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير سورة الانفال 16

وقوله عن المنافقين ويحلفون بالله انهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ او مغارات او مدخلا لولوا اليه وهم يجمحون سورة التوبة 56 57

وقوله فإذا انزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون اليك نظر المغشي عليه من الموت سورة محمد 20

وقوله ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا ايديكم واقيموا الصلاة وأتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال اذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أواشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا اخرتنا الى اجل قريب قل متاع الدنيا قليل والاخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا سورة النساء 77

وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له كله ذم للجبن

ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم الا بالشجاعة والكرم بين الله سبحانه انه من تولى عنه بترك الجهاد بنفسه ابدل الله به من يقوم بذلك ومن تولى عنه بإنفاق ماله ابدل الله به من يقوم بذلك فقال يا ايها الذين امنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم الى الارض ارضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الاخرة الا قليل الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير سورة التوبة 38 39

وقال تعالى ها انتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا امثالكم سورة محمد 38

وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل الله السابقين فقال لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقاتل اولئك اعظم درجة من الذين انفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد 10

وقد ذكر الجهاد بالنفس والمال في سبيله ومدحه في غير آية من كتابه وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه وطاعة رسوله وملاك الشجاعة الصبر الذي يتضمن قوة القلب وثباته ولهذا قال تعالى كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين سورة البقرة 249

وقال تعالى يا أيها الذين امنوا اذا لقيتم فئة فأثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين سورة الانفال 45 46

والشجاعة ليست هي قوة البدن فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب وانما هي قوة القلب وثباته فأن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال وعلى قوة القلب وخبرته به والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون ما لا يصلح فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد

وقد تقدم ان جماع ذلك هو الصبر فإنه لا بد منه والصبر صبران صبر عند الغضب وصبر عند المصيبة كما قال الحسن رحمه الله ما تجرع عبد جرعة اعظم من جرعة حلم عند الغضب وجرعة صبر عند المصيبة

وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هوالشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم والمؤلم ان كان مما يمكن دفعه اثار الغضب وان كان مما لا يمكن دفعه اثار الحزن ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز

ولهذا جمع النبي ﷺ في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي ﷺ ما تعدون الرقوب فيكم قالوا الرقوب الذي لا يولد له قال ليس ذاك بالرقوب ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا ثم قال ما تعدون الصرعة فيكم قلنا الذي لا يصرعه الرجال فقال ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب

قال الله تعالى في المصيبة وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون الاية سورة البقرة 155 156

وقال تعالى في الغضب وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها الا ذو حظ عظيم سورة فصلت 35

وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر المصيبة وصبر النعمة كما في قوله تعالى ولئن اذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه انه ليؤوس كفور ولئن اذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني انه لفرح فخور الا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير سورة هود 9 11

وقال لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم سورة الحديد 23

وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال

ليسوا مفاريح ان نالت رماحهم ... كثرا وليسوا مجازيعا اذا نيلوا ...

وكذلك قال حسان بن ثابت في صفة الانصار

لا فخر ان هم اصابوا من عدوهم ... وان اصيبوا فلا خور ولا هلع

وقال بعض العرب في صفة النبي ﷺ يغلب فلا يبطر ويغلب فلا يضجر

ولما كان الشيطان يدعوالناس عند هذين النوعين الى تعدي الحدود بقلوبهم واصواتهم وايديهم نهى النبي ﷺ عن ذلك فقال لما قيل له لما رأى ابراهيم في النزع أتبكي او لم تنه عن البكاء فقال انما نهيت عن صوتين احمقين فاجرين صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية فجمع بين الصوتين

وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله ﷺ ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية وقال انا برئ من الحالقة والصالقة والشاقة وقال ما كان من العين والقلب فمن الله وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقال ان الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب ولكن يعذب بهذا او يرحم واشار الى لسانه وقال من ينح عليه فانه يعذب بما نيح عليه واشترط على النساء في البيعة الا ينحن وقال ان النائحة اذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران

وقال في الغلبة والمصائب والفرح ان الله كتب الاحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة واذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد احدكم شفرته وليرح ذبيحته

وقال ان اعف الناس قتلة اهل الايمان

وقال لا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا الى غير ذلك مما امر به في الجهاد من العدل وترك العدوان اتباعا لقوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى سورة المائدة 8 ولقوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين سورة البقرة 190

ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب والشرب في آنية الذهب والفضة واطالة الثياب الى غير ذلك من انواع السرف والخيلاء في النعم وذم الذين يستحلون الخمر والحرير والمعازف وجعل فيهم الخسف والمسخ

وقد قال الله تعالى ان الله لا يحب من كان مختالا فخورا سورة النساء 36 وقال عن قارون اذ قال له قومه لا تفرح ان الله لا يحب الفرحين سورة القصص 76

وهذه الامور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب وذلك ان الانسان بين ما يحبه ويشتهيه وبين ما يبغضه ويكرهه فهو يطلب الاول بمحبته وشهوته ويدفع الثاني ببغضه ونفرته واذا حصل الاول او اندفع الثاني اوجب له فرحا وسرورا وان حصل الثاني او اندفع الاول حصل له حزن فهو محتاج عند المحبة والشهوة ان يصبر عن عدوانهما وعند الغضب والنفرة ان يصبر على عدوانهما وعند الفرح ان يصبر عن عدوانه وعند المصيبة ان يصبر عن الجزع منها

فالنبي ﷺ ذكر الصوتين الاحمقين الفاجرين الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الانسان فرحا فخورا والصوت الذي يوجب الجزع عند الحزن حتى يصير الانسان هلوعا جزوعا واما الصوت الذي يثير الغضب لله كالأصوات التي تقال في الجهاد من الاشعار المنشدة فتلك لم تكن بآلات وكذلك اصوات الشهرة في الفرح فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الاعراس والافراح للنساء والصبيان

وعامة الاشعار التي تنشد بالاصوات لتحريك النفوس هي من هذه الاقسام الاربعة اشعار المحبة وهي النسيب واشعار الغضب والحمية وهي الحماسة والهجاء واشعار المصائب كالمراثي واشعار النعم والفرح وهي المدائح

والشعراء جرت عادتهم ان يمشوا مع الطبع كما قال الله تعالى ألم تر انهم في كل واد يهيمون وانهم يقولون مالا يفعلون سورة الشعراء 225 226 ولهذا اخبر انهم يتبعهم الغاوون والغاوي هو الذي يتبع هواه بغير علم وهذا هو الغي وهو خلاف الرشد كما ان الضال هو الذي لا يعلم مصلحته وهو خلاف المهتدي

قال الله سبحانه وتعالى والنجم اذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى سورة النجم 1 2 ولهذا قال النبي ﷺ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي

فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة اذ كان عدم هذين مذموما على الاطلاق واما وجودهما ففيه تحصيل مقاصد النفوس على الاطلاق لكن العاقبة في ذلك للمتقين واما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة والعاقبة وان كانت في الاخرة فتكون في الدنيا ايضا

كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى امم ممن معك وامم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب اليم قال تلك من انباء الغيب نوحيها اليك الى قوله فاصبر ان العاقبة للمتقين سورة هود 48 49

وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا ان الله مع المتقين سورة البقرة 194

والفرقان ان يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله فإن الله تعالى هو الذى حمده زين وذمه شين دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم

ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي ﷺ ان حمدي زين وذمي شين قال له ذاك الله

والله سبحانه حمد الشجاعة السماحة في سبيله كما في الصحيح عن ابي موسى الاشعري رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

وقال قال سبحانه وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الانفال 39 وذلك ان هذا هو المقصود الذي خلق الله الخلق له كما قال تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق له الخلق كان محمودا عند الله وهوالذي يبقى لصاحبه وينفعه الله به وهذه الاعمال هي الباقيات الصالحات ولهذا كان الناس اربعة اصناف

من يعمل لله بشجاعة وبسماحة فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة

ومن يعمل لغير الله بشجاعة ومن وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الاخرة من خلاق

ومن يعمل لله لكن بلا شجاعة ولا سماحة فهذا فيه من النفاق ونقص الايمان بقدر ذلك

ومن لا يعمل لله ولا فيه شجاعة ولا سماحة فهذا ليس له دنيا ولا آخرة

فهذه الاخلاق والأفعال يحتاج اليها المؤمن عموما وخصوصا في أوقات المحن والفتن الشديدة فإنهم يحتاجون الى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضى للفتنة عندهم ويحتاجون ايضا الى امر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم

وكل من هذين الامرين فيه من الصعوبة ما فيه وان كان يسيرا على من يسره الله عليه

وهذا لأن الله امر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح وامرهم بدعوة الناس وجهادهم على الايمان والعمل الصالح

كما قال الله تعالى ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عزيز الذين ان مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور سورة الحج 40 41

وكما قال إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد سورة غافر 51

وكما قال كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ان الله قوي عزيز سورة المجادلة 21

وكما قال وإن جندنا لهم الغالبون سورة الصافات173 - وقال ومن يتول الله ورسوله والذين امنوا فإن حزب الله هم الغالبون سورة المائدة 56

ولما كان في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة

كما قال تعالى عن المنافقين ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني الا في الفتنه سقطوا سورة التوبة 49 الاية وقد ذكروا في التفسير انها نزلت في الجد بن قيس لما امره النبي ﷺ بالتجهز لغزو الروم وأظن أن رسول الله ﷺ قال له هل لك في نساء بني الاصفر فقال يا رسول الله اني رجل لا اصبر على النساء واني اخاف الفتنة بنساء بني الاصفر فائذن لي ولا تفتني وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة واستتر بجمل احمر وجاء فيه الحديث ان كلهم مغفور له الا صاحب الجمل الاحمر فأنزل الله تعالى فيه ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا سورة التوبة 49 يقول انه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء فلا يفتتن بهن فيحتاج الى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك او يواقعه فيأثم فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها اما لتحريم الشارع وأما للعجز عنها تعذب قلبه وان قدر عليها وفعل المحظور هلك وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء

فهذا وجه قوله ولا تفتني قال الله تعالى ألا في الفتنة سقطوا سورة التوبة 49 يقول ان نفس اعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف ايمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغير لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد اصابته

والله تعالى يقول وقاتلوهم حتى لت تكون فتنة ويكون الدين كله لله سورة الانفال 39 فمن ترك القتال الذي امر الله به لئلا تكون فتنة فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده وتركه ما امر الله به من الجهاد فتدبر هذا فان هذا مقام خطر والناس فيه على قسمين قسم يأمرون وينهون ويقاتلون طلبا لإزالة الفتنة زعموا ويكون فعلهم ذلك اعظم فتنة كالمقتتلين في الفتن الواقعة بين الامة مثل الخوارج

وأقوام ينكلون عن الامر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا وهم قد سقطوا في الفتنة

وهذه الفتنة المذكورة في سورة براءة دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة فإنها سبب نزول الآية وهذه حال كثير من المتدينة يتركون ما يجب عليهم من امر ونهي وجهاد يكون به الدين لله وتكون به كلمة الله هي العليا لئلا يفتنوا بجنس الشهوات وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي اعظم مما زعموا انهم فروا منه وانما الواجبة عليهم القيام بالواجب من الامر والنهي وترك المحظور والاستعانة بالله على الامرين ولو فرض ان فعل الواجب وترك المحظور وهما متلازمان وانما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم الا على فعلهما جميعا او تكرهما جميعا مثل كثير ممن يجب الرياسة او المال او شهوات الغي فانه اذا فعل ما وجب عليه من امر ونهي وجهاد وامارة ونحو ذلك فلا بد ان يفعل معها شيئا من المحظورات فالواجب عليه ان ينظر أغلب الامرين فإن كان المأمور اعظم اجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف ان يقترن به ما هو دونه في المفسدة وان كان ترك المحظور اعظم اجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب فعل واجب يكون دون ذلك فذلك يكون بما يجتمع له من الامرين من الحسنات والسيئات فهذا هذا وتفصيل ذلك يطول

وكل بشر على وجه الارض فلا بد له من امر ونهي ولا بد ان يأمر وينهى حتى لو انه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها اما بمعروف واما بمنكر كما قال الله تعالى ان النفس لأمارة بالسوء سورة يوسف 53

فإن الأمر هو طلب الفعل وارادته والنهي طلب الترك وارادته ولا بد لكل حى من ارادة وطلب في نفسه يقتضى بهما فعل نفسه ويقتضى بهما فعل غيره اذا امكن ذلك فإن الانسان حي يتحرك بإرادته

وبنو آدم لا يعيشون الا باجتماع بعضهم مع بعض واذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد ان يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن امر ولهذا كان اقل الجماعة في الصلاة اثنين كما قيل الاثنان فما فوقهما جماعة لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين احدهما امام والاخر مأموم كما قال النبي ﷺ لمالك ابن الحويرث وصاحبه رضي الله عنهما اذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وكانا متقاربين في القراءة

وأما في الامور العادية ففي السنن انه ﷺ قال لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم احدهم

واذا كان الامر والنهي من لوازم وجود بني آدم فمن لم يأمر بالمعروف الذي امر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله ويؤمر بالمعروف الذي امر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله وإلا فلا بد من ان يأمر وينهى ويؤمر وينهى اما بما يضاد ذلك واما بما يشترك فيه الحق الذي انزله الله بالباطل الذي لم ينزله الله واذا اتخذ ذلك دينا كان دينا مبتدعا ضالا باطلا

وهذا كما ان كل بشر فإنه حي متحرك بإرادته همام حارث فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله والا كان عملا فاسدا او لغير وجه الله وهو الباطل كما قال تعالى ان سعيكم لشتى سورة الليل

وهذه الاعمال كلها باطلة من جنس أعمال الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم سورة محمد 1

وقال تعالى والذين كفروا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحسباب سورة النور 39 وقال وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا سورة الفرقان 23

وقد امر الله تعالى في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة اولي الأمر من المؤمنين كما قال تعالى يا أيها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول وأولي الامر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تأويلا سورة النساء 59

وأولوا الامر اصحاب الامر وذووه وهم الذين يأمرون الناس وينهونهم وذلك يشترك فيه اهل اليد والقدرة واهل العلم والكلام فلهذا كان اولو الامر صنفين العلماء والامراء فاذا صلحوا صلح الناس واذا فسدوا فسد الناس

كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته ما بقاؤنا على هذا الامر الصالح قال ما استقامت لكم ائمتكم

ويدخل فيهم الملوك والمشايخ واهل الديوان وكل من كان متبوعا فإنه من اولى الامر وعلى كل واحد من هؤلاء ان يأمر بما امر الله به وينهى عن ما نهى الله عنه وعلى كل واحد ممن عليه طاعته ان يطيعه في طاعة الله ولا يطيعه في معصية الله

كما قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى امر المسلمين وخطبهم فقال في خطبته ايها الناس القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق اطيعوني ما اطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم
فصل

واذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين ان يراد بها وجه الله وان تكون موافقة للشريعة فهذا في الاقوال والافعال في الكلم الطيب والعمل الصالح في الامور العلمية والامور العملية العبادية

ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ ان اول ثلاثة تسجر بهم جهنم رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس هو عالم وقارئ ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس هو شجاع وجرئ ورجل تصدق واعطى ليقول الناس هو جواد وسخي فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقا ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيدا ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحا

ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت كما قال ابن عباس رضي الله عنهما من اعطي مالا فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت وقرأ قوله تعالى وانفقوا مما رزقناكم من قبل ان يأتي احدكم الموت فيقول رب لولا اخرتني الى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين سورة المنافقون 10

ففي هذه الامور العلمية الكلامية يحتاج المخبر بها ان يكون ما يخبر به عن الله واليوم الاخر وما كان وما يكون حقا وصوابا وما يأمر به وما ينهي عنه كما جاءت به الرسل عن الله فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة المتبع لكتاب الله وسنة رسوله كما ان العبادات التي يتعبد العباد بها اذا كانت مما شرعة الله وامر الله به ورسوله كانت حقا صوابا موافقا لما بعث الله به رسله وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل وان كان يسميه من يسميه علوما ومعقولات وعبادات ومجاهدات واذواقا ومقامات

ويحتاج ايضا ان يؤمر بذلك لأمر الله به وينهى عنه لنهي الله عنه ويخبر بما اخبر الله به لأنه حق وايمان وهدى كما أخبرت به الرسول كما تحتاج العبادة إلى أن يقصد بها وجه الله فاذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية او لإظهار العلم والفضيلة او لطلب السمعة والرياء كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء

ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من اهل العلم والمقال واهل العبادة والحال واهل الحرب والقتال من لبس الحق بالباطل في كثير من الاصول فكثيرا ما يقول هؤلاء من الاقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة او ما يتضمن خلاف السنة ووفاقها وكثيرا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها بل قد نهى عنها او ما يتضمن مشروعا ومحظورا وكثيرا ما يقاتل هؤلاء قتالا مخالفا للقتال المأمور به او متضمنا لمأمور به ومحظور





****************************
/17



الاستقامة/17

< الاستقامة اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

الاستقامة/16 الاستقامة
المؤلف: ابن تيمية











ثم كل من الاقسام الثلاثة المأمور به والمحظور والمشتمل على الامرين قد يكون لصاحبه نية حسنة وقد يكون متبعا لهواه وقد يجتمع له وهذا وهذا

فهذه تسعة اقسام في هذه الامور في الاموال المنفقة عليها من الاموال السلطانية الفئ وغيره والاموال الموقوفة والاموال الموصى بها والاموال المنذورة وانواع العطايا والصدقات والصلات

وهذا كله من لبس الحق بالباطل وخلط عمل صالح واخر شيء والسيء من ذلك قد يكون صاحبه مخطئا او ناسيا مغفورا له كالمجتهد المخطىء الذي له اجر وخطؤه مغفور له وقد يكون صغيرا مكفرا باجتناب الكبائر وقد يكون مغفورا بتوبة او بحسنات تمحو السيئات او مكفرا بمصائب الدنيا ونحو ذلك الا ان دين الله الذي انزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من ارادة الله وحده بالعمل الصالح

وهذا هو الاسلام العام الذي لا يقبل الله من احد غيره قال تعالى ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين سورة آل عمران 85

وقال تعالى شهد الله انه لا اله الا هو والملائكة واولو العلم قائما بالقسط لا اله الا هو العزيز الحكيم ان الدين عند الله الاسلام سورة آل عمران 18 19

والاسلام يجمع معنيين احدهما الاستسلام والانقياد فلا يكون متكبرا والثاني الاخلاص من قوله تعالى ورجلا سلما لرجل سورة الزمر 29 فلا يكون مشتركا وهو ان يسلم العبد لله رب العالمين كما قال تعالى ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وانه في الاخرة لمن الصالحين اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ووصى بها ابراهيم بنيه ويعقوب يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون سورة البقر 130 132

وقال تعالى قل انني هداني ربي الى صراط مستقيم دينا قيما ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وانا اول المسلمين سورة الانعام 161 163

والاسلام يستعمل لازما معدى بحرف اللام مثل ما ذكر في هذه الايات ومثل قوله تعالى قالت رب اني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44

ومثل قوله تعالى وأنيبوا الي ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون سورة الزمر 54

ومثل قوله أفغير دين الله يبغون وله اسلم من في السموات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون سورة آل عمران 83

ومثل قوله قل اندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على اعقابنا بعد اذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الارض حيران له اصحاب يدعونه الى الهدي ائتنا قل ان هدى الله هو الهدي وامرنا لنسلم لرب العالمين وان اقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي اليه تحشرون سورة الانعام 71 72

ويستعمل متعديا مقرونا بالإحسان كقوله تعالى وقالوا لن يدخل الجنة الا من كان هودا او نصارى تلك امانيهم قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 111 112

وقوله تعالى ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا سورة النساء 125 فقد انكر الله ان يكون دين احسن من هذا الدين هو اسلام الوجه لله مع الاحسان واخبر انه كل من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون سورة البقرة 112 اثبت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعمه من زعمه انه لا يدخل الجنة الامتهود او متنصر

وهذان الوصفان وهما اسلام الوجه لله والاحسان هما الاصلان المتقدمان وهما كون القول والعمل خالصا لله صوابا موافقا للسنة والشريعة وذلك ان إسلام الوجه لله هو يتضمن اخلاص القصد والنية لله كما قال بعضهم ... استغفر الله ذنبا لست محصيه ... رب العباد اليه الوجه والعلم

وقد استعمل هنا اربعة الفاظ اسلام الوجه واقامة الوجه كقوله تعالى واقيموا وجوهكم عند كل مسجد سورة الاعراف 29 وقوله تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها سورة الروم 30 وتوجيه الوجه كقول الخليل وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين سورة الانعام 79

وكذلك كان النبي ﷺ يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين سورة الانعام 79

وكان يقول اذا اوى الى فراشه اللهم اسلمت نفسي اليك ووجهت وجهي اليك رواه البراء بن عازب في الصحيح ايضا

فالوجه يتناول المتوجه بكسر الجيم والمتوجه بفتح الجيم اليه ويتناول التوجه نفسه كما يقال أي وجه تريد أي أي جهة وناحية تقصد وذلك انهما متلازمان فحيث توجه الانسان توجه وجهه ووجهه مستلزم لتوجهه وهذا في باطنه وظاهره جميعا فهي اربعة امور والباطن هو الاصل والظاهر هو الكمال والشعار فاذا توجه قلبه الى شيء تبعه وجهه الظاهر فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه الى الله فهذا صلاح ارادته وقصده فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع له ان يكون عمله صالحا وان يكون لله تعالى

كما قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا الكهف 110

وهو قول عمر رضي الله عنه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا

والعمل الصالح هو الاحسان وهو فعل الحسنات وهو ما امر الله به والذي امر الله به هو الذي شرعه الله وهو الموافق لكتاب الله وسنة رسوله فقد اخبر الله تعالى انه من اخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب

ولهذا كان ائمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الاصلين كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم احسن عملا سورة الملك 2 قال اخلصه واصوبه فقيل له يا ابا على ما اخلصه واصوبه فقال ان العمل اذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقل واذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة

وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير قال لا يقبل قول الا بعمل ولا يقبل قول وعمل الا بنية ولا يقبل قول وعمل ونية الا بموافقة السنة ورويا عن الحسن البصري مثله ولفظ ما روى عن الحسن لا يصلح مكان لا يقبل

و وهذا فيه رد على الذين يجعلون مجرد القول كافيا فأخبر أنه لا بد من قول وعمل المرجئة اذا الايمان قول وعمل لا بد من هذين كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا ان مجرد تصديق القلب ونطق اللسان مع البغض لله وشرائعه والاستكبار على الله وشرائعة لايكون ايمانا باتفاق المؤمنين حتى يقترن بالتصديق عمل صالح

واصل العمل عمل القلب وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار ثم قالوا لا يقل قول وعمل الا بنية وهذا ظاهر فإن القول والعمل اذا لم يكن خالصا لله لم يقبله الله تعالى ثم قالوا لا يقبل قول وعمل ونية الا بموافقة السنة وهي الشريعة وهي ما امر الله به ورسوله ﷺ لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد امر الله به يكون بدعة وكل بدعة ضلالة ليس مما يحبه الله فلا يقبله الله ولا يصلح مثل اعمال المشركين واهل الكتاب

ولفظ السنة في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات وان كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات وهذا كقول ابن مسعود وابي بن كعب وابي الدرداء رضى الله عنهم اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة وامثال ذلك
فصل في الإكراه وما يتعلق به

ان الله سبحانه أمرنا بالمعروف وهو طاعته وطاعة رسوله وهو الصلاح والحسنات والخير والبر ونهى عن المنكر وهو معصيته ومعصية رسوله وهو الفساد والسيئات والشر والفجور وقيد الايجاب بالاستطاعة والوسع واباح مما حرم ما يضطر المرء اليه غير باغ ولا عاد فقال تعالى اتقوا الله حق تقاته سورة آل عمران 102 وقال فاتقوا الله ما استطعتم سورة التغابن 16

وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ انه قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على انبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه واذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فأوجب مما امر به ما يستطاع وكذلك فإن النبي ﷺ قال في حديث اخر انكم لن تحصوا او تستطيعوا كل ما امرتم به ولكن

وقال ان هذا الدين يسر ولن يشاد الدين احد الا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا وقال تعالى في صفة هذا النبي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم سورة الاعراف 157

وهذا العام المجمل فصله فقال لما اوجب الصيام ومن كان مريضا او على سفر فعدة من ايام اخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر سورة البقرة 185

وقال لما ذكر التيمم ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم سورة المائدة 6

وقال وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج سورة الحج 78

وقال لما اوجب الجهاد ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج اذا نصحوا لله ورسوله سورة التوبة 91

وقال لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير اولي الضرر سورة النساء 95

وقال في الهجرة ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الى قوله الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله ان يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا سورة النساء 98 99

وقال تعالى في الانفاق يسألونك ماذا ينفقون قل العفو سورة البقرة 219

وقال في العموم لا يكلف الله نفسا الا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا ان نسينا او أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا الاية سورة البقرة 286

وثبت في الصحيح ان الله تعالى قال قد فعلت وان النبي ﷺ لم يقرأ بحرف منها الا اعطيه

وقال لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما اتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا سورة الطلاق 7

وقال والذين امنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا الا وسعها سورة الاعراف 42

وقال واوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا الا وسعها سورة الانعام 152

وقال وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث اذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا اتينا حكما وعلما سورة الانبياء 78 79

وقال واذا ضربتم في الارض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة سورة النساء 101

وقال في القرآن فأقرؤوا ما تيسر منه سورة المزمل 20

وفي الصحيح عن النبي ﷺ انه قال انزل القرآن على سبعة احرف فأقرأوا ما تيسر منه

وقال في المحرمات انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم سورة النحل 115 وفي الاية الاخرى قل لا اجد فيما اوحى الى محرما على طاعم يطعمه الاان يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير فإنه رجس او فسقا اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم سورة الانعام 145 وهاتان في السورتين المكيتين الانعام والنحل

وقال في السورتين المدينيتن يا أيها الذين امنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الى قوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم سورة البقرة 172 173

وفي الاية الاخرى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع الا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وان تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دين فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم سورة المائدة 3

فهذا في تحريم المطاعم قد رفع الاثم عمن اضطر غير باغ ولا عاد والباغي والعادي قد قيل انهما صفة للشخص مطلقا فالباغي كالباغي على امام المسلمين واهل العدل منهم

كما قال تعالى فان بغت احداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ الى امر الله سورة الحجرات 9

والعادي كالصائل قاطع الطريق الذي يريد النفس او المال وقيل انهما صفة لغير المضطر فالباغي الذي يبغى المحرم مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتجاوز قدر الحاجة

كما قال فمن اضطر في مخمصةغير متجانف لإثم سورة المائدة 3

وقال في المناكح ومن لم يستطع منكم طولا ان ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات سورة النساء 25 الى قوله يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم سورة النساء 26 يريد الله ان يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا النساء 28

وقال ايضا في محظورات العبادات كالإحرام ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى مجله فمن كان منكم مريضا او به اذى من رأسه ففديه من صيام او صدقة او نسك فاذا امنتم فمن تمتع بالغمرة الى الحج فما استيسر من الهدى سورة البقرة 196 ثم قال ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا الاية سورة البقرة 196

وفي الصلاة الخوف قال واذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا اسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة اخرى الاية سورة النساء 102

وقال في محظور الكلام بالكفر من كفر بالله من بعد ايمانه الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم سورة النحل 156

وقال لا يتخذ المؤمنون الكافرين اولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الا ان تتقوا منهم تقاة سورة آل عمران 28

وقال في محظور الفعال ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم سورة النور 33

فأباح سبحانه عند الاكراه ان ينطق الرجل بالكفر بلسانه اذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان بخلاف من شرح بالكفر صدرا وأباح للمؤمنين ان يتقوا من الكافرين تقاة مع نهيه لهم عن موالاتهم وعن ابن عباس ان التقية باللسان

ولهذا لم يكن عندنا نزاع في ان الاقوال لا يثبت حكمها في حق المكره بغير حق فلا يصح كفر المكره بغير حق ولا ايمان المكره بغير حق كالذمي الموفى بذمته كما قال تعالى فيه لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي سورة البقرة 256

بخلاف المكره بحق كالمقاتلين من اهل الحرب حتى يسلموا ان كان قتالهم الى الاسلام او اعطاء الجزية ان كان القتال على احدهما كما قال تعالى فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الى قوله فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم سورة التوبة 5

وكما قال النبي ﷺ امرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله فاذا قالوها عصموا منى دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله ولهذا لم صح بيع المكره بغير حق وشراؤه وسائر عقوده المالية ولا نكاحه وطلاقه وسائر عقوده البضعية ولا يمينه ونذره وسائر العقود التي اكره عليها بغير حق بخلاف ما اكره عليه بحق كالدين اذا وجب عليه بيع ماله لوفاء دينه

وكما في الصحيح عن ابي هريرة قال بينما نحن عند النبي ﷺ اذ خرج علينا رسول الله ﷺ فقال انطلقوا الى يهود فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس فقام النبي ﷺ فناداهم فقال يا معشر يهود اسلموا يسلموا قالوا قد بلغت يا ابا القاسم فقال ذلك اريد ثم قال الثانية فقالوا قد بلغت يا ابا القاسم ثم قال الثالثة فقال اعلموا انما الارض لله ورسوله واني اريد ان اجليكم من هذه الارض فمن وجد منكم بماله شيئا فليبعه والا فاعلموا ان الارض لله ورسوله

وكالمبايع للنبي ﷺ ما امره الله ان يبايع عليه وعلى هذا يخرج المكره على البيعة للأمير اذا كان مكرها هل هو مكره بحق او بغير حق وهل هو مبايع على ما امره الله ان يبايع عليه او على غير ذلك وقد يتأول بعض اهل الاهواء هذه الآيات على غير تأويلها كتأويل الرافضة انهم هم المؤمنون وان سواهم كافرون فقد يستعملون معهم التقية ولهم في ذلك من الباطل ما ليس هذا موضعه

واما الاكراه على الافعال المحرمة فهل يباح بالاكراه على قولين هما روايتان عن احمد احداهما لا تباح الافعال المحرمة كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وشرب الخمر بالإكراه بخلاف الاقوال كما قال ابن عباس انما التقية باللسان ولأن الافعال يثبت حكمها بدون القصد حتى من المجنون وغيره بخلاف الاقوال فإنه يعتبر فيها المقصد

والثانية وهي اشهر انها تباح بالإكراه كما تباح المحرمات بالأضطرار فإن المكره قد يخاف من القتل اعظم مما يخاف المضطر غير باغ ولا عاد ولأن المضطر يتناوله الاضرار لفظا او معنى فإنه مضطر غير باغ ولا عاد

وقد دل على ذلك قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد اكرههن غفور رحيم سورة الانور 33

وهذا في الافعال المحرمة لحق الله فيها فأما قتل المعصوم فلا يباح بالاكراه بلا نزاع لانه ليس له ان يحيى نفسه بموت ذلك المعصوم وليس ذلك بأولى من العكس بل طلبه احياء نفسه بالاعتداء على غيره ظلم محض واذا كان المضطر الى إطعام نفسه ليس لغيره ان يأخذه منه عند الاضطرار فليس لأحد ان يقتل غيره ليحيى هو نفسه بل هذا ظلم وعدوان وهو موجب للقود على المكره والمكره في مذهب احمد والمشهور من مذهب الشافعي لاشتراكهما في الفعل هذا بالمباشرة المحرمة وهذا بالتسبب المفضىالى الفعل غالبا وقيل انما يجب على المكره الظالم لأن المكره قد صار كالآلة وهذا قول ابي حنيفة وقيل بالعكس وهو قول زيد وهو قول ردئ فإنه لحظ ظاهر المباشرة او السبب وهذا في المكره الذي يفعل بإرادة اكراه عليها

ولهذا صح ان يقال في هذا المكره هو مريد مختار وصح ان يقال ليس بمختار فان المختار من له اختيار وارادة وهذا المكره ارادته واختياره الذي هو فيه ان لا يفعل ذلك الفعل الذي اكره عليه ولكن لما الجئ بما يوقع به من العذاب الى احداث اختيار اخر وارادة اخرى يفعل بها ما اكره عليه صح اثبات الاختيار والارادة له باعتبار ما احدثه الاكراه فيه وصح نفي ذلك باعتبار انه من نفسه ليس له اختيار ولا ارادة بل ارادته واختياره في نفي ذلك الفعل

وحقيقة الأمر ان له ارادتين الارادة الاصلية ان لا يفعل هذا بل هو كاره له مبغض له نافر عنه ولا طريق له الى ذلك الا فعل ما اكره عليه فصارت فيه ارادة ثانية تخالف الاولى لهذا السبب فهذا المكره وان كان عاقلا انما يفعل بغير ارادته واختياره الاصلي فهو يفعل بإرادة اخرى واختيار اخر ويفعل ايضا بقدرته ولهذا صح ان يرد على فعله الامر والنهى والاباحة فيقال يباح له التكلم ويحرم عليه قتل المعصوم واما ان اكره الرجل على الزنا فإذا قال بعض الفقهاء انه لا يكون مكرها اذ انه فاعل بقدرة واختيار لم يصح ذلك وكذلك الجائع الفقير الذي سرق ليأكل لا اثم عليه وقد اضطر الى تلك الارادة والاختيار لمخمصته فالضرر الذي لحقه ألجأه الى هذه الارادة والفعل

فأما المفعول به الفعل الذي هو محل غيره وآلة له مثل المرأة أو الصبي الذي يشد ويربط ويفجر به ومثل الذي يوجر الخمر ويلذ بها من غير قصد اصلا ولا فعل اصلا كما يلذ النائم الذي لا شعور له وكما يحقن المريض النائم الذي لم يشعر بالحقنة فهذا لا فعل له اصلا بل هو محل لفعل غيره وآله له واذا لم يكن منه فعل لم يقل انه فعل محرما ولا غير محرم بل غيره فعل فيه او به محرما فالإثم حينئذ على ذلك الفاعل لكن ان صدر منه نوع تمكين بأن لا يستفرغ وسعه في الامتناع او نوع ارادة بأن لا تكون ارادته جازمة في الامتناع فذلك فيه نوع فعل

والارادة الجازمة هي التي يقترن بها القدرة فالمكره على شيء انما يمتنع بمقدار ما يقدر عليه من الامتناع عما يفعل به فمتى كانت ارادة الانسان جازمة في الامتناع فلا بد ان يفعل مقدوره ومتى فعل مقدوره كان بمنزلة الممتنع الكامل الامتناع الذي لم يفعل به شيء فإن الارادة الجازمة المقترن بها كمال القدرة يجري صاحبها مجرى الفاعل التام في الثواب والعقاب

فالمستكره على الزنا به من امرأة او صبي يكون استكراهه اما بالكراهة حتى لا يريد التمكين وهو القاسم الاول واما بأن يفعل به مع كمال امتناعه وهو كمال ارادته في الامتناع بحيث يفعل مقدوره في الامتناع ولو لم يمتنع حتى فعل به كان مطاوعا وكان زانيا وان لم يطلب ذلك لان الله اوجب عليه كمال النفور عن ذلك والغيرة منه والبغض له بحيث يقرن بذلك كمال الامتناع فإذا لم يوجد منه هذا النفور وهذا الامتناع كان مطاوعا فان دفع الصائل علىالحرمة واجب بلا نزاع

واما دفع الصائل على النفس الذي يريد قتل المعصوم بغير حق اذا لم يكن القتال في فتنة فهل يجب دفعه فيه قولان هما روايتان عن احمد ان الممكن ليس بفاعل بل ولو اراد مريد قتله وجب عليه ذلك كما يجب عليه الاكل من الميتة عند المخمصة فكما يحرم عليه قتل نفسه يجب عليه فعل ما لا تبقى النفس الا به من طعام وشراب ودفع ضرر بلباس ونحو ذلك فإذا امكنه الهرب ونحوه وجب عليه ذلك

واما اذا كان دفع الصائل عن نفسه يحتاج الى قتال الصائل فهنا فيه محذور اخر وان كان جائزا وهو قتل الاخر فلهذا خرج الخلاف في وجوب دفعه عن نفسه

وأصل هذا أن الذى لم يرد الفعل المحرم به عليه ان يبغضه بغضا تاما يقترن به فعل المقدور من الدفع فإذا لم يوجد ذلك فهو تارك لما وجب عليه من البغض والدفع وهل يكون مريدا له فالمزني به من غير فعل ولا إرادة ولا كمال بغض ودفع هل يقال إنه مريد زان وهل يقال عن المقتول من غير فعل منه ولا إرادة ولا كمال بغض ودفع إنه مريد لقتل نفسه قاتل أو يقال بل ليس بمبغض ولا ممتنع وهل انتفاء البغض والامتناع مستلزم للإرادة والفعل

وسبب الاشتباه ان الانسان قد يخلو عن ارادة الشيء وكراهته وحبه وبغضه كما يخلو عن التصديق بالشيء والتكذيب له فكم من امور يحبها من وجه ويبغضها من وجه

فالأقسام اربعة اما مراد واما مكروه واما مراد مكروه واما غير مراد ولا مكروه ولكن اذا كان المقتضى لإرادة المقدور قائما فإنما يوجب وجود ارادته وفعله الا لمانع وكذلك اذ كان المقتضى لبغض فعل المحرم به والامتناع من ذلك قائما

فإذا لم يوجد البغض والامتناع فلا بد من معارض مانع وذلك هو المقتضى للإرادة والتمكين فالإنسان قد لا يريد الشيء ولا يكرهه لعدم سبب الارادة والكراهة فأما مع وجود المقتضى فلا بد من وجود مقتضاه الا لمانع فلهذا من لم يبغض ولم يمتنع عن فعل المحرم به مع قدرته على الامتناع فأنه يكون مريدا فاعلا ولهذا يقال انه مطاوع وان كان قد يجتمع في قلبه البغض لذلك والارادة باعتبارين كما يجتمع في قلب المكره على الشيء ارادة فعل المكره عليه وكراهة ذلك باعتبارين

فمن أوجر طعاما محرما يقدر على الامتناع منه فلم يفعل او فعل به فاحشة يقدر على الامتناع منها فلم يفعل كانت معصيته بترك ما وجب عليه من الكراهة والامتناع وبفعل ما نهى من الارادة والمطاوعة ولا يكون غير مريد ولا فاعل الا اذا كان كارها تام الكراهة وذلك يوجب فعل المقدور عليه من الامتناع

فأما اذا كان كارها كراهة قاصرة فإن الارادة تصحب مثل هذه الكراهة وفي مثل هذا يصحبها الفعل لا محالة لأن المقتضى لكمال الكراهة قائم وهو ما في ذلك من الحرمة والعقوبة فإذا لم تحصل هذه الكراهة فإما لضعف المقتضى وهو العلم في ذلك من الحرمة والعقوبة واما لوجود المانع وهو نوع من الارادة عارض للبغض او سببه اما وجود لذة من الفعل واما رغبة في عوض واما رهبة اوجبت ارادة المكره وحينئذ فيكون بمنزلة الفاعل لرغبة او رهبة لا يكون بمنزلة عديم الفعل

ولهذا مضت الشريعة بأن المطاوعة زانية وكذلك المفعول به من الذكران كما قال تعالى الزاني لا ينكح الا زانية او مشركة والزانية لا ينكحها الا زان او مشرك وحرم ذلك على المؤمنين سورة النور 3

ولو ادعي مدع ان المفعول به اذا لم يوجد منه ارادة ولا حركة في الفعل لم يكن فاعلا لم يقبل ذلك بل يقال لولا وجود ارادة توجب البغض المقتضى للامتناع لم يكن فاعلا

وقد ذكر الفقهاء الملموس هل تنتقض طهارته كاللامس على قولين هما روايتان عن احمد وكذلك الموطوءة في رمضان هل تجب عليها كفارة اخرى على هذا يظهر الفرق في الاحكام بين الممكن من فعل الفاحشة به والممكن من قبل نفسه

وفي الجملة فإن فعل الفاحشة حرام لا يباح بحال ولا يباح بما يقال انه ضرورة بخلاف تمكين الانسان من قبل نفسه فإن جنس هذا يباح بل كما فعل عمار والاول حال أكابر الصحابة

وقد اخرجا في الصحيحين عن خباب بن الارت قال شكونا الى رسول الله ﷺ وهو متوسط بردة له في ظل الكعبة فقلنا يا رسول الا تستنصر لنا الا تدعو لنا فقال قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الارض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الامر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف الا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تعجلون

ومعلوم ان هذا انما ذكره النبي ﷺ في معرض الثناء على اولئك لصبرهم وثباتهم وليكون ذلك عزة للمؤمنين من هذه الامة

وقد دل على ذلك ايضا ما ذكره الله في قصة اصحاب الاخدود حيث قال ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات سورة البروج 10 الاية

وقد روى مسلم في صحيحه عن صهيب قصتهم مبسوطة فيها ان الراهب صبر حتى قتل وان الغلام امر بقتل نفسه لما علم ان ذلك سبب لايمان الناس إذا رأوا تلك الآية وأن الناس لما آمنو فتنهم الكفار حتى يرجعوا عن دينهم فلم يرجعوا حتى ان المرأة التي ارادت ان ترجع انطق الله صبيها وقال اصبري يا اماه فإنك على الحق

وقال الله تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت اعمالهم الاية سورة البقرة 217

وقال تعالى قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا او لتعودن في ملتنا قال اولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد اذ نجانا الله منها وما يكون لنا ان نعود فيها الا ان يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وانت خير الفاتحين سورة الاعراف 88 89

وقال تعالى وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من ارضنا او لتعودن في ملتنا فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الارض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد سورة ابراهيم 13 14

وقال كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل امة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب سورة غافر 5

وقال قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين سورة الاعراف 128

وقال ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين سورة الانعام 34

وقال واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك او يقتلوك او يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين سورة آل عمران 54

وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين امنوا معه متى نصر الله الا ان نصر الله قريب سورة البقرة

وهكذا اخبار هذه الأمة من السلف والخلف كالممتحنين من السابقين الاولين والتابعين لهم بإحسان مثل الذين انزل الله فيهم القرآن حيث قال وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا اخرجنا من هذه القرية الظالم اهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا سورة النساء 75

وفي الهجرة قال الا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله ان يعفو عنهم سورة النساء 99

وفي الصحيحين عن ابي هريرة ان النبي ﷺ كان يدعو في صلاته اللهم انج عياش بن ابي ربيعة وسلمه بن هشام اللهم انج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف

وفي الصحيح ايضا في حديث الحديبية قصة ابي جندل بن سهيل بن عمرو لما جاء يوسف في قيوده ورده النبي ﷺ اليهم وقصة ابي بصير وغيرهما من المستضعفين

وكذلك في الصحيح عن سعيد بن زيد انه قال لقد رأيتني وان عمر موثقي على الاسلام ولو انقض احد مما عملتم بعثمان كان محقوقا ان ينقض

فهؤلاء كلهم اختاروا القيد والحبس على النطق بكلمة الكفر وقد اوذى النبي ﷺ وابو بكر وعمر وغيرهما بأنواع من الاذى بالضرب وغيره وصبروا على ذلك ولم ينطق احد منهم بكلمة كفر بل قد سعوا في قتل النبي ﷺ بأنواع مما قدروا عليه من السعي وهو صابر لأمر الله كما امره الله تعالى وان كان النبي ﷺ قد اخبر في اثناء الامر بان الله يعصمه من الناس فلم يكن قد اخبر اولا بانه يعصم من انواع الاذى

واما السابقون فلم يخبروا بذلك وكذلك خبيب بن عدي الذي صلبه المشركون حين اخرجوه من الحرم ولم يتكلم بكلمة الكفر وقصته في الصحيح لكن قد يقال ان هذا لم يكن قصدهم منه ان يعود الى دينهم فإنه كان من الانصار وكانوا يقتلونه بمن قتل منهم يوم بدر بخلاف اقاربهم وحلفائهم ومواليهم فإنهم كانوا يحبونهم ويكرمونهم ولم يكونوا يريدون منهم الا الكفر بعد الايمان

وقد ذم الله في كتابه من يرتد ويفتتن ولو اكره وهذا هو الذي ذمه الله بقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا سورة النحل 106 وكذلك يذم من يترك الواجب الظاهر ويفعل المحرم الظاهر عندما يصيبه من الاذى والفتن كما قال ولا يزالون يقاتلونكم سور البقرة 217 الاية كما تقدم

وقال تعالى ومن الناس من يعبد الله على حرف فان اصابه خير اطمأن به وان اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين سورة الحج 11

وقال آلم احسب الناس ان يتركوا ان يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين الاية الى قوله ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن انا كنا معكم او ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين سورة العنكبوت 1 10

وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنةولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية سورة البقرة

وقال ام حسبتم ان تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين سورة آل عمران 142

وقال لما ذكر الردة التي استثنى منها المكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وان الله لا يهدي القوم الكافرين سورة النحل 106

ثم قال ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم سورة النحل 110 نزلت في الذين فتنهم المشركون حتى اصابوهم ثم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا وصبروا فأخبر الله انه غفر لهم ورحمهم فعلم ان تلك الفتنة كانت من ذنوبهم وذلك اما لعدم الاكراه التام المبيح للنطق بكلمة الكفر واما لعدم الطمأنينة بالإيمان فلا يستحق صاحبه الوعيد

وعلى من اكره على الخروج في العساكر الظالمة مثل ان يكره المستضعفون من المؤمنين على الخروج مع الكافرين لقتال المؤمنين كما اخرج المشركون عام بدر معهم طائفة من المستضعفين فهؤلاء اذا امكنهم ترك الخروج بالهجرة او بغيرها والا فهم مفتونون وفيهم نزل قوله تعالى ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا الم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها سورة النساء97 – لأنهم فعلوا المحرم مع القدرة على تركه

وقد روى البخاري في صحيحه عن ابي الاسود قال قطع على اهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة فأخبرته فنهاني اشد النهي ثم قال اخبرني ابن عباس ان اناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله ﷺ فيأتى السهم فيرمي به فيصيب احدهم فيقتله او يضربه فيقتله فأنزل الله ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم سورة النساء 97

واما اذا كانوا غير قادرين على الترك بحيث لو لم يخرجوا لقتلهم المشركون ونحو ذلك فهؤلاء غير مأثومين في الاخرة لما روى ان النبي ﷺ قال يغزو هذا البيت جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الارض اذ خسف بهم فقالت ام سلمة ففيهم المكره يا رسول الله قال يحشرون على نياتهم

وفي الصحيح عن حذيفة عن النبي ﷺ قال ستكون فتنة القاعد فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ او معاذا فليعذ به وفي رواية فإذا وقعت فمن كان له ابل فليلحق بإبله ومن كان له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له ارض فليلحق بأرضه فقال رجل يا رسول الله أرأيت ان اكرهت حتى ينطلق بي الى احد الصفين يضربني رجل بسيفه ويجئ سهم فيقتلني قال يبوء بإثمه وإثمك ويكون من اصحاب النار

فقد امر ﷺ بالهجرة الى حيث لا يقاتل وبإفساد السلاح الذي يقاتل به في الفتنة واخبر ان المكره لا اثم عليه ولما كان القتال في الفتنة كان قاتله قاتلا له بغير حق فباء بإثمه واثم صاحبه

واما المكره الذي يقاتل طائفة بحق كالذي يكون في صف الكفار والمرتدين والمارقين من الاسلام فلا اثم على من قتله بل هو مثاب على الجهاد وان افضى الى قتله كما قال النبي ﷺ للعباس اما ظاهرك فكان علينا واما سريرتك فإلى الله

وقد اخرجا في الصحيحين عن ابن عمر ان النبي ﷺ قال اذا انزل الله بقوم عذابا اصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم فهذا ايضا دليل على ان المكره على تكثير سواد المقاتلين بغير حق وان اصابة عذاب الدنيا فإنه يحشر في الاخرة على نياته

فهذا كله يدل على انه ليس كل مكره على فعل محرم يأثم به كأشهر الروايتين وهو الذي عليه جمهور العلماء

ومن ذلك مقام المسلمين بين المشركين مستضعفين وقد دل القرآن على هذا وعلى هذا

ومنه استئسار المسلم اذا اكرهه الكافر وقال ان لم تستأسر والا قتلتك فإن دخوله في اسره محرم لولا الاكراه وقد فعل ذلك خبيب بن عدي وغيره وهم في ذلك كالمستضعفين

وقد دل على ذلك نص القرآن بقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ان اردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم سورة النور 33 فإذا كان هذا في الاكراه على البغاء فالاكراه على شرب الخمر واكل الميتة دون ذلك فان الزنا من اكبر الكبائر بعد القتل كما دل النبي ﷺ على ذلك عندما سئل أي الذنب اعظم قال ان تجعل لله ندا الحديث الى قوله ثم أي قال ان تزاني بحليلة جارك ثم قرأ والذين لا يدعون مع الله الها اخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق ولا يزنون سروة الفرقان 68

ومعلوم ان المكرهات من الاماء على البغاء كما كان ابن ابي وامثاله يكرهون اماءهم على الاكتساب بالبغاء ليس هوان يفعل بها بلا فعل منها بل هو ان تكره حتى تقصد ذلك وتفعله ولهذا سماه بغاء وذلك القسم ليس فيه بغاء ولهذا قال لتبتغوا عرض الحياة الدنيا سورة النور 33 وذلك انما يحصل في العادة لمن تفعل لا بمن تربط حتى يفعل بها ولان ذلك هو العادة المعروفة التي تزل القرآن عليها فهذه الاية في فعل الفاحشة وتلك الاية في الدخول تحت حكم الكفار وكلاهما من الافعال

وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر قال كان عبد الله بن ابي ين سلول يقول لجارية له اذهبي فابغينا شيئا قال فأنزل الله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الاية سورة النور 33

وفي رواية ان جارية لعبد الله بن ابي يقال لها مسيكة واخرى يقال لها اميمة كان يريدهما على الزنا فشكيا ذلك الى رسول الله ﷺ فأنزل الله هذه الاية

وقد ذكر البخاري ما رواه الليث عن نافع ان صفية بنت ابي عبيد اخبرته ان عبدا من رقيق الامارة وقع على وليدة من الخمس فاستكرهها حتى اقتضها فجلده عمر الحد ونفاه

ولم يجلد الوليدة من اجل انه استكرهها وقال الزهري في الامة البكر يفترعها الحر يقيم ذلك الحكم من الامة العذراء بقدر ثمنها ويجلد وليس في الامة الثيب في قضاء الائمة غرم ولكن عليه الحد

وهذه مسألة المستكرهة على الزنا والامة المطاوعة والكلام في المهر ليس هذا موضعه

وذكر ما في الصحيحين عن ابي هريرة قال قال رسول الله ﷺ هاجر ابراهيم بسارة دخل بها قرية فيها ملك من الملوك او جبار من الجبابرة فأرسل اليه ان ارسل الى بها فأرسل بها فقام اليها فقامت تتوضا وتصلي فقالت اللهم ان كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلط علي الكافر فغط حتى ركض برجله

ومن المعلوم ان الذين كانوا يكرهون الاماء لم يكن بوعيد القتل بل بالضرب ونحوه فإذا اكرهت المرأة او الصبي على الفجور به بمثل ذلك فإن الله من بعد اكراههن غفور رحيم سورة النور 33 ولهذا قيل في المطلقة ثلاثا اذا كتم الزوج طلاقها ولم يكن لها حجة انها تقيم عنده لأنها مكرهة على ذلك ولا يحل لها قتله

والمستكرهة على الزنا في وجوب المهر فلها ان تأخذ ما اعطاه من مهرها ومن لم يوجب لها المهر فهل لها ان تأخذ ذلك اذا اعطته طوعا ام يكون من مهر البغي وانما الاجود اذا لم يحل ذلك ان يأخذ ما يعطيه الفاجر ويصرفه في مصالح المسلمين او يتركه او فأما اذا اخذ العوض لأجل المستقبل فهذا مطاوعة اللهم الا اذا كان الاكراه مستمرا والمكره مستمر الكراهة لما يفعل به لا يحمله الا مجرد الاكراه وهذا يدخل فيه من يقهر من المماليك واليتامى وغيرهم على الفاحشة به

ومن أسره العدو من المسلمات فزنوا بهن فإن منهم من يكون كارها لذلك تام الكراهة لا يفعل ذلك الا مكرها فهذا لا يستحق العقوبة ومنهم من تجتمع فيه الرهبة والرغبة فيخاف في الامتناع من العذاب ويعطى على المطاوعة العوض





*************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.