مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

اقتضاء الصراط المستقيم/1. و2. و3..















بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى

وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين القيم والملة الحنيفية وجعله على شريعة من الأمر أمره باتباعها وأمره بأن يقول هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما

وبعد فإني قد نهيت إما مبتدئا وإما مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة هدي الكفار من الكتابيين والأميين وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب وأصلا جامعا من أصولها كثير الفروع لكني نبهت على ذلك بما يسره الله تعالى وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني الساعة وحصل بسبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه

ثم بلغني بأخرة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشؤا عليها وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها ولما قد عم كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوع جاهلية فكتبت ما حضرني الساعة مع أني لو استوفيت ما في ذلك من الدلائل وكلام العلماء واستقريت الآثار في ذلك لوجدت فيه أكثر مما كتبه

ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماآت الشرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسائلهم يشك في ذلك بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه وخلص إليه حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه
فصل في حال البشر قبل البعثة المحمدية

اعلم أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا ﷺ إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه والناس إذ ذاك أحد رجلين إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد

وغاية البارع منهم علما وعملا أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئا باطله أضعاف حقه إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب

فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد ﷺ وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى

ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها

ثم إنه سبحانه بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم مرارا في صلاتهم ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين

قال عدي بن حاتم رضي الله عنه أتيت رسول الله ﷺ وهو جالس في المسجد فقال القوم هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد قال قبل ذلك إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ما يفرك أيفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله قال قلت لا ثم تكلم ساعة ثم قال إنما يفرك أن تقول الله أكبر أو تعلم شيئا أكبر من الله قال قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليه والنصارى ضلال قال فقلت فإني حنيف مسلم قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا وذكر حديثا طويلا رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث قال الله سبحانه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت والضمير عائد إلى اليهود والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام

وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير وسياق الآية يدل عليه

وقال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وذكر في البقرة قوله تعالى وباءوا بغضب من الله وفيها أيضا فباءوا بغضب على غضب وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم

وقال في النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة إلى قوله قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق ولهذا نهاهم عن الغلو وهو مجاوزة الحد كما نهاهم عنه في قوله يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

واليهود مقصرون عن الحق والنصارى غالون فيه

فأما وسم اليهود بالغضب والنصارى بالضلال فله أسباب ظاهرة وباطنة ليس هذا موضعها

وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا أولا قولا ولا عملا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون على الله مالا يعلمون ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وليس هذا أيضا موضع شرح ذلك

ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن

وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال ومن الناس إلا أولئك

فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم

وقد كان ﷺ ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة وأخبر ﷺ ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة و أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته فعلم بخبره الصدق أن لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف بل وقد لا يفسق أيضا بل قد يكون الإنحراف كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ

وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا

وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين

قال الله سبحانه ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم

وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح وهو خلق مذموم مطلقا وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم

وقال الله سبحانه والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله

فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية وقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا الآية وقوله إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية وقوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن

فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلا به وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا وتارة خوفا أن يحتج عليهم بما أظهروه منه

وهذا قد ابتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه وتارة اعتياضا عنه برياسة أو مال ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نقص ماله وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل

ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم

وليس الغرض تفصيل ما يحب وما يحتسب بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به

وقال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق الآية بعد أن قال وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين

فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم

وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي ﷺ فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلاما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول ﷺ

وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ووصفهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل وبتحريف التأويل

فأما تحريف التأويل فكثير جدا وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة

وأما تحريف التنزيل فقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم وكلم الله موسى تكليما

وأما تطاول بعضهم إلى السنة بما يظن أنه من عند الله فكوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله ﷺ أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة

وهذا الضرب من نوع أخلاق اليهود وذمها في النصوص كثير لمن تدبر في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث

وقال سبحانه عن النصارى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته

وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم إلى غير ذلك من المواضع

ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه

وقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم الآية وفسره النبي ﷺ لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم

وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال

وقال سبحانه عن الضالين ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وقد ابتلى طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم

وقال الله سبحانه قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فكان الضالون بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وقد نهى النبي ﷺ أمته عن ذلك في غير موضع حتى في وقت مفارقته الدنيا بأبي هو وأمي ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة

ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة فلا يهتمون في أمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات

ثم إنك تجد أن هذه الأمة قد ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد بالصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين

وقال سبحانه وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء

فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى وأنت تجد كثيرا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئا بل يرى أن التمسك بهما منقطع عن الله وأنه ليس عند أهلها شيء مما ينفع عند الله

والصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل

وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا والآثار الفارسية قولا وعملا مالا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه

وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة مما تضارع طريق المغضوب عليهم أو الضالين وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه إما لاجتهاد أخطأ فيه وإما لحسنات محت السيئات أو غير ذلك

وإنما الغرض أن تتبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم وأن ينفتح لك باب إلى معرفة الانحراف لتحذره

ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك

وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا

وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا ﷺ بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع

ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد

ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية

هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم

فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم
فصل في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم

لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة سواء كان ذلك عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا ببعضها وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب

ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا

وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة

وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله ﷺ والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها

وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة

واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا

واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه

فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة في الجملة ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها

قال الله سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين

أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا ﷺ على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواءهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه

وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر

ومن هذا الباب قوله سبحانه والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق

فالضمير في أهوائهم يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما وقد قال ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك

ومن هذا أيضا قوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير

فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه كما تقدم

ومن هذا الباب قوله سبحانه ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم

قال غير واحد من السلف معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق

وباطل إلا الذين ظلموا منهم وهم قريش فإنهم يقولون عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا إلى ديننا

فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة

وقال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات البينات وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ولهذا نهى النبي ﷺ عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف مع أنه ﷺ قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله لا تكن مثل فلان قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة

وقال سبحانه لموسى وهرون فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وقال سبحانه وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم إلى غير ذلك من الآيات

وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه

قال سبحانه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه أو مظنة لا تباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه

واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وأمثال ذلك

ومنه ما يدل على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود

ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا فجميع الآيات دالة على ذلك وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الإيات دون بعض

ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة إذا كان هذا هو المقصود هنا

وأما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها وتمييز الواجب عن غيره فليس هو الغرض هنا

وسنذكر إن شاء الله أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة

قال الله عز و جل المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير

بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أخلاق المنافقين وصفاتهم وأخلاق المؤمنين وصفاتهم وكلا الفريقين مظهر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الإخلاق والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم وأمر نبيه بجهاد الطائفتين

ومنذ بعث الله عبده ورسوله محمدا ﷺ وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف مؤمن ومنافق وكافر فأما الكافر وهو المظهر للكفر فأمره بين وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة فإنها هي التي تخاف على أهل القبلة فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض وقال في المؤمنين بعضهم أولياء بعض وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم ثم يتخلى بعضهم عن بعض بخلاف المؤمن فإنه يحب المؤمن وينصره بظهر الغيب وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان

ثم وصف الله سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم وكلمات الله جوامع

وذلك أنه لما كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين أحدهما أن يعمل ويترك والثاني أن يأمر غيره بالفعل والترك ثم فعله إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع

أحدها ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا

والثاني ما يعمله لنفع غيره كالزكاة

والثالث ما يأمر غيره أن يفعله فيكون الغير هو العامل وحظه هو الأمر به

فقال سبحانه في وصف المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وبإزائه في وصف المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر

والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح

والمنكر اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه

ثم قال ويقبضون أيديهم قال مجاهد يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة يقبضون أيديهم عن كل خير فمجاهد أشار إلى النفع بالمال وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن وقبض اليد عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط

وفي قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ أو هي مجاز مشهور

وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين يؤتون الزكاة فإن الزكاة وإن كانت قد صارت حقيقة شرعية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد

ثم قال نسوا الله فنسيهم ونسيان الله ترك ذكره

وبإزاء ذلك قال في صفة المؤمنين يقيمون الصلاة فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة والتطوع وقد يدخل فيها كل ذكر الله إما لفظا وإما معنى قال ابن مسعود رضي الله عنه ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق وقال معاذ بن جبل مدارسة العلم التسبيح

ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار من اللعنة ومن النار والعذاب المقيم في الآخرة

وبإزائه ما وعد الله المؤمنين من الجنة والرضوان ومن الرحمة

ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة ليس هذا موضعها وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله

وقد قيل إن قوله ولهم عذاب مقيم إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية غما وحزنا وقسوة ظلمة قلب وجهلا فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك

وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين أولئك سيرحمهم الله فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح بما لا يمكن وصفه

ثم قال سبحانه في تمام خبر المنافقين كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا وهذه الكاف قد قيل إنها رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره أنتم كالذين من قبلكم وقيل إنها نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كالذين من قبلكم كما قال النمر بن تولب ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا ...

أي لم أر كاليوم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب

ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم وقيل هو أجود بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعن الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم فمحلها نصب ويجوز أن يكون رفعا أي عذاب كعذاب الذين من قبلكم

وحقيقة الامر على هذا القول أن الكاف تنازعها عاملان ناصبان أو ناصب ورافع من جنس قولهم أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل كقولك أكرمت وأعطيت زيدا قولان

أحدهما وهو قول سيبويه وأصحابه أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد

والثاني قول الفراء وغيره من الكوفيين أن الفعلين عملا في هذا الاسم وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد

وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله عن اليمين وعن الشمال قعيد وأمثاله

فعلى قول الأولين يكون التقدير وعد الله المنافقين النار كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو كعذاب الذين من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين

وعلى القول الثاني يمكن أن يقال الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله وعد وبقوله لعن وبقوله ولهم عذاب مقيم لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر

وإذا قيل إن الثالث يعمل الرفع فوجهه أن العمل واحد في اللفظ إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي

وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين

وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب الحذف وعدمه إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ لا تقتضي اختلافا لا في إعراب ولا في معنى

فإذن الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم من العمل والجزاء فيكون التشبيه فيهما لفظيا

وعلى القولين الأولين يكون قد دل على أحدهما لفظا ودل على الآخر لزوما

وإن سلكت طريقة الكوفيين على هذا كان أبلغ وأحسن فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم ونحو ذلك وهو قول من قدره أنتم كالذين من قبلكم ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره

وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله ويطيعون الله ورسوله فان طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبلكم قال سبحانه كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا

فالخطاب في قوله كانوا أشد منكم قوة وقوله فاستمتعتم إن كان للمنافقين كان من باب خطاب التلوين والالتفات وهذا انتقال من الغيبة إلى الحضور كما في قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله أولئك حبطت أعمالهم وكما في قوله حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فإن الضمير في قوله أولئك حبطت أعمالهم الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله فيما بعد ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها فلا يكون الإلتفات إلا في الموضع الثاني
اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/2
2.

2......................................................................

اقتضاء الصراط المستقيم/2
< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اقتضاء الصراط المستقيم/1 اقتضاء الصراط المستقيم


2............................................

وأما قوله فاستمتعوا بخلاقهم ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه

وروي عن أبي عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون بنصيبهم من الدنيا

قال أهل اللغة الخلاق هو النصيب والحظ كأنه ما خلق للانسان أي ما قدر له كما يقال القسم لما قسم له والنصيب لما نصب له أي أثبت ومنه قوله تعالى ماله في الآخرة من خلاق و وماله في الآخرة من خلاق أي من نصيب وقول النبي ﷺ إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة

والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم فإنه سبحانه قال كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعموا بها للدنيا والآخرة وكذلك أموالهم وأولادهم وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال هي دينهم وتلك الأعمال لو أرادوا بها الله والدار الآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها

ثم قال سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا

وفي الذي وجهان أحسنهما أنها صفة المصدر أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وهو كثير فاش في اللغة

والثاني أنه صفة الفاعل أي كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه كما لو قيل كالذين خاضوا

وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق والأول هو البدع ونحوها والثاني هو فسق الأعمال ونحوها

والأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات

ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه

وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم

ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها

وقد وصف الله أئمة المتقين فقال وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات

ومنه قوله في سورة العصر وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقوله واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار

ومنه الحديث المرسل عن النبي ﷺ إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات

فقوله سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة

وقوله وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى اتباع الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو ظاهر في عمله وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك

ثم قوله فاستمتعتم و خضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند مبعث عبده ورسوله محمد ﷺ فإنه ذم لمن يكون حاله حالهم إلى يوم القيامة

وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر لأنه وإن كان بضمير الخطاب فهو كالضمير في نحو قوله اعبدوا واغسلوا واركعوا واسجدوا وآمنوا كما أن جميع الموجودين في وقت النبي ﷺ وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ عن الله

وهذا مذهب عامة المسلمين وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتمد أن ضمير الخطاب إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم كما لو خاطب النبي ﷺ واحدا من الأمة وإما بالسنة وإما بالاجماع وإما بالقياس فيكون كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله فاستمتعتم وخضتم وهذا أحسن القولين

وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون

وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة من استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك وتوعدهم على ذلك

ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية

وقد قدمنا أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مشابهة القرون المتقدمة وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين

ثم هذا الذي دل عليه الكتاب مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضا سنة رسول الله ﷺ وتأول هذه الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم كالذين من قبلكمكانوا أشد منكم قوة الآية قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال فهل الناس إلا هم

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ قلنا وكيف قال أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه

وأما السنة فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عن ذلك وكذلك في الدين

فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاق ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله ﷺ هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فواوا صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ فلما صلى رسول الله ﷺ انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله فقال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم

فقد أخبر النبي ﷺ أنه لا يخاف على أمته فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية

وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي ﷺ خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها وفي رواية ولكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله ﷺ على المنبر

وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ قال إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن عوف نكون كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله ﷺ تنافسون ثم تحاسدون ثم تدابرون أو تباغضون أو غير ذلك ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملوا بعضهم على رقاب بعض

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جلس رسول الله ﷺ على المنبر وجلسنا حوله فقال إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله فسكت عنه رسول الله ﷺ فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك وقال ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال اين هذا السائل وكأنه حمده فقال إنه لا يأتي الخبر بالشر وفي رواية فقال أين السائل آنفا أو خير هو ثلاثا إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما

ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله ﷺ وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شاهدا يوم القيامة

وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء

فحذر رسول الله ﷺ فتنة النساء معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء

وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه ﷺ أنه قال إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر

وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النساء

وأما الخوض كالذي خاضوا فروينا من حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنغم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمة علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه

وهذا الافتراق مشهور عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وسعد ومعاوية وعمرو بن عوف وغيرهم وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من المشابهة

فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وقال إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد ﷺ لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به

هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى عن معاوية ورواه عنه غير واحد منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة رواه أحمد وأبو داود في سننه وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخر

فقد أخبر النبي ﷺ بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة واثنتان وسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم

ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي ﷺ إما في الدين فقط وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدنيا وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط

وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه أقبل مع رسول الله ﷺ في طائفة من أصحابه من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها

وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما روى منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى

وهذا المعنى محفوظ عن النبي ﷺ من غير وجه يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي ﷺ يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي ﷺ فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه مسلم

نهى النبي ﷺ عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين مامع الآخر من الحق لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ولهذا قال حذيفة لعثمان أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم لما رأى أهل الشأم وأهل العراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه رسول الله ﷺ

فأفاد ذلك شيئين

أحدهما تحريم الاختلاف في مثل هذا

والثاني الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم

واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه مخطئا في نفي حرف غيره فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب لا في الإثبات لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض لأن مضمون الضرب الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى إذا اعتقد أن بينهما تضادا إذ الضدان لا يجتمعان

ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله ابن عمرو قال هجرت إلى رسول الله ﷺ يوما فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب

فعلل غضبه ﷺ بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من قبلنا وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا وفي غيره نوعا

والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان

أحدهما أنه يذم الطائفتين جميعا كما في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف وكذلك قوله ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وكذلك قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ووصف اختلاف اليهود بقوله وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله وقال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون

وكذلك النبي ﷺ لما وصف أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي الرواية الأخرى من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي

فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة

وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته ليتميز عليه أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له وما أكثر هذا في بني آدم وهذا ظلم

ويكون سببه تارة أخرى جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا

والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

أما أنواع الاختلاف فهي في الأصل قسمان اختلاف تنوع واختلاف تضاد

واختلاف التنوع على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله ﷺ عن الاختلاف وقال كلاكما محسن

ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح

والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل

ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم كاختلافهم على شفع الإقامة وإيثارها ونحو ذلك وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي ﷺ

ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى قول الآخر لكن العبارتان مختلفتان كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم هو الذي يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى

ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذلك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جدا

ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية

وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد وإلا فمن قال كل مجتهد مصيب فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد

فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة

وغيرهم وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه وكذلك رأيت منه كثيرا بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة ونظائره كثيرة

ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء لكن نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي كما في قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون وكما في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم

وكما في إقرار النبي ﷺ يوم بني قريظة وقد كان أمر المنادي ينادي لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة من صلى العصر في وقتها ومن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة وكما في قوله ﷺ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر ونظائره كثيرة

وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة اقسام

وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا

فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم للآخرى

وكذلك قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث والذين بارزوهم من قريش وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة

وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك

وكذلك جعل الله مصدر الإختلاف البغي في قوله وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم لأن البغي مجاوزة الحد وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة

وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم

فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين

إنما كان لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها

لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء كما يقال اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه

والاختلاف الأول مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف على الأنبياء هو الاختلاف فيما بينهم فإن اللفظ يحتمله

ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو فإن حديث عمرو ابن شعيب يدل على ذلك إن كانت هذه القصة

قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي ﷺ فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله ﷺ فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهواعنه

وقال حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق وداود ابن أبي هند أن رسول الله ﷺ خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فذكر الحديث

وقال أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ جلوس

عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله ﷺ مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه

وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال لهم ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس إذا لم أشهده

هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية كما سقناه

وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض

وهذا لعلمه رحمه الله بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم

وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس

وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها إذ الأمر في هذا الحديث كما قاله رسول الله ﷺ أصل هلاك بني آدم إنما كان التنازع في القدر وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين بقدم العالم ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم ومذاهب كثير ممن عطل الشرائع

فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات فوقعوا في غاية الضلال إما بأن زعموا أن فعله ما زال لازما له وإما بأن زعموا أن الفاعل اثنان وإما بأن زعموا بأنه يفعل البعض والخلق يفعلون البعض وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه وما أمر به لم يقدر خلافه وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر

وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه

والغرض من ذكر هذه الأحاديث هو التنبيه من الحديث والسنة على مثل ما في القرآن من قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا

ومن ذلك ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه مالك والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح ولفظه لتركبن سنة من كان قبلكم

وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن

وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك

وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات

فعلم أن مشابهة هذه الأمة اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب

ولا يقال فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا ﷺ إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها

وأيضا لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا

ألا ترى أن النبي ﷺ قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم

وفي لفظ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل

وإنكار القلب هو الإيمان بأن هذا منكر وكراهته لذلك

فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب

وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه وقد تقلل منه وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر

ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد وقول كثير من أهل العلم على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك ولله الحمد على ما أخبر به النبي ﷺ من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله

وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه

ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي ﷺ راعنا سمعك يستهزؤن بذلك وكانت في اليهود قبيحة

وروى أحمد عن عطية العوفي قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود

وقال عطاء كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك

فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وطريقهم إلى بلوغ غرضهم

وقال سبحانه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما قال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وقال عن اليهود وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام لست منهم في شيء وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر لأن قول القائل أنا من هذا وهذا مني أي أنا من نوعه وهو من نوعي لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع كما في قوله تعالى بعضكم من بعض وقوله عليه الصلاة و السلام لعلي أنت مني وأنا منك

فقول القائل لست من هذا في شيء أي لست مشاركا له في شيء بل أنا متبرئ من جميع أموره

وإذا كان الله قد برأ رسوله ﷺ من جميع أمورهم فمن كان

متبعا للرسول ﷺ حقيقة كان متبرئا منهم كتبرئه ﷺ منهم ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول بقدر موافقته لهم

فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر

وقال سبحانه وتعالى لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين

وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله ﷺ لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآيات اشتد ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فأتوا رسول الله ﷺ ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله ﷺ أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم

فحذرهم النبي ﷺ أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه به أهل الكتابين وأمرهم بالسمع والطاعة فشكر الله لهم ذلك حتى رفع الله عنهم الآصار والأغلال التي كانت على من كان قبلهم

وقال الله في صفته ﷺ ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فأخبر الله سبحانه أن رسوله عليه الصلاة و السلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب

ولما دعا المؤمنون بذلك أخبرهم الرسول أن الله قد استجاب دعاءهم

وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي ﷺ وكذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال وزجر أصحابه عن التبتل وقال لا رهبانية في الإسلام وأمر بالسحور ونهى عن المواصلة وقال فيما يعيب أهل الكتابين ويحذرنا عن موافقتهم فتلك بقاياهم في الصوامع وهذا باب واسع جدا

وقال سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم

وقال سبحانه ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود إلى قوله

لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه إلى قوله أولئك حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياه بعض إلى قوله والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم الآيات

فعقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة

فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات

وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين وهم أمة محمد ﷺ الذين آمنوا به إيمانا صادقا

وقال إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ونظائر هذا في غير موضع من القرآن يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم

والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم

ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات

فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله

ولما دل عليه معنى الكتاب وجاءت به سنة رسول الله ﷺ وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم أمر بمخالفتهم وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة إما علة مفردة أو علة أخرى أو بعض علة 
******************************
 
3*************************************************************
 

اقتضاء الصراط المستقيم/3
< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اقتضاء الصراط المستقيم/2 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/4










وعلى جميع التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة للشارع لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة كما لو قيل للضيف أكرمه بمعنى أطعمه وللشيخ الكبير وقره بمعنى اخفض صوتك له أو نحوه وذلك لوجوه

أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة

للحكم كما في قوله عز و جل فاقتلوا المشركين وقوله فأصلحوا بين أخويكم وقول النبي ﷺ عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني وهذا كثير معلوم

فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم فيكون مطلوبا بطريق الأولى

الوجه الثاني أن جميع الأفعال مشتقة سواء كانت هي مشتقة من المصدر أو كان المصدر مشتقا منها أو كان كل واحد منهما مشتقا من الآخر بمعنى أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى لا بمعنى أن أحدهما أصل والآخر فرع بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين ونحو ذلك

فعلى كل حال إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر مقصودا له كما في قوله واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وفي قوله آمنوا بالله ورسوله وفي قوله اعبدوا الله ربي وربكم وفي قوله فعليه توكلوا فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة والتوكل أمور مطلوبة مقصودة بل هي نفس المأمور به

ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة الفعل للآمر لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به إلا مع أمور معينة له فإنه إذا قال فتحرير رقبة فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين من سواد أو بياض أو طول أو قصر أو عربية أو عجمية أو غير ذلك من الصفات لكن المقصود هو المطلق المشترك من هذه المعينات

وكذلك إذا قيل اتقوا الله وخالفوا اليهود فان التقوى تارة تكون بفعل واجب من صلاة أو صيام وتارة تكون بترك محرم من كفر أو زنا أو نحو ذلك فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره

فإذا رؤي رجل هم بزنا فقيل له اتق الله كان أمرا له بعموم التقوى داخلا فيه الأمر بخصوص ترك ذلك الزنا لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه

كذلك إذا قيل إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم كان أمرا بعموم المخالفة داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية لأنه سبب اللفظ العام

وسببه أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به

وخروجه على سبب توجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه

وإن قيل إن اللفظ العام يقصر على سببه لأن العموم ههنا من جهة المعنى فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي

فإن قيل الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين

قلت هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء

وجوابه من وجهين

أحدهما أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه

فإن العموم ثلاثة أقسام عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه

والثاني عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده

والثالث عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده

فالأول عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه

وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق

وكذلك إذا قيل أكرم هذا الرجل فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوؤه كما قال النبي ﷺ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له لانتفاء أجزاء الإكرام ولا يقال الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل باطعام أي شيء ولو لقمة

وكذلك إذا قال خالفوهم فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء أو في أكثرها على طريق التساوي لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر

ولا يقال إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة كما لا يقال إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة

وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة أو المقيدة

وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا

ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في المني والمتغيرات وسائر المائعات فأنت تقول عند التقييد أكرم الضيف بإعطائه هذا الدرهم فهذا إكرام مقيد فإذا قلت أكرم الضيف كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطائه الدرهم فقط

وأما القسم الثاني من أقسام العموم فهو عموم الجنس لأفراده كما يعم قوله تعالى اقتلوا المشركين كل مشرك

والقسم الثالث من أقسام العموم عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله ﷺ لا يقتل مسلم بكافر جميع أنواع القتل المسلم والكافر إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان بل الحكم للغالب

وهذا تحقيق جيد لكنه مبني على مقدمة وهي أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة

فإن خفي هذا الموضع المعين فخذ في الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من الأفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول

وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وغير ذلك من الأفعال وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهذا أبلغ إذا صح

ثم نقول هب أن الإجزاء يحصل بأي يسمى مخالفة لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة إذ كان الأمر مطلقا كما في قوله اركعوا واسجدوا ونحو ذلك من الأوامر المطلقة

الوجه الثالث في أصل التقرير أن العدول بالأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كالعدول به عن لفظ أطعمه إلى لفظ أكرمه وعن لفظ فاصبغوا إلى لفظ فخالفوهم لا بد له من فائدة وإلا فمطابقة اللفظ للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل

الوجه الرابع أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر وعلمت أن النبيذ مسكر كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا أو مالا مطلقا وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده

فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأولى لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به

ففي قوله أكرمه طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق وذلك لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق وهذا معنى صحيح إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة

بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه

قلت إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي

وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم لأنه من قصد مخالفتهم بحيث أمرنا بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا ولا قصدنا فكيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها

الوجه الخامس أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا الترتيب على أنه علة له من غير وجه حيث قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير اصبغوا لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع وهو المطلوب

يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة ولا حسن تعقيبه به

وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين

أحدهما أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان

والثاني أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص

فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط

فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضرا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيه صلاح لنا

وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو اشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكن ملك النبوة هو غاية صلاح من أطاع الرسول من العباد في معاشه ومعاده

وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له منفعة بها ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة

فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى

فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة رضي الله عنهم يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة

قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي ﷺ غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب

وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود

وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود قال الترمذي حديث حسن صحيح

وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هاشم بن عروة عن عثمان ابن عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي ﷺ قال غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي كلاهما ليس بمحفوظ

وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا

وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول

وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه

فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم

فهذا الذبح والاستحياء هو سوم العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا

فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال أكرم ضيفك أطعمه وحادثه فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكرامه إكراما له في ذلك الوقت

والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله لا يصبغون فخالفوهم وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس

فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة

ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي ﷺ من هدى المجوس

وقال المروزي سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق القفا فقال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم

قال أيضا قيل لأبي عبد الله تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه فقال أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة في كراهيته وقال إن حلق القفا من فعل المجوس

قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة

وقال أحمد أيضا لا بأس أن يحلق قفاه قبل الحجامة وقد روى عنه ابن منصور قال سألت أحمد عن حلق القفا فقال لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردايرقوس ذكر الخلال هذا وغيره

وذكر أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال حف القفا من شكل المجوس

وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له لم قال كان يكره أن يتشبه بالعجم

والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب وتارة بالتشبه بالأعاجم

وكلا العلتين منصوص في السنة مع أن الصادق ﷺ قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم رواه أبو داود

وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له فاخلع نعليك

وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب إكلة السحر

رواه مسلم في صحيحه

وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع

وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون

وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى

وإذا كانت مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة

وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم

ورواه ابن ماجة من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب ابن بريد وقد جاء مفسرا تعليله لا يزالون بخير ما لم يؤخرواالمغرب إلى طلوع النجوم مضاهاة لليهود وما لم يؤخروا الفجر إلى محاق النجوم مضاهاة للنصرانية

وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن عبد الرحمن الصنابحي قال قال رسول الله ﷺ لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ومالم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها

وقال سعيد بن منصور حدثنا عبيد الله بن زياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى امرأة بشر بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشر وقال إن رسول الله ﷺ نهاني عن ذلك وقال إنما يفعل ذلك النصارى صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا وقد رواه أحمد في المسند

فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله ﷺ ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها

وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي ﷺ النبي ﷺ فأنزل الله عز و جل ويسألونك عن المحيض إلى آخر الآية فقال رسول الله ﷺ اصنعوا كل شيء إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيءا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حصير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله ﷺ حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي ﷺ فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما رواه مسلم

فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه

ثم إن المخالفة كما سنبينها تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه

ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصلها بل خالفوا في وصفها حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله ﷺ

وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله بلا شرع من الله حتى إنهم لا ينجسون شيئا فهدى الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا فاجتناب مالم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد ﷺ

وعن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان قال فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا هو رسول الله ﷺ مستخفيا جرآء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له ما أنت فقال أنا نبي فقلت وما نبي فقال أرسلني الله فقلت بأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له فمن معك على هذا قال حر وعبد قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت إني متبعك قال إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله ﷺ المدينة وكنت في أهلي فجعلت أستخبر الأخبار وأسأل الناس حتى قدم نفر من أهل يثرب أي من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة قال فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محصورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفي فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وذكر الحديث رواه مسلم

فقد نهى النبي ﷺ عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار

ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها ثم إنه ﷺ نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق

ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام يعظم الكواكب ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه ويسجد لها وينحر ويذبح وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين كان ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين

فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا تحققت حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات سدا للذريعة وكان في تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرا أو معصية بالنية ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة

ومن هذا الباب أنه ﷺ كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله إلى حاجبه الإيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا

ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله

فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد فسادا فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة تعبدون

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية نهى رسول الله ﷺ أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده روى هذا كله أبو داود

ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين وهذه مبالغة في مجانبة هديهم

وأيضا فقد روى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله

ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال نهى عن التخصر في الصلاة وفي لفظ نهى أن يصلي الرجل متخصرا

قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة نهى النبي ﷺ وهكذا رواه مسلم في صحيحه نهى رسول الله ﷺ

وعن زياد بن صبيح قال صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله ﷺ ينهى عنه رواه أحمد وأبو داود والنسائي

وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال اشتكى رسول الله ﷺ فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث عن أبي الزبير عن جابر

ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي عن جابر قال ركب رسول الله ﷺ فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا قال فقمنا خلفه فسكت عنا ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا قال فلما قضى الصلاة قال إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها

وأظن في غير رواية أبي داود ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا

ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود

ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوى لله لا لإمامه

وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد ونهى أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها

وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا

فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية

ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية وهذا محل اجتهاد وأما المشابهة الصورية فإذا لم تسقط فرضا فإن تلك العلة التي علل بها رسول الله ﷺ تكون سليمة عن معارض أو عن نسخ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة فلا بد أن يكون غيرها ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال

هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله ﷺ مع كونهم علموا بصلاته في مرضه الذي توفي فيه

وقد استفاض عنه ﷺ الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث مرض موته ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا وبين الصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول هذه الصلاة في قوله وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع

وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله ﷺ إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فتعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد قال فجلس رسول الله ﷺ وقال خالفوهم

رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال الترمذي بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث

قلت قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا وإن كان القول بهما كليهما ممكنا لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره أو يكون ناسخا لغيره وقد علل بالمخالفة

ومن لا يقول به يضعفه وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة

وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة أنها قالت كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما كنت مرتين

فقد استدل من كره القيام بأنه كان فعل الجاهلية

وليس الغرض هنا الكلام في عين هذه المسألة

وأيضا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة

وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أحمد وابن ماجة وفي رواية لأحمد والشق لأهل الكتاب وهو مروي من طرق فيها لين لكن يعضد بعضها بعضا

وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر

وأيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه

ودعوى الجاهلية ندب الميت وتكون دعوى الجاهلية في العصبية

ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أبي بن كعب قال قال رسول الله ﷺ من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا

وأيضا عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم

ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه

وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله سبحانه وتعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة

ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجيء بها الإسلام

ومنه قوله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك

ومن هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس قال ثلاث خلال من خلال الجاهلية الطعن في الانساب والنياحة ونسيت الثالثة قال سفيان ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء

وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت

فقوله هما بهم أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر وهما قائمتان بالناس

لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ﷺ ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات

وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض

فقوله يضرب بعضكم بعض تفسير للكفار في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن كما أن قوله تعالى من ماء دافق سمى المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال فلم تجدوا ماء فتيمموا

ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال غزونا مع رسول الله ﷺ وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي ﷺ فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري قال فقال النبي ﷺ دعوها فانها منتنة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أو قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي ﷺ لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله ﷺ فقال ما هذا أدعوى الجاهلية قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره فهاذان الإسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى

ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي ﷺ ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي ﷺ أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب

ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم

وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم رواه أبو داود

وروى أبو داود أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية

وروى أبو داود أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه

فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي ما هي إما مباحة أو مكروهة

وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.