مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

اقتضاء الصراط المستقيم من/ 11الي 14............



11*************************************************************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/11..

وقد دل حديث عمر رضي الله عنه في إهداء الحلة السيراء إلى أخ له بمكة مشرك على جواز بيعهم الحرير لكن الحرير مباح في الجملة وإنما يحرم الكثير منه على بعض الآدميين ولهذا جاز التداوي به في أصح الروايتين ولم يجز بالخمر بحال وجازت صنعته في الأصل والتجارة فيه

فهذا الأصل فيه اشتباه فإن قيل بالاحتمال الأول في كلام أحمد جوز ذلك

وعن أحمد في جواز حمل التجارة إلى أرض الحرب روايتان منصوصتان

فقد يقال بيعها لهم في العيد كحملها إلى دار الحرب فإن حمل الثياب والطعام إلى أرض الحرب فيه إعانة على دينهم في الجملة وإذا منعنا منها إلى أرض الحرب فهنا أولى وأكثر أصوله ونصوصه تقتضي المنع من ذلك لكن هل هو منع تحريم أو تنزيه مبني على ما سيأتي

وقد ذكر عبد الملك بن حبيب أن هذا مما اجتمع على كراهته وصرح بأن مذهب مالك أن ذلك حرام

قال عبد الملك بن حبيب بن الواضحة كره مالك أكل ما ذبح النصارى لكنائسهم ونهى عنه من غير تحريم

وقال وكذلك ما ذبحوا على اسم المسيح والصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم الذين يعظمون فقد كان مالك وغيره ممن يقتدي به يكره أكل هذا كله من ذبائحهم وبه نأخذ وهو يضاهي قول الله تعالى وما أهل به لغير الله وهي ذبائحهم التي كانوا يذبحون لأصنامهم التي كانوا يعبدون

قال وقد كان رجال من العلماء يستخفون ذلك ويقولون قد أحل الله لنا ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وما يريدون بها روى ذلك ابن وهب عن ابن عباس وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وسلمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد ومكحول وعطاء

وقال عبد الملك وترك ما ذبح لأعيادهم وأقستهم وموتاهم وكنائسهم أفضل

قال وإن فيه عيبا آخر أن كله من تعظيم شركهم

ولقد سأل سعيد المعافري مالكا عن الطعام الذي تصنعه النصارى لموتاهم يتصدقون به عنهم أيأكل منه المسلم فقال لا ينبغي أن يأخذه منهم لأنه إنما يعمل تعظيما للشرك فهو كالذبح للأعياد والكنائس

وسئل ابن القاسم عن النصراني يوصي بشيء يباع من ملكه للكنيسة هل يجوز للمسلم شراؤه فقال لا يحل ذلك لأنه تعظيم لشعائرهم وشرائعهم ومشتريه مسلم سوء

وقال ابن القاسم في أرض الكنيسة يبيع الأسقف منها شيئا في مرمتها وربما حبست تلك الأرض على الكنيسة لمصلحتها إنه لا يجوز لمسلم أن يشتريها من وجهين

الواحد أن ذلك من العون على تعظيم الكنيسة

والآخر أنه من وجه بيع الحبس ولا يجوز لهم في أحباسهم إلا ما يجوز للمسلمين ولا أرى لحاكم المسلمين أن يتعرض فيها بمنع ولا تنفيذ ولا شيء

قال وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه

وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي إلى النصراني شيئا في عيدهم مكافأة له ورآه من تعظيم عيده وعونا لهم على كفرهم ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئا من مصلحة عيدهم لا لحما ولا إداما ولا ثوبا ولا يعارون دابة ولا يعاونون على شيء من عيدهم لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك وهو قول مالك وغيره لم أعلمه اختلف فيه

فأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي اجتمع على كراهته بل هو عندي أشد فهذا كله كلام ابن حبيب

قد ذكر أنه قد اجتمع على كراهة مبايعتهم ومهاداتهم ما يستعينون به على أعيادهم وقد صرح بأن مذهب مالك أنه لا يحل ذلك

وأما نصوص الإمام أحمد على مسائل هذا الباب

فقال إسحق بن إبراهيم سئل أبو عبد الله رحمه الله عن النصارى وقفوا ضيعة للبيعة أيستأجرها الرجل المسلم منهم فقال لا يأخذها بشيء لا يعينهم على ما هم فيه

وقال أيضا سمعت أبا عبد الله وسأله رجل بناء أبنى للمجوس ناووسا قال لاتبن لهم ولا تعنهم على ما هم فيه

وقد نقل عن محمد بن الحكم وسأله عن الرجل المسلم يحفر لأهل الذمة قبرا بكراء قال لا بأس به

والفرق بينهما أن الناووس من خصائص دينهم الباطل كالكنيسة بخلاف القبر المطلق فإنه ليس في نفسه معصية ولا من خصائص دينهم

وقال الخلال باب الرجل يؤجر داره للذمي أو يبيعها منه وذكر عن المروزي أن أبا عبد الله سئل عن رجل باع داره من ذمي وفيها محاريبه فقال فيها نصراني واستعظم ذلك وقال لا تباع يضرب فيها بالناقوس وينصب فيها الصلبان وقال لا تباع من الكفار وشدد في ذلك

وعن أبي الحارث أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاء نصراني فأرغبه وزاد في ثمن الدار ترى له أن يبيع داره منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي قال لا أرى له ذلك يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي

فهذا نص على المنع

ونقل عنه إبراهيم بن الحارث قيل لأبي عبد الله الرجل يكري منزله من الذمي ينزل فيه وهو يعلم أنه يشرب فيها الخمر ويشرك فيها قال ابن عون كان لا يكري إلا من أهل الذمة يقول يرعبهم قيل له كأنه أراد إذلال أهل الذمة بهذا قال لا ولكنه أراد أنه كره أن يرعب المسلم يقول إذا جئت أطلب الكراء من المسلم أرعبته فإذا كان ذميا كان أهون عنده

وجعل أبو عبد الله يعجب لهذا من ابن عون فيما رأيت وهكذا نقل الأثرم سواء ولفظه قلت لأبي عبد الله

ومسائل الأثرم وإبراهيم بن الحارث يشتركان فيها

ونقل عنه مهنا قال سألت أحمد عن الرجل يكري المجوسي داره أو دكانه وهو يعلم أنهم يزنون فقال كان ابن عون لا يرى أن يكري المسلمين يقول أرعبهم في أخذ الغلة وكان يرى أن يكري غير المسلمين

قال أبو بكر الخلال كل من حكى عن أبي عبد الله في رجل يكري داره من ذمي فإنما أجابه أبو عبد الله على فعل ابن عون ولم ينفذ لأبي عبد الله فيه قول وقد حكى عن إبراهيم أنه رآه معجبا بقول ابن عون والذين رووا عن أبي عبد الله في المسلم يبيع داره من الذمي أنه كره ذلك كراهة شديدة فلو نفذ لأبي عبد الله قول في السكنى كانت السكنى والبيع عندي واحدا والأمر في ظاهر قول أبي عبد الله أنه لا يباع منه لأنه يكفر فيها وينصب الصلبان أ , غير ذلك والأمر عندي أن لا تباع منه ولا تكرى لأنه معنى واحد

قال وقد أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال سئل أبو عبد الله عن حصين بن عبد الرحمن فقال روى عنه حفص لا أعرفه قال له أبو بكر هذا من النساك حدثني أبو سعيد الأشج سمعت أبا خالد الأحمر يقول حفص هذا العدوي نفسه باع دار حصين بن عبد الرحمن عابد أهل الكوفة من عون البصري فقال له أحمد حفص قال نعم فعجب أحمد يعني من حفص بن غياث

قال الخلال وهذا أيضا تقوية لمذهب أبي عبد الله

قلت عون هذا كأنه من أهل البدع أو من الفساق بالعمل فقد أنكر أبو خالد الأحمر على حفص بن غياث قاضي الكوفة أنه باع دار الرجل الصالح من المبتدع وعجب أحمد أيضا من فعل القاضي

قال الخلال فإذا كان يكره بيعها من فاسق فكذلك من كافر وإن كان الذمي يقر والفاسق لا يقر لكن ما يفعله الكافر فيها أعظم

وهكذا ذكر القاضي عن أبي بكر عبد العزيز أنه ذكر قوله في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي فقال أبو بكر لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة ووافقه القاضي وأصحابه على ذلك

وعن إسحق بن منصور أنه قال لأبي عبد الله سئل يعني الأوزاعي عن الرجل يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصارى فكره ذلك وقال أحمد ما أحسن ما قال لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر فلا بأس

وعن أبي النضر العجلي قال قال أبو عبد الله فيمن يحمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني فهو يكره كل كرائه ولكنه يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو اشد كراهة

وتلخيص الكلام في ذلك أما بيع داره من كافر فقد ذكرنا منع أحمد منه ثم اختلف أصحابه هل هذا تنزيه أو تحريم

فقال الشريف أبو علي ابن أبي موسى كره أحمد أن يبيع مسلم داره من ذمي يكفر فيها بالله تعالى ويستبيح المحظورات فإن فعل أساء ولم يبطل البيع وكذلك أبو الحسن الآمدي أطلق الكراهة مقتصرا عليها

وأما الخلال وصاحبه والقاضي فمقتضى كلامهم تحريم ذلك وقد ذكرت كلام الخلال وصاحبه

وقال القاضي لا يجوز أن يؤاجر داره أو بيته ممن يتخذه بيت نار أو كنيسة أو يبيع فيه الخمر سواء شرط أنه يبيع فيه الخمر أو لم يشترط لكنه يعلم أنه يبيع الخمر فيه

وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث لا أرى أن يبيع داره من كافر يكفر بالله فيها يبيعها من مسلم أحب إلي

قال أبو بكر لا فرق بين الإجارة والبيع عنده فإذا أجاز البيع أجاز الإجارة وإذا منع البيع منع الإجارة

وقال أيضا في نصارى أوقفوا ضيعة لهم للبيعة لا يستأجرها الرجل المسلم منهم يعينهم على ما هم فيه قال وبهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى

فقد حرم القاضي إجارتها لمن يعلم أنه يبيع فيها الخمر مستشهدا على ذلك بنص أحمد على أنه لا يبيعها من الكافر ولا يستكري وقف الكنيسة

وذلك يقتضي أن المنع في هاتين الصورتين عنده منع تحريم

ثم قال القاضي في أثناء المسألة

فإن قيل أليس قد أجاز أحمد إجارتها من أهل الذمة مع علمه بأنهم يفعلون فيها ذلك

قيل المنقول عن أحمد أنه حكى قول ابن عون رضي الله عنه وعجب منه وذكر القاضي رواية الأثرم

وهذا يقتضي أن القاضي لا يجوز إجارتها من ذمي

وكذلك أبو بكر قال إذا أجاز أجاز وإذا منع منع وما لا يجوز فهو محرم وكلام أحمد رضي الله تعالى عنه محتمل الأمرين فإن قوله في رواية أبي الحارث يبيعها من مسلم أحب إلي يقتضي أنه منع تنزيه واستعظامه لذلك في رواية المروزي وقوله لا تباع من الكفار وشدد في ذلك يقتضي التحريم

وأما الإجارة فقد سوى الأصحاب بينها وبين البيع وما حكاه عن ابن عون وليس بقول له وإن إعجابه بفعل ابن عون إنما كان لحسن مقصد ابن عون ونيته الصالحة

ويمكن أن يقال بل ظاهر الرواية أنه أجاز ذلك فإن إعجابه بالفعل دليل جوازه عنده واقتصاره على الجواب بفعل رجل يقتضي أنه مذهبه في أحد الوجهين

والفرق بين الإجارة والبيع أن ما في الإجارة من مفسدة الإعانة قد عارضه مصلحة أخرى وهو صرف إرعاب المطالبة بالكراء عن المسلم وإنزال ذلك بالكفار وصار ذلك بمنزلة إقرارهم بالجزية فإنه وإن كان فيه إقرار الكفار لكن لما تضمنه من المصلحة جاز وكذلك جازت مهادنة الكفار في الجملة

فأما البيع فهذه المصلحة منتفية فيه وهذا ظاهر على قول ابن أبي موسى وغيره أن البيع مكروه غير محرم فإن الكراهة في الإجارة تزول بهذه المصلحة الراجحة كما في نظائره

فيصير في المسألة أربعة اقوال

وهذا الخلاف عندنا والتردد في الكراهة هو فيما إذا لم يعقد الإجارة على المنفعة المحرمة فأما إن آجره إياها لأجل بيع الخمر واتخاذها كنيسة أو بيعة لم يجز قولا واحدا وبه قال الشافعي وغيره كما لا يجوز أن يكري أمته أو عبده للفجور

وقال أبو حنيفة يجوز أن يؤاجرها لذلك

قال أبو بكر الرازي لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيه الخمر وبين أن لا يشترط لكنه يعلم أنه يبيع فيه الخمر أن الإجارة تصح

ومأخذه في ذلك أنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء وإن شرط لأن له أن لا يبيع فيها الخمر ولا يتخذها كنيسة وتستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وترك ذكرها سواء كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا لحمل خنزير أو ميتة أو خمر أنه يصح لأنه لا يتعين حمل الخمر بل لو حمل عليه بدله عصيرا لاستحق الأجرة فهذا التقييد عنده لغو فهو بمنزلة الإجارة المطلقة والمطلقة عنده جائزة وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة قال لأن السلاح معمول للقتال لا يصلح لغيره

وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى وقالوا ليس المقيد كالمطلق بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة وإن جاز للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها وألزموه مالو اكترى دارا ليتخذها مسجدا فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة وهي لا تستحق بعقد الإجارة

ونازعه أصحابنا وكثير من الفقهاء في المقدمة الثانية وقالوا إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم حرمت الإجارة له لأن النبي ﷺ لعن عاصر الخمر ومعتصرها والعاصر إنما يعصر عصيرا لكن إذا رأى أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا وعصره لذلك استحق اللعنة

وهذا أصل مقرر في غير هذا الموضع لكن معاصي الذمي قسمان

أحدهما ما اقتضى عقد الذمة إقراره عليها

والثاني ما اقتضى عقد الذمة منعه منها أو من إظهارها

فأما القسم الثاني فلا ريب أنه لا يجوز على أصلنا أن يؤاجر أو يبايع الذمي عليه إذا غلب على الظن أنه يفعل ذلك كالمسلم وأولى

وأما القسم الأول فعلى ما قاله ابن أبي موسى يكره ولا يحرم لأنا قد قررناه على ذلك وإعانته على سكنى الدار كإعانته على سكنى دار الإسلام فلو كان هذا من الإعانة المحرمة لما جاز إقرارهم بالجزية وإنما كره ذلك لأنه إعانة من غير مصلحة لا مكان بيعها من مسلم بخلاف الإقرار بالجزية فإنه جاز لأجل المصلحة

وعلى ما قاله القاضي لا يجوز لأنه إعانة على ما يستعين به على المعصية من غير مصلحة تقابل هذه المفسدة فلم يجز بخلاف إسكانهم دار الإسلام فإن فيه من المصالح ما هو مذكور في فوائد إقرارهم بالجزية

ومما يشبه ذلك أنه قد اختلف قول أحمد إذا ابتاع الذمي أرض عشر من مسلم على روايتين منع من ذلك في إحداهما قال لأنه لا زكاة على الذمي وفيه إبطال العشر وهذا ضرر على المسلمين قال وكذلك لا يمكنون من استئجار أرض العشر لهذه العلة

وقال في الرواية الأخرى لا بأس أن يشترى الذمى أرض العشر من مسلم

واختلف قوله إذا جاز ذلك فيما على الذمي مما تخرج هذه الأرض على روايتين قال في إحداهما لا عشر عليه ولا شيء سوى الجزية

وقال في الرواية الأخرى عليه فيما يخرج من هذه الأرض الخمس ضعف ما كان على المسلم ومن أصحابنا من حكى رواية أنهم ينهون عن شرائها فإن اشتروها ضعف عليهم العشر

وفي كلام أحمد ما يدل على هذه فإذا كان قد اختلف قوله في جواز تمليكهم رقبة الأرض العشرية لما فيه من رفع العشر فالمفسدة الدينية الحاصلة بكفرهم وفسقهم في دار كانت للمسلمين يعبد الله فيها ويطاع أعظم من منع العشر

ولهذا تردد هل يرفع الضرر بمنع التملك بالكلية أو مع تجويز البيع أما أن يعطل حق المسلم أو تؤخذ الزكاة من الكفار فكلاهما غير ممكن فكان منع التملك أسهل كما منعناه من تملك العبد المسلم والمصحف لما فيه من تمكين عدو الله من أولياء الله وكلام الله

وكذلك نمنعهم على ظاهر المذهب من شراء السبي الذي جرى عليه سهام المسلمين كما شرط عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو يرفع الضرر بإبقاء حق الأرض عليه كما يؤخذ ممن اتجر منهم في أرض المسلمين ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة

ويتخرج أنه لا يؤخذ منه إلا عشر واحد كالمسألة الآتية وهذا في العشرية التي ليست خراجية

فأما الخراجية فقالوا ليس لذمي أن يبتاع أرضا فتحها المسلمون عنوة وإذا جوزنا بيع أرض العنوة كان حكم الذمي في ابتياعها كحكمه في ابتياع أرض العشر المحض إذ جميع الأرض عشرية عندنا وعند الجمهور بمعنى أن العشر يجب فيما أخرجت

وكذلك أرض الموات من أرض الإسلام التي ليست خراجية هل للذمي أن يتملكها بالإحياء

قال طائفة من العلماء ليس له ذلك وهو قول الشافعي وأبي حامد الغزالي وهذا قياس إحدى الروايتين عن أحمد في منعه من ابتياعها فإنه إذا لم يجز تملكها بالابتياع فبالإحياء أولى لكن قد يفرق بينهما بأن المبتاعة أرض عامرة ففيه ضرر محقق بخلاف إحياء الميتة فإنه لا يقطع حقا

والمنصوص عن أحمد وعليه الجمهور من أصحابه أنه يملكها بالاحياء وهو قول أبي حنيفة واختلف فيه عن مالك

ثم هل عليه فيها العشر فيه روايتان

قال ابن أبي موسى ومن أحيا من أهل الذمة أرضا مواتا فهي له ولا زكاة عليه فيها ولا عشر فيما أخرجت

وقد روي عنه رواية أخرى أنه لا خراج على أهل الذمة في أرضهم ويؤخذ منهم العشر مما يخرج يضاعف عليهم والأول أظهر

فهذا الذي حكاه ابن أبي موسى من تضعيف العشر فيما يملكه بالإحياء هو قياس تضعيفه فيما ملكه بالابتياع

لكن نقل حرب عنه في رجل من أهل الذمة أحيا مواتا قال هو عشري

ففهم القاضي وغيره من الأصحاب أن الواجب هو العشر المأخوذ من المسلم من غير تضعيف فحكوا في وجوب العشر فيها روايتين وابن أبي موسى نقل الروايتين في وجوب عشر مضعف

وعلى طريقة القاضي يخرج في مسألة الابتياع كذلك

وهذا الذي نقله ابن أبي موسى أصح فإن الكرماني ومحمد بن حرب وإبراهيم بن هانيء ويعقوب بن بختان نقلوا أن أحمد سئل وقال حرب سألت أحمد قلت إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا ماذا عليه قال أما أنا فأقول ليس عليه شيء قال وأهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا يقولون لا يترك الذمي أن يشتري أرض العشر قال وأهل البصرة يقولون قولا عجبا يقولون يضاعف عليه العشر

قال وسألت أحمد مرة أخرى فقلت إن أحيا رجل من أهل الذمة مواتا قال هو عشري وقال مرة أخرى ليس عليه شيء

وروى حرب عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قيل له أخذكم للخمس من أرض الذمة التي في أرض العرب أبأثر عندكم أم بغير أثر قال ليس عندنا فيه أثر ولكن قسناه على ما أمر به عمر رضي الله عنه أن يؤخذ من أموالهم إذا اتجروا بها ومروا بها على عشار

فهذا أحمد رضي الله عنه سئل عن إحياء الذمي الأرض فأجاب أنه ليس عليه شيء وذكر اختلاف الفقهاء في مسألة اشترائه الأرض هل يمنع أو يضعف عليه العشر

وهذا يبين لك أن المسألتين عنده واحد وهو تملك الذمي الأرض العشرية سواء كان بابتياع أو إحياء أو غير ذلك وكذلك ذكر العنبري قاضي أهل البصرة أنهم يأخذون من جميع أرض أهل الذمة العشرية وذلك يعم ما ملك انتقالا أو ابتداء

وهذا يفيدك أن أحمد إذا منع الذمي أن يبتاع الأرض العشرية فكذلك يمنعه من إحيائها وأنه إذا أخذ منه فيما ابتاعه الخمس فكذلك فيما أحياه وأن من نقل عنه عشرا مفردا في الأرض المحياة دون المبتاعة فليس بمستقيم وإنما سببه قوله في الرواية الأخرى التي نقلها الكرماني هي أرض عشرية ولكن هذا كلام مجمل قد فصله ابو عبد الله في موضع آخر وبين مأخذه ونقل الفقه إن لم يعرف الناقل مأخذ الفقيه وإلا فقد يقع فيه الغلط كثيرا

وقد أفصح أرباب هذا القول بأن مأخذهم قياس الحراثة على التجارة فإن الذمي إذا اتجر في غير أرضه فإنه يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من المسلمين وهو نصف العشر فكذا إذا استحدث أرضا غير أرضه لأنه في كلا الموضعين قد أخذ يكتسب في غير مكانه الأصلي وحق الحرث والتجارة قرينان كما في قوله يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وكذلك قال أحمد في رواية الميموني يؤخذ من أموال أهل الذمة إذا اتجروا فيها قومت ثم أخذ منهم زكاتها مرتين يضعف عليهم لقول عمر رضي الله عنه أضعفها عليهم فمن الناس من قاس الزرع على ذلك

قال الميموني والذي لا أشك فيه من قول أبي عبد الله غير مرة أن أرض أهل الذمة التي في الصلح ليس عليها خراج إنما ينظر إلى ما أخرجت يؤخذ منهم العشر مرتين

قال الميموني قلت لأبي عبد الله فالذي يشتري أرض العشر ما عليه قال لي الناس كلهم يختلفون في هذا منهم من لا يرى عليه شيئا ويشبهه بماله ليس عليه فيه زكاة إذا كان مقيما ما كان بين أظهرنا وبماشيته فيقول هذه أموال وليس عليه فيها صدقة ومنهم من يقول هذه حقوق لقوم ولا يكون شراؤه الأرض يذهب بحقوق هؤلاء منهم والحسن يقول إذا اشتراها ضوعف عليه العشر

قلت كيف يضعف عليه قال لأن عليه العشر فيؤخذ منه الخمس

قلت تذهب إلى أن يضعف عليه الخمس فيؤخذ منه الخمس فالتفت إلي وقال نعم يضعف عليه

قال وذاكرنا أبا عبد الله أن مالكا كان يرى أن لا يؤخذ منهم شيء وكان يحول بينهم وبين شراء الشيء منها

وهذه الرواية اختيار الخلال وهي مسألة كبيرة ليس هذا موضع استقصائها

والفقهاء أيضا يختلفون في هذه المسألة كما ذكره أبو عبد الله

فممن نقل عنه تضعيف العشر عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وغيره من أهل البصرة وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو قول أبي يوسف

ومنهم من قال بل يؤخذ العشر على ما كان عليه كالقول الذي ذكره بعض أصحابنا ويروى هذا عن الثوري ومحمد بن الحسن وحكى عن الثوري لا شيء عليه كالرواية الأخرى عن أحمد وروي هذا عن مالك أيضا وعن مالك أنه يؤمر ببيعها وحكى ذلك عن الحسن بن صالح وشريك وهو قول الشافعي وقال أبو ثور يجبر على بيعها

وقياس قول من يضعف العشر أن المستأمن لو زرع في دار الإسلام لكان الواجب عليه خمسين ضعفا ما يؤخذ من الذمي كما أنه إذا اتجر في دار الإسلام يؤخذ منه العشر ضعفا ما يؤخذ من الذمي

فقد ظهر على إحدى الروايتين وقول طوائف من أهل العلم نمنعهم من أن يستولوا على عقار في دار الإسلام للمسلمين فيه حق من المساكن والمزارع كما نمنعهم أن يحدثوا في دار الإسلام بناء لعباداتهم من كنيسة أو بيعة أو صومعة لأن عقد الذمة اقتضى إقرارهم على ما كانوا عليه من غير تعد منهم إلى الاستيلاء فيما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق

وهذا لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا وإنما أقروا بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها ولهذا لم يثبت لهم غير واحد من السلف حق شفعة على مسلم وأخذ بذلك أحمد رحمه الله وغيره لأن الشقص الذي يملكه مسلم إذا أوجبنا فيه شفعة لذمي كنا قد أوجبنا على المسلم أن ينقل الملك في عقاره إلى ذمي بطريق القهر للمسلم وهذا خلاف الأصول ولهذا نص أحمد على أن البائع للشقص إذا كان مسلما وشريكه ذمي لم يجب له شفعة لأن الشفعة في الأصل إنما هي من حقوق أحد الشريكين على الآخر بمنزلة الحقوق التي تجب على المسلم للمسلم كإجابة الدعوة وعيادة المريض وكمنعه وكفه أن يبيع على بيعه أو يخطب على خطبته وهذا كله عن أحمد مخصوص بالمسلمين وفي البيع والخطبة خلاف بين الفقهاء

وأما استئجار الأرض الموقوفة على الكنيسة وشراء ما يباع على الكنيسة فقد أطلق أحمد المنع أنه لا يستأجرها لا يعينهم على ما هم فيه وكذلك أطلقه الآمدي وغيره

ومثل هذا مالو اشترى من المال الموقوف للكنيسة الموصى لها به أو باع آلات يبنون بها كنيسة ونحو ذلك والمنع هنا أشد لأن نفس هذا المال الذي يبذله يصرف في المعصية فهو كبيع العصير لمن يتخذه خمرا بخلاف نفس السكنى فإنها ليست محرمة ولكنهم يعصون في المنزل فقد يشبه مالو قد باعهم الخبز واللحم والثياب فإنهم قد يستعينون بذلك على الكفر وإن كان الإسكان فوق هذا لأن نفس الأكل والشرب ليس بمحرم ونفس المنفعة المعقود عليها في الإجارة وهو اللبث قد يكون محرما

ألا ترى أن الرجل لا ينهى أن يتصدق على الكفار والفساق في الجملة وينهى أن يقعد في منزله من يكفر أو يفسق وقد تقدم تصريح ابن القاسم أن هذا الشراء لا يحل وأطلق الشافعي المنع من معاونتهم على بناء الكنيسة ونحو ذلك

فقال في كتاب الجزية من الأم ولو أوصى يعني الذمي بثلث ماله أو شيء منه يبني به كنيسة لصلوات النصارى أو يستأجر به خدم للكنيسة أو تعمر به الكنيسة أو يستصبح به فيها أو يشتري بها أرض لتكون صدقة على الكنيسة أو تعمر من غلتها أو ما في هذا المعنى كانت الوصية باطلة ولو أوصى أن يبني كنيسة ينزلها مار الطريق أو وقفها على قوم يسكنونها جازت الوصية وليس في بنيان الكنيسة معصية إلا أن تتخذ لمصلى النصارى الذي اجتماعهم فيها على الشرك قال وأكره للمسلم أن يعمل بناء أو نجارا أو غير ذلك في كنائسهم التي لصلاتهم

وأما مذهب أحمد في الإجارة لعمل ناووس ونحوه فقال الآمدي لا يجوز رواية واحدة لأن المنفعة المعقود عليها محرمة وكذلك الإجارة لبناء كنيسة أو بيعة أو صومعة كالإجارة لكتب كتبهم المحرفة

وأما مسألة حمل الخمر والميتة والخنزير للنصراني أو للمسلم فقد تقدم لفظ أحمد أنه قال فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني فهو يكره أكل كرائه ولكن يقضي للحمال بالكراء وإذا كان للمسلم فهو أشد زاد بعضهم فيها ويكره أن يحمل ميتة بكراء أو يخرج دابة ميتة ونحو هذا

ثم اختلف أصحابنا في هذا الجواب على ثلاث طرق

إحداها إجراؤه على ظاهره وأن المسألة رواية واحدة

قال ابن أبي موسى وكره أحمد أن يؤجر المسلم نفسه لحمل ميتة أو خنزير للنصراني قال فإن فعل قضى له بالكراء وإن أجر نفسه لحمل محرم لمسلم كانت الكراهة أشد ويأخذ الكراء وهل يطيب له على وجهين أوجههما أنه لا يطيب له ويتصدق به وهكذا ذكر أبو الحسن الآمدي قال إذا آجر نفسه من رجل لمحل خمر أو خنزير أو ميتة كره نص عليه وهذه كراهة تحريم لأن النبي ﷺ لعن حاملها ولكن يقضي له بالكراء وغير ممتنع أن يقضي بالكراء وإن كان محرما كأجر الحجام

فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع كونها محرمة عليه على الصحيح

الطريقة الثانية تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها وجعل المسألة رواية واحدة أن هذه الإجارة لا تصح وهي طريقة القاضي في المجرد وهي طريقة ضعيفة رجع عنها القاضي في كتبه المتأخرة فإنه صنف المجرد قديما

الطريقة الثالثة تخريج هذه المسألة على روايتين

إحداهما أن هذه الإجارة صحيحة يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل وللأجرة

والثانية لا تصح الإجارة ولا يستحق بها أجرة وإن حمل وذلك على قياس قوله في الخمر لا يجوز إمساكها وتجب إراقتها

قال في رواية أبي طالب إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر وتسرح الخنازير قد حرما عليه وإن قتلها فلا بأس

فقد نص على أنه لا يجوز إمساكها ولأنه قد نص في رواية ابن منصور أنه يكره أن يؤاجر نفسه لنظارة كرم النصراني لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر إلا أن يعلم أنه يباع لغير الخمر

فقد منع من إجارة نفسه على حفظ الكرم الذي يتخذ للخمر فأولى أن يمنع من إجارة نفسه على حمل الخمر

فهذه طريقة القاضي في التعليق وتصرفه وعليها أكثر أصحابه مثل أبي الخطاب وهي طريقة من احتذى حذوه من المتأخرين

والمنصور عندهم الرواية المخرجة وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد وهذا عند أصحابنا فيما إذا استأجر على حمل الخمر إلى بيته أو حانوته وحيث لا يجوز إقرارها سواء كان حملها للشرب أو مطلقا

فإذا كان يحملها ليريقها أو يحمل الميتة ليدفنها أو لينقلها إلى الصحراء لئلا يتأذى الناس بنتن ريحها فإنه يجوز الإجارة على ذلك لأنه عمل مباح ولكن إن كانت الأجرة جلد الميتة لم تصح واستحق أجرة المثل وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه رده على صاحبه وهذا مذهب مالك وأظنه مذهب الشافعي أيضا ومذهب أبي حنيفة كالرواية الأولى

ومأخذه في ذلك أن الحمل إذا كان مطلقا لم يكن المستحق غير حمل الخمر

وأيضا فإن مجرد حملها ليس معصية لجواز أن تحمل لتراق أو تخلل عنده ولهذا إذا كان الحمل للشرب لم يصح ومع هذا فإنه يكره الحمل

والأشبه والله أعلم طريقة ابن أبي موسى فإنها أقرب إلى مقصود أحمد وأقرب إلى القياس

وذلك لأن النبي ﷺ لعن عاصر الخمر ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا وهي ليست محرمة في نفسها وإنما حرمت لقصد المعتصر والمستحمل فهو كما لو باع عنبا أو عصيرا لمن يتخذه خمرا وفات العصير والخمر في يد المشتري فإن مال البائع لا يذهب مجانا بل يقضي له بعوضه

كذلك ههنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا بل يعطي بدلها فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهته

ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري بخلاف من استأجر للزنا أو التلوط أو القتل أو الغصب أو السرقة فإن نفس هذا العمل يحرم لا لأجل قصد المشتري فهو كما لو باعه ميتة أو خمرا فإنه لا يقضي له بثمنها لأن نفس هذه العين محرمة

ومثل هذه الإجارة والجعالة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا بل هي صحيحه بالنسبة إلى المستأجر بمعنى أنه يجب عليه مال الجعل والأجر وهي فاسدة بالنسبة إلى الأجرة بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة والجعل ولهذا في الشريعة نظائر

وعلى هذا فنص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني لا ينافي هذا فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن ثمنه ونقضي له بكرائه ولو لم نفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية قد حصلوا غرضهم منه ثم لا يعطونه شيئا وما هم بأهل أن يعانوا على ذلك بخلاف من سلم إليهم عملا لا قيمة له بحال

نعم البغي والمغني والنائحة ونحوهم إذا أعطوا أجورهم ثم تابوا هل يتصدقون بها أو يجب أن يردوها على من أعطاهموها فيها قولان

أصحهما أنا لا نردها على الفساق الذين بذلوها في المنفعة المحرمة ولا يباح الأخذ بل يتصدق بها وتصرف في مصالح المسلمين كما نص عليه أحمد في أجرة حمل الخمر

ومن ظن أنها ترد على الباذل المستأجر لأنها مقبوضة بعقد فاسد فيجب ردها عليه كالمقبوض بالربا أو نحوه من العقود الفاسدة فيقال له المقبوض بالعقد الفاسد يجب فيه التراد من الجانبين فيرد كل منهما على الآخر ما قبضه منه كما في تقابض الربا عند من يقول المقبوض بالعقد الفاسد لا يملك كما هو المعروف من مذهب الشافعي وأحمد فأما إذا تلف المقبوض عند القابض فإنه لا يستحق استرجاع عوضه مطلقا

وحينئذ فيقال إن كان ظاهر القياس يوجب ردها بناء على أنها مقبوضة بعقد فاسد فالزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم واستوفوا العوض المحرم والتحريم الذي فيه ليس لحقهم وإنما هو لحق الله تعالى وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين يرد الآخر فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال

وأيضا فإن هذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أحد منفعتيه وعوضهما جميعا منه بخلاف مالو كان العوض خمرا أو ميتة فإن ذلك لا ضرر عليه في فواتها فإنها لو كانت باقية أتلفناها عليه ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه بحيث كان يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر أعني من صرف القوة التي عمل بها

فيقال على هذا فينبغي أن يقضوا بها إذا طالب بقبضها

قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها كعقود الكفار المحرمة فإنهم إذا أسلموا على القبض لم نحكم بالقبض ولو أسلموا بعد القبض لم نحكم بالرد ولكن في حق المسلم تحرم هذه الأجرة عليه لأنه كان معتقدا لتحريمها بخلاف الكافر وذلك لأنه إذا طلب الأجرة قلنا له أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل محرم فلا يقضى لك بأجرة

فإذا قبضها ثم قال الدافع هذا المال اقضوا لي برده فإنما أقبضته إياه عوضا عن منفعة محرمة قلنا له دفعته بمعاوضة رضيت بها فإذا طلبت استرجاع ما أخذه فرد إليه ما أخذته إذا كان له في بقائه معه منفعة فهذا ومثله يتوجه فيما يقبض من ثمن الميتة والخمر

وأيضا فمشتري الخمر إذا أقبض ثمنها وقبضها وشراها ثم طلب أن يعاد إليه الثمن كان الأوجه أن يرد إليه الثمن ولا يباح للبائع لا سيما ونحن نعاقب الخمار بياع الخمر بأن نحرق الحانوت التي يباع فيها نص على ذلك أحمد وغيره من العلماء فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرق حانوتا يباع فيه الخمر وعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه حرق قرية يباع فيها الخمر وهي آثار معروفة وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع

وذلك لأن العقوبات المالية عندنا باقية غير منسوخة

فإذا عرف أصل أحمد في هذه المسائل فمعلوم أن بيعهم ما يقيمون به أعيادهم المحرمة مثل بيعهم العقار للسكنى وأشد بل هو إلى بيعهم العصير أقرب منه إلى بيعهم العقار لأن ما يبتاعونه من الطعام واللباس ونحو ذلك يستعينون به على العيد

إذ العيد كما قدمنا اسم لما يفعل من العبادات والعادات وهذه إعانة على ما يقام من العادات لكن لما كان جنس الأكل والشرب واللباس ليس محرما في نفسه بخلاف شرب الخمر فإنه محرم في نفسه

فإن كان ما يبتاعونه يفعلون به نفس المحرم مثل صليب أو شعانين أو معمودية أو تبخير أو ذبح لغير الله أو صور ونحو ذلك فهذا لا ريب في تحريمه كبيعهم العصير ليتخذوه خمرا وبناء الكنيسة لهم وأما ما ينتفعون به في أعيادهم للأكل والشرب واللباس فأصول أحمد وغيره تقتضي كراهته لكن كراهة تحريم كمذهب مالك أو كراهة تنزيه

والأشبه أنه كراهة تحريم كسائر النظائر عنده فإنه لا يجوز بيع الخبز واللحم والرياحين للفساق الذين يشربون عليها الخمر ولأن هذه إعانة قد تفضي إلى إظهار الدين الباطل وكثرة اجتماع الناس لعيدهم وظهوره وهذا أعظم من إعانة شخص معين

لكن من يقول هذا مكروه كراهة تنزيه يقول هذا متردد بين بيع العصير وبيع الخنزير وليس هذا مثل بيعهم العصير الذي يتخذونه خمرا لأنا إنما يحرم علينا أن نبيع الكفار ما كان محرم الجنس كالخمر والخنزير فأما ما يباح في حال دون حال كالحرير ونحوه فيجوز بيعه لهم

وأيضا فالطعام واللباس الذي يبتاعونه في عيدهم ليس محرما في نفسه وإنما الأعمال التي يعملونه بها لما كانت شعار الكفار نهي عنها المسلم لما فيها من مفسدة انجراره إلى بعض فروع الكفار فأما الكافر فهي لا تزيده من الفساد أكثر مما هو فيه لأن نفس حقيقة الكفر قائمة به فدلالة الكفر وعلامته إذا كانت مباحة لم يكن فيها كفر زائد كما لو باعهم المسلم ثياب الغيار التي يتميزون بها عن المسلمين بخلاف شرب الخمر وأكل الخنزير فإنه زيادة في الكفر

نعم لو باعهم المسلم ما يتخذونه صليبا أو شعانين ونحو ذلك فهنا قد باعهم ما يستعينون به على نفس المعصية

ومن نصر التحريم يجيب عن هذا بأن شعار الكفر وعلامته ودلالته على وجهين

وجه نؤمر به في دار الإسلام وهو ما فيه إذلال الكفر وصغاره فهذا إذا ابتاعوه كان ذلك إعانة على ما يأمر الله به ورسوله فإنا نحن نأمرهم بلبس الغيار

ووجه النهي عنه هو ما فيه من إعلاء الكفر وإظهاره له كرفع أصواتهم بكتابهم وإظهار الشعانين وبيع النواقيس لهم وبيع الرايات والألوية لهم ونحو ذلك فهذا من شعائر الكفر التي نحن مأمورون بإزالتها والمنع منها في ديار الإسلام فلا يجوز إعانتهم عليها

وأما قبول الهدية منهم يوم عيدهم فقد قدمنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه أتي بهدية النيروز فقبلها

وروى ابن أبي شيبة في المصنف حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه أن امرأة سألت عائشة قالت إن لنا أظآرا من المجوس وإنه يكون لهم العيد فيهدون لنا فقالت أما ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا ولكن كلوا من أشجارهم

وقال حدثنا وكيع عن الحكم بن حكيم عن أمه عن أبي برزة أنه كان له سكان مجوس فكانوا يهدون له في النيروز والمهرجان فكان يقول لأهله ما كان من فاكهة فكلوه وما كان من غير ذلك فردوه

فهذا كله يدل على أنه لا تأثير للعيد في المنع من قبول هديتهم بل حكمها في العيد وغيره سواء لأنه ليس في ذلك إعانة لهم على شعائر كفرهم لكن قبول هدية الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة مسألة مستقلة بنفسها فيها خلاف وتفصيل ليس هذا موضعه

وإنما يجوز أن يؤكل من طعام أهل الكتاب في عيدهم بابتياع أو هدية أو غير ذلك مما لم يذبحوه للعيد فأما ذبائح المجوس فالحكم فيها معلوم فإنها حرام عند العامة

وأما ما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وما يتقربون بذبحه إلى غير الله نظير ما يذبح المسلمون هداياهم وضحاياهم متقربين بها إلى الله تعالى وذلك مثل ما يذبحون للمسيح والزهرة فعن أحمد فيها روايتان أشهرهما في نصوصه أنه لا يباح أكله وإن لم يسم عليه غير الله تعالى ونقل النهي عن ذلك عن عائشة وعبد الله بن عمر

قال الميموني سألت أبا عبد الله عن ذبائح أهل الكتاب فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم فلا يحل فقال يدعون التسمية على عمد إنما يذبحون للمسيح

وذكر أيضا أنه سأل أبا عبد الله عمن ذبح من اهل الكتاب ولم يسم فقال إن كان مما يذبحون لكنائسهم فقال يتركون التسمية فيه على عمد إنما يذبحون للمسيح وقد كرهه ابن عمر إلا أن أبا الدرداء يتأول أن طعامهم حل وأكثر ما رأيت منه الكراهة لأكل ما ذبحوا لكنائسهم

وقال أيضا سألت أبا عبد الله عن ذبيحة المرأة من أهل الكتاب ولم تسم قال إن كانت ناسية فلا بأس وإن كان مما يذبحون لكنائسهم فقد يدعون التسمية فيه على عمد





12*************************************************************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/12


< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/11 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/13










قال المروزي قريء على أبي عبد الله وما ذبح على النصب قال على الأصنام وقال كل شيء ذبح على الأصنام لا يؤكل

وقال حنبل قال عمي أكره كل ما ذبح لغير الله والكنائس إذا ذبح لها وما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به وما ذبح يريد به غير الله فلا آكله وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه

وروى أحمد عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي سألت ميمونا عما ذبحت النصارى لأعيادهم وكنائسهم فكره أكله

وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال لا يؤكل لأنه أهل لغير الله به ويؤكل ما سوى ذلك وإنما أحل الله من طعامهم ما ذكر اسم الله عليه قال الله عز و جل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقال وما أهل به لغير الله فكل ما ذبح لغير الله فلا يؤكل لحمه

وروى حنبل عن عطاء في ذبيحة النصراني يقول اسم المسيح قال كل قال حنبل سمعت أبا عبد الله يسأل عن ذلك قال لا تأكل قال الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فلا أرى هذا ذكاته وما أهل لغير الله به

فاحتجاج أبي عبد الله بالآية دليل على أن الكراهة عنده كراهة تحريم وهذا قول عامة قدماء الأصحاب

قال الخلال في باب التوقي لأكل ما ذبحت النصارى وأهل الكتاب لأعيادهم وذبائح أهل الكتاب لكنائسهم كل من روى عن أبي عبد الله روى الكراهة فيه وهي متفرقة في هذه الأبواب

وما قاله حنبل في هاتين المسألتين ذكر عن أبي عبد الله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وما أهل لغير الله به فإنما الجواب من أبي عبد الله فيما أهل لغير الله به وأما التسمية وتركها فقد روى عنه جميع أصحابه أنه لا بأس بأكل مالم يسموا عليه إلا في وقت ما يذبحون لأعيادهم وكنائسهم فإنه في معنى قوله تعالى وما أهل لغير الله به

وعند أبي عبد الله أن تفسير ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنما عني به الميتة وقد أخرجته في موضعه

ومقصود الخلال أن نهي أحمد لم يكن لأجل ترك التسمية فقط فإن ذلك عنده لا يحرم وإنما كان لأنهم ذبحوه لغير الله سواء كانوا يسمون غير الله أو لا يسمون الله ولا غيره ولكن قصدهم الذبح لغير الله

لكن قال ابن أبي موسى ويجتنب أكل كل ما ذبحه اليهود والنصارى لكنائسهم وأعيادهم ولا يؤكل ما ذبح للزهرة

والرواية الثانية أن ذلك مكروه غير محرم وهذا الذي ذكره القاضي وغيره وأخذوا ذلك فيما أظنه مما نقله عبد الله بن أحمد قال سألت أبي عمن ذبح للزهرة قال لا يعجبني قلت أحرام أكله قال لا أقول حراما ولكن لا يعجبني وذلك أنه أثبت الكراهة دون التحريم

ويمكن أن يقال إنما توقف عن تسميته محرما لأن ما اختلف في تحريمه وتعارضت فيه كالجمع بين الأختين ونحوه هل يسمى حراما على روايتين كالروايتين عنده في أن ما اختلف في وجوبه هل يسمى فرضا على روايتين

ومن أصحابنا من أطلق الكراهة ولم يفسر هل أراد التحريم أو التنزيه

قال أبو الحسن الآمدي ما ذبح لغير الله مثل الكنائس والزهرة والشمس والقمر فقال أحمد هو مما أهل به لغير الله أكرهه كل ما ذبح لغير الله والكنائس وما ذبحوا في أعيادهم أكرهه فأما ما ذبح أهل الكتاب على معنى الذكاة فلا بأس به

وكذلك مذهب مالك يكره ما ذبحه النصارى لكنائسهم أو ذبحوا على اسم المسيح أو الصليب أو أسماء من مضى من أحبارهم ورهبانهم

وفي المدونة وكره مالك أكل ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم أو لأعيادهم من غير تحريم وتأول قول الله أو فسقا أهل لغير الله به

قال ابن القاسم وكذلك ما ذبحوا وسموا عليه اسم المسيح وهو بمنزلة ما ذبحوا لكنائسهم ولا أرى أن يؤكل

ونقلت الرخصة في ذبائح الأعياد ونحوها عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم وهذا فيما لم يسموا عليه غير الله فإن سموا غير الله في عيدهم أو غير عيدهم حرم في أشهر الروايتين وهو مذهب الجمهور وهو مذهب الفقهاء الثلاثة فيما نقله غير واحد وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة منهم أبو الدرداء وأبو أمامة والعرباض بن سارية وعبادة بن الصامت وهو قول أكثر فقهاء الشام وغيرهم

والثانية لا يحرم وإن سموا غير الله وهو قول عطاء ومجاهد ومكحول والأوزاعي والليث

نقل ابن منصور أنه قيل لأبي عبد الله سئل سفيان عن رجل ذبح ولم يذكر اسم الله متعمدا قال أرى أن لا يؤكل قيل له أرأيت أن كان يرى أنه يجزي عنه فلم يذكر قال أرى أنه لا يؤكل قال أحمد المسلم فيه اسم الله يؤكل ولكن قد أساء في ترك التسمية النصارى أليس يذكرون غير اسم الله

ووجه الاختلاف أن هذا قد دخل في عموم قوله عز و جل وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وفي عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به لأن هذه الآية تعم كل ما نطق به لغير الله يقال أهللت بكذا إذا تكلمت به وإن كان أصله الكلام الرفيع فإن الحكم لا يختلف برفع الصوت وخفضه وإنما لما كانت عادتهم رفع الصوت في الأصل خرج الكلام على ذلك فيكون المعنى وما تكلم به لغير الله وما نطق به لغير الله

ومعلوم أن ما حرم أن تجعل غير الله مسمى فكذلك منويا إذ هذا مثل النيات في العبادات فإن اللفظ بها وإن كان أبلغ لكن الأصل القصد

الا ترى أن المتقرب بالهدايا والضحايا سواء قال أذبحه لله أو سكت فإن العبرة بالنية وتسميته الله على الذبيحة غير ذبحها لله فإنه يسمى على ما يقصد به اللحم وأما القربان فيذبح لله سبحانه ولهذا قال النبي ﷺ في قربانه اللهم منك ولك بعد قوله بسم الله والله أكبر لقوله تعالى إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين والكافرون يصنعون بآلهتهم كذلك فتارة يسمون آلهتهم على الذبائح وتارة يذبحونها قربانا إليهم وتارة يجمعون بينهما وكل ذلك والله أعلم يدخل فيما أهل لغير الله به فإن من سمى غير الله فقد أهل به لغير الله فقوله باسم كذا استعانة به وقوله لكذا عبادة له ولهذا جمع الله بينهما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين

وأيضا فإنه سبحانه حرم ما ذبح على النصب وهي كل ما ينصب ليعبد من دون الله

وأما احتجاج أحمد على هذه المسألة بقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فحيث اشترطت التسمية في ذبيحة المسلم هل تشترط في ذبيحة الكتابي على روايتين وإن كان الخلال هنا قد ذكر عدم الاشتراط فاحتجاجه بهذه الآية يخرج على إحدى الروايتين

فلما تعارض العموم الحاظر وهو قوله تعالى وما أهل به لغير الله والعموم المبيح وهو قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم اختلف العلماء في ذلك

والأشبه بالكتاب والسنة ما دل عليه أكثر كلام أحمد من الحظر وإن كان من متأخري أصحابنا من لا يذكر هذه الرواية بحال وذلك لأن عموم قوله تعالى وما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب عموم محفوظ لم تخص منه صورة بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب فإنه يشترط له الذكاة المبيحة فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ولأن غاية الكتابي أن تكون ذكاته كالمسلم والمسلم لو ذبح لغير الله أو ذبح باسم غير الله لم يبح وإن كان يكفر بذلك فكذلك الذمي لأن قوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم سواء وهم وإن كانوا يستحلون هذا ونحن لا نستحله فليس كل ما استحلوه يحل لنا

ولأنه قد تعارض دليلان حاظر ومبيح فالحاظر أولى أن يقدم

ولأن الذبح لغير الله أو باسم غيره قد علمنا يقينا أنه ليس من دين الأنبياء عليهم السلام فهو من الشرك الذي أحدثوه فالمعنى الذي لأجله حلت ذبائحهم منتف في هذا والله تعالى أعلم

فإن قيل أما إذا سموا عليه غير الله بأن يقولوا باسم المسيح ونحوه فتحريمه ظاهر أما إذا لم يسموا أحدا ولكن قصدوا الذبح للمسيح أو للكوكب ونحوهما فما وجه تحريمه

قيل قد تقدمت الإشارة إلى ذلك وهو أن الله سبحانه قد حرم ما ذبح على النصب وذلك يقتضي تحريمه وإن كان ذابحه كتابيا لأنه لو كان التحريم لكونه وثنيا لم يكن فرق بين ذبحه على النصب وغيرها ولأنه لما أباح لنا طعام أهل الكتاب دل على أن طعام المشركين حرام فتخصيص ما ذبح على الوثن يقتضي فائدة جديدة

وأيضا فانه ذكر تحريم ما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله وقد دخل فيما أهل به لغير الله ما أهل به أهل الكتاب لغير الله فكذلك كل ما ذبح على النصب فإذا ذبح الكتابي على ما قد نصبوه من التماثيل في الكنائس فهو مذبوح على النصب

ومعلوم أن حكم ذلك لا يختلف بحضور الوثن وغيبته فإنما حرم لأنه قصد بذبحه عبادة الوثن وتعظيمه وهذه الأنصاب قد قيل هي من الأصنام وقيل هي غير الأصنام

قالوا كان حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها ويذبحون عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون عليها وكانوا إذا شاءوا أبدلوا هذه الأحجار بحجارة هي أعجب إليهم منها ويدل على ذلك قول أبي ذر في حديث إسلامه حتى صرت كالنصب الأحمر يريد أنه كان يصير أحمر من تلوثه بالدم

وفي قوله وما ذبح على النصب قولان

أحدهما أن نفس الذبح كان يكون عليها كما ذكرناه فيكون ذبحهم عليها تقربا إلى الأصنام وهذا على قول من يجعلها غير الأصنام فيكون الذبح عليها لأجل أن المذبوح عليها مذبوح للأصنام أو مذبوح لها وذلك يقتضي تحريم كل ما ذبح لغير الله ولأن الذبح في البقعة لا تأثير له إلا من جهة الذبح لغير الله كما كرهه النبي ﷺ من الذبح في مواضع أصنام المشركين ومواضع أعيادهم وإنما يكره المذبوح في البقعة المعينة لكونها محل شرك فإذا وقع الذبح حقيقة لغير الله كانت حقيقة التحريم قد وجدت فيه

والقول الثاني أن الذبح على النصب أي لأجل النصب كما قيل أولم رسول الله ﷺ على زينب بخبز ولحم وأطعم فلان على ولده وذبح فلان على ولده ونحو ذلك ومنه قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم وهذا ظاهر على قول من يجعل النصب نفس الأصنام ولا منافاة بين كون الذبح لها وبين كونها كانت تلوث بالدم

وعلى هذا القول فالدلالة ظاهرة

واختلاف هذين القولين في قوله تعالى على النصب نظير الاختلاف في قوله تعالى ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وقوله تعالى ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام

فإنه قد قيل المراد بذكر اسم الله عليها إذا كانت حاضرة

وقيل بل يعم ذكره لأجلها في مغيبها وشهودها بمنزلة قوله تعالى لتكبروا الله على ما هداكم

وفي الحقيقة مآل القولين إلى شيء واحد في قوله تعالى وما ذبح على النصب كما قد أومأنا إليه

وفيها قول ثالث ضعيف أن المعنى على اسم النصب وهذا ضعيف لأن هذا المعنى حاصلا من قوله تعالى وما أهل لغير الله به فيكون تكريرا لكن اللفظ يحتمله كما روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحدث عن رسول الله ﷺ أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل على رسول الله ﷺ الوحي فقدمت إلى رسول الله ﷺ سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه

وفي رواية له وإن زيد بن عمرو بن نفيل كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض الكلأ ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له

وأيضا فان قوله تعالى وما أهل لغير الله به ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذا ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة له والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم شركا من الاستعانة باسم هذا الغير في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح والزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح والزهرة أو قصد به ذلك أولى

وهذا يبين لك ضعف قول من حرم ما ذبح باسم غير الله ولم يحرم ما ذبح لغير الله كما قاله طائفة من أصحابنا وغيرهم بل لو قيل بالعكس لكان أوجه فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله

وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه بسم الله كما يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الأولياء والكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان

ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة شرفها الله وغيرها من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن ذبائح الجن

ويدل على المسألة ما قدمناه من أن النبي ﷺ نهى عن الذبح في مواضع الأصنام ومواضع أعياد الكفار

ويدل على ذلك أيضا ما رواه أبو داود في سننه حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله ﷺ عن معاقرة الأعراب قال أبو داود غندر وقفه على ابن عباس

وروى أبو بكر بن أبي شيبة في تفسيره حدثنا وكيع عن أصحابه عن عوف الأعرابي عن أبي ريحانة قال سئل ابن عباس عن معاقرة الأعراب فقال إني أخاف أن تكون مما أهل لغير الله به

وروى أبو إسحاق إبراهيم دحيم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا سعيد بن منصور عن ربعي عن عبد الله بن الجارود قال سمعت الجارود قال كان من بني رباح رجل يقال له ابن وثيل شاعرا نافر أبا الفرزدق غالبا الشاعر بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت الماء فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بأسيافهما فجعلا ينسفان عراقيبها فخرج الناس على الحمر والبغال يريدون اللحم وعلي رضي الله عنه بالكوفة فخرج على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء وهو ينادي يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله

فهؤلاء الصحابة قد فسروا ما قصد بذبحه غير الله داخلا فيما أهل به لغير الله

فعلمت أن الآية لم يقتصر بها على التلفظ باسم غير الله بل ما قصد به التقرب إلى غير الله فهو كذلك وكذلك تفاسير التابعين على أن ما ذبح على النصب هو ما ذبح لغير الله

وروينا في تفسير مجاهد المشهور عنه الصحيح من رواية ابن أبي نجيح في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال كانت حجارة حول الكعبة يذبح لها أهل الجاهلية ويبدلونها إذا شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها

وروى ابن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أشعث عن الحسن في قوله تعالى وما ذبح على النصب قال هو بمنزلة ما ذبح لغير الله

وفي تفسير قتادة المشهور عنه وأما ما ذبح على النصب فالنصب حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك

وفي تفسير علي بن أبي طلحة عن ابن عباس النصب أصنام كانوا يذبحون ويهلون عليها

فإن قيل فقد نقل إسماعيل بن سعيد قال سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم قال لا بأس به

قيل إنما قال أحمد ذلك لأن المسلم إذا ذبحه سمى الله عليه ولم يقصد ذبحه لغير الله ولا يسمى غيره بل يقصد منه غير ما قصده صاحب الشاة فتصير نية صاحب الشاة لا أثر لها والذابح هو المؤثر في الذبح بدليل أن المسلم لو وكل كتابيا في ذبيحة فسمى عليها غير الله لم تبح ولهذا لما كان الذبح عبادة في نفسه كره علي رضي الله عنه وغير واحد من أهل العلم منهم أحمد في إحدى الروايتين عنه أن يوكل المسلم في ذبح نسيكته كتابيا لأن نفس الذبح عبادة بدنية مثل الصلاة ولهذا تختص بمكان وزمان ونحو ذلك بخلاف تفرقة اللحم فإن عبادة مالية ولهذا اختلف العلماء في وجوب تخصيص أهل الحرم

بلحوم الهدايا المذبوحة في الحرم وإن كان الصحيح تخصيصهم بها وهذا بخلاف الصدقة فإنها عبادة مالية محضة فلهذا قد لا يؤثر فيها نية الوكيل على أن هذه المسألة منصوصة عن أحمد محتملة

فهذا تمام الكلام في ذبائحهم لأعيادهم
فصل

فأما صوم أيام أعياد الكفار مفردة بالصوم كصوم يوم النيروز والمهرجان وهما يومان يعظمهما الفرس فقد اختلف فيهما لأجل أن المخالفة تحصل بالصوم أو بترك تخصيصه بعمل أصلا

فنذكر صوم يوم السبت أولا وذلك أنه روى ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر السلمي عن أخته الصماء أن النبي ﷺ قال لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة وفي لفظ إلا عود عنب أو لحاء شجرة فليمضغه رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد رواه النسائي من وجوه أخر عن خالد عن عبد الله بن بسر ورواه أيضا عن الصماء عن عائشة

وقد اختلف الأصحاب وسائر العلماء فيه

قال أبو بكر الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن صيام يوم السبت يتفرد به فقال اما صيام يوم السبت ينفرد به فقد جاء في ذلك الحديث حديث الصماء يعني حديث ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء عن النبي ﷺ لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم قال أبو عبد الله فكان يحيى بن سعيد ينفيه وأبى أن يحدثني به وقد كان سمعه من ثور قال فسمعته من أبي عاصم

قال الأثرم وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر

ومنها حديث أم سلمة حين سئلت أي الأيام كان رسول الله ﷺ أكثر صياما لها فقالت يوم السبت والأحد

منها حديث جويرية أن النبي ﷺ قال لها يوم الجمعة أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا فالغد هو يوم السبت

وحديث أبي هريرة نهى النبي ﷺ عن صوم يوم الجمعة إلا بيوم قبله أو بيوم بعده فاليوم الذي بعده هو يوم السبت

ومنها أنه كان يصوم شعبان كله وفيه يوم السبت

ومنها أنه أمر بصوم المحرم وفيه يوم السبت وقال من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر وقد يكون السبت فيها وأمر بصيام أيام البيض وقد يكون فيها السبت ومثل هذا كثير

فهذا الأثرم فهم من كلام أبي عبد الله أنه توقف عن الأخذ بالحديث وأنه رخص في صومه حيث ذكر الحديث الذي يحتج به في الكراهة وذكر أن الإمام في علل حديث يحيى بن سعيد كان يتقيه ويأبى أن يحدث به فهذا تضعيف للحديث

واحتج الأثرم بما دل من النصوص المتواترة على صوم يوم السبت

ولا يقال يحمل النهي على إفراده لأن لفظه لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم والاستثناء دليل التناول وهذا يقتضي أن الحديث يعم صومه على كل وجه وإلا لو أريد إفراده لما دخل الصوم المفروض ليستثنى فإنه لا إفراد فيه فاستثناؤه دليل على دخول غيره بخلاف يوم الجمعة فإنه بين أنه إنما نهى عن إفراده

وعلى هذا فيكون الحديث إما شاذا غير محفوظ وإما منسوخا وهذه طريقة قدماء أصحاب أحمد الذين صحبوه كالأثرم وأبي داود

وقال أبو داود حديث منسوخ وذكر أبو داود بإسناده عن ابن شهاب أنه كان إذا ذكر له أنه نهى عن صيام السبت يقول ابن شهاب هذا حديث حمصي وعن الأوزاعي قال ما زلت له كاتما حتى رأيته انتشر بعد يعني حديث ابن بسر في صوم يوم السبت

قال أبو داود قال مالك هذا كذب وأكثر أهل العلم على عدم الكراهة

وأما أكثر أصحابنا ففهموا من كلام أحمد الأخذ بالحديث وحمله على الافراد فإنه سئل عن عين الحكم فأجاب بالحديث وجوابه بالحديث يقتضي اتباعه وما ذكر عن يحيى إنما هو بيان ما وقع فيه من الشبهة وهؤلاء يكرهون إفراده بالصوم عملا بهذا الحديث بجودة إسناده وذلك موجب للعمل به وحملوه على الافراد كصوم يوم الجمعة وشهر رجب

وقد روى أحمد في المسند من حديث ابن لهيعة حدثنا موسى بن وردان عن عبيد الأعرج حدثتني جدتي يعني الصماء أنها دخلت على رسول الله ﷺ يوم السبت هو يتغذى فقال تعالي تغذي فقالت إني صائمة فقال لها أصمت أمس قالت لا قال كلي فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك

وهذا وإن كان إسناده ضعيفا لكن تدل عليه سائر الأحاديث

وعلى هذا فيكون قوله لا تصوموا يوم السبت أي لا تقصدوا صيامه بعينه إلا في الفرض فإن الرجل يقصد صومه بعينه بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت فإنه يصومه وحده

وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره بخلاف قصده بعينه في النفل فإنه يكره ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضا لا للمقارنة بينه وبين غيره وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه أو موافقته عادة ونحو ذلك

قد يقال الاستثناء أخرج بعض صور الرخصة وأخرج الباقي بالدليل ثم اختلف هؤلاء في تعليل الكراهة

فعللها ابن عقيل بأنه يوم تمسك فيه اليهود ويخصونه بالإمساك وهو ترك العمل فيه والصائم في مظنة ترك العمل فيصير صومه تشبها بهم وهذه العلة منتفية في الأحد

وعلله طائفة من الأصحاب بأنه يوم عيد لأهل الكتاب يعظمونه فقصده بالصوم دون غيره يكون تعظيما له فكره ذلك كما كره إفراد عاشوراء بالتعظيم لما عظمه أهل الكتاب وإفراد رجب أيضا لما عظمه المشركون

وهذا التعليل قد يعارض بيوم الأحد فإنه يوم عيد النصارى فإنه ﷺ قال اليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى

وقد يقال إذا كان يوم عيد فمخالفتهم فيه بالصوم لا بالفطر

ويدل على ذلك ما رواه كريب مولى ابن عباس قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة أسألها أي الأيام كان رسول الله ﷺ أكثر صياما لها قالت كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد وابن أبي عاصم والنسائي وصححه بعض الحفاظ

وهذا نص في استحباب صوم يوم عيدهم لأجل قصد مخالفتهم

وقد روى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس رواه الترمذي وقال حديث حسن قال وقد روى ابن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه

وهذان الحديثان ليسا بحجة على من كره صوم يوم السبت وحده وعلل ذلك بأنهم يتركون فيه العمل والصوم مظنة ذلك فإنه إذا صام السبت والأحد زال الإفراد المكروه وحصلت المخالفة بصوم يوم فطرهم

فصل

وأما النيروز والمهرجان ونحوهم من أعياد المشركين فمن لم يكره صوم يوم السبت من الأصحاب وغيرهم قد لا يكره صوم ذلك اليوم بل ربما يستحبه لأجل مخالفتهم وكرهها أكثر الأصحاب

وقد قال أحمد في رواية عبد الله حدثنا وكيع عن سفيان عن رجل عن أنس والحسن أنهما كرها صوم يوم النيروز والمهرجان

قال أبي هو ابان بن عياش يعني الرجل

وقد اختلف الأصحاب هل يدل مثل ذلك على مذهبه على وجهين

وعللوا ذلك بأنهما يوما تعظمهما الكفار فيكون تخصيصهما بالصوم دون غيرهما موافقة لهم في تعظيمهما فكره كيوم السبت

قال الإمام أبو محمد المقدسي وعلى قياس هذا كل عيد للكفار أو يوم يفردونه بالتعظيم

وقد يقال يكره صوم يوم النيروز والمهرجان ونحوهما من الأيام العجمية التي لا تعرف بحساب العرب بخلاف ما جاء في الحديثين من يوم السبت والأحد لأنه إذا قصد صوم مثل هذه الأيام العجمية أو الجاهلية كانت ذريعة إلى إقامة شعار هذه الايام وأحياء أمرها وإظهار حالها بخلاف السبت والأحد فإنهما من حساب المسلمين فليس في صومهما مفسدة فيكون استحباب صوم أعيادهم المعروفة بالحساب العربي الإسلامي مع كراهة الأعياد المعروفة بالحساب الجاهلي العجمي توفيقا بين الآثار والله أعلم

فصل

ومن المنكرات في هذا الباب سائر الأعياد والمواسم المبتدعة فإنها من المنكرات المكروهات سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه

وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين

أحدهما أن فيها مشابهة للكفار

والثاني أنها من البدع

فما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب لوجهين

أحدهما أن ذلك داخل في مسمى البدع والمحدثات فيدخل فيما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعين السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة

وفي رواية للنسائي وكل ضلالة في النار

وفيما رواه أيضا في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد

وفي لفظ في الصحيحين من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد

وفي الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن عن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ أنه قال إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة

وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضا

قال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله شرع له من الدين مالم يأذن به الله

نعم قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفي فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كمالا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا

وقد قال سبحانه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قال عدي بن حاتم للنبي ﷺ يا رسول الله ما عبدوهم قال ما عبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم

فمن أطاع أحدا في دين لم يأذن به الله من تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب كما يلحق الآمر الناهي أيضا نصيب

ثم قد يكون كل منهما معفوا عنه لاجتهاده ومثابا أيضا على الاجتهاد فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه أو لوجود مانعه وإن كان المقتضي له قائما

ويلحق الذم من يبين له الحق فيتركه أو من قصر في طلبه حتى لم يتبين له أو عرض عن طلب معرفته لهوى أو لكسل أو نحو ذلك

وأيضا فإن الله عاب على المشركين شيئين

أحدهما أنهم أشركوا به مالم ينزل به سلطانا

والثاني تحريمهم مالم يحرمه الله عليهم

وبين النبي ﷺ ذلك فيما رواه مسلم عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ قال قال الله تعالى إني جعلت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا قال سبحانه سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء فجمعوا بين الشرك والتحريم والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم إما واجبة وإما مستحبة وإن فعلها خير من تركها

ثم منهم من عبد غير الله ليتقرب بعبادته إلى الله

ومنهم من ابتدع دينا عبدوا به الله في زعمهم كما أحدثه النصارى من أنواع العبادات المحدثة

وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين إما اتخاذ دين لم يشرعه الله أو تحريم مالم يحرمه الله ولهذا كان الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم

فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله

والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله

وهذه المواسم المحدثة إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به كما سنذكره إن شاء الله

واعلم أن هذه القاعدة وهي الاستدلال بكون الشيء بدعة على كراهته قاعدة عامة عظيمة وتمامها بالجواب عما يعارضها

وذلك أن من الناس من يقول البدع تنقسم إلى قسمين حسنة وقبيحة بدليل قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح نعمت البدعة هذه وبدليل أشياء من الأقوال والأفعال أحدثت بعد رسول الله ﷺ وليست بمكروهة أو هي حسنة للأدلة الدالة على ذلك من الإجماع أو القياس

وربما يضم إلى ذلك من لم يحكم أصول العلم ما عليه كثير من الناس من كثير من العادات ونحوها فيجعل هذا أيضا من الدلائل على حسن بعض البدع إما بأن يجعل ما اعتاده هو ومن يعرفه إجماعا وإن لم يعلم قول سائر المسلمين في ذلك أو يستنكر تركه لما اعتاده بمثابة من وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وما أكثر ما قد يحتج بعض من يتميز من المنتسبين إلى علم أو عبادة بحجج ليست من أصول العلم التي يعتمد في الدين عليها

والغرض أن هذه النصوص الدالة على ذم البدع معارضة بما دل على حسن بعض البدع إما من الأدلة الشرعية الصحيحة أو من حجج بعض الناس التي يعتمد عليها بعض الجاهلين أو المتأولين في الجملة

ثم هؤلاء المعارضون لهم هنا مقامان

أحدهما أن يقولوا إذا ثبت أن بعض البدع حسن وبعضها قبيح فالقبيح ما نهانا عنه الشارع أما ما سكت عنه من البدع فليس بقبيح بل قد يكون حسنا فهذا مما قد يقوله بعضهم

المقام الثاني أن يقال عن بدعة سيئة هذه بدعة حسنة لأن فيها من المصلحة كيت وكيت

وهؤلاء المعارضون يقولون ليست كل بدعة ضلالة

والجواب أما أن القول أن شر الأمور محدثاتها وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار والتحذير من الأمور المحدثات فهذا نص رسول الله ﷺ فلا يحل لأحد أن يدفع دلالته على ذم البدع ومن نازع في دلالته فهو مراغم

وأما المعارضات فالجواب عنها بأحد جوابين

إما بأن يقال ما ثبت حسنه فليس من البدع فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه

وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من هذا العموم فيبقى العموم محفوظا لا خصوص فيه

وإما أن يقال ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص فمن اعتقد أن بعض البدع مخصوص من هذا العموم احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوى موجبا للنهي

ثم المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصا واستنباطا وأما عادة بعض البلاد أو أكثرها وقول كثير من العلماء أو العباد أو أكثرهم ونحو ذلك فليس مما يصلح أن يكون معارضا لكلام الرسول ﷺ حتى يعارض به

ومن اعتقد أن أكثر هذه العادات المخالفة للسنن مجمع عليها بناء على أن الأمة أقرتها ولم تنكرها فهو مخطئ في هذا الاعتقاد فإنه لم يزل ولا يزال في كل وقت من ينهى عن عامة العادات المحدثة المخالفة للسنة ولا يجوز دعوى إجماع بعمل بلد أو بلاد من بلدان المسلمين فكيف بعمل طوائف منهم وإذا كان أكثر أهل العلم لم يعتمدوا على عمل علماء أهل المدينة وإجماعهم في عصر مالك بل رأوا السنة حجة عليهم كما هي حجة على غيرهم مع ما أوتوه من العلم والإيمان فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات أكثر من اعتادها عامة أو من قيدته العامة أو قوم مترئسون بالجهالة لم يرسخوا في العلم ولا يعدون من أولي الأمر ولا يصلحون للشورى ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل عن غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكونوا فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين

والاحتجاج بمثل هذه الحجج والجواب عنها معلوم أنه ليس طريقة أهل العلم لكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس حتى من المنتسبين إلى العلم والدين وقد يبدو لذوي العلم والدين فيها مستند آخر من الأدلة الشرعية والله يعلم أن قوله بها وعلمه لها ليس مستندا آخر من الأدلة الشرعية وإن كان شبهة وإنما هو مستند إلى أمور ليست مأخوذة عن الله ولا عن رسوله من أنواع المستندات إليها غير أولي العلم والإيمان وإنما يذكر الحجة الشرعية حجة على غيره ودفعا لما يناظره

والمجادلة المحمودة إنما هي بإبداء المدارك وإظهار الحجج التي هي مستند الأقوال والأعمال وأما إظهار الاعتماد على ما ليس هو المعتمد في القول والعمل فنوع من النفاق في العلم والجدل والكلام والعمل

وايضا لا يجوز حمل قوله ﷺ كل بدعة ضلالة على البدعة التي نهى عنها بخصوصها لأن هذا تعطيل لفائدة هذا الحديث فإن ما نهى عنه من الكفر والفسوق وأنواع المعاصي قد علم بذلك النهي أنه قد أبيح محرم سواء كان بدعة أو لم يكن بدعة فإذا كان لا منكر في الدين إلا ما نهى عنه بخصوصه سواء كان مفعولا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يكن وما نهى عنه فهو منكر سواء كان بدعة أو لم يكن صار وصف البدعة عديم التأثير لا يدل وجوده على القبح ولا عدمه على الحسن بل يكون قوله كل بدعة ضلالة بمنزلة قوله كل عادة ضلالة أو كل ما عليه العرب والعجم فهو ضلالة ويراد بذلك أن ما نهى عنه من ذلك فهو الضلالة

وهذا تعطيل للنصوص من نوع التحريف والإلحاد ليس من نوع التأويل السائغ وفيه من المفاسد أشياء

أحدها سقوط الاعتماد على هذا الحديث فإن ما علم أنه منهي عنه بخصوصه فقد علم حكمه بذلك النهي ومالم يعلم فلا يندرج في هذا الحديث فلا يبقى في هذا الحديث فائدة مع كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب به في الجمع ويعده من جوامع الكلم

الثاني أن لفظ البدعة ومعناها يكون اسما عديم التأثير فتعليق الحكم بهذا اللفظ أو المعنى تعليق له بما لا تأثير له كسائر الصفات العديمة التأثير

الثالث أن الخطاب بمثل هذا إذا لم يقصد إلا الوصف الآخر وهو كونه منهيا عنه كتمان لما يجب بيانه وبيان لما يقصد ظاهره فإن البدعة والنهي الخاص بينهما عموم وخصوص إذ ليس كل بدعة جاء عنها نهي خاص وليس كل ما جاء فيه نهي خاص بدعة فالتكلم بأحد الاسمين وإرادة الآخر تلبيس محض لا يسوغ للمتكلم إلا أن يكون مدلسا كما لو قال الأسود وعنى به الفرس أو الفرس وعنى به الأسود

الرابع أن قوله كل بدعة ضلالة وإياكم ومحدثات الأمور إذا أراد بهذا ما فيه نهي خاص كان قد أحالهم في معرفة المراد بهذا الحديث على مالا يكاد يحيط به أحد ولا يحيط بأكثره إلا خواص الأمة ومثل هذا لا يجوز بحال

الخامس أنه إذا أريد به ما فيه النهي الخاص كان ذلك أقل مما ليس فيه نهي خاص من البدع فإنك لو تأملت البدع التي نهى عنها بأعيانها وما لم ينه عنها بأعيانها وجدت هذا الضرب هو الأكثر واللفظ العام لا يجوز أن يراد به الصور القليلة أو النادرة

فهذه الوجوه وغيرها توجب القطع بأن هذا التأويل فاسد لا يجوز حمل الحديث عليه سواء أراد المتأول أن يعضد التأويل بدليل صارف أو لم يعضده فإن على المتأول بيان جواز إرادة المعنى الذي حمل الحديث عليه من ذلك الحديث ثم بيان الدليل الصارف له إلى ذلك

وهذه الوجوه تمنع جواز إرادة هذا المعنى بالحديث

فهذا الجواب عن مقامهم الأول

وأما مقامهم الثاني فيقال هب أن البدع تنقسم إلى حسن وقبيح فهذا القدر لا يمنع أن يكون هذا الحديث دالا على قبح الجميع لكن أكثر ما يقال إنه إذا ثبت أن هذا حسن يكون مستثنى من العموم وإلا فالأصل أن كل بدعة ضلالة

فقد تبين أن الجواب عن كل ما يعارض به من أنه حسن وهو بدعة إما بأنه ليس ببدعة وإما بأنه مخصوص فقد سلمت دلالة الحديث

وهذا الجواب إنما هو عما ثبت حسنه

فأما أمور أخرى قد يظن أنها حسنة وليست بحسنة أو أمور يجوز أن تكون حسنة ويجوز أن لا تكون حسنة فلا تصلح المعارضة بها بل يجاب عنها بالجواب المركب

وهو إن ثبت أن هذا حسن فلا يكون بدعة أو يكون مخصوصا وإن لم يثبت أنه حسن فهو داخل في العموم

وإذا عرفت أن الجواب عن هذه المعارضة بأحد الجوابين فعلى التقديرين الدلالة من الحديث باقية لا ترد بما ذكروا ولا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول الله ﷺ الكلية وهي قوله كل بدعة ضلالة بسلب عمومها وهو أن يقال ليست كل بدعة ضلالة فإن هذا إلى مشاقة الرسول أقرب منه إلى التأويل

بل الذي يقال فيما يثبت به حسن الأعمال التي قد يقال هي بدعة إن هذا العمل المعين مثلا ليس ببدعة فلا يندرج في الحديث أو إن اندرج لكنه مستثنى من هذا العموم لدليل كذا وكذا الذي هو أقوم من العموم مع أن الجواب الأول أجود

وهذا الجواب فيه نظر فإن قصد التعميم المحيط ظاهر من نص رسول الله ﷺ بهذه الكلمة الجامعة فلا يعدل عن مقصوده بأبي هو وأمي ﷺ





13****************************


اقتضاء الصراط المستقيم/13











فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل هي سنة بقول رسول الله ﷺ وفعله فانه قال إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه

ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلاها رسول الله ﷺ في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن

وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد

وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده ﷺ ويقرهم وإقراره سنة منه ﷺ

وأما قول عمر نعمت البدعة هذه فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا قول الصاحب ليس بحجة فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث

فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب

نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة أما غيرها فلا

ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي

فإذا كان نص رسول الله ﷺ قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي ﷺ يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي ﷺ المهاجرين إلى الحبشة إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف

ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة

فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة

وقد علم أن قول النبي ﷺ كل بدعة ضلالة لم يرد به كل عمل مبتدأ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ وإنما أراد ما ابتديء من الأعمال التي لم يشرعها هو ﷺ

وإذا كان كذلك فالنبي ﷺ قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فعلل ﷺ عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد واسرج المسجد فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة لأنه في اللغة يسمى بذلك وإن لم يكن بدعة شرعية لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض وخوف الافتراض قد زال بموته ﷺ فانتفى المعارض

وهكذا جمع القرآن فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله ﷺ كان أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت فلما استقر القرآن بموته ﷺ واستقرت الشريعة بموته ﷺ أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه وأمنوا من زيادة الايجاب والتحريم والمقتضي للعمل قائم بسنته ﷺ فعمل المسلمون بمقتضى سنته وذلك العمل من سنته وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهم من أرض العرب فإن النبي ﷺ عهد بذلك في مرضه فقال أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي ﷺ وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا كتابك بخطك فامتنع من ذلك لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محدثا بعده ومغيرا لما فعله هو ﷺ

وكذلك قوله ﷺ خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله ﷺ وإن كان ترك قبول العطاء من أولى الأمر محدثا لكن لما أحدثوا ما أحدثوه أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله ﷺ

وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفا وقوله قاتل به المشركين فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على عهد رسول الله ﷺ لكن هو بأمره ﷺ

ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي ﷺ لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط لكن لما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله فلم يعصم مجرد قولها من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهذا باب واسع

والضابط في هذا والله أعلم أن يقال إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحجوج إليه أمرا حدث بعد النبي ﷺ لكن تركه النبي ﷺ من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله ﷺ لكن تركه النبي ﷺ لمعارض قد زال بموته

وإما مالم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله ﷺ موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه لبس بمصلحة

وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة

ثم هنا للفقهاء طريقان

أحدهما أن ذلك يفعل مالم ينه عنه وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة

والثاني أن ذلك لا يفعل مالم يؤمر به وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة وهؤلاء ضربان

منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره وهم نفاة القياس

ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون

فأما ما كان المقتضى لفعله موجودا لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغيير لدين الله تعالى وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد كما روي عن النبي ﷺ وغير واحد من الصحابة إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم أو جدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون

فمثال هذا القسم الأذان في العيدين فإن هذا لما احدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا وقوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع

بل يقال ترك رسول الله ﷺ له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة

فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك وكذلك لو أراد أن ينصب مكانا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره لم يكن له ذلك وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة بل يقال له كل بدعة ضلالة

ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة

فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا

فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله ﷺ ومع هذا لم يفعله رسول الله ﷺ فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس

ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله ﷺ لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم

فيقال له سبب هذا تفريطك فإن النبي ﷺ كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم

وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة فإنه قد روي عن النبي ﷺ أنه قال ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها

وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم وبينت أن الشرائع أغذية القلوب فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث

وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ووضعوه حيث يسوغ وضعه طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع والقريب والبعيد متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ولا إلى العقوبات الجائرة ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم

وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله وما فيه من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله ﷺ وهي سنته لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة حيث يقول عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ولا استغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون من الحجج الفاسدة التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله فهمه من فهمه وحرمه من حرمه

وكذلك العباد إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا وذاقوا طعم الكلم الطيب والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية والنتائج العظيمة ما يغنيهم عما قد حدث من نوعه كالتغيير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن وأنواع من الأذكار والأوراد لفقها بعض الناس أو في قدره كزيادات من التعبدات أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء قد يكون معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد

فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده بل قد يكون صديقا عظيما فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا وعمله كله سنة إذ قد يكون بمنزلة رسول الله ﷺ وهذا باب واسع

والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها لا يتسع له هذا الكتاب وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع مما يجب العمل بها

والوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين

واعلم أنه ليس كل واحد بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذاالنوع من البدع ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد

والواجب على الخلق اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة فننبه على بعض مفاسدها

فمن ذلك أن من أحدث عملا في يوم كإحداث صوم أول خميس من رجب والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلا وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسيع في النفقة ونحو ذلك فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب

وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله وأن الصوم فيه مستحب فيه استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله والذي بعده مثلا وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا وسائر الليالي عموما إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع

وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ونص على تأثيره فهو من معاني المناسبة المؤثرة فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفى بمجرد المناسبة حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم وهو قول كثير من الفقهاء أيضا من أصحابنا وغيرهم

وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر عللوا ذلك الحكم المنصوص به

وهنا قول ثالث قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضا وهو أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به ولا يكتفى بكونه علل به نظير أو نوعه

وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته كما قال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى

ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده لا تدخل داري فلانا فإنه مبتدع أو فإنه أسود ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا أو من كان أسود وهو نظير أن يقول لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الإيمان فلو قال لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي فلان حنث بما كانت منته فيه مثل منته وهو ثمنه ونحو ذلك

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة فهل نعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر مثلا كما أن ولاية المال كذلك أم نقول بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى وهي البكارة مثلا فهذه العلة هي المؤثرة أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم

فالفريقان الأولان يقولان بها وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان كذلك يؤثر فيه في هذا المكان

والفريق الثالث لا يقول بها إلا بدلالة خاصة لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة

ومن هذا النوع أنه ﷺ نهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يخطب الرجل على خطبة أخيه فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين كما علل به في قوله لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه مالا يظهر في الأول فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا

وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره من كلام الناس أن يقول لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ثم يسأله فقير آخر مبتدع فيقول لا تعطه وقد يكون ذلك الفقير عدوا له فهل يحكم بأن العلة هي البدعة أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ورأينا فيه وصفا مناسبا له لكن الشارع لم يذكر تلك العلة ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر فهذا هو الوصف المناسب الغريب لأنه لا نظير له في الشرع ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه

فجوز الفريق الأول اتباعه ونفاه الآخران وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه والأول إدراك لعلته بنفس كلامه

ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالصبر وبدلالات أخرى

فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع المؤثرة في موضع آخر

وذلك أن النبي ﷺ نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص

فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوما بعده وهذا لفظ البخاري

وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي ﷺ دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا قالت لا فأفطري

وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله ﷺ عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت وهذا لفظ مسلم

وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لا تصوموا يوم الجمعة وحده ورواه أحمد

ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصم ذلك اليوم لفظ البخاري يصوم عادته

فوجه الدلالة أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام

قسم شرع تخصيصه بالصيام إما إيجابا كرمضان وإما استحبابا كيوم عرفة وعاشوراء

وقسم نهى عن صومه مطلقا كيوم العيدين

وقسم إنما نهى عن تخصيصه كيوم الجمعة وسرر شعبان

فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره فإذا خصص بالفعل نهى عن ذلك سواء قصد الصائم التخصيص أو لم يقصده وسواء اعتقد الرجحان أو لم يعتقده

ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره لكان إما أن ينهى عنه مطلقا كيوم العيد أولا ينهى عنه كيوم عرفة وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة

فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص مالا خصيصة له كما أشعر به لفظ الرسول ﷺ فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي كما في قوله خالفوا المشركين

فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص فإذا كان يوم الجمعة يوما فاضلا يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة مالا يستحب في غيره كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي فنهي النبي ﷺ عن التخصيص دفعا لهذه المفسدة التي لا تنشأ إلا من التخصيص

وكذلك تلقي رمضان قد يتوهم أن فيه فضلا لما فيه من الاحتياط للصوم ولا فضل فيه في الشرع فنهى الني ﷺ عن تلقيه لذلك

وهذا المعنى موجود في مسألتنا فإن الناس قد يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه نهي عن التخصيص إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص

ومن قال إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها فلا بد أن يكون باعثه إما تقليده غيره وإما اتباع العادة

وإما خوف اللوم له ونحو ذلك وإلا فهو كاذب فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد أو عن باعث آخر غير ديني وذلك الاعتقاد ضلال

فإنا قد علمنا يقينا أن النبي ﷺ وأصحابه وسائر الأئمة لم يذكروا في فضل هذا اليوم ولا في فضل صومه بخصوص وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها حرفا واحدا وأن الحديث المأثور فيها موضوع وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة

ولا يجوز والحال هذه أن يكون لها فضل لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي ﷺ ولا أصحابه ولا التابعون ولا سائر الأئمة امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله مالم يعلمه النبي ﷺ ولا الصحابة التابعون وسائر الأئمة وإن علموه امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخلق والنصيحة أن لا يعلموا أحدا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم

فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزما لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه وكل واحد من اللازمين منتف إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى

ثم هذا العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين أو عمل دين لغير الله والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو التدين لغير الله لا يجوز

فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعا أو ظاهرة لفعل مالا يجوز فأقل أحوال المستلزم إن لم يكن محرما أن يكون مكروها وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة

ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضا باطلة ليست من دين الله

ولو فرض أن الرجل قد يقول أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ولو أنه توهم أو ظن أن هذا أمر ضروري فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنعت مع ذلك أن تعظمه ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة

فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ومن حيث شعوره بما روي فيه أو بفعل الناس له أو بأن فلانا وفلانا فعلوه أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بفعله وتعظيمه

فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله وأنها تورث القلب نفاقا ولو كان نفاقا خفيفا

ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل أو عبد الله بن أبي بن سلول لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه أو أمر بإهانته أو قتله فمن لم يخلص إيمانه وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة

فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للايمان

ولهذا قيل إن البدع مشتقة من الكفر

وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع إذا جاز أن يتوهم لها مزية كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام ونحو ذلك وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية لكن

نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية وكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود فرع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا

فإن قيل هذا يعارضه أن هذه المواسم مثلا فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من طهارة قلبه ورقته وزوال آثار الذنوب عنه وإجابة دعائه ونحو ذلك مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام كقوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وقوله ﷺ الصلاة نور وبرهان ونحو ذلك

قلنا لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا أو مقلدا كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع وكان ما فيه من المبتدع مغفورا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه وما اشتملت عليه من المكروه وانتفى موجبه بعفو الله لاجتهاد صاحبه أو تقليده وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة

لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضا فوائد وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه كما أن قولهم لا بد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الانبياء ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملتها الشريعة

فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكثر من نفعها وذلك هو الموجب للنهي

وأقول إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره كما يزول اسم الربا والنبيذ المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استحلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها

وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول ﷺ وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة

ثم يقال على سبيل التفصيل إذا فعلها قوم ذوو فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها وأنكرها قوم كذلك وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم في الفضل ولو فرضوا دونهم في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر فترد إذن إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها

ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين

وأما ما فيها من المنفعة فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة

منها مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن حتى تجد كثيرا من العامة يحافظ عليها مالا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس

ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسبها عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة وهذا عكس الدين فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك من الفوائد وإن لم يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله

ومنها ما في ذلك من مصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وما يترتب على ذلك من جهالة أكثر الناس بدين المرسلين وانتشار زرع الجاهلية

ومنها اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل تأخير الفطور وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة والمبادرة إلى تعجيلها والسجود بعد السلام لغير سهو وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته وسلمت سريرته

ومنها مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره فينسلخ القلب عن حقيقة الاتباع للرسول ويصير فيه من الكبر وضعف الايمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

ومنها ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين النوع الذي فيه مشابهة والنوع الذي لا مشابهة فيه

والكلام في ذم البدع لما كان مقررا في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم
فصل

قد تقدم أن العيد يكون اسما لنفس المكان ولنفس الزمان ولنفس الاجتماع

وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء

أما الزمان فثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال

أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم

والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزية أصلا

وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود فإن تعظم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا

النوع الثاني ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسما ولا كان السلف يعظمونه كثامن عشري ذي الحجة الذي خطب فيه النبي ﷺ بغدير خم مرجعه من حجة الوداع فإنه ﷺ خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله ووصى فيها بأهل بيته كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية وذكروا كلاما باطلا وعملا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا

والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ثم ما كان عليها القوم من الأمانة والديانة وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يمتنع كتمانه

وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدا محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدا حتى يحدث فيه أعمالا إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي ﷺ خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي ﷺ وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها كما جاء في الحديث ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم

واعلم أن من الاعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع وفيه أيضا شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الاعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين

وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة فعليك هنا بأدبين

أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا في خاصتك خاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر

الثاني أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذا النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون فإن منها ما يكون واجبا على الاطلاق ومنها ما يكون واجبا على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها وكما يجب على من أتى الذنوب أن يأتي بالكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية وما يجب على من كان إماما أو قاضيا أو مفتيا أو واليا من الحقوق وما يجب على طالبي العلم أو نوافل العبادة من الحقوق

ومنها ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة

ومنها ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها

وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به

ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فلا ينهى عن منكر ولا يؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس قد خلقت لتعمل لا لتترك وإنما رأوا الترك مقصودا لغيره فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم تترك العمل السيء أو الناقص لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظا للعمل الصالح

فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال

مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط

وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها

فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أوالأشعار أو حكمة فارس والروم

فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين فالمراتب ثلاث

أحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه

والثانية العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع

الثالثة ما ليس فيه صلاح أصلا إما لكونه تركا للعمل مطلقا أو لكونه عملا فاسدا محضا

فأما الأول فهو سنة رسول الله ﷺ باطنها وظاهرها قولها وعملها في الأمور العلمية والعملية مطلقا فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب

والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان

وأما المرتبة الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضا وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع أو من يكون عمله من جنس المحرم كالكفر والكذب والخيانة والجهل ويندرج في هذا أنواع كثيرة

فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح أو في أحدهما لا يحبونها ولا يرغبون فيها لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع

ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين

فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها

النوع الثالث ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين والعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة وليلة الجمعة ويومها والعشر الأول من المحرم ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة وتوابع ذلك ما يصير منكرا ينهى عنه مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله ولا أحد من السلف لا من أهل بيت رسول الله ﷺ ولا من غيرهم لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه أحد سيدي شباب أهل الجنة وطائفة من أهل بيته بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله وكانت هذه مصيبة عند المسلمين يجب أن تتلقى به أمثالها من المصائب من الاسترجاع المشروع فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البرآء من فتنة الحسين وغيرها أمورا أخرى مما يكرهها الله ورسوله وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث لها استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثلها يوم أصيب رواه الإمام أحمد وابن ماجه

فتدبر كيف روى مثل هذا الحديث الحسين بن علي رضي الله عنهما وعنه بنته التي شهدت مصابه



14.************************************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/13





ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/14







فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة بل هي سنة بقول رسول الله ﷺ وفعله فانه قال إن الله فرض عليكم صيام رمضان وسننت لكم قيامه

ولا صلاتها جماعة بدعة بل هي سنة في الشريعة بل قد صلاها رسول الله ﷺ في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا وصلاها أيضا في العشر الأواخر في جماعة مرات وقال إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة لما قام بهم حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح رواه أهل السنن

وبهذا الحديث احتج أحمد وغيره على أن فعلها في الجماعة أفضل من فعلها في حال الانفراد

وفي قوله هذا ترغيب في قيام شهر رمضان خلف الإمام وذلك أوكد من أن يكون سنة مطلقة وكان الناس يصلونها جماعة في المسجد على عهده ﷺ ويقرهم وإقراره سنة منه ﷺ

وأما قول عمر نعمت البدعة هذه فأكثر المحتجين بهذا لو أردنا أن نثبت حكما بقول عمر الذي لم يخالف فيه لقالوا قول الصاحب ليس بحجة فكيف يكون حجة لهم في خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن اعتقد أن قول الصاحب حجة فلا يعتقده إذا خالف الحديث

فعلى التقديرين لا تصلح معارضة الحديث بقول الصاحب

نعم يجوز تخصيص عموم الحديث بقول الصاحب الذي لم يخالف على إحدى الروايتين فيفيدهم هذا حسن تلك البدعة أما غيرها فلا

ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي

فإذا كان نص رسول الله ﷺ قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ككتاب الصدقة الذي أخرجه أبو بكر رضي الله عنه فإذا عمل أحد ذلك العمل بعد موته صح أن يسمى بدعة في اللغة لأنه عمل مبتدأ كما أن نفس الدين الذي جاء به النبي ﷺ يسمى بدعة ويسمى محدثا في اللغة كما قالت رسل قريش للنجاشي عن أصحاب النبي ﷺ المهاجرين إلى الحبشة إن هؤلاء خرجوا من دين آبائهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاءوا بدين محدث لا يعرف

ثم ذلك العمل الذي يدل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة

فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة

وقد علم أن قول النبي ﷺ كل بدعة ضلالة لم يرد به كل عمل مبتدأ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ وإنما أراد ما ابتديء من الأعمال التي لم يشرعها هو ﷺ

وإذا كان كذلك فالنبي ﷺ قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة فعلل ﷺ عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد واسرج المسجد فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة لأنه في اللغة يسمى بذلك وإن لم يكن بدعة شرعية لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض وخوف الافتراض قد زال بموته ﷺ فانتفى المعارض

وهكذا جمع القرآن فإن المانع من جمعه على عهد رسول الله ﷺ كان أن الوحي كان لا يزال ينزل فيغير الله ما يشاء ويحكم ما يريد فلو جمع في مصحف واحد لتعسر أو تعذر تغييره كل وقت فلما استقر القرآن بموته ﷺ واستقرت الشريعة بموته ﷺ أمن الناس من زيادة القرآن ونقصه وأمنوا من زيادة الايجاب والتحريم والمقتضي للعمل قائم بسنته ﷺ فعمل المسلمون بمقتضى سنته وذلك العمل من سنته وإن كان يسمى هذا في اللغة بدعة وصار هذا كنفي عمر رضي الله عنه ليهود خيبر ونصارى نجران ونحوهم من أرض العرب فإن النبي ﷺ عهد بذلك في مرضه فقال أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب وإنما لم ينفذه أبو بكر رضي الله عنه لاشتغاله عنه بقتال أهل الردة وبشروعه في قتال فارس والروم وكذلك عمر لم يمكنه فعله في أول الأمر لاشتغاله بقتال فارس والروم فلما تمكن من ذلك فعل ما أمر به النبي ﷺ وإن كان هذا الفعل قد يسمى بدعة في اللغة كما قال له اليهود كيف تخرجنا وقد أقرنا أبو القاسم وكما جاءوا إلى علي رضي الله عنه في خلافته فأرادوا منه إعادتهم وقالوا كتابك بخطك فامتنع من ذلك لأن ذلك الفعل من عمر كان بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان محدثا بعده ومغيرا لما فعله هو ﷺ

وكذلك قوله ﷺ خذوا العطاء ما كان عطاء فإذا كان عوضا عن دين أحدكم فلا تأخذوه فلما صار الأمراء يعطون مال الله لمن يعينهم على أهوائهم وإن كانت معصية كان من امتنع من أخذه متبعا لسنة رسول الله ﷺ وإن كان ترك قبول العطاء من أولى الأمر محدثا لكن لما أحدثوا ما أحدثوه أحدث لهم حكم آخر بسنة رسول الله ﷺ

وكذلك دفعه إلى أهبان بن صيفي سيفا وقوله قاتل به المشركين فإذا رأيت المسلمين قد اقتتلوا فاكسره فإن كسره لسيفه وإن كان محدثا حيث لم يكن المسلمون يكسرون سيوفهم على عهد رسول الله ﷺ لكن هو بأمره ﷺ

ومن هذا الباب قتال أبي بكر لمانعي الزكاة فإنه وإن كان بدعة لغوية من حيث إن النبي ﷺ لم يقاتل أحدا على إيتاء الزكاة فقط لكن لما قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد علم أن الزكاة من حق لا إله إلا الله فلم يعصم مجرد قولها من منع الزكاة كما بينه في الحديث الآخر الصحيح حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهذا باب واسع

والضابط في هذا والله أعلم أن يقال إن الناس لا يحدثون شيئا إلا لأنهم يرونه مصلحة إذ لو اعتقدوه مفسدة لم يحدثوه فإنه لا يدعو إليه عقل ولا دين فما رآه المسلمون مصلحة نظر في السبب المحوج إليه فإن كان السبب المحجوج إليه أمرا حدث بعد النبي ﷺ لكن تركه النبي ﷺ من غير تفريط منا فهنا قد يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه وكذلك إن كان المقتضي لفعله قائما على عهد رسول الله ﷺ لكن تركه النبي ﷺ لمعارض قد زال بموته

وإما مالم يحدث سبب يحوج إليه أو كان السبب المحوج إليه بعض ذنوب العباد فهنا لا يجوز الإحداث فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله ﷺ موجودا لو كان مصلحة ولم يفعل يعلم أنه لبس بمصلحة

وأما ما حدث المقتضى له بعد موته من غير معصية الخالق فقد يكون مصلحة

ثم هنا للفقهاء طريقان

أحدهما أن ذلك يفعل مالم ينه عنه وهذا قول القائلين بالمصالح المرسلة

والثاني أن ذلك لا يفعل مالم يؤمر به وهو قول من لا يرى إثبات الأحكام بالمصالح المرسلة وهؤلاء ضربان

منهم من لا يثبت الحكم إن لم يدخل تحت دليل من كلام الشارع أو فعله أو إقراره وهم نفاة القياس

ومنهم من يثبته بلفظ الشارع أو بمعناه وهم القياسيون

فأما ما كان المقتضى لفعله موجودا لو كان مصلحة وهو مع هذا لم يشرعه فوضعه تغيير لدين الله تعالى وإنما أدخله فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد كما روي عن النبي ﷺ وغير واحد من الصحابة إن أخوف ما أخاف عليكم زلة عالم أو جدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون

فمثال هذا القسم الأذان في العيدين فإن هذا لما احدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة فلو لم يكن كونه بدعة دليلا على كراهته وإلا لقيل هذا ذكر الله ودعاء للخلق إلى عبادة الله فيدخل في العمومات كقوله تعالى اذكروا الله ذكرا كثيرا وقوله تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله أو يقاس على الأذان في الجمعة فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكبر البدع

بل يقال ترك رسول الله ﷺ له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة كما أن فعله سنة

فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلاة وأعداد الركعات أو الحج فإن رجلا لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات وقال هذا زيادة عمل صالح لم يكن له ذلك وكذلك لو أراد أن ينصب مكانا آخر يقصد لدعاء الله فيه وذكره لم يكن له ذلك وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة بل يقال له كل بدعة ضلالة

ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهيا خاصا عنها أو أن نعلم ما فيها من المفسدة

فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا

فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله ﷺ ومع هذا لم يفعله رسول الله ﷺ فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس

ومثال ما حدثت الحاجة إليه من البدع بتفريط من الناس تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين فإنه لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون لأنه بدعة واعتذار من أحدثه بأن الناس قد صاروا ينفضون قبل سماع الخطبة وكانوا على عهد رسول الله ﷺ لا ينفضون حتى يسمعوا أو أكثرهم

فيقال له سبب هذا تفريطك فإن النبي ﷺ كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم وأنت تقصد إقامة رياستك وإن قصدت صلاح دينهم فلست تعلمهم ما ينفعهم فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى بل الطريق في ذلك أن تتوب إلى الله وتتبع سنة نبيه وقد استقام الأمر وإن لم يستقم فلا يسألك الله إلا عن عملك لا عن عملهم

وهذان المعنيان من فهمهما انحل عنه كثير من شبه البدع الحادثة فإنه قد روي عن النبي ﷺ أنه قال ما أحدث قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها

وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم وبينت أن الشرائع أغذية القلوب فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث

وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها وعقوبات على الجرائم لا تجوز لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ووضعوه حيث يسوغ وضعه طالبين بذلك إقامة دين الله لا رياسة أنفسهم وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع والقريب والبعيد متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ولا إلى العقوبات الجائرة ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين كما كان الخلفاء الراشدون وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم

وكذلك العلماء إذا أقاموا كتاب الله وفقهوا ما فيه من البينات التي هي حجج الله وما فيه من الهدى الذي هو العلم النافع والعمل الصالح وأقاموا حكمة الله التي بعث بها رسوله ﷺ وهي سنته لوجدوا فيها من أنواع العلوم النافعة ما يحيط بعلم عامة الناس ولميزوا حينئذ بين المحق والمبطل من جميع الخلق بوصف الشهادة التي جعلها الله لهذه الأمة حيث يقول عز و جل وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ولا استغنوا بذلك عما ابتدعه المبتدعون من الحجج الفاسدة التي يزعم الكلاميون أنهم ينصرون بها أصل الدين ومن الرأي الفاسد الذي يزعم القياسيون أنهم يتمون به فروع الدين وما كان من الحجج صحيحا ومن الرأي سديدا فذلك له أصل في كتاب الله وسنة رسوله فهمه من فهمه وحرمه من حرمه

وكذلك العباد إذا تعبدوا بما شرع الله من الأقوال والأعمال ظاهرا وباطنا وذاقوا طعم الكلم الطيب والعمل الصالح الذي بعث الله به رسوله لوجدوا في ذلك من الأحوال الزكية والمقامات العلية والنتائج العظيمة ما يغنيهم عما قد حدث من نوعه كالتغيير ونحوه من السماعات المبتدعة الصارفة عن سماع القرآن وأنواع من الأذكار والأوراد لفقها بعض الناس أو في قدره كزيادات من التعبدات أحدثها من أحدثها لنقص تمسكه بالمشروع منها وإن كان كثير من العباد والعلماء بل والأمراء قد يكون معذورا فيما أحدثه لنوع اجتهاد

فالغرض أن يعرف الدليل الصحيح وإن كان التارك له قد يكون معذورا لاجتهاده بل قد يكون صديقا عظيما فليس من شرط الصديق أن يكون قوله كله صحيحا وعمله كله سنة إذ قد يكون بمنزلة رسول الله ﷺ وهذا باب واسع

والكلام في أنواع البدع وأحكامها وصفاتها لا يتسع له هذا الكتاب وإنما الغرض التنبيه على ما يزيل شبهة المعارضة للحديث الصحيح الذي ذكرناه والتعريف بأن النصوص الدالة على ذم البدع مما يجب العمل بها

والوجه الثاني في ذم المواسم والأعياد المحدثة ما تشتمل عليه من الفساد في الدين

واعلم أنه ليس كل واحد بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذاالنوع من البدع ولا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة بل أولو الألباب هم الذين يدركون بعض ما فيه من الفساد

والواجب على الخلق اتباع الكتاب والسنة وإن لم يدركوا ما في ذلك من المصلحة والمفسدة فننبه على بعض مفاسدها

فمن ذلك أن من أحدث عملا في يوم كإحداث صوم أول خميس من رجب والصلاة في ليلة تلك الجمعة التي يسميها الجاهلون صلاة الرغائب مثلا وما يتبع ذلك من إحداث أطعمة وزينة وتوسيع في النفقة ونحو ذلك فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب

وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله وأن الصوم فيه مستحب فيه استحبابا زائدا على الخميس الذي قبله والذي بعده مثلا وأن هذه الليلة أفضل من غيرها من ليالي الجمع وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها من ليالي الجمع خصوصا وسائر الليالي عموما إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة فإن الترجيح من غير مرجح ممتنع

وهذا المعنى قد شهد له الشرع بالاعتبار في هذا الحكم ونص على تأثيره فهو من معاني المناسبة المؤثرة فإن مجرد المناسبة مع الاقتران يدل على العلة عند من يقول بالمناسب القريب وهم كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ومن لا يقول إلا بالمؤثرة فلا يكتفى بمجرد المناسبة حتى يدل الشرع على أن مثل ذلك الوصف مؤثر في مثل ذلك الحكم وهو قول كثير من الفقهاء أيضا من أصحابنا وغيرهم

وهؤلاء إذا رأوا أن في الحكم المنصوص معنى قد أثر في مثل ذلك الحكم في موضع آخر عللوا ذلك الحكم المنصوص به

وهنا قول ثالث قاله كثير من أصحابنا وغيرهم أيضا وهو أن الحكم المنصوص لا يعلل إلا بوصف دل الشرع على أنه معلل به ولا يكتفى بكونه علل به نظير أو نوعه

وتلخيص الفرق بين الأقوال الثلاثة أنا إذا رأينا الشارع قد نص على الحكم ودل على علته كما قال في الهرة إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات فهذه العلة تسمى المنصوصة أو المومى إليها علمت مناسبتها أو لم تعلم فيعمل بموجبها باتفاق الطوائف الثلاث وإن اختلفوا هل يسمى هذا قياسا أو لا يسمى

ومثاله في كلام الناس ما لو قال السيد لعبده لا تدخل داري فلانا فإنه مبتدع أو فإنه أسود ونحو ذلك فإنه يفهم منه أنه لا يدخل داره من كان مبتدعا أو من كان أسود وهو نظير أن يقول لا تدخل داري مبتدعا ولا أسود ولهذا نعمل نحن بمثل هذا في باب الإيمان فلو قال لا لبست هذا الثوب الذي يمن به علي فلان حنث بما كانت منته فيه مثل منته وهو ثمنه ونحو ذلك

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ولم يذكر علته لكن قد ذكر علة نظيره أو نوعه مثل أنه جوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر بلا إذنها وقد رأيناه جوز له الاستيلاء على مالها لكونها صغيرة فهل نعتقد أن علة ولاية النكاح هي الصغر مثلا كما أن ولاية المال كذلك أم نقول بل قد يكون لنكاح الصغيرة علة أخرى وهي البكارة مثلا فهذه العلة هي المؤثرة أي قد بين الشارع تأثيرها في حكم منصوص وسكت عن بيان تأثيرها في نظير ذلك الحكم

فالفريقان الأولان يقولان بها وهو في الحقيقة إثبات للعلة بالقياس فإنه يقول كما أن هذا الوصف أثر في الحكم في ذلك المكان كذلك يؤثر فيه في هذا المكان

والفريق الثالث لا يقول بها إلا بدلالة خاصة لجواز أن يكون النوع الواحد من الأحكام له علل مختلفة

ومن هذا النوع أنه ﷺ نهى عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو يخطب الرجل على خطبة أخيه فيعلل ذلك بما فيه من فساد ذات البين كما علل به في قوله لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم وإن كان هذا المثال يظهر التعليل فيه مالا يظهر في الأول فإنما ذاك لأنه لا يظهر فيه وصف مناسب للنهي إلا هذا

وأكبر دليل خاص على العلة ونظيره من كلام الناس أن يقول لا تعط هذا الفقير فإنه مبتدع ثم يسأله فقير آخر مبتدع فيقول لا تعطه وقد يكون ذلك الفقير عدوا له فهل يحكم بأن العلة هي البدعة أم يتردد لجواز أن تكون العلة هي العداوة

وأما إذا رأينا الشارع قد حكم بحكم ورأينا فيه وصفا مناسبا له لكن الشارع لم يذكر تلك العلة ولا علل بها نظير ذلك الحكم في موضع آخر فهذا هو الوصف المناسب الغريب لأنه لا نظير له في الشرع ولا دل كلام الشارع وإيماؤه عليه

فجوز الفريق الأول اتباعه ونفاه الآخران وهذا إدراك لعلة الشارع بنفس عقولنا من غير دلالة منه كما أن الذي قبله إدراك لعلته بنفس القياس على كلامه والأول إدراك لعلته بنفس كلامه

ومع هذا فقد تعلم علة الحكم المعين بالصبر وبدلالات أخرى

فإذا ثبتت هذه الأقسام فمسألتنا من باب العلة المنصوصة في موضع المؤثرة في موضع آخر

وذلك أن النبي ﷺ نهى عن تخصيص أوقات بصلاة أو بصيام وأباح ذلك إذا لم يكن على وجه التخصيص

فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم

وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو يوما بعده وهذا لفظ البخاري

وروى البخاري عن جويرية بنت الحارث أن النبي ﷺ دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال أتريدين أن تصومي غدا قالت لا فأفطري

وفي الصحيحين عن محمد بن عباد بن جعفر قال سألت جابر بن عبد الله وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله ﷺ عن صيام يوم الجمعة قال نعم ورب هذا البيت وهذا لفظ مسلم

وعن ابن عباس أن النبي ﷺ قال لا تصوموا يوم الجمعة وحده ورواه أحمد

ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صوما فليصم ذلك اليوم لفظ البخاري يصوم عادته

فوجه الدلالة أن الشارع قسم الأيام باعتبار الصوم ثلاثة أقسام

قسم شرع تخصيصه بالصيام إما إيجابا كرمضان وإما استحبابا كيوم عرفة وعاشوراء

وقسم نهى عن صومه مطلقا كيوم العيدين

وقسم إنما نهى عن تخصيصه كيوم الجمعة وسرر شعبان

فهذا النوع لو صيم مع غيره لم يكره فإذا خصص بالفعل نهى عن ذلك سواء قصد الصائم التخصيص أو لم يقصده وسواء اعتقد الرجحان أو لم يعتقده

ومعلوم أن مفسدة هذا العمل لولا أنها موجودة في التخصيص دون غيره لكان إما أن ينهى عنه مطلقا كيوم العيد أولا ينهى عنه كيوم عرفة وتلك المفسدة ليست موجودة في سائر الأوقات وإلا لم يكن للتخصيص بالنهي فائدة

فظهر أن المفسدة تنشأ من تخصيص مالا خصيصة له كما أشعر به لفظ الرسول ﷺ فإن نفس الفعل المنهي عنه أو المأمور به قد يشتمل على حكمة الأمر والنهي كما في قوله خالفوا المشركين

فلفظ النهي عن تخصيص وقت بصوم أو صلاة يقتضي أن الفساد ناشئ من جهة الاختصاص فإذا كان يوم الجمعة يوما فاضلا يستحب فيه من الصلاة والدعاء والذكر والقراءة والطهارة والطيب والزينة مالا يستحب في غيره كان ذلك في مظنة أن يتوهم أن صومه أفضل من غيره ويعتقد أن قيام ليلته كالصيام في نهاره لها فضيلة على قيام غيرها من الليالي فنهي النبي ﷺ عن التخصيص دفعا لهذه المفسدة التي لا تنشأ إلا من التخصيص

وكذلك تلقي رمضان قد يتوهم أن فيه فضلا لما فيه من الاحتياط للصوم ولا فضل فيه في الشرع فنهى الني ﷺ عن تلقيه لذلك

وهذا المعنى موجود في مسألتنا فإن الناس قد يخصون هذه المواسم لاعتقادهم فيها فضيلة ومتى كان تخصيص هذا الوقت بصوم أو بصلاة قد يقترن باعتقاد فضل ذلك ولا فضل فيه نهي عن التخصيص إذ لا ينبعث التخصيص إلا عن اعتقاد الاختصاص

ومن قال إن الصلاة والصوم في هذه الليلة كغيرها هذا اعتقادي ومع ذلك فأنا أخصها فلا بد أن يكون باعثه إما تقليده غيره وإما اتباع العادة

وإما خوف اللوم له ونحو ذلك وإلا فهو كاذب فالداعي إلى هذا العمل لا يخلو قط من أن يكون ذلك عن الاعتقاد الفاسد أو عن باعث آخر غير ديني وذلك الاعتقاد ضلال

فإنا قد علمنا يقينا أن النبي ﷺ وأصحابه وسائر الأئمة لم يذكروا في فضل هذا اليوم ولا في فضل صومه بخصوص وفضل قيام هذه الليلة بخصوصها حرفا واحدا وأن الحديث المأثور فيها موضوع وأنها إنما حدثت في الإسلام بعد المائة الرابعة

ولا يجوز والحال هذه أن يكون لها فضل لأن ذلك الفضل إن لم يعلمه النبي ﷺ ولا أصحابه ولا التابعون ولا سائر الأئمة امتنع أن نعلم نحن من الدين الذي يقرب إلى الله مالم يعلمه النبي ﷺ ولا الصحابة التابعون وسائر الأئمة وإن علموه امتنع مع توفر دواعيهم على العمل الصالح وتعليم الخلق والنصيحة أن لا يعلموا أحدا بهذا الفضل ولا يسارع إليه واحد منهم

فإذا كان هذا الفضل المدعى مستلزما لعدم علم الرسول وخير القرون ببعض دين الله أو لكتمانهم وتركهم ما تقتضي شريعتهم وعاداتهم أن لا يكتموه ولا يتركوه وكل واحد من اللازمين منتف إما بالشرع وإما بالعادة مع الشرع علم انتفاء الملزوم وهو الفضل المدعى

ثم هذا العمل المبتدع مستلزم إما لاعتقاد هو ضلال في الدين أو عمل دين لغير الله والتدين بالاعتقادات الفاسدة أو التدين لغير الله لا يجوز

فهذه البدع وأمثالها مستلزمة قطعا أو ظاهرة لفعل مالا يجوز فأقل أحوال المستلزم إن لم يكن محرما أن يكون مكروها وهذا المعنى سار في سائر البدع المحدثة

ثم هذا الاعتقاد يتبعه أحوال في القلب من التعظيم والإجلال وتلك الأحوال أيضا باطلة ليست من دين الله

ولو فرض أن الرجل قد يقول أنا لا أعتقد الفضل فلا يمكنه مع التعبد أن يزيل الحال الذي في قلبه من التعظيم والإجلال والتعظيم والإجلال لا ينشأ إلا بشعور من جنس الاعتقاد ولو أنه توهم أو ظن أن هذا أمر ضروري فإن النفس لو خلت عن الشعور بفضل الشيء امتنعت مع ذلك أن تعظمه ولكن قد تقوم به خواطر متقابلة

فهو من حيث اعتقاده أنه بدعة يقتضي منه ذلك عدم تعظيمه ومن حيث شعوره بما روي فيه أو بفعل الناس له أو بأن فلانا وفلانا فعلوه أو بما يظهر له فيه من المنفعة يقوم بفعله وتعظيمه

فعلمت أن فعل هذه البدع تناقض الاعتقادات الواجبة وتنازع الرسل ما جاءوا به عن الله وأنها تورث القلب نفاقا ولو كان نفاقا خفيفا

ومثلها مثل أقوام كانوا يعظمون أبا جهل أو عبد الله بن أبي بن سلول لرياسته وماله ونسبه وإحسانه إليهم وسلطانه عليهم فإذا ذمه الرسول أو بين نقصه أو أمر بإهانته أو قتله فمن لم يخلص إيمانه وإلا يبقى في قلبه منازعة بين طاعة الرسول التابعة لاعتقاده الصحيح واتباع ما في نفسه من الحال التابع لتلك الظنون الكاذبة

فمن تدبر هذا علم يقينا ما في حشو البدع من السموم المضعفة للايمان

ولهذا قيل إن البدع مشتقة من الكفر

وهذا المعنى الذي ذكرته معتبر في كل ما نهى عنه الشارع من أنواع العبادات التي لا مزية لها في الشرع إذا جاز أن يتوهم لها مزية كالصلاة عند القبور والذبح عند الأصنام ونحو ذلك وإن لم يكن الفاعل معتقدا للمزية لكن

نفس الفعل قد يكون مظنة للمزية وكما أن إثبات الفضيلة الشرعية مقصود فرع الفضيلة غير الشرعية مقصود أيضا

فإن قيل هذا يعارضه أن هذه المواسم مثلا فعلها قوم من أولي العلم والفضل الصديقين فمن دونهم وفيها فوائد يجدها المؤمن في قلبه وغير قلبه من طهارة قلبه ورقته وزوال آثار الذنوب عنه وإجابة دعائه ونحو ذلك مع ما ينضم إلى ذلك من العمومات الدالة على فضل الصلاة والصيام كقوله تعالى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى وقوله ﷺ الصلاة نور وبرهان ونحو ذلك

قلنا لا ريب أن من فعلها متأولا مجتهدا أو مقلدا كان له أجر على حسن قصده وعلى عمله من حيث ما فيه من المشروع وكان ما فيه من المبتدع مغفورا له إذا كان في اجتهاده أو تقليده من المعذورين وكذلك ما ذكر فيها من الفوائد كلها إنما حصلت لما اشتملت عليه من المشروع في جنسه كالصوم والذكر والقراءة والركوع والسجود وحسن القصد في عبادة الله وطاعته ودعائه وما اشتملت عليه من المكروه وانتفى موجبه بعفو الله لاجتهاد صاحبه أو تقليده وهذا المعنى ثابت في كل ما يذكر في بعض البدع المكروهة من الفائدة

لكن هذا القدر لا يمنع كراهتها والنهي عنها والاعتياض عنها بالمشروع الذي لا بدعة فيه كما أن الذين زادوا الأذان في العيدين هم كذلك بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضا فوائد وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما مشروع في جنسه كما أن قولهم لا بد أن يشتمل على صدق ما مأثور عن الانبياء ثم مع ذلك لا يوجب أن تفعل عباداتهم أو تروى كلماتهم لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير إذ لو كان خيرها راجحا لما أهملتها الشريعة

فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكثر من نفعها وذلك هو الموجب للنهي

وأقول إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض الاجتهاد أو غيره كما يزول اسم الربا والنبيذ المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استحلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها

وهذا الدليل كاف في بيان أن هذه البدع مشتملة على مفاسد اعتقادية أو حالية مناقضة لما جاء به الرسول ﷺ وأن ما فيها من المنفعة مرجوح لا يصلح للمعارضة

ثم يقال على سبيل التفصيل إذا فعلها قوم ذوو فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها وأنكرها قوم كذلك وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها فليسوا دونهم في الفضل ولو فرضوا دونهم في الفضل فتكون حينئذ قد تنازع فيها أولو الأمر فترد إذن إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخص فيها

ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين

وأما ما فيها من المنفعة فيعارضه ما فيها من مفاسد البدع الراجحة

منها مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن حتى تجد كثيرا من العامة يحافظ عليها مالا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس

ومنها أن الخاصة والعامة تنقص بسبها عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها مالا يفعله في الفرائض والسنن حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة وهذا عكس الدين فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة والرقة والطهارة والخشوع وإجابة الدعوة وحلاوة المناجاة إلى غير ذلك من الفوائد وإن لم يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله

ومنها ما في ذلك من مصير المعروف منكرا والمنكر معروفا وما يترتب على ذلك من جهالة أكثر الناس بدين المرسلين وانتشار زرع الجاهلية

ومنها اشتمالها على أنواع من المكروهات في الشريعة مثل تأخير الفطور وأداء العشاء الآخرة بلا قلوب حاضرة والمبادرة إلى تعجيلها والسجود بعد السلام لغير سهو وأنواع من الأذكار ومقاديرها لا أصل لها إلى غير ذلك من المفاسد التي لا يدركها إلا من استنارت بصيرته وسلمت سريرته

ومنها مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان كما قال أبو عثمان النيسابوري رحمه الله ما ترك أحد شيئا من السنة إلا لكبر في نفسه ثم هذا مظنة لغيره فينسلخ القلب عن حقيقة الاتباع للرسول ويصير فيه من الكبر وضعف الايمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا

ومنها ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين النوع الذي فيه مشابهة والنوع الذي لا مشابهة فيه

والكلام في ذم البدع لما كان مقررا في غير هذا الموضع لم نطل النفس في تقريره بل نذكر بعض أعيان هذه المواسم
فصل


قد تقدم أن العيد يكون اسما لنفس المكان ولنفس الزمان ولنفس الاجتماع

وهذه الثلاثة قد أحدث منها أشياء

أما الزمان فثلاثة أنواع ويدخل فيها بعض بدع أعياد المكان والأفعال

أحدها يوم لم تعظمه الشريعة أصلا ولم يكن له ذكر في وقت السلف ولا جرى فيه ما يوجب تعظيمه مثل أول خميس من رجب وليلة تلك الجمعة التي تسمى الرغائب فإن تعظيم هذا اليوم والليلة إنما حدث في الإسلام بعد المائة الرابعة وروي فيه حديث موضوع باتفاق العلماء مضمونه فضيلة صيام ذلك اليوم وفعل هذه الصلاة المسماة عند الجاهلين بصلاة الرغائب وقد ذكر ذلك بعض المتأخرين من العلماء من الأصحاب وغيرهم

والصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم النهي عن إفراد هذا اليوم بالصوم وعن هذه الصلاة المحدثة وعن كل ما فيه تعظيم لهذا اليوم من صنعة الأطعمة وإظهار الزينة ونحو ذلك حتى يكون هذا اليوم بمنزلة غيره من بقية الأيام وحتى لا يكون له مزية أصلا

وكذلك يوم آخر في وسط رجب تصلى فيه صلاة تسمى صلاة أم داود فإن تعظم هذا اليوم لا أصل له في الشريعة أصلا

النوع الثاني ما جرى فيه حادثة كما كان يجري في غيره من غير أن يوجب ذلك جعله موسما ولا كان السلف يعظمونه كثامن عشري ذي الحجة الذي خطب فيه النبي ﷺ بغدير خم مرجعه من حجة الوداع فإنه ﷺ خطب فيه خطبة وصى فيها باتباع كتاب الله ووصى فيها بأهل بيته كما روى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه فزاد بعض أهل الأهواء في ذلك حتى زعموا أنه عهد إلى علي رضي الله عنه بالخلافة بالنص الجلي بعد أن فرش له وأقعده على فرش عالية وذكروا كلاما باطلا وعملا قد علم بالاضطرار أنه لم يكن من ذلك شيء وزعموا أن الصحابة تمالؤا على كتمان هذا النص وغصبوا الوصي حقه وفسقوا وكفروا إلا نفرا قليلا

والعادة التي جبل الله عليها بني آدم ثم ما كان عليها القوم من الأمانة والديانة وما أوجبته شريعتهم من بيان الحق يوجب العلم اليقيني بأن مثل هذا يمتنع كتمانه

وليس الغرض الكلام في مسألة الإمامة وإنما الغرض أن اتخاذ هذا اليوم عيدا محدث لا أصل له فلم يكن في السلف لا من أهل البيت ولا من غيرهم من اتخذ ذلك عيدا حتى يحدث فيه أعمالا إذ الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع لا الابتداع وللنبي ﷺ خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ووقت هجرته ودخوله المدينة وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ مثال تلك الأيام أعيادا وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادا أو اليهود وإنما العيد شريعة فما شرعه الله اتبع وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه

وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي ﷺ وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي ﷺ عيدا مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله ﷺ وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وأكثر هؤلاء الذين تجدونهم حرصاء على أمثال هذه البدع مع مالهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه أو يقرأ فيه ولا يتبعه وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه أو يصلي فيه قليلا وبمنزلة من يتخذ المسابح والسجادات المزخرفة وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها كما جاء في الحديث ما ساء عمل أمة قط إلا زخرفوا مساجدهم

واعلم أن من الاعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع وفيه أيضا شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شرا بالنسبة إلى الاعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين

وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة فعليك هنا بأدبين

أحدهما أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا في خاصتك خاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر

الثاني أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذا النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون فإن منها ما يكون واجبا على الاطلاق ومنها ما يكون واجبا على التقييد كما أن الصلاة النافلة لا تجب ولكن من أراد أن يصليها يجب عليه أن يأتي بأركانها وكما يجب على من أتى الذنوب أن يأتي بالكفارات والقضاء والتوبة والحسنات الماحية وما يجب على من كان إماما أو قاضيا أو مفتيا أو واليا من الحقوق وما يجب على طالبي العلم أو نوافل العبادة من الحقوق

ومنها ما يكره المداومة على تركه كراهة شديدة

ومنها ما يكره تركه أو يجب فعله على الأئمة دون غيرهم وعامتها يجب تعليمها والحض عليها والدعاء إليها

وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به

ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا قوام لأحدهما إلا بصاحبه فلا ينهى عن منكر ولا يؤمر بمعروف يغني عنه كما يؤمر بعبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه إذ رأس الأمر شهادة أن لا إله إلا الله والنفوس قد خلقت لتعمل لا لتترك وإنما رأوا الترك مقصودا لغيره فإن لم يشتغل بعمل صالح وإلا لم تترك العمل السيء أو الناقص لكن لما كان من الأعمال السيئة ما يفسد عليها العمل الصالح نهيت عنه حفظا للعمل الصالح

فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب أو كما قال

مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط

وليس مقصود أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها

فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أوالأشعار أو حكمة فارس والروم

فتفطن لحقيقة الدين وانظر ما اشتملت عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرا فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل بحيث تقدم عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليه وتنكر أنكر المنكرين وترجح أقوى الدليلين فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين فالمراتب ثلاث

أحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه

والثانية العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع

الثالثة ما ليس فيه صلاح أصلا إما لكونه تركا للعمل مطلقا أو لكونه عملا فاسدا محضا

فأما الأول فهو سنة رسول الله ﷺ باطنها وظاهرها قولها وعملها في الأمور العلمية والعملية مطلقا فهذا هو الذي يجب تعلمه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب

والغالب على هذا الضرب هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان

وأما المرتبة الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضا وهؤلاء خير ممن لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع أو من يكون عمله من جنس المحرم كالكفر والكذب والخيانة والجهل ويندرج في هذا أنواع كثيرة

فمن تعبد ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك قد يكون حاله خيرا من حال البطال الذي ليس فيه حرص على عبادة الله وطاعته بل كثير من هؤلاء الذين ينكرون هذه الأشياء زاهدون في جنس عبادة الله من العلم النافع والعمل الصالح أو في أحدهما لا يحبونها ولا يرغبون فيها لكن لا يمكنهم ذلك في المشروع فيصرفون قوتهم إلى هذه الأشياء فهم بأحوالهم منكرون للمشروع وغير المشروع وبأقوالهم لا يمكنهم إلا إنكار غير المشروع

ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له ظاهرا في الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين

فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها

النوع الثالث ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين والعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة وليلة الجمعة ويومها والعشر الأول من المحرم ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة فهذا الضرب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة وتوابع ذلك ما يصير منكرا ينهى عنه مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله ولا أحد من السلف لا من أهل بيت رسول الله ﷺ ولا من غيرهم لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه أحد سيدي شباب أهل الجنة وطائفة من أهل بيته بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله وكانت هذه مصيبة عند المسلمين يجب أن تتلقى به أمثالها من المصائب من الاسترجاع المشروع فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب وضموا إلى ذلك من الكذب والوقيعة في الصحابة البرآء من فتنة الحسين وغيرها أمورا أخرى مما يكرهها الله ورسوله وقد روي عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين رضي الله عنهم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أصيب بمصيبة فذكر مصيبته فأحدث لها استرجاعا وإن تقادم عهدها كتب الله له من الأجر مثلها يوم أصيب رواه الإمام أحمد وابن ماجه

فتدبر كيف روى مثل هذا الحديث الحسين بن علي رضي الله عنهما وعنه بنته التي شهدت مصابه

تصنيف:




14***********************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/14..


وأما اتخاذ أمثال أيام المصائب مأتما فليس هذا من دين المسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب ثم هم قد فوتوا بذلك ما في صوم هذا اليوم من الفضل وأحدث بعض الناس فيه أشياء مستندة إلى أحاديث موضوعة لا أصل لها مثل فضل الاغتسال فيه أو التكحل أو المصافحة وهذه الأشياء ونحوها من الأمور المبتدعة كلها مكروهة وإنما المستحب صومه

وقد روى في التوسع فيه على العيال آثار معروفة أعلى ما فيها حديث إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال بلغنا أنه من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته رواه ابن عيينة وهذا بلاغ منقطع لا يعرف قائله والأشبه أن هذا وضع لما ظهرت للعصبية بين الناصبة والروافضة فإن هؤلاء أعدوا يوم عاشوراء مأتما فوضع أولئك فيه آثارا تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيدا وكلاهما باطل

وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال سيكون في ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب المختار بن أبي عبيد وكان يتشيع وينتصر للحسين ثم أظهر الكذب والافتراء على الله وكان فيها الحجاج بن يوسف وكان فيه انحراف على علي وشيعته وكان مبيرا

وهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال وإن كانت الشيعة أكثر كذبا وأسوأ حالا

لكن لا يجوز لأحد أن يغير شيئا من الشريعة لأجل أحد وإظهار الفرح والسرور يوم عاشوراء وتوسيع النفقات فيه هو من البدع المحدثة المقابلة للرافضة وقد وضعت في ذلك أحاديث مكذوبة في فضائل ما يصنع فيه من الاغتسال والاكتحال وغير ذلك وصححها بعض الناس كابن ناصر وغيره ليس فيها ما يصح لكن رويت لأناس اعتقدوا صحتها فعملوا بها ولم يعلموا أنها كذب فهذا مثل هذا

وقد يكون سبب الغلو في تعظيمه من بعض المنتسبة لمقابلة الروافض فإن الشيطان قصده أن يحرف الخلق عن الصراط المستقيم ولا يبالي إلى أي الشقين صاروا فينبغي أن يجتنب هذه المحدثات

ومن هذا الباب شهر رجب فإنه أحد الأشهر الحرم وقد روى عن النبي ﷺ أنه كان إذا دخل شهر رجب قال اللهم بارك لنا في شهري رجب وشعبان وبلغنا رمضان ولم يثبت عن النبي ﷺ في فضل رجب حديث آخر بل عامة الأحاديث المأثورة فيه عن النبي ﷺ كلها كذب والحديث إذا لم يعلم أنه كذب فروايته في الفضائل أمر قريب أما إذا علم أنه كذب فلا يجوز روايته إلا مع بيان حاله لقوله ﷺ من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين

نعم روي عن بعض السلف في تفضيل العشر الأول من رجب بعض الأثر وروي غير ذلك

فاتخاذه موسما بحيث يفرد بالصوم مكروه عند الإمام أحمد وغيره كما روى عن عمر بن الخطاب وأبي بكر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم

وروى ابن ماجة أن النبي ﷺ نهى عن صوم رجب رواه عن إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا داود بن عطاء حدثني زيد بن عبد الحميد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن سليمان بن علي عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس بقوي

وهل الإفراد المكروه أن يصومه كله أو أن لا يقرن به شهر آخر فيه للأصحاب وجهان

ولولا أن هذا موضع الإشارة إلى رءوس المسائل لأطلنا الكلام في ذلك ومن هذا الباب ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها وصوم شهر شعبان قد جاءت فيه أحاديث صحيحة ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم من الخلف من أنكر فضلها وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث إن الله يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب وقال لا فرق بينها وبين غيرها

لكن الذي عليه كثير من أهل العلم أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم على تفضيلها وعليه يدل نص أحمد لتعدد الأحاديث الواردة فيها وما يصدق ذلك من الآثار السلفية وقد روى بعض فضائلها في المسانيد والسنن وإن كان قد وضع فيها أشياء أخر

فأما صوم يوم النصف مفردا فلا أصل له بل إفراده مكروه وكذلك اتخاذه موسما تصنع فيه الأطعمة وتظهر فيه الزينة هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها

وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدور والأسواق فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد وقدر من القراءة مكروه لم يشرع فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناء عليه وإذا لم يستحب فالعمل المقتضي لاستحبابها مكروه ولو سوغ أن كل ليلة لها نوع فضل تخص بصلاة مبتدعة يجتمع لها لكان يفعل مثل هذه الصلاة أو أزيد أو أنقص ليلتي العيدين وليلة عرفة كما أن بعض أهل البلاد يقيمون مثلها أول ليلة من رجب وكما بلغني أنه كان بعض أهل القرى يصلون بعد المغرب صلاة مثل المغرب في جماعة يسمونها صلاة بر الوالدين وكما بعض الناس يصلي كل ليلة في جماعة صلاة الجنازة على من مات من المسلمين في جميع الأرض ونحو ذلك من الصلوات الجماعية التي لم تشرع

وعليك أن تعلم أنه إذا استحب التطوع المطلق في وقت معين وجوز التطوع في جماعة لم يلزم من ذلك تسويغ جماعة راتبة غير مشروعة بل ينبغي أن تفرق بين البابين

وذلك أن الاجتماع لصلاة تطوع أو استماع قرآن أو ذكر الله ونحو ذلك إذا كان يفعل ذلك أحيانا فهذا أحسن فقد صح عن النبي ﷺ أنه صلى التطوع في جماعة أحيانا وخرج على أصحابه وفيهم من يقرأ وهم يستمعون فجلس معهم يستمع وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا اجتمعوا أمروا واحدا يقرأ وهم يستمعون وقد ورد في القوم الذين يجلسون يتدارسون كتاب الله ورسوله وفي القوم الذين يذكرون الله من الآثار ما هو معروف

مثل قوله ﷺ ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده

وورد أيضا في الملائكة الذين يلتمسون مجالس الذكر فإذا وجد قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم الحديث

فأما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة فإن ذلك يضاهي الاجتماعات للصلوات الخمس وللجمعة والعيدين والحج وذلك هو المبتدع المحدث

ففرق بين ما يتخذ سنة وعادة فإن ذلك يضاهي المشروع

وهذا الفرق هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة

فروى أبو بكر الخلال في كتاب الأدب عن إسحاق بن منصور الكوسج أنه قال لأبي عبد الله يكره أن يجتمع القوم يدعون الله ويرفعون أيديهم قال ما أكره للإخون إذا لم يجتمعوا على عمد إلا أن يكثروا

وقال إسحاق بن راهويه كما قال الإمام أحمد

وإنما معنى أن لا يكثروا أن لا يتخذوها عادة حتى يكثروا هذا كلام إسحاق

قال المروزي سألت أبا عبد الله عن القوم يبيتون فيقرأ قارئ ويدعون حتى يصبحوا قال أرجو أن لا يكون به بأس

وقال أبو السري الحربي قال أبو عبد الله وأي شيء أحسن من أن يجتمع الناس يصلون ويذكرون ما أنعم الله به عليهم كما قالت الأنصار

وهذه إشارة إلى أن ما رواه أحمد حدثنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن الأنصار قبل قدوم رسول الله ﷺ المدينة قالوا لو نظرنا يوما فاجتمعنا فيه فذكرنا هذا الأمر الذي أنعم الله به علينا فقالوا يوم السبت ثم قالوا لا نجامع اليهود في يومهم قالوا فيوم الأحد قالوا لا نجامع النصارى في يومهم قالوا فيوم العروبة وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة فاجتمعوا في بيت أبي أمامة أسعد بن زرارة فذبحت لهم شاة فكفتهم

وقال أبو أمية محمد بن إبراهيم بن مسلم الطرسوسي سألت أحمد بن حنبل عن القوم يجتمعون ويقرأ لهم القارئ قراءة حزينة فيبكون وربما أطفؤا السراج فقال لي أحمد إن كان يقرأ قراءة أبي موسى فلا بأس

وروى الخلال عن الأوزاعي أنه سئل عن القوم يجتمعون فيأمرون رجلا يقص عليهم قال إذا كان ذلك يوما بعد الأيام فليس به بأس

فقيد أحمد الاجتماع على الدعاء بما إذا لم يتخذ عادة

وكذلك قيد إتيان الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء

قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد ويذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي ﷺ أنه يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنهما يتبع مواضع النبي ﷺ وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه

وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم ولفظه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي ﷺ أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتبع مواضع سير النبي ﷺ وفعله حتى رؤي يصب في موضع ما فسئل عن ذلك فقال رأيت رسول الله ﷺ يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس

قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده

وهذا الذي كرهه أحمد وغيره من اعتياد ذلك مأثور عن ابن مسعود وغسره لما اتخذ أصحابه مكانا يجتمعون فيه للذكر فخرج إليهم فقال يا قوم لأنتم أهدى من محمد أو لأنتم على شعبة ضلالة

وأصل هذا أن العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سننا ومواسم قد شرع الله منها ما فيه كفاية للعباد فاذا أحدث اجتماع زائد على هذه الإجتماعات معتاد كان ذلك مضاهاة لما شرعه الله وسنه وفيه من الفساد ما تقدم التنبيه على بعضه بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحيانا ولهذا كره الصحابة إفراد صوم رجب لما يشبه برمضان وأمر عمر رضي الله عنه بقطع الشجرة التي توهموا أنها الشجرة التي بايع الصحابة النبي ﷺ تحتها بيعة الرضوان لما رأى الناس ينتابونها ويصلون عندها كأنها المسجد الحرام أو مسجد المدينة وكذلك لما رآهم قد عكفوا على مكان قد صلى فيه النبي ﷺ عكوفا عاما نهاهم عن ذلك وقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد أو كما قال رضي الله عنه

فكما أن تطوع الصلاة فرادى وجماعة مشروع من غير أن يتخذ جماعة عامة متكررة تشبه المشروع من الجمعة والعيدين والصلوات الخمس فكذلك تطوع القراءة والذكر والدعاء جماعة وفرادى وتطوع قصد بعض المشاهد ونحو ذلك كله من نوع واحد يفرق بين الكثير الظاهر منه والقليل الخفي والمعتاد وغير المعتاد وكذلك كل ما كان مشروع الجنس لكن البدعة اتخاذه عادة لازمة حتى يصير كأنه واجب ويترتب على استحبابه وكراهته حكم نذره واشتراط فعله في الوقف والوصية ونحو ذلك حيث كان النذر لا يلزم إلا في القرب

وكذلك العمل المشروط في الوقف لا يجوز أن يكون إلا برا ومعروفا على ظاهر المذهب وقول جمهور أهل العلم

وسنومئ إلى ذلك إن شاء الله

وهذه المسائل تفتقر إلى بسط أكثر من هذا لا يحتمله هذا الموضع وإنما الغرض التنبيه على المواسم المحدثة

وأما ما يفعل في هذه المواسم مما جنسه منهي عنه في الشرع فهذا لا يحتاج إلى ذكر لأن ذلك لا يحتاج أن يدخل في هذا الباب مثل رفع الأصوات في المسجد أو اختلاط الرجال والنساء أو كثرة إيقاد المصابيح زيادة على الحاجة أو إيذاء المصلين أو غيرهم بقول أو فعل فإن قبح هذا ظاهر لكل مسلم وإنما هذا من جنس سائر الأقوال المحرمة في المساجد سواء حرمت في المسجد وغيره كالفواحش والفحش أو صين عنها المسجد كالبيع والشراء وإنشاد الضالة وإقامة الحدود ونحو ذلك

وقد ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا وغيرهم أنه يستحب قيام هذه الليلة بالصلاة التي يسمونها الألفية لأن فيها قراءة قل هو الله أحد ألف مرة وربما استحبوا الصوم أيضا وعمدتهم في خصوص ذلك الحديث الذي يروى عن النبي ﷺ في ذلك

وقد يعتمدون على العمومات التي تندرج فيها هذه الصلاة على ما جاء في فضل هذه الليلة بخصوصها وما جاء من الأثر باحيائها وعلى الاعتياد حيث فيها من المنافع والفوائد ما يقتضي الاستحباب لجنسها من العبادات

فأما الحديث المرفوع في هذه الصلاة الألفية فكذب موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث

وأما العمومات الدالة على استحباب الصلاة فحق لكن العمل المعين إما أن يستحب بخصوصه أو يستحب لما فيه من المعنى العام

فأما المعنى العام فلا يجب جعله خصوصا مستحبا ومن استحبها ذكرها في النفل المقيد كصلاة الضحى والتراويح وهذا خطأ ولهذا لم يذكر هذا أحد من الأئمة المعدودين لا الأولين ولا الآخرين وإنما كره التخصيص لما صار يخص مالا خصوص له بالاعتقاد والقصد كما ذكره النبي ﷺ إفراد يوم الجمعة وسرد شعبان بالصيام وإفراد ليلة الجمعة بالقيام فصار نظير هذا مالو أحدثت ليالي العشر صلاة مقيدة أو بين العشاءين ونحو ذلك

فالعبادات ثلاثة

منها ما هو مستحب بخصوصه كالنفل المقيد من ركعتي الفجر وقيام رمضان ونحو ذلك وهذا منه المؤقت كقيام الليل

ومنها المقيد بسبب كصلاة الاستسقاء وصلاة الآيات

ثم قد يكون مقدرا في الشريعة بعدد كالوتر وقد يكون مطلقا مع فضل الوقت كالصلاة يوم الجمعة قبل الصلاة

فصارت أقسام المقيد أربعة

ومن العبادات ما هو مستحب بعموم معناه كالنفل المطلق فإن الشمس إذا طلعت فالصلاة مشهودة محضورة حتى تصلى العصر

ومنها ما هو مكروه تخصيصه إلا مع غيره كقيام ليلة الجمعة وقد يكره مطلقا إلا في أحوال مخصوصة كالصلاة في أوقات النهي

ولهذا اختلف العلماء في كراهة الصلاة بعد الفجر والعصر هل هو لئلا يفضي إلى تحري الصلاة في هذا الوقت فيرخص في ذوات الأسباب العارضة أو هو نهي مطلق لا يستثنى منه إلا قدر الحاجة على قولين هما روايتان عن أحمد وفيها أقوال أخر للعلماء والله أعلم
فصل

وقد يحدث في اليوم الفاضل مع العيد العملي المحدث العيد المكاني فيغلظ قبح هذا ويصير خروجا عن الشريعة

فمن ذلك ما يفعل يوم عرفة مما لا أعلم بين المسلمين خلافا في النهي عنه وهو قصد قبر بعض من يحسن به الظن يوم عرفة والإجتماع العظيم عند قبره كما يفعل في بعض أرض المشرق والمغرب والتعريف هناك كما يفعل بعرفات فإن هذا نوع من الحج المبتدع الذي لم يشرعه الله ومضاهاة للحج الذي شرعه الله واتخاذ القبور أعيادا

وكذلك السفر إلى البيت المقدس للتعريف فيه فإن هذا أيضا ضلال مبين فإن زيارة بيت المقدس مستحبة مشروعة للصلاة فيه والاعتكاف وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال لكن قصد إتيانه في أيام الحج هو المكروه فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره

ثم فيه أيضا مضاهاة للحج إلى المسجد الحرام وتشبيه له بالكعبة ولهذا قد أفضى إلى مالا يشك مسلم في أنه شريعة أخرى غير شريعة الإسلام

وهو ما قد يفعله بعض الضلال من الطواف بالصخرة أو من حلق الرأس هناك أو من قصد النسك هناك

وكذلك ما يفعله بعض الضلال من الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفات كما يطاف بالكعبة

فأما الاجتماع في هذا الموسم لإنشاد الغناء والضرب بالدف بالمسجد الأقصى ونحوه فمن أقبح المنكرات من وجهات أخرى

منها فعل ذلك في المسجد الأقصى ونحوه فإن ذلك مما ينهى عنه خارج المساجد فكيف بالمسجد الأقصى

ومنها اتخاذ الباطل دينا

ومنها فعله في الموسم

فأما قصد الرجل المسلم مسجد بلده يوم عرفة للدعاء والذكر فهذا هو التعريف في الأمصار الذي اختلف العلماء فيه ففعله ابن عباس وعمرو بن حريث من الصحابة وطائفة من البصريين والمدنيين ورخص فيه أحمد وإن كان مع ذلك لا يستحبه هذا هو المشهور عنه

وكرهه طائفة من الكوفيين والمدنيين كإبراهيم النخعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم

ومن كرهه قال هو من البدع فيندرج في العموم لفظا ومعنى ومن رخص فيه قال فعله ابن عباس بالبصرة حين كان خليفة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ولم ينكر عليه وما يفعل في عهد الخلفاء الراشدين من غير إنكار لا يكون بدعة

لكن ما يزاد على ذلك من رفع الأصوات الرفع الشديد في المساجد بالدعاء وأنواع من الخطب والأشعار الباطلة فمكروه في هذا اليوم وغيره

قال المروزي سمعت أبا عبد الله يقول ينبغي أن يسر دعاءه لقوله ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا قال هذا في الدعاء قال وسمعت أبا عبد الله يقول وكانوا يكرهون أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء

وروى الخلال بإسناد صحيح عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال أحدث الناس الصوت عند الدعاء

وعن سعيد بن أبي عروبة أن مجالد بن سعيد سمع قوما يعجون في دعائهم فمشى إليهم فقال أيها القوم إن كنتم أصبتم فضلا على من كان قبلكم لقد ضللتم قال فجعلوا يتسللون رجلا رجلا حتى تركوا بغيتهم التي كانوا فيها

وروى أيضا بإسناده عن ابن شوذب عن أبي التياح قال قلت للحسن إمامنا يقص فيجتمع الرجال والنساء فيرفعون أصواتهم بالدعاء فقال الحسن إن رفع الصوت بالدعاء لبدعة وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة

فرفع الأيدي فيه خلاف وأحاديث ليس هذا موضعها

والفرق بين هذا التعريف المختلف فيه وتلك التعريفات التي لم يخلف فيها أن في تلك قصد بقعة بعينها للتعريف فيها كقبر الصالح أو المسجد الأقصى وهذا تشبيه بعرفات بخلاف مسجد المصر فإنه قصد له بنوعه لا بعينه ونوع المساجد مما شرع قصدها فإن الآتي إلى المسجد ليس قصده مكانا معينا لا يتبدل اسمه وحكمه وإنما الغرض بيت من بيوت الله بحيث لو حول ذلك المسجد لتحول حكمه ولهذا لا تتعلق القلوب إلا بنوع المسجد لا بخصوصه

وأيضا فإن شد الرحال إلى مكان للتعريف فيه مثل الحج بخلاف المصر

الا ترى أن النبي ﷺ قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

هذا مما لا أعلم فيه خلافا

فقد نهى النبي ﷺ عن السفر إلى غير المساجد الثلاثة

ومعلوم أن إتيان الرجل مسجد مصره إما واجب كالجمعة وإما مستحب كالاعتكاف فيه

وأيضا فإن التعريف عند القبر اتخاذ له عيدا وهذا بنفسه محرم سواء كان فيه شد للرحل أو لم يكن وسواء كان في يوم عرفة أو في غيره وهو من الأعياد المكانية مع الزمان

وأما ما أحدث في الأعياد من ضرب البوقات والطبول ! فإن هذا مكروه في العيد وغيره لا اختصاص للعيد به وكذلك لبس الحرير أو غير ذلك من النهي عنه في الشرع وترك السنن من جنس فعل البدع

فينبغي إقامة المواسم على ما كان السابقون الأولون يقيمونها من الصلاة أو الخطبة المشروعة والتكبير والصدقة في الفطر والذبح في الأضحى

فإن من الناس من يقصر في التكبير المشروع ومن الأئمة من يترك أن يخطب للرجال ثم النساء كما كان رسول الله ﷺ يخطب الرجال ثم النساء

ومنهم من لا يذكر في خطبته ما ينبغي ذكره بل يعدل إلى ما تقل فائدته

ومنهم من لا ينحر بعد الصلاة بالمصلى وهو ترك للسنة إلى أمور أخر من غير السنة فإن الدين هو فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه

فصل

وأما الأعياد المكانية فتنقسم أيضا كالزمانية إلى ثلاثة أقسام

أحدها مالا خصوص له في الشريعة

والثاني ماله خصيصة لا تقتضي قصده للعبادة فيه

والثالث ما يشرع العبادة فيه لكن لا يتخذ عيدا

والأقسام الثلاثة جاءت الآثار بها مثل قوله ﷺ للذي نذر أن ينحر ببوانة أبها وثن من أوثان المشركين أو عيد من أعيادهم قال لا قال فأوف بنذرك

ومثل قوله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا

ومثل نهي عمر عن اتخاذ آثار الأنبياء أعيادا كما سنذكره إن شاء الله

فهذا الأقسام الثلاثة أحدها مكان لا فضل له في الشريعة أصلا ولا فيه ما يوجب تفضيله بل هو كسائر الأمكنة أو دونها فقصد ذلك المكان أو قصد الاجتماع فيه لصلاة أو دعاء أو ذكر أو غير ذلك ضلال بين

ثم إن كان به بعض آثار الكفار من اليهود أو النصارى أو غيرهم كان أقبح وأقبح ودخل في هذا الباب وفي الباب قبله من مشابهة الكفار وهذه أنواع لا يمكن ضبطها بخلاف الزمان فإنه محصور وهذا الضرب أقبح من الذي قبله

فإن هذا يشبه عبادة الأوثان أو هو ذريعة إليها أو نوع من عبادة الأوثان إذ عباد الأوثان كانوا يقصدون بقعة بعينها لتمثال هناك أو غير تمثال يعتقدون أن ذلك يقربهم إلى الله تعالى وكانت الطواغيت الكبار التي تشد إليها الرحال ثلاثة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى كما ذكر الله ذلك في كتابه حيث يقول أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى فقد كان كل واحد من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب والأمصار التي كانت من ناحية الحرم ومواقيت الحج ثلاثة مكة والمدينة والطائف

فكانت اللات لأهل الطائف ذكروا أنه كان في الأصل رجلا صالحا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره مدة ثم اتخذوا تمثاله ثم بنوا عليه بنية سموها بيت الربة وقصتها معروفة لما بعث النبي ﷺ لهدمها المغيرة بن شعبة لما افتتح الطائف بعد فتح مكة سنة تسع من الهجرة

وأما العزى فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون فبعث النبي ﷺ إليها خالد بن الوليد عقب فتح مكة فأزالها وقسم النبي ﷺ مالها وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها فيئست العزة أن تعبد

وأما مناة فكانت لأهل المدينة يهلون لها شركا بالله تعالى وكانت حذو قديد الجبل الذي بين مكة والمدينة من ناحية الساحل

ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادة أوثانهم ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه حتى يتبين له تأويل القرآن ويعرف ما كرهه الله ورسوله فلينظر سيرة النبي ﷺ وأحوال العرب في زمانه وما ذكره الأزرقي في أخبار مكة وغيره من العلماء

ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم

فأنكر النبي ﷺ مجرد مشابهتهم الكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها سلاحهم فكيف بما هو أطم من ذلك من مشابهتهم المشركين أو هو الشرك بعينه

فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم تستحب الشريعة ذلك فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء كانت البقعة شجرة أو غيرها أو قناة جارية أو جبلا أو مغارة وسواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله سبحانه عندها أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيص تلك البقعة به لا عينا ولا نوعا

وأقبح من ذلك أن ينذر لتلك البقعة دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين فإن هذا النذر نذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به بل عليه كفارة يمين عند كثير من أهل العلم منهم أحمد في المشهور عنه وعنه رواية هي قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما أنه يستغفر الله من هذا النذر ولا شيء عليه والمسألة معروفة

وكذلك إذا نذر طعاما من الخبز أو غيره للحيتان التي في تلك العين أو البئر

وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة الذين كانوا لللات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال لهم الخليل إبراهيم إمام الحنفاء صلى الله عليه وآله وسلم ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون و قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين والذين أتى عليهم موسى عليه السلام وقومه بعد مجاوزتهم البحر كما قال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم

فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل في الشريعة للمجاورين بها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها أو سدنة الأبداد التي بالهند والمجاورين عندها

ثم هذا المال المنذور إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين الذين يستعينون بالمال على عبادة الله وحده لا شريك له كان حسنا

فمن هذه الأمكنة ما يظن أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك أو يظن أنه مقام له وليس كذلك

فأما ما كان قبرا له أو مقاما فهذا من النوع الثاني وهذا باب واسع أذكر بعض أعيانه

فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق مثل مشهد لأبي بن كعب خارج الباب الشرقي ولا خلاف بين أهل العلم أن أبي بن كعب إنما توفي بالمدينة ولم يمت بدمشق والله أعلم قبر من هو لكنه ليس بقبر أبي بن كعب صاحب رسول الله ﷺ بلا شك

وكذلك مكان بالحائط القبلي بجامع دمشق يقال إن فيه قبر هود عليه السلام وما علمت أحدا من أهل العلم ذكر أن هودا النبي مات بدمشق بل قد قيل إنه مات باليمن وقيل بمكة فإن مبعثه كان باليمن ومهاجره بعد هلاك قومه كان إلى مكة فأما الشام فلا هي داره ولا مهاجره فموته بها والحال هذه مع أن أهل العلم لم يذكروه بل ذكروا خلافه في غاية البعد

وكذلك مشهد خارج الباب الغربي من دمشق يقال إنه قبر أويس القرني وما علمت أن أحدا ذكر أن أويسا مات بدمشق ولا هو متوجه أيضا فإن أويسا قدم من اليمن إلى أرض العراق وقد قيل إنه قتل بصفين وقيل إنه مات بنواحي أرض فارس وقيل غير ذلك وأما الشام فما ذكر أحد أنه قدم إليها فضلا عن الممات بها

ومن ذلك ايضا قبر يقال له قبر أم سلمة زوج النبي ﷺ ولا خلاف أنها رضي الله عنها ماتت بالمدينة لا بالشام ولم تقدم الشام أيضا

فإن أم سلمة زوج النبي ﷺ لم تكن تسافر بعد رسول الله ﷺ بل لعلها أم سلمة أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فإن أهل الشام كشهر بن حوشب ونحوه كانوا إذا حدثوا عنها قالوا أم سلمة وهي بنت عم معاذ بن جبل وهي من أعيان الصحابيات ومن ذوات الفقه والدين منهن أو لعلها أم سلمة امرأة يزيد بن معاوية وهو بعيد فإن هذه ليست مشهورة بعلم ولا دين وما أكثر الغلط في هذه الأشياء وأمثالها من جهة الأسماء المشتركة أو المغيرة

ومن ذلك مشهد بقاهرة مصر يقال إن فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما وأصله المكذوب أنه كان بعسقلان مشهد يقال إن فيه رأس الحسين فحمل فيها يقال الرأس من هناك إلى مصر وهو باطل باتفاق أهل العلم لم يقل أحد من أهل العلم إن رأس الحسين كان بعسقلان بل فيه أقوال ليس هذا منها فإنه حمل رأسه إلى قدام عبيد الله بن زياد بالكوفة حتى روي له عن النبي ﷺ ما يغيظه وبعض الناس يذكر أن الرواية كانت أمام يزيد بن معاوية بالشام ولا يثبت ذلك فإن الصحابة المسمين في الحديث إنما كانوا بالعراق

وكذلك مقابر كثيرة لأسماء رجال معروفين قد علم أنها ليست بمقابرهم

فهذه المواضع ليس فيها فضيلة أصلا وإن اعتقد الجاهلون أن لها فضيلة اللهم إلا أن يكون قبرا لرجل مسلم فيكون كسائر المسلمين ليس لها من الخصيصة ما يحسبه الجهال وإن كانت القبور الصحيحة لا يجوز اتخاذها أعيادا ولا أن يفعل فيها ما يفعل عند هذه القبور المكذوبة أو تكون قبرا لرجل صالح غير المسمى فيكون من القسم الثاني

ومن هذا الباب أيضا مواضع يقال إن فيها أثر النبي ﷺ أو غيرها ويضاهي بها مقام إبراهيم الذي بمكة كما يقول الجهال في الصخرة التي ببيت المقدس من أن فيها أثرا من وطء قدم النبي ﷺ وبلغني أن بعض الجهال يزعم أنها من وطء الرب سبحانه وتعالى فيزعمون أن ذلك الأثر موضع القدم

وفي مسجد قبلي دمشق يسمى مسجد القدم به أيضا أثر يقال إن ذاك أثر قدم موسى عليه السلام وهذا باطل لا أصل له ولم يقدم موسى دمشق ولا من حولها

وكذلك مشاهد تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين بناء على أنه رؤي في المنام هناك ورؤية النبي أو الرجل الصالح في المنام ببقعة لا يوجب لها فضيلة تقصد البقعة لأجلها وتتخذ مصلى بإجماع المسلمين وإنما يفعل هذا وأمثاله أهل الكتاب وربما صوروا فيها صورة النبي أو الرجل الصالح أو بعض أعضائه مضاهاة لأهل الكتاب كما كان في بعض مساجد دمشق مسجد يسمى مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى هدم الله ذلك الوثن

وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في أكثر البلاد

وفي الحجاز منها مواضع كغار عن يمين الطريق وأنت ذاهب من بدر إلى مكة يقال إنه الغار الذي أوى النبي ﷺ إليه هو وأبو بكر وأنه الغار الذي ذكره الله في قوله ثاني اثنين إذ هما في الغار ولا خلاف بين أهل العلم أن هذا الغار المذكور في القرآن إنما هو غار بجبل ثور قريب من مكة معروف عند أهل مكة إلى اليوم

فهذه البقاع التي يعتقد لها خصيصة كائنة ما كانت ليس من الإسلام تعظيمها بأي نوع من التعظيم فإن تعظيم مكان لم يعظمه الشرع شر من تعظيم زمان لم يعظمه فإن تعظيم الأجسام بالعبادة عندها أقرب إلى عبادة الأوثان من تعظيم الزمان حتى إن الذي ينبغي تجنب الصلاة فيها وإن كان المصلي لا يقصد تعظيمها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى تخصيصها بالصلاة فيها كما ينهى عن الصلاة عند القبور المحققة وإن لم يكن المصلي يقصد الصلاة لأجلها وكما ينهي عن إفراد الجمعة سرر شعبان بالصوم وإن كان الصائم لا يقصد التخصيص بذلك الصوم

فإن ما كان مقصودا بالتخصيص مع النهي عن ذلك ينهى عن تخصيصه أيضا بالفعل

وما أشبه هذه الأمكنة بمسجد الضرار الذي أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم فإن ذلك المسجد لما بني ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل نهى الله نبيه ﷺ عن الصلاة فيه وأمر بهدمه

وهذه المشاهد الباطلة إنما وضعت مضاهاة لبيوت الله وتعظيما لما لم يعظمه الله وعكوفا على أشياء لا تنفع ولا تضر وصدا للخلق عن سبيل الله وهي عبادته وحده لا شريك له بما شرعه الله على لسان رسوله ﷺ واتخاذها عيدا والاجتماع واعتياد قصدها فإن العيد من المعاودة

ويلتحق بهذا الضرب ولكنه ليس منه مواضع تدعى لها خصائص لا تثبت مثل كثير من القبور التي يقال إنها قبر نبي أو قبر صالح أو مقام نبي أو صالح ونحو ذلك وقد يكون ذلك صدقا وقد يكون كذبا

وأكثر المشاهد التي على وجه الأرض من هذا الضرب فإن القبور الصحيحة والمقامات الصحيحة قليلة جدا

وكان غير واحد من أهل العلم يقول لا يثبت من قبور الأنبياء إلا قبر نبينا محمد ﷺ وغيره قد يثبت غير هذا أيضا مثل قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقد يكون علم أن القبر في تلك الناحية لكن يقع الشك في عينه ككثير من قبور الصحابة التي بباب الصغير من دمشق فإن الأرض غيرت مرات فتعيين قبر أنه قبر بلال أو غيره لا يكاد يثبت إلا من طريق خاصة وإن كان لو ثبت لم يتعلق به حكم شرعي مما قد أحدث عندها

ولكن الغرض أن نبين هذا القسم الأول وهو تعظيم الأمكنة التي لا خصيصة لها إما مع العلم بأنه لا خصيصة لها أو مع عدم العلم بأن لها خصيصة إذ العبادة والعمل بغير علم منهي عنه كما أن العبادة والعمل بما يخالف العلم منهي عنه ولو كان ضبط هذه الأمور من الدين لما أهمل ولما ضاع عن الأمة المحفوظ دينها المعصومة عن الخطأ

وأكثر ما تجد الحكايات المتعلقة بهذا عند السدنة والمجاورين لها الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله

وقد يحكى من الحكايات التي فيها تأثير مثل أن رجلا دعا عندها فاستجيب له أو نذر لها إن قضى الله حاجته فقضيت حاجته ونحو ذلك وبمثل هذه الأمور كانت تعبد الأصنام

فإن القوم كانوا أحيانا يخاطبون من الأوثان وربما تقضي حوائجهم إذا قصدوها ولذلك يجري لهم مثل ما يجري لأهل الأبداد من أهل الهند وغيرهم

وربما قيست على ما شرع الله تعظيمه من بيته المحجوج والحجر الأسود الذي شرع الله استلامه وتقبيله كأنه يمينه والمساجد التي هي بيوته

وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس وبمثل هذه الشبهات حدث الشرك في أهل الأرض

وقد صح عن النبي ﷺ أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل فإذا كان نذر الطاعات المعلقة بشرط لا فائدة فيه ولا يأتي بخير فما الظن بالنذر لما لا يضر ولا ينفع

وأما إجابة الدعاء فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدق التجائه وقد يكون سبه مجرد رحمة الله له وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه وقد يكون له أسباب أخرى وإن كانت فتنة في حق الداعي

فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون وينصرون ويعافون ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها

وقد قال الله تعالى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا

وقال تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها ليس هذا موضع تفصيلها وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر

فصل

النوع الثاني من الأمكنة ماله خصيصة لكن لا يقتضي اتخاذها عيدا ولا الصلاة ونحوها من العبادات عنده

فمن هذه الأمكنة قبور الأنبياء والصالحين وقد جاء عن النبي ﷺ والسلف النهي عن اتخاذها عيدا عموما وخصوصا وبينوا معنى العيد

فأما العموم فقال أبو داود في سننه حدثنا أحمد بن صالح قال قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم وهذا إسناده حسن فإن رواته كلهم ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه

قال يحيى بن معين هو ثقة وحسبك بابن معين موثقا وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ هو لين يعرف حفظه وينكر

فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه من مرتبة الصحيح إلى مرتبة الحسن

إذ لا خلاف في عدالته وفقهه وأن الغالب عليه الضبط لكن قد يغلط أحيانا

ثم إن هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر لأنه سنة مدنية وهو محتاج إليها في فقهه ومثل هذا يضبطه الفقيه

وللحديث شواهد من غير طريقه فإن هذا الحديث يروى من جهات أخرى فما بقي منكرا

وكل جملة من هذا الحديث رويت عن النبي ﷺ بأسانيد معروفة وإنما الغرض هنا النهي عن اتخاذه عيدا

فمن ذلك ما رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا زيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا حبان بن علي حدثني محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله ﷺ لا تتخذوا بيتي عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني

وقال سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي ﷺ فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله ﷺ قال لا تتخذوا بيتي عيدا ولا تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء

فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روى من وجوه مسندة غير هذين وكيف وقد تقدم مسندا

ووجه الدلالة أن قبر النبي ﷺ أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى النهي كائنا من كان ثم قرن ذلك بقوله ﷺ ولا تتخذوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور وهذا عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا

وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه













********************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.