مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

اقتضاء الصراط المستقيم من/ 18 الي 20........



********************18*******************************************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/18
< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اقتضاء الصراط المستقيم/17 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/19










ثم هذا الفاعل قد يكون متأولا أو مخطئا مجتهدا أو مقلدا فيغفر له خطؤه ويثاب على ما فعله من الخير المشروع المقرون بغير المشروع كالمجتهد المخطئ وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه قد علم أن مالكا من أعلم الناس بمثل هذه الأمور فإنه مقيم بالمدينة يرى ما يفعله التابعون وتابعوهم ويسمع ما ينقلونه عن الصحابة وأكابر التابعين وهو ينهى عن الوقوف عند القبر للدعاء ويذكر أنه لم يفعله السلف وقد أجدب الناس على عهد عمر رضي الله عنه فاستسقى بالعباس

ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب وقال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون فاستسقوا به كما كانوا يستسقون بالنبي ﷺ في حياته وهو أنهم يتوسلون بدعائه وشفاعته لهم فيدعو لهم ويدعون معه كالإمام والمأمومين من غير أن يكونوا يقسمون على الله بمخلوق كما ليس لهم أن يقسم بعضهم على بعض بمخلوق ولما مات النبي ﷺ توسلوا بدعاء العباس واستسقوا به

ولهذا قال الفقهاء يستحب الاستسقاء بأهل الخير والدين والأفضل أن يكونوا من أهل بيت النبي ﷺ وقد استسقى معاوية بيزيد بن الأسود الجرشي وقال اللهم إنا نستسقي بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك فرفع يديه ودعا ودعا الناس حتى أمطروا وذهب الناس ولم يذهب أحد من الصحابة إلى قبر نبي ولا غيره يستسقي عنده ولا به

والعلماء استحبوا السلام على النبي ﷺ للحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام هذا مع ما في النسائي وغيره عنه ﷺ أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام وفي سنن أبي داود وغيره عنه أنه قال أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي فقالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت أي بليت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء

فالصلاة عليه بأبي هو وأمي والسلام عليه مما أمر الله به ورسوله

وقد ثبت في الصحيح أنه قال من صلى علي مرة ﷺ بها عشرا

والمشروع لنا عند زيارة قبور الأنبياء والصالحين وسائر المؤمنين هو من جنس المشروع عند جنائزهم فكما أن المقصود بالصلاة على الميت الدعاء له فالمقصود بزيارة قبره الدعاء له كما ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح والسنن والمسند أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم

فهذا دعاء خاص للميت كما في دعاء الصلاة على الجنازة الدعاء العام والخاص اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا إنك تعلم متقلبنا ومثوانا أي ثم يخص الميت بالدعاء قال الله تعالى في حق المنافقين ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية

فلما نهى الله نبيه ﷺ عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأجل كفرهم دل ذلك بطريق التعليل والمفهوم على أن المؤمن يصلي عليه ويقام على قبره ولهذا جاء في السنن أن النبي ﷺ كان إذا دفن الرجل من أصحابه يقوم على قبره ثم يقول سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل

وأما أن يقصد بالزيارة سؤال الميت أو الإقسام على الله به أو استجابة الدعاء عند تلك البقعة فهذا لم يكن من فعل أحد من سلف الأمة ولا الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان وإنما حدث ذلك بعد ذلك بل قد كره مالك وغيره من العلماء أن يقول القائل زرنا قبر النبي ﷺ

وقال القاضي عياض كره مالك أن يقال زرنا قبر النبي ﷺ وذكرنا عن بعضهم أنه علله بلعنه ﷺ زوارات القبور

قال القاضي عياض وهذا يرده قوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها

وعن بعضهم أن ذلك لما قيل إن الزائر أفضل من المزور قال وهذا أيضا ليس بشيء إذ ليس كل زائر بهذه الصفة وقد ورد في حديث زيارة أهل الجنة لربهم ولم يمنع هذا اللفظ في حقه

قال والأولى أن يقال في ذلك إنما كراهة مالك له لإضافة الزيارة إلى قبر النبي ﷺ وأنه لو قال زرنا النبي ﷺ لم يكرهه لقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبه بأولئك قطعا للذريعة وحسما للباب

قلت غلب في عرف كثير من الناس استعمال لفظ زرنا في زيارة قبور الأنبياء والصالحين على استعمال لفظ زيارة القبور في الزيارة البدعية الشركية لا في الزيارة الشرعية ولم يثبت عن النبي ﷺ حديث واحد في زيارة قبر مخصوص ولا روى أحد في ذلك شيئا لا أهل الصحيح ولا السنن ولا أئمة المصنفون في المسند كالإمام أحمد وغيره وإنما روى ذلك من جمع الموضوع وغيره

وأجل حديث روي في ذلك ما رواه الدارقطني وهو ضعيف باتفاق أهل العلم بل الأحاديث المروية في زيارة قبره كقوله من زارني وزار أبي إبراهيم الخليل في عام واحد ضمنت له على الله الجنة و من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي و من حج ولم يزرني فقد جفاني ونحو هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة

لكن النبي ﷺ رخص في زيارة القبور مطلقا بعد أن كان قد نهى عنها كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها وفي الصحيح عنه أنه قال استأذنت ربي في أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة

فهذه زيارة لأجل تذكير الآخرة ولهذا يجوز زيارة قبر الكافر لأجل ذلك وكان ﷺ يخرج إلى البقيع فيسلم على موتى المسلمين ويدعو لهم فهذه زيارة مختصة بالمسلمين كما أن الصلاة على الجنازة تختص بالمؤمنين

وقد استفاض عنه ﷺ في الصحيح أنه قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا

وفي الصحيح أنه ذكرت له أم سلمة كنيسة بأرض الحبشة وذكرت من حسنها وتصاوير فيها فقال أولئك إذا مات فيها الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذه في الصحيح

وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك

وفي السنن عنه ﷺ أنه قال لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني

وفي الموطأ وغيره عنه ﷺ أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي المسند وصحيح أبي حاتم عن ابن مسعود عنه ﷺ أنه قال إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد

ومعنى هذه الأحاديث متواتر عنه ﷺ بأبي هو وأمي وكذلك عن أصحابه

فهذا الذي نهى عنه من اتخاذ القبور مساجد مفارق لما أمر به وشرعه من السلام على الموتى والدعاء لهم فالزيارة المشروعة من جنس الثاني والزيارة المبتدعة من جنس الأول

فإن نهيه عن اتخاذ القبور مساجد يتضمن النهي عن بناء المساجد عليها وعن قصد الصلاة عندها وكلاهما منهي عنه باتفاق العلماء فإنهم قد نهوا عن بناء المساجد على القبور بل صرحوا بتحريم ذلك كما دل عليه النص

واتفقوا أيضا على أنه لا يشرع قصد الصلاة والدعاء عند القبور ولم يقل أحد من أئمة المسلمين إن الصلاة عندها والدعاء عندها أفضل منه في المساجد الخالية عن القبور بل اتفق علماء المسلمين على أن الصلاة والدعاء في المساجد التي لم تبن على القبور أفضل من الصلاة والدعاء في المساجد التي بنيت على القبور بل الصلاة والدعاء في هذه منهي عنه مكروه باتفاقهم وقد صرح كثير منهم بتحريم ذلك بل وبإبطال الصلاة فيها وإن كان في هذا نزاع

والمقصود هنا أن هذا ليس بواجب ولا مستحب باتفاقهم بل هو مكروه باتفاقهم والفقهاء قد ذكروا في تعليل كراهة الصلاة في المقبرة علتين

إحداهما نجاسة التراب باختلاطه بصديد الموتى وهذه علة من يفرق بين القديمة والحديثة وهذه العلة في صحتها نزاع لاختلاف العلماء في نجاسة تراب القبور وهي من مسائل الاستحالة وأكثر علماء المسلمين يقولون إن النجاسة تطهر بالاستحالة وهو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد وقد ثبت في الصحيح أن مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان حائطا لنبي النجار وكان فيه قبور من قبور المشركين ونخل وخرب فأمر النبي ﷺ بالنخيل فقطعت وبالخرب فسويت وبالقبور فنبشت وجعل النخل في صف القبلة فلو كان تراب القبور نجسا لكان ترب قبور المشركين نجسا ولأمر النبي ﷺ بنقل ذلك التراب فإنه لا بد أن يختلط ذلك التراب بغيره

والعلة الثانية ما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور لما يفضي إليه ذلك من الشرك وهذه العلة صحيحة باتفاقهم

والمعللون بالأولى كالشافعي وغيره عللوا بهذه أيضا وكرهوا ذلك لما فيه من الفتنة وكذلك الأئمة من أصحاب أحمد ومالك كأبي بكر الأثرم صاحب أحمد وغيره وعلله بهذه الثانية أيضا وإن كان منهم من قد يعلل بالأولى

وقد قال تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا وقد أضلوا كثيرا ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء قوم صالحين كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم وصوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم قد ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره وأصحاب قصص الأنبياء كوثيمة وغيره

ويبين صحة هذه العلة أنه ﷺ لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنبش ولا يكون ترابها نجسا وقد قال ﷺ عن نفسه اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وقال ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا

فعلم أن نهيه عن ذلك من جنس نهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها لأن الكفار يسجدون للشمس حينئذ فسد ﷺ الذريعة وحسم المادة بأن لا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ولا يدعو إلا الله وكذلك نهى عن اتخاذ القبور مساجد وإن كان المصلي عندها لا يصلي إلا لله لئلا يفضي ذلك إلى دعاء المقبورين والصلاة لهم وكلا الأمرين قد وقع

فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعو لها بأنواع الأدعية والتعزيمات ويلبس لها من اللباس والخواتم ما يظن مناسبته لها ويتحرى الأوقات والأمكنة والأبخرة المناسبة لها في زعمه وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثير من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام وصنف فيه بعض المشهورين كتابا سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم على مذهب المشركين من الهند والصابئين والمشركين من العرب وغيرهم مثل طمطم الهندي وملكوشا البابلي وابن وحشية وأبي معشر البلخي وثابت بن قرة وأمثالهم ممن دخل في الشرك وآمن بالجبت والطاغوت وهم منتسبون إلى أهل الإسلام كما قال تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وقد قال غير واحد من السلف الجبت السحر والطاغوت الأوثان وبعضهم قال الشيطان وكلاهما حق

وهؤلاء يجمعون بين الجبت الذي هو السحر و الشرك الذي هو عبادة الطاغوت كما يجمعون بين السحر وعبادة الكواكب وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام بل ودين جميع الرسل أنه شرك محرم بل هذا من أعظم أنواع الشرك الذي بعثت الرسل بالنهي عنه ومخاطبة إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه لقومه كانت في نحو هذا الشرك وكذلك قوله تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض إلى قوله تعالى إن ربك عليم حكيم

فإن إبراهيم عليه السلام سلك هذه السبيل لأن قومه كانوا يتخذون الكوكب أربابا يدعونها ويسألونها ولم يكونوا هم ولا أحد من العقلاء يعتقد أن كواكبا من الكواكب خلق السموات والأرض وإنما كانوا يدعونها من دون الله على مذهب هؤلاء المشركين ولهذا قال الخليل عليه السلام أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقال الخليل أيضا إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين والخليل صلوات الله عليه أنكر شركهم بعبادة الكواكب العلوية وشركهم بعبادة الأوثان التي هي تماثيل وطلاسم لتلك الكواكب أو هي تماثيل لمن مات من الأنبياء والصالحين وغيرهم وكسر الأصنام كما قال تعالى عنه فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون

والمقصود هنا أن الشرك بعبادة الكواكب وقع كثيرا وكذلك الشرك بالمقبورين من دعائهم والتضرع إليهم والرغبة إليهم ونحو ذلك

فإذا كان النبي ﷺ قد نهى عن الصلاة التي تتضمن الدعاء لله وحده خالصا عند القبور لئلا يفضي ذلك إلى نوع من الشرك بربهم فكيف إذا وجد ما هو عين الشرك من الرغبة إليهم سواء طلب منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات أو طلب منهم أن يطلبوا ذلك من الله بل لو أقسم على الله ببعض خلقه من الأنبياء والملائكة وغيرهم لنهي عن ذلك ولو لم يكن عند قبره كما لا يقسم بمخلوق مطلقا وهذا القسم منهي عنه غير منعقدباتفاق الأئمة وهل هو نهي تحريم أو تنزيه على قولين أصحهما أنه نهي تحريم ولم يتنازع العلماء إلا في الحلف بالنبي ﷺ خاصة فإن فيه قولين في مذهب أحمد وبعض أصحابه كابن عقيل طرد الخلاف في الحلف بسائر الأنبياء لكن القول الذي عليه جمهور الأئمة كمالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا ينعقد اليمين بمخلوق ألبته ولا يقسم بمخلوق ألبته وهذا هو الصواب

والإقسام على الله بنبيه محمد ﷺ ينبني على هذا الأصل ففيه هذا النزاع

وقد نقل عن أحمد في التوسل بالنبي ﷺ في منسك المروزي ما يناسب قوله بانعقاد اليمين به لكن الصحيح أنه لا تنعقد اليمين به فكذلك هذا

وأما غيره فما علمت بين الأمة فيه نزاعا بل قد صرح العلماء بالنهي عن ذلك واتفقوا على أن الله تعالى هو الذي يسأل وحده ويقسم عليه بأسمائه وصفاته كما يقسم على غيره بذلك كالأدعية المعروفة في السنن اللهم إني أسألك بأن لك الحمد أنت الله الحنان المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام وفي الحديث الآخر اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وفي الحديث الآخر أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك فهذه الأدعية ونحوها هي المشروعة باتفاق العلماء

وأما إذا قال أسألك بمعاقد العز من عرشك فهذا فيه نزاع رخص فيه غير واحد لمجيء الأثر به ونقل عن أبي حنيفة كراهته

قال أبو الحسن القدوري في شرح الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت ابا يوسف قال أبو حنيفة رحمه الله لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك أو بحق خلقك وهو قول لأبي يوسف قال أبو يوسف بمعقد العز من عرشه هو الله فلا أكره هذا وأكره بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام بهذا الحق يكره

فقد قالوا جميعا فالمسألة بخلقه لا تجوز لأنه لا حق للمخلوق على الخالق فلا يجوز أن يسأل بما ليس مستحقا عليه ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق أو بالخالق فيه نزاع بينهم فلذلك تنازعوا فيه وأبو يوسف بلغه الأثر فيه أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة فجوزه لذلك

وقد نازع في هذا بعض الناس وقالوا في حديث أبي سعيد الذي رواه ابن ماجه عن النبي ﷺ في الدعاء الذي يقوله الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فاني لم أخرج اشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي وقد قال تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام على قراءة حمزة وغيره ممن خفض الأرحام وقال تفسيرها أي تساءلون به والأرحام كما يقال سألتك بالله وبالرحم

ومن زعم من النحاة أنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور إلا باعادة الجار فإنما قاله لما رأى غالب الكلام بإعادة الجار وإلا فقد سمع من الكلام العربي نثره ونظمه العطف بدون ذلك كما حكى سيبويه ما فيها غيره وفرسه ولا ضرورة هنا كما يدعى مثل ذلك في الشعر ولأنه قد ثبت في الصحيح أن عمر قال اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون

وفي النسائي والترمذي وغيرهما حديث الأعمى الذي صححه الترمذي أنه جاء إلى النبي ﷺ فسأله أن يدعو الله أن يرد بصره فأمره أن يتوضأ فيصلي ركعتين ويقول اللهم أني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد يا نبي الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها اللهم فشفعه في ودعا الله فرد الله عليه بصره

والجواب عن هذا أن يقال

أولا لا ريب أن الله جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وكما قال تعالى كتب ربكم على نفسه الرحمة

وفي الصحيحين أنه ﷺ قال لمعاذ بن جبل وهو رديفه يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق

وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعد الله الصادق وتنازعوا هل يوجب الله بنفسه على نفسه ويحرم بنفسه على نفسه على قولين

ومن جوز ذلك احتج بقوله سبحانه كتب ربكم على نفسه الرحمة وبقوله في الحديث القدسي الصحيح إني حرمت الظلم على نفسي الخ والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر

وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه فهذا قول القدرية وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن وأن العباد لا يوجبون عليه شيئا ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال إنه كتب على نفسه الرحمة وحرم الظلم على نفسه لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير فهو الخالق لهم وهو المرسل إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على المستأجر فهو جاهل في ذلك

وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما من به من فضله وإحسانه والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه ليس من باب المعاوضة ولا من باب ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك

وإذا سئل بما جعله سببا للمطلوب من التقوى والأعمال الصالحة التي وعد أصحابها بكرامته وأنه يجعل لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون فيستجيب دعاءهم ومن أدعية عباده الصالحين ومن شفاعة ذوي الوجاهة عنده فهذا سؤال وتسبب بما جعله هو سببا

وأما إذا سئل بشيء ليس هو سببا للمطلوب فإما أن يكون إقساما به عليه فلا يقسم على الله بمخلوق وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة

فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وبكلماته التامة ورحمته لهم أن ينصرهم ولا يخذلهم وأن يمنعهم ولا يعذبهم وهم وجهاء عنده يقبل من شفاعتهم ودعائهم مالا يقبله من دعاء غيرهم

فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان وفلان لم يدع ربه وهو لم يسأله باتباعه لذلك الشخص ومحبته وطاعته بل بنفس ذاته وما جعله له ربه من الكرامة فهو لم يسأله بسبب يوجب المطلوب

وحينئذ فيقال أما نفس التوسل والتوجه إلى الله ورسوله بالأعمال الصالحة التي أمر بها كدعاء الثلاثة الذين آووا إلى الغار بأعمالهم الصالحة وبدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم فهذا مما لا نزاع فيه بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وقوله سبحانه أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه

فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر أو كان على وجه السؤال له والاستعاذة به رغبة إليه في جلب المنافع ودفع المضار ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا هو الدعاء بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة وإن كان كل منهما يستلزم الآخر لكن العبد قد تنزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كربته فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع وإن كان ذلك من العبادة والطاعة ثم يكون في أول الأمر قصده حصول ذلك المطلوب من الرزق والنصر والعافية مطلقا ثم الدعاء والتضرع يفتح له من أبواب الإيمان بالله عز و جل ومعونته ومحبته والتنعم بذكره ودعائه ما يكون هو أحب إليه وأعظم قدرا عنده من تلك الحاجة التي همته وهذا من رحمة الله بعباده يسوقهم بالحاجات الدنيوية إلى المقاصد العلية الدينية

وقد يفعل العبد ابتداء ما أمر به لأجل العبادة لله والطاعة له ولما عنده من محبته والإنابة إليه وخشيته وامتثال أمره وإن كان ذلك يتضمن حصول الرزق والنصر والعافية

وقد قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه أهل السنن أبو داود وغيره الدعاء هو العبادة ثم قرأ قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وقد فسر هذا الحديث مع القرآن بكلا النوعين

قيل ادعوني أي اعبدوني وأطيعوا أمري استجب دعاءكم وقيل سلوني أعطكم وكلا النوعين حق

وفي الصحيحين في قول النبي ﷺ في حديث النزول ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر

فذكر أولا إجابته الدعاء ثم ذكر إعطاء المغفرة للمستغفر

فهذا جلب المنفعة وهذا دفع المضرة وكلاهما مقصود الداعي المجاب

وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون وقد روى أن بعض الصحابة قال يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله هذه الآية

فأخبر سبحانه أنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ثم أمرهم بالاستجابة له وبالإيمان به كما قال بعضهم فليستجيبوا لي إذا دعوتهم وليؤمنوا بي إذا دعوتهم

قالوا وبهذين الشيئين تحصل إجابة الدعوة بكمال الطاعة لألوهيته وبصحة الإيمان بربوبيته فمن استجاب لربه بامتثال أمره ونهيه حصل مقصوده من الدعاء وأجيب دعاؤه كما قال تعالى ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله أي يستجيب لهم يقال استجابه واستجاب له

فمن دعاه موقنا أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه أجابه وقد يكون مشركا وفاسقا فإنه سبحانه هو القائل وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه وهو القائل سبحانه وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وهو القائل سبحانه قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون

ولكن هؤلاء الذين يستجاب لهم لإقرارهم بربوبيته وأنه يجيب دعاء المضطر إذا دعاه إذا لم يكونوا مخلصين له الدين في عبادته ولا مطيعين له ولرسوله كان ما يعطيهم بدعائهم متاعا في الحياة الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق

وقال تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن يريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا وقد دعا الخليل عليه الصلاة و السلام بالرزق لأهل الإيمان فقال وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر فقال الله تعالى ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير

فليس كل من متعه الله برزق ونصر إما إجابة لدعائه وإما بدون ذلك يكون ممن يحبه الله ويواليه بل هو سبحانه يرزق المؤمن والكافر والبر والفاجر وقد يجيب دعاءهم ويعطيهم سؤلهم في الدنيا ومالهم في الآخرة من خلاق

وقد ذكروا أن بعض الكفار من النصارى حاصروا مدينة للمسلمين فنفد ماؤهم العذب فطلبوا من المسلمين أن يزودوهم بماء عذب ليرجعوا عنهم فاشتور ولاة أمر المسلمين وقالوا بل ندعهم حتى يضعفهم العطش فنأخذهم فقام أولئك فاستسقوا ودعوا الله فسقاهم فاضطرب بعض العامة فقال الملك لبعض العارفين أدرك الناس فأمر بنصب منبر له وقال اللهم إنا نعلم أن هؤلاء من الذين تكفلت بأرزاقهم كما قلت في كتابك وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقد دعوك مضطرين وأنت تجيب المضطر إذا دعاك فأسقيتهم لما تكفلت به من أرزاقهم ولما دعوك مضطرين لا لأنك تحبهم ولا لأنك تحب دينهم والآن فنريد أن ترينا آية يثبت بها الايمان في قلوب عبادك المؤمنين فأرسل الله عليهم ريحا فأهلكتهم أو نحو هذا

ومن هذا الباب من قد يدعو دعاء معتديا فيه إما بطلب مالا يصلح أو بالدعاء الذي فيه معصية الله من شرك أو غيره فإذا حصل بعض غرضه ظن أن ذلك دليل على أن عمله صالح بمنزلة من أملى له وأمده بالمال والبنين فظن أن ذلك مسارعة له في الخيرات قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون

وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

وقال تعالى ولا يحسبن الذين كفروا أن ما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين والإملاء إطالة العمر وما في ضمنه من رزق ونصر

وقال تعالى فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين

وهذا باب واسع مبسوط في غير هذا الموضع

وقال تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين

والمقصود هنا أن دعاء الله قد يكون دعاء عبادة لله فيثاب العبد عليه في الآخرة مع ما يحصل له في الدنيا وقد يكون دعاء مسألة تقضي به حاجته ثم قد يثاب عليه إذا كان مما يحبه الله وقد لا يحصل له إلا تلك الحاجة وقد يكون سببا لضرر دينه فيعاقب على ما ضيعه من حقوق الله سبحانه وعلى ما تعداه من حدوده

فالوسيلة التي أمر الله بابتغائها إليه تعم الوسيلة في عبادته وفي مسألته

فالتوسل إليه بالأعمال الصالحة التي أمر بها وبدعاء أحياء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم ليس هو من باب الإقسام عليه بمخلوقاته

ومن هذا الباب استشفاع الناس بالنبي ﷺ يوم القيامة فإنهم يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله كما كانوا في الدنيا يطلبون منه أن يدعو لهم في الاستسقاء وغيره

وقول عمر رضي الله عنه إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا معناه نتوسل إليك بدعائه وشفاعته وسؤاله ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وسؤاله وشفاعته ليس المراد به إنا نقسم عليك به أو ما يجري هذا المجرى مما يفعله المبتدعون بعد موته وفي مغيبه كما يقول بعض الناس أسألك بجاه فلان عندك ويقولون إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه وأوليائه ويروون حديثا موضوعا إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عريض فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه كما ذكر عمر رضي الله عنه لفعلوا ذلك به بعد موته ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس

فعلم أن ذلك التوسل الذي ذكروه هو مما يفعله الأحياء دون الأموات وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم فإن الحي يطلب منه ذلك والميت لا يطلب منه شيء لا دعاء ولا غيره

وكذلك حديث الأعمى فإنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له ليرد الله عليه بصره فعلمه النبي ﷺ دعاء أمره فيه أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه

فهذا يدل على أن النبي ﷺ شفع فيه وأمره أن يسأل الله قبول شفاعته وأن قوله أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة أي بدعائه وشفاعته كما قال عمر كنا نتوسل إليك بنبينا فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد ثم قال يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي ليقضيها اللهم فشفعه في فطلب من الله أن يشفع فيه نبيه وقوله يا محمد يا نبي الله هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب لشهوده بالقلب كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته والإنسان يفعل مثل هذا كثيرا يخاطب من يتصوره في نفسه إن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب

فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال وإشتراك غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة يراد به التسبب به لكونه داعيا وشافعا مثلا أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به فيكون التسبب إما بمحبة السائل له واتباعه له وإما بدعاء الوسيلة وشفاعته ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته فلا يكون التوسل بشيء منه ولا بشيء من السائل بل بذاته أو لمجرد الإقسام به على الله

فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه وكذلك لفظ السؤال بشيء قد يراد به المعنى الأول وهو التسبب به لكونه سببا في حصول المطلوب وقد يراد به الإقسام

ومن الأول حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما فإن الصخرة انطبقت عليهم فقالوا ليدعوا كل رجل منكم بأفضل عمله فقال أحدهم اللهم إنه كانت لي ابنة عم فأحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء وأنها طلبت مني مائة دينار فلما أتيتها بها قالت يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم الا بحقه فتركت الذهب وانصرفت فإن كنت إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا فأفرجت فانفرجت لهم فرجة رأوا منها السماء وقال الآخر اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا فناء بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها وقال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منها الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أد إلي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت أنا لا استهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون

فهؤلاء دعوا الله سبحانه بصالح الأعمال لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله تعالى ويتوجه به إليه ويسأله به لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله وقال ربكم ادعوني أستجب لكم وهؤلاء دعوه بعبادته وفعل ما أمر به من العمل الصالح وسؤاله والتضرع إليه

ومن هذا ما يذكر عن الفضيل بن عياض أنه أصابه عسر البول فقال بحبي إياك إلا ما فرجت عني ففرج عنه

وكذلك دعاء المرأة المهاجرة التي أحيا الله أبنها لما قالت اللهم إني آمنت بك وبرسولك وهاجرت في سبيلك وسألت الله أن يحيي ولدها وأمثال ذلك

وهذا كما قال المؤمنون ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد

فسؤال الله والتوسل إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه وفعل ما يحب من العبودية والطاعة هو من جنس فعل ذلك رجاء لرحمة الله وخوفا من عذابه وسؤال الله بأسمائه وصفاته كقوله أسألك بأن لك الحمد أنت الله المنان بديع السموات والأرض وبأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ونحو ذلك يكون من باب التسبب فإن كون المحمود المنان يقتضي منته على عباده وإحسانه الذي يحمد عليه

وكونه الأحد الصمد يقتضي توحده في صمديته فيكون هو السيد المقصود الذي يصمد الناس إليه في كل حوائجهم المستغنى عما سواه وكل ما سواه مفتقرون إليه لا غنى بهم عنه وهذا سبب لقضاء المطلوبات

وقد يتضمن ذلك معنى الإقسام عليه بأسمائه وصفاته

وأما قوله في حديث أبي سعيد أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فهذا الحديث رواه عطية العوفي وفيه ضعف

لكن بتقدير ثبوته فهو من هذا الباب فإن حق السائلين عليه سبحانه أنه يجيبهم وحق المطيعين له أن يثيبهم فالسؤال له والطاعة سبب لحصول إجابته وإثابته فهو من التوسل به والتوجه به ولو قدر أنه قسم لكان قسما بما هو من صفاته فإن إجابته وإثابته من أفعاله وأقواله

فصار هذا كقوله ﷺ في الحديث الصحيح أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك والاستعاذة لا تصح بمخلوق كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة وذلك مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق

ولأنه قد ثبت في الصحيح وغيره عن النبي ﷺ أنه كان يقول أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق قالوا والاستعاذة لا تكون بمخلوق

فأورد بعض الناس لفظ المعافاة فقال جمهور أهل السنة المعافاة من الأفعال وجمهور المسلمين من أهل السنة وغيرهم يقولون أن أفعال الله قائمة به وأن الخالق ليس هو المخلوق وهذا قول جمهور أصحاب الشافعي وأحمد ومالك وهو قول أصحاب أبي حنيفة وقول عامة أصحاب أهل الحديث والصوفية وطوائف من أهل الكلام والفلسفة

وبهذا يحصل الجواب عما أوردته المعتزلة ونحوهم من الجهمية نقضا

فإن أهل الإثبات من أهل الحديث وعامة المتكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وغيرهم استدلوا على أن كلام الله غير مخلوق بأن الصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها على ذلك المحل لا على غيره واتصف به ذلك المحل لا غيره فإذا خلق الله لمحل علما أو قدرة أو حركة أو نحو ذلك كان هو العالم به القادر به المتحرك به ولم يجز أن يقال أن الرب المتحرك بتلك الحركة ولا هو العالم القادر بالعلم والقدرة المخلوقين بل بما قام به من العلم والقدرة

قالوا فلو كان قد خلق كلاما في غيره كالشجرة التي نادى بها موسى لكانت الشجرة هي المتصفة بذلك الكلام فتكون الشجرة هي القائلة لموسى إنني أنا الله ولكان ما يخلقه الله من إنطاق الجلود والأيدي وتسبيح الحصى وتأويب الجبال وغير ذلك كلاما له كالقرآن والتوراة والإنجيل بل كان كل كلام في الوجود كلامه لأنه خالق كل شيء وهذا قد التزمه مثل صاحب الفصوص وأمثاله من هؤلاء الجهمية الحلولية الاتحادية

فأوردت المعتزلة صفات الأفعال كالعدل والإحسان فإنه يقال إنه عادل محسن بعدل خلقه في غيره وإحسان خلقه في غيره فأشكل ذلك على من يقول ليس لله فعل قائم به بل فعله هو المفعول المنفصل عنه وليس خلقه إلا مخلوقه

وأما من طرد القاعدة وقال أيضا إن الأفعال قائمة به ولكن المفعولات المخلوقة هي المنفصلة عنه وفرق بين الخلق والمخلوق فأطرد دليله واستقام

والمقصود هنا أن استعاذة النبي ﷺ بعفوه ومعافاته من عقوبته مع أنه لايستعاذ بمخلوق فهي كسؤال الله بإجابته وإثابته وإن كان لا يسأل بمخلوق

ومن قال من العلماء لا يسأل إلا به لا ينافي السؤال بصفاته كما أن الحلف لا يشرع إلا بالله كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وفي لفظ الترمذي من حلف بغير الله فقد أشرك قال الترمذي حديث حسن

ومع هذا فالحلف بعزة الله ولعمر الله ونحو ذلك مما ثبت عن النبي ﷺ والحلف به لم يدخل في الحلف بغير الله لأن لفظ الغير قد يراد به المباين المنفصل ولهذا لم يطلق السلف وسائر الأئمة على القرآن وسائر صفات الله أنها غيره ولم يطلقوا عليها أنها ليست غيره لأن لفظا الغير فيه إجمال قد يراد به المباين المنفصل فلا يكون صفة الموصوف أو بعضه داخلا في لفظ الغير وقد يراد به ما يمكن تصوره دون تصور ما هو غير له فيكون غيرا بهذا الاصطلاح ولهذا تنازع أهل النظر في مسمى الغير والنزاع في ذلك لفظي ولكن بسبب ذلك حصل في مسائل الصفات من الشبهات مالا ينجلي إلا بمعرفة ما وقع في الألفاظ من الاشتراك والإبهامات كما قد بسط في غير هذا الموضع

ولهذا يفرق بين قول القائل الصفات غير الذات وبين قوله صفات الله غير الله فإن الثاني باطل لأن مسمى اسم الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات ولهذا لا يقال صفات الله زائدة عليه سبحانه وإن قيل الصفات زائدة على الذات لأن المراد هي زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات المجردة والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة فليس اسم الله متناولا لذات مجردة عن الصفات أصلا ولا يمكن وجود ذلك ولهذا قال أحمد رحمه الله في مناظرته للجهمية لا نقول الله وعلمه والله وقدرته والله ونوره ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره هو إله واحد وقد بسط في غير هذا الموضع







********************19.******************************************************************


اقتضاء الصراط المستقيم/19

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/18 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/20










وأما قول الناس أسألك بالله وبالرحم وقراءة من قرأ تساءلون به والأرحام فهو من باب التسبب بها فإن الرحم توجب الصلة وتقتضي أن يصل الإنسان قرابته فسؤال السائل بالرحم لغيره متوسل إليه بما يوجب صلته من القرابة التي بينهما ليس هو من باب الإقسام ولا من باب التوسل بما لا يقتضي المطلوب بل هو توسل بما يقتضي المطلوب كالتوسل بدعاء الأنبياء وبطاعتهم وبالصلاة عليهم

ومن هذا الباب ما يروى عن عبد الله بن جعفر أنه قال كنت إذا سألت عليا رضي الله عنه شيئا فلم يعطنيه قلت له بحق جعفر إلا ما أعطيتنيه فيعطينيه أو كما قال

فإن بعض الناس ظن أن هذا من باب الإقسام عليه بجعفر أو من باب قولهم أسألك بحق أنبيائك ونحو ذلك وليس ذلك بل جعفر هو أخو علي وعبد الله هو ابنه وله عليه حق الصلة فصلة عبد الله صلة لأبيه جعفر كما ثبت في الحديث إن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أو يولي وقوله إن من برهما بعد موتهما الدعاء لهما والاستغفار لهما وإنفاد عهدهما من بعد موتهما وصلة رحمك التي لا رحم لك إلا من قبلهما

ولو كان هذا من الباب الذي ظنوه لكان سؤاله لعلي بحق النبي وإبراهيم الخليل ونحوهما أولى من سؤاله بحق جعفر ولكان علي إلى تعظيم رسول الله ﷺ ومحبته وإجابة السائل به أسرع منه إلى إجابة السائل بغيره لكن بين المعنيين فرق

فإن السائل بالنبي طالب به متسبب به فإن لم يكن في ذلك السبب ما يقتضي حصول مطلوبه وإلا كان يسأل ما به باطلا

وإقسام الإنسان على غيره بشيء يكون من باب تعظيم المقسم بالمقسم به وهذا هو الذي جاء به الحديث من الأمر بإبرار المقسم وفي مثل هذا قيل إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره

وقد يكون من باب تعظيم المسؤول به

فالأول يشبه ما ذكره الفقهاء في الحلف الذي يقصد به الحض والمنع

والثاني سؤال للمسؤل بما عنده من محبة المسؤل به وتعظيمه ورعاية حقه فإن كان ذلك مما يقتضي حصول مقصود السائل حسن السؤال كسؤال الإنسان بالرحم

ومن هذا سؤال الله بالأعمال الصالحة وبدعاء أنبيائه وشفاعتهم

وأما بمجرد ذوات الأنبياء والصالحين ومحبة الله لهم وتعظيمه لهم ورعايته لحقوقهم التي أنعم بها عليهم فليس في ذلك ما يوجب حصول مقصود السائل إلا بسبب بين السائل وبينهم إما محبتهم وطاعتهم فيثاب على ذلك وإما دعاؤهم له فيستجيب الله شفاعتهم فيه

فالتوسل بالأنبياء والصالحين يكون بأمرين إما بطاعتهم واتباعهم وإما بدعائهم وشفاعتهم أما مجرد دعاء الداعي وتوسله بهم من غير طاعة منه لهم ولا شفاعة منهم له فلا ينفعه وإن أعظم جاه أحدهم عند الله تعالى

وقد بسطت هذه المسائل في غير هذا الموضع

والمقصود هنا أنه إذا كان السلف والائمة قالوا في سؤال الله بالمخلوق ما قد ذكرنا فكيف بسؤال المخلوق الميت سواء سئل الميت أن يسأل الله أو سئل قضاء الحاجة ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس إما عند قبر الميت وإما مع غيبته وصاحب الشريعة ﷺ حسم المادة وسد الذريعة بلعنة من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وأن لا يصلي عندها لله ولا يسأل إلا الله وحذر أمته ذلك فكيف إذا وقع نفس المحذور من الشرك وأسباب الشرك

وقد تقدم الكلام على الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد

وقد تبين أن أحد من السلف لم يكن يفعل ذلك إلا ما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى النزول في المواضع التي نزل فيها النبي ﷺ والصلاة في المواضع التي صلى فيها حتى أن النبي ﷺ توضأ وصب فضل وضوئه في أصل شجرة ففعل ابن عمر ذلك وهذا من ابن عمر تحر لمثل فعله فإنه قصد أن يفعل مثل فعله في نزوله وصلاته وصبه للماء وغير ذلك ولم يقصد ابن عمر الصلاة والدعاء في المواضع التي نزلها

والكلام هنا في ثلاث مسائل

إحداها أن التأسي به في صورة الفعل الذي فعله من غير أن يعلم قصده فيه أو مع عدم السبب الذي فعله فهذا فيه نزاع مشهور وابن عمر مع طائفة يقولون بأحد القولين وغيرهم يخالفهم في ذلك والغالب والمعروف عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون كفعل ابن عمر رضي الله عنهما وليس هذا مما نحن فيه الآن

ومن هذا الباب أنه لو تحرى رجل في سفره أن يصلي في مكان نزل فيه النبي ﷺ وصلى فيه إذا جاء وقت الصلاة فهذا من هذا القبيل

المسألة الثانية أن يتحرى تلك البقعة للصلاة عندها من غير أن يكون ذلك وقتا لصلاته بل أراد أن ينشىء الصلاة والدعاء لأجل البقعة فهذا لم ينقل عن ابن عمر ولا غيره وإن ادعى بعض الناس أن ابن عمر فعله فقد ثبت عن أبيه عمر أنه نهى عن ذلك وتواتر عن المهاجرين والأنصار أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك فيمتنع أن يكون فعل ابن عمر لو فعل ذلك حجة على أبيه وعلى المهاجرين والأنصار

والمسألة الثالثة أن لا تكون تلك البقعة في طريقه بل يعدل عن طريقه إليها إو يسافر إليها سفرا طويلا أو قصيرا مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو أو يذهب إلى الطور الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ليصلي فيه ويدعو أو يسافر إلى غير هذه الأمكنة من الجبال وغير الجبال التي يقال فيها مقامات الأنبياء وغيرهم أو مشهد مبني على أثر نبي من الأنبياء مثل مكان مبني على نعله ومثل ما في جبل قاسيون وجبل الفتح وجبل طور سيناء الذي ببيت المقدس ونحو هذه البقاع فهذا ما يعلم كل من كان عالما بحال رسول الله ﷺ وحال أصحابه من بعده أنهم لم يكونوا يقصدون شيئا من هذه الأمكنة فإن جبل حراء الذي هو أطول جبل بمكة كانت قريش تنتابه قبل الإسلام وتتعبد هناك ولهذا قال أبو طالب في شعره ... وراق ليرقى في حراء ونازل ...

وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ثم يرجع فيتزود لذلك حتى فجأه الوحي وهو بغار حراء فأتاه الملك فقال له اقرأ فقال لست بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ثم قال اقرأ فقلت لست بقارئ مرتين أو ثلاثا ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الانسان مالم يعلم فرجع بها رسول الله ﷺ ترجف بوادره الحديث بطوله

فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث ثم أنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه أقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم افضل الخلق ولم يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال إنها مساجد عائشة والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم والحديبية غربيه ثم إنه اعتمر من العام القابم عمرة القضية ودخل مكة هو وكثير من أصحابه وأقاموا بها ثلاثا ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة فقاتل هوازن بوادي حنين ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة فأتى بعمرته من الجعرانة إلى مكة ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع وحج معه جماهير المسلمين لم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله وهو في ذلك كله لا هو ولا أحد من اصحابه يأتي غار حراء ولا يزوره ولا شيئا من البقاع التي حول مكة ولم يكن هناك إلا بالمسجد الحرام وبين الصفا والمروة وبمنى ومزدلفة وعرفات وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة وضربت له القبة - يوم عرفة بنمرة المجاورة لعرفة ثم بعده خلفاءه الراشدين وغيرهم من السابقين الأولين لم يكونوا يسيرون إلى حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء

وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى ثاني اثنين إذ هما في الغار وهو غار بجبل ثور يماني مكة لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء ولا بنى رسول الله ﷺ بمكة مسجدا غير المسجد الحرام بل تلك المساجد كلها محدثة مسجد المولد وغيره ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى وقد بنى هناك مسجد

ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه لكان النبي ﷺ أعلم الناس بذلك وأسرعهم إليه ولكان علم أصحابه ذلك وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم وشرع من الدين مالم يأذن به الله

وإذا كان حكم مقام نبينا ﷺ في مثل غار حراء الذي ابتدىء فيه بالإنباء والإرسال وأنزل عليه فيه القرآن مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته على رسوله ﷺ

فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد أن يشرع قصدها والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك إذا كانت صحيحة ثابتة فكيف إذا علم أنها كذب أو لم يعلم صحتها

وهذا كما أنه قد ثبت باتفاق أهل العلم أن النبي ﷺ لما حج البيت لم يستلم من الأركان إلا الركنين اليمانيين فلم يستلم الركنين الشاميين ولا غيرهما من جوانب البيت ولا مقام إبراهيم ولا غيره من المشاعر وأما التقبيل فلم يقبل إلا الحجر الأسود

وقد اختلف في الركن اليماني فقيل يقبله وقيل يستلمه ويقبل يده

وقيل لا يقبله ولا يقبل يده والأقوال الثلاثة مشهورة في مذهب أحمد وغيره

والصواب أنه لا يقبله ولا يقبل يده فإن النبي ﷺ لم يفعل هذا ولا هذا كما تنطق به الأحاديث الصحيحه

ثم هذه مسألة نزاع وأما مسائل الإجماع فلا نزاع بين الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة العلم أنه لا يقبل الركنين الشاميين ولا شيئا من جوانب البيت فإن النبي ﷺ لم يستلم إلا الركنين اليمانيين وعلى هذا عامة السلف وقد روي أن ابن عباس ومعاوية طافا بالبيت فاستلم معاوية الأركان الأربعة فقال ابن عباس أن رسول الله ﷺ لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية ليس شيء من البيت متروكا فقال ابن عباس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فرجع إليه معاوية

وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله تعالى في القرآن وقال واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى

فإذا كان هذا بالسنة المتواترة وباتفاق الأئمة لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحه باليد فغيره من مقامات الأنبياء أولى أن لا يشرع تقبيلها بالفم ولا مسحها باليد

وأيضا فإن المكان الذي كان النبي ﷺ يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها

فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين ويصلي عليه لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله فكيف بما يقال أن غيره صلى فيه أو نام عليه

وإذا كان هذا ليس بمشروع في موضع قدميه للصلاة فكيف بالنعل الذي هو موضع قدميه للمشي وغيره هذا إذا كان النقل صحيحا فكيف بما لا يعلم صحته أو بما لا يعلم أنه كذب كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون وينحتون فيها موضع قدم ويزعمون عند الجهال أن هذا موضع قدم النبي ﷺ

وإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه وقدمي إبراهيم الخليل الذي لا شك فيه ونحن مع هذا قد أمرنا أن نتخذه مصلى فكيف بما يقال أنه موضع قدميه كذبا وافتراء عليه كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغير ذلك من المقامات

فإن قيل قد أمر الله أن تتخذ من مقام إبراهيم مصلى فيقاس عليه غيره

قيل له هذا الحكم خاص بمقام إبراهيم الذي بمكة سواء أريد به المقام عند الكعبة موضع قيام إبراهيم أو أريد به المشاعر عرفة ومزدلفة ومنى فلا نزاع بين المسلمين أن المشاعر خصت من العبادات بما لم يشركها فيه سائر البقاع كما خص البيت بالطواف فما خصت به تلك البقاع لا يقاس عليها غيرها وما لم يشرع فيها فأولى أن لا يشرع في غيرها

ونحن قد استدللنا على أن ما لم يشرع هناك من التقبيل والاستلام أولى أن لا يشرع في غيرها ولا يلزم أن يشرع في غير تلك البقاع منه مثل ما شرع فيها

ومن ذلك البنيه التي على جبل عرفات التي يقال إنها قبة آدم فإن هذه لا يشرع قصدها للصلاة والدعاء باتفاق العلماء بل نفس رقي الجبل الذي بعرفات الذي يقال له جبل الرحمة واسمه الأول على وزن هلال ليس مشروعا باتفاقهم وإنما السنة الوقوف بعرفات إما عند الصخرات حيث وقف النبي ﷺ وإما بسائر عرفات فإن النبي ﷺ قال عرفة كلها موقف وادفعوا عن بطن عرنة

وكذلك سائر المساجد المبنية هناك كالمساجد المبنية عند الجمرات وبجنب مسجد الخيف مسجد يقال له غار المرسلات فيه نزلت سورة المرسلات وفوق الجبل مسجد يقال له مسجد الكبش ونحو ذلك لم يشرع النبي ﷺ قصد شيء من هذه البقاع لصلاة ولا دعاء ولا غير ذلك

وأما تقبيل شيء من ذلك والتمسح به فالأمر فيه أظهر إذ قد علم العلماء بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا ليس من شريعة رسول الله ﷺ

وقد ذكر طائفة من المصنفين في المناسك استحباب زيارة مساجد مكة وما حولها وكنت قد كتبتها في منسك كتبته قبل ان أحج في أول عمري لبعض الشيوخ جمعته من كلام العلماء ثم تبين لي أن هذا كله من البدع المحدثة التي لا أصل لها في الشريعة وأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يفعلوا شيئا من ذلك وأن أئمة العلم والهدى ينهون عن ذلك وأن المسجد الحرام هو المسجد الذي شرع لنا قصده للصلاة والدعاء والطواف وغير ذلك من العبادات ولم يشرع لنا قصد مسجد بعينه بمكة سواه ولا يصلح أن يجعل هناك مسجد يزاحمه في شيء من الأحكام وما يفعله الرجل في مسجد من تلك المساجد من دعاء وصلاة وغير ذلك إذا فعله في المسجد الحرام كان خيرا له بل هذا سنة مشروعة وأما قصد مسجد غيره هناك تحريا لفضله فبدعة غير مشروعة

وأصل هذا أن المساجد التي تشد الرحال إليها هي المساجد الثلاثة كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما أن النبي ﷺ قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا وقد روي هذا من وجوه أخرى وهو حديث ثابت عن النبي ﷺ باتفاق أهل العلم متلقى بالقبول عنه

فالسفر إلى هذه المساجد الثلاثة للصلاة فيها والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف من الاعمال الصالحة وما سوى هذه المساجد لا يشرع السفر إليه باتفاق أهل العلم حتى مسجد قباء يستحب قصده من المكان القريب كالمدينة ولا يشرع شد الرحال إليه فإن في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان النبي ﷺ يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيا وراكبا وكان ابن عمر يفعله وفي لفظ لمسلم فيصلي فيه ركعتين وذكره البخاري بغير إسناد

وذلك أن الله تعالى نهاه عن القيام في مسجد الضرار فقال والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم

وكان مسجد الضرار قد بني لأبي عامر الفاسق الذي كان يقال له أبو عامر الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وكان المشركون يعظمونه فلما جاء الإسلام حصل له من الحسد ما أوجب مخالفته للنبي ﷺ وفراره إلى الكافرين فقام طائفة من المنافقين يبنون هذا المسجد وقصدوا أن يبنوه لأبي عامر هذا والقصة مشهورة في ذلك فلم يبنوه لأجل فعل ما أمر الله به ورسوله بل لغير ذلك

فدخل في معنى ذلك من بنى أبنية يضاهي بها مساجد المسلمين لغير العبادات المشروعة من المشاهد وغيرها لا سيما إذا كان فيها من الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين والإرصاد لأهل النفاق والبدع المحادين لله ورسوله ما يقوى بها شبهها بمسجد الضرار فقال الله تعالى لنبيه ﷺ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه وكان مسجد قباء أسس على التقوى ومسجده أعظم في تأسيسه على التقوى من مسجد قباء كما ثبت في الصحيحين عنه أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال مسجدي هذا فكلا المسجدين أسس على التقوى ولكن اختص مسجده بأنه أكمل في هذا الوصف من غيره فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي مسجد قباء يوم السبت

وفي السنن عن أسيد بن حضير الأنصاري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال الصلاة في مسجد قباء كعمرة رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن غريب

وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة رواه أحمد والنسائي وابن ماجة

قال بعض العلماء قوله من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء تنبيه على أنه لا يشرع قصده بشد الرحال بل إنما يأتيه الرجل من بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد مصره دون المساجد التي يسافر إليها

وأما المساجد الثلاثة فاتفق العلماء على استحباب إتيانها للصلاة ونحوها ولكن لو نذر ذلك هل يجب بالنذر فيه قولان للعلماء

أحدهما أنه لا يجب بالنذر إلا إتيان المسجد الحرام خاصة وهذا أحد قولي الشافعي وهو مذهب أبي حنيفة وبناء على أصله في أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع

والقول الثاني وهو مذهب مالك وأحمد وغيرهما أنه يجب إتيان المساجد الثلاثة بالنذر لكن إن أتى الفاضل أغناه عن إتيان المفضول فإذا نذر إتيان مسجد المدينة ومسجد إيلياء أغناء إتيان المسجد الحرام وإن نذر إتيان مسجد إيلياء أغناه إتيان أحد مسجدي الحرمين

وذلك أنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه وهذا يعم كل طاعة سواء كان جنسها واجبا أو لم يكن وإتيان الأفضل إجراء للحديث الوارد في ذلك

وليس هذا موضع تفصيل هذه المسألة بل المقصود أنه لا يشرع السفر إلى مسجد غير الثلاثة ولو نذر ذلك لم يجب فعله باتفاق الأئمة وهل عليه كفارة يمين على قولين مشهورين

وليس بالمدينة مسجد يشرع إتيانه إلا مسجد قباء وأما سائر المساجد فلها حكم المساجد العامة ولم يخصها النبي ﷺ بإتيان ولهذا كان الفقهاء من أهل المدينة لا يقصدون شيئا من تلك الأماكن إلا قباء خاصة

وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ﷺ دعا في مسجد الفتح ثلاثا يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء فاستجيب له يوم الاربعاء بين الصلاتين فعرف البشر في وجهه قال جابر فلم ينزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة وفي إسناد هذا الحديث كثير بن زيد وفيه كلام يوثقه ابن معين تارة ويضعفه أخرى

وهذا الحديث يعمل به طائفة من اصحابنا وغيرهم فيتحرون الدعاء في هذا كما نقل عن جابر ولم ينقل عن جابر رضي الله عنه أنه تحرى الدعاء في المكان بل في الزمان

فإذا كان هذا في المساجد التي صلى فيها النبي ﷺ وبنيت بإذنه ليس فيها ما يشرع قصده بخصوصه من غير سفر إليه إلا مسجد قباء فكيف بما سواها
فصل

وأما المسجد الأقصى فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال وكان المسلمون لما فتحوا بيت المقدس على عهد عمر بن الخطاب حين جاء عمر إليهم فسلم النصارى إليه البلد دخل إليه فوجد على الصخرة زبالة عظيمة جدا كانت النصارى ألقتها عليها معاندة لليهود الذين يعظمون الصخرة ويصلون إليها فأخذ عمر في ثوبه منها وأتبعه المسلمون في ذلك ويقال أنه سخر لها الأنباط حتى نظفها ثم قال لكعب الأحبار اين ترى أن أبني مصلى المسلمين فقال ابنه خلف الصخرة فقال يا ابن اليهودية خالطتك يهودية أو كما قال فقال عمر ابنيه في صدر المسجد فإن لنا صدور المساجد فبناه في قبلي المسجد وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم الاقصى والأقصى اسم للمسجد كله ولا يسمى هو ولا غيره حرما وإنما الحرم بمكة والمدينة خاصة وفي وادي وج الذي بالطائف نزاع بين العلماء

فبنى عمر المصلى الذي هو في القبلة ويقال أن تحته درجا كان يصعد منها إلى أمام الأقصى فبناه على الدرج حيث لم يصل إلا أهل الكتاب ولم يصل عمر ولا المسلمون عند الصخرة ولا تمسحوا بها ولا قبلوها بل يقال إن عمر صلى عند محراب داود عليه السلام الخارج

وقد ثبت أن عبد الله بن عمر كان إذا أتى بيت المقدس دخل إليه وصلى فيه ولا يقرب الصخرة ولا يأتيها ولا يقرب شيئا من تلك البقاع وكذلك نقل عن غير واحد من السلف المعتبرين كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي وسفيان الثوري وغيرهم

وذلك أن سائر بقاع المسجد لا مزية لبعضها عن بعض إلا ما بنى عمر رضي الله عنه لمصلى المسلمين

وإذا كان المسجد الحرام ومسجد المدينة اللذان هما أفضل من المسجد الأقصى بالإجماع فأحدهما قد ثبت في الصحيح عنه ﷺ أنه قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام والآخر هو المسجد الذي أوجب الله حجه والطواف له فيه وجعله قبلة لعباده المؤمنين ومع هذا فليس فيه ما يقبل بالفم ولا ما يستلم باليد إلا ما جعله الله في الأرض بمنزلة اليمين وهو الحجر الأسود فكيف يكون في المسجد الأقصى ما يستلم أو يقبل

وكانت الصخرة مكشوفة ولم يكن أحد من الصحابة لا ولاتهم ولا علماؤهم يخصها بعبادة وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان رضي الله عنهما مع حكمهما على الشام وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه وإن كان لم يحكم عليها ثم كذلك في إمارة معاوية وابنه وابن ابنه

فلما كان في زمن عبد الملك وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى كان هو الذي بنى القبة على الصخرة وقد قيل أن الناس كانوا يقصدون الحج فيجتمعون بابن الزبير أو يقصدونه بحجة الحج فعظم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها وجعل عليها من الكسوة في الشتاء والصيف ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير والناس على دين الملوك وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا وصار بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار عند عبد الملك بن مروان وعروة بن الزبير حاضر أن الله قال للصخرة أنت عرشي الأدنى فقال عروة يقول الله تعالى وسع كرسيه السموات والأرض وأنت تقول أن الصخرة عرشه وأمثال هذا ولا ريب أن الخلفاء الراشدين لم يبنوا هذه القبة ولا كان الصحابة يعظمون الصخرة ولا يتحرون الصلاة عندها حتى ابن عمر رضي الله عنهما مع كونه كان يأتي من الحجاز إلى المسجد الأقصى كان لا يأتي الصخرة وذلك أنها كانت قبلة ثم نسخت وهي قبلة اليهود فلم يبق في شريعتنا يوجب تخصيصها بحكم كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت وفي تخصيصها بالتعظيم مشابه لليهود وقد تقدم كلام العلماء في يوم السبت وعاشوراء ونحو ذلك

وقد ذكر طائفة من متأخري الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أن اليمين تغلظ ببيت المقدس بالتحليف عند الصخرة كما تغلظ في المسجد الحرام بالتحليف بين الركن والمقام وكما تغلظ في مسجده ﷺ بالتحليف عند منبره لكن ليس لهذا أصل في كلام أحمد ولا غيره من الأئمة بل السنة أن تغلظ اليمين فيه كما تغلظ في سائر المساجد عند المنبر ولا تغلظ اليمين بالتحليف عند ما لم يشرع للمسلمين تعظيمه كما لا تغلظ بالتحليف عند المشاهد ومقامات الأنبياء ونحو ذلك ومن فعل ذلك فهو ضال مبتدع مخالف للشريعة

وقد صنف طائفة من الناس مصنفات من فضائل بيت المقدس وغيره من البقاع التي بالشام وذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب وعمن أخذ عنهم مالا يحل للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم وأمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليات كعب الأحبار وكان الشاميون قد أخذوا عنه كثيرا من الإسرائيليات وقد قال معاوية رضي الله عنه ما رأينا من هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب أمثل من كعب وإن كنا لنبلو عليه الكذب أحيانا وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه وإما أن يحدثكم بحق فتكذبوه

ومن العجب أن هذه الشريعة المحفوظة المحروسة مع هذه الأمة المعصومة التي لا تجتمع على ضلالة إذا حدث بعض أعيان التابعين عن النبي ﷺ بحديث كعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأبي العالية ونحوهم وهم من خيار علماء المسلمين وأكابر أئمة الدين توقف أهل العلم في مراسيلهم فمنهم من يرد المراسيل مطلقا ومنهم من يتقبلها بشروط ومنهم من يميز بين من عادته أن لا يرسل إلا عن ثقة كسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي ومحمد ابن سيرين وبين من عرف عنه أنه قد يرسل عن غير ثقة كأبي العالية والحسن وهؤلاء ليس بين أحدهم وبين النبي ﷺ إلا رجل أو رجلان أو ثلاثة مثلا وأما ما يوجد في كتب المسلمين في هذه الأوقات من الأحاديث التي يذكرها صاحب الكتاب مرسلة فلا يجوز الحكم بصحتها باتفاق العلماء إلا أن يعرف أن ذلك من نقل أهل العلم بالحديث الذين لا يحدثون إلا بما صح كالبخاري في المعلقات التي يجوز ! فيها بأنها صحيحة عنده وما وقفه كقوله وقد ذكر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ونحو ذلك فإنه حسن عنده هذا وليس تحت أديم السماء بعد القرآن كتاب أصح من البخاري فكيف بما ينقله كعب الأحبار وأمثاله عن الأنبياء وبين كعب وبين النبي الذي ينقل عنه ألف سنة وأكثر وأقل وهو لم يسند ذلك عن ثقة بعد ثقة بل غايته أن ينقل عن بعض الكتب التي كتبها شيوخ اليهود وقد أخبر الله عن تبديلهم وتحريفهم فكيف يحل للمسلم أن يصدق شيئا من ذلك بمجرد هذا النقل بل الواجب أن لا يصدق ذلك ولا يكذبه أيضا إلا بدليل يدل على كذبه وهكذا أمرنا النبي ﷺ

وفي هذه الإسرائيليات مما هو كذب على الأنبياء أو ما هو منسوخ في شريعتنا مالا يعلمه إلا الله

ومعلوم أن أصحاب النبي ﷺ من السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان قد فتحوا البلاد بعد موت النبي ﷺ وسكنوا بالشام والعراق ومصر وغير هذه الأمصار وهم كانوا أعلم بالدين وأتبع له ممن بعدهم وليس لأحد أن يخالفهم فيما كانوا عليه

فما كان من هذه البقاع لم يعظموه أو لم يقصدوا تخصيصه بصلاة أو دعاء أو نحو ذلك لم يكن لنا أن نخالفهم في ذلك وإن كان بعض من جاء بعدهم من أهل الفضل والذين فعل ذلك لأن اتباع سبيلهم أولى من اتباع سبيل من خالف سبيلهم وما من أحد نقل عنه ما يخالف سبيلهم إلا وقد نقل عن غيره ممن هو أعلم منه وأفضل أنه خالف سبيل هذا المخالف وهذه جملة جامعة لا يتسع هذا الموضع لتفصيلها

وقد ثبت في الصحيح أن النبي ﷺ لما أتى بيت المقدس ليلة الاسراء صلى فيه ركعتين ولم يصل بمكان غيره ولا زاره وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح وفيه ما هو في السنن أو في المسانيد وفيه ما هو ضعيف وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات مثل ما يرويه بعضهم فيه أن النبي ﷺ قال له جبرائيل هذا قبر أبيك إبراهيم انزل فصل فيه وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه

وأعجب من ذلك أنه قد روي فيه أنه قيل له في المدينة انزل فصل ههنا قبل أن يبني مسجده وإنما كان المكان مقبرة المشركين والنبي ﷺ بعد الهجرة إنما نزل هناك لما بركت ناقته هناك فهذا ونحوه من الكذب المختلق باتفاق أهل المعرفة وبيت لحم كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين سواء كان مولد عيسى أو لم يكن بل قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام لم يكن في الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان من يأتيه للصلاة عنده ولا الدعاء ولا كانوا يقصدونه للزيارة أصلا وقد قدم المسلمون إلى الشام غير مرة مع عمر بن الخطاب واستوطن الشام خلائق من الصحابة وليس فيهم من فعل شيئا من هذا ولم يبن المسلمون عليه مسجدا أصلا لكن لما استولى النصارى على هذه الأمكنة في أواخر المائة الرابعة لما أخذوا البيت المقدس بسبب استيلاء الرافضة على الشام لما كانوا ملوك مصر والرافضة أمة مخذولة ليس لها عقل صحيح ولا نقل صريح ولا دين مقبول ولا دنيا منصورة قويت النصارى وأخذت السواحل وغيرها من الرافضة وحينئذ نقبت النصارى حجرة الخليل صلوات الله عليه وجعلت لها بابا وأثر النقب ظاهر في الباب فكان اتخاذ ذلك معبدا مما أحدثته النصارى ليس من عمل سلف الأمة وخيارها
فصل

وأصل دين المسلمين أنه لا تختص بقعة بقصد العبادة فيها إلا المساجد خاصة وما عليه المشركون وأهل الكتاب من تعظيم بقاع للعبادة غير المساجد كما كانوا في الجاهلية يعظمون حراء ونحوه من البقاع هو مما جاء الإسلام بمحوه وإزالته ونسخه

ثم المساجد جميعها تشترك في العبادات فكل ما يفعل في مسجد يفعل في سائر المساجد إلا ما خص به المسجد الحرام من الطواف ونحوه فإن خصائص المسجد الحرام لا يشاركه فيها شيء من المساجد كما أنه لا يصلى إلى غيره

وأما مسجد النبي ﷺ والمسجد الأقصى فإن ما يشرع فيهما من العبادات يشرع في سائر المساجد كالصلاة والدعاء والذكر والقراءة والاعتكاف ولا يشرع فيهما جنس مالا يشرع في غيرهما لا تقبيل شيء ولا استلامه ولا الطواف به ونحو ذلك لكنهما أفضل من غيرهما فالصلاة فيهما تضاعف على الصلاة في غيرهما

أما مسجد النبي ﷺ فقد ثبت في الصحيح أن الصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وروي هذا عن النبي ﷺ من غير وجه

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاةفي غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ص - قال صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام

وفي مسلم أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن امرأة اشتكت شكوى فقالت إن شفاني الله لأخرجن فلأصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة زوج النبي ﷺ فأخبرتها بذلك فقالت اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا مسجد الكعبة

وفي المسند عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله ﷺ صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي بمائة صلاة قال أبو عبد الله المقدسي إسناده على رسم الصحيح

ولهذا جاءت الشريعة بالاعتكاف الشرعي في المساجد بدل ما كان يفعل قبل الإسلام من المجاورة بغار حراء ونحوه فكان النبي ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى قبضه الله

والاعتكاف من العبادات المشروعة بالمساجد باتفاق الأئمة كما قال تعالى ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد أي في حال عكوفكم في المساجد لا تباشروهن وإن كانت المباشرة خارج المسجد ولهذا قال الفقهاء إن ركن الاعتكاف لزوم المسجد لعبادة الله ومحظوره الذي يبطله مباشرة النساء

فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر تمثال أو غير تمثال أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي أو غير نبي أو مقام نبي أو غير نبي فليس هذا من دين المسلمين بل هو من جنس دين المشركين الذين أخبر الله عنهم بما ذكره في كتابه حيث قال ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السموات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون

وقال تعالى واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي أنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم

وقال تعالى وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ماهم فيه وباطل ما كانوا يعملون

فهذا عكوف المشركين وذاك عكوف المسلمين

فعكوف المؤمنين في المساجد لعبادة الله وحده لا شريك له وعكوف المشركين على ما يرجونه ويخافونه من دون الله ومن يتخذونهم شركاء لله وشفعاء عند الله

فإن المشركين لم يكن أحد منهم يقول إن العالم له خالقان ولا إن الله معه إله يساويه في صفاته هذا لم يقله أحد من المشركين بل كانوا يقرون بأن خالق السموات والأرض واحد كما أخبر الله عنهم بقوله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقوله تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون

وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فقال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم

وكانوا يتخذون آلهتهم وسائط تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم كما قال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض

وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض

وقال تعالى عن صاحب يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون

وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون

وقال تعالى مالكم من دونه من ولي ولا شفيع

وقال تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

وهذا الموضع افترق الناس فيه ثلاث فرق طرفان ووسط

فالمشركون ومن وافقهم من مبتدعة أهل الكتاب كالنصارى ومبتدعة هذه الأمة اثبتوا الشفاعة التي نفاها القرآن

والخوارج والمعتزلة أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته بل أنكر طائفة من أهل البدع انتفاع الانسان بشفاعة غيره ودعائه كما أنكروا انتفاعه بصدقة غيره وصيامه عنه وأنكروا الشفاعة بقوله تعالى من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وبقوله تعالى ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع وغير ذلك

وأما سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم من أهل السنة والجماعة فأثبتوا ما جاءت به السنة عن النبي ﷺ من شفاعته لأهل الكبائر من أمته وغير ذلك من أنواع شفاعاته وشفاعة غيره من الأنبياء والملائكة

وقالوا إنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد وأقروا بما جاءت به السنة من انتفاع الإنسان بدعاء غيره وشفاعته والصدقة عنه بل والصوم عنه في أصح قولي العلماء كما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة وما كان في معنى الصوم

وقالوا إن الشفيع يطلب من الله ويسأله ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه قال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وقال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى

وقد ثبت في الصحيح أن سيد الشفعاء ﷺ إذا طلبت منه الشفاعة بعد أن تطلب من آدم وأولي العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى فيردونها إلى محمد ﷺ العبد الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال فأذهب إلى ربي فإذا رأيته خررت له ساجدا فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن فيقول أي محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فاقول رب أمتي رب أمتي فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة







********************20.********************


قتضاء الصراط المستقيم/20

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/19 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية











وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا

قال طائفة من السلف كان أقوام يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية وقد أخبر فيها أن هؤلاء المسؤلين كانوا يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه

وقد ثبت في الصحيح أن أبا هريرة قال يا رسول الله أي الناس أسعد بشفاعتك يوم القيامة قال يا ابا هريرو لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله

فكلما كان الرجل أتم إخلاصا لله كان أحق بالشفاعة

وأما من علق قلبه بأحد من المخلوقين يرجوه ويخافه فهذا من أبعد الناس عن الشفاعة

فشفاعة المخلوق عند المخلوق تكون بإعانة الشافع للمشفوع له بغير إذن المشفوع عنده بل يشفع إما لحاجة المشفوع عنده إليه وإما لخوفه منه فيحتاج أن يقبل شفاعته عنده والله تعالى غني عن العالمين وهو وحده سبحانه يدبر العالمين كلهم فما من شفيع إلا من بعد إذنه فهو الذي يأذن للشفيع في الشفاعة وهو يقبل شفاعته كما يلهم الداعي الدعاء ثم يجيب دعاءه فالأمر كله له

فإذا كان العبد يرجو شفيعا من المخلوقين فقد لا يختار ذلك الشفيع أن يشفع له وإن اختار فقد لا يأذن الله له في الشفاعة ولا يقبل شفاعته

وأفضل الخلق محمد ﷺ ثم إبراهيم وقد امتنع النبي ﷺ أن يستغفر لعمه أبي طالب بعد أن قال لأستغفرن لك مالم أنه عنك وقد صلى على المنافقين ودعا لهم فقيل له ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره وقال الله له أولا إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم فقال لو أعلم اني لو زدت على السبعين يغفر لهم لزدت فأنزل الله سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم

وقال تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود

ولما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه بعد وعده بقوله ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم واللذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وقال تعالى ما كان للنبي واللذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه

والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم وللمؤمنين على المؤمنين حقوق مشتركة

ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال كنت رديف النبي ﷺ فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم

فالله تعالى مستحق أن يعبد لا يشرك به شيء وهذا هو أصل التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزلت به الكتب

قال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت

ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه ولا نتقي إلا إياه كما قال تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون

فجعل الطاعة لله وللرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده وكذلك قال تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى ربنا راغبون

فجعل الإيتاء لله وللرسول كما قال تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فالحلال ما حلله الرسول والحرام ما حرمه الرسول والدين ما شرعه الرسول

وجعل التحسب بالله وحده فقال تعالى وقالوا حسبنا الله ولم يقل ورسوله كما قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل وقال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين أي حسبك وحسب من اتبعك الله فهو وحده كافيكم ومن ظن أن معناها حسبك الله والمؤمنون فقد غلط غلطا عظيما لوجوه كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع

ثم قال وقالوا سيؤتينا الله من فضله ورسوله فجعل الفضل لله وذكر الرسول في الإيتاء لأنه لا يباح إلا ما أباحه الرسول فليس لأحد أن يأخذ كل ما تيسر له إن لم يكن مباحا في الشريعة

ثم قال إنا إلى الله راغبون فجعل الرغبة إلى الله وحده دون ما سواه كما قال تعالى في سورة الإنشراح فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب فأمر بالرغبة إليه

ولم يأمر الله قط مخلوقا أن يسأل مخلوقا وإن كان قد أباح ذلك في بعض المواضع لكنه لم يأمر به بل الأفضل للعبد أن لا يسأل قط إلا الله كما ثبت في الصحيح في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فجعل من صفاتهم أنهم لا يسترقون أي لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم ولم يقل لا يرقون وإن كان ذلك قد روي في بعض طرق مسلم فهو غلط فإن النبي ﷺ رقى نفسه وغيره لكنه لم يسترق فالمسترقي طالب الدعاء من غيره بخلاف الراقي لغيره فإنه داع له

وقد قال ﷺ لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله

فالله هو الذي يتوكل عليه ويستعان به ويستغاث به ويخاف ويرجى ويعبد وتنيب القلوب إليه لا حول ولا قوة إلا به ولا منجى منه إلا إليه والقرآن كله يحقق هذا الأصل

والرسول ﷺ يطاع ويحب ويرضى به ويسلم إليه حكمه ويعزر ويوقر ويتبع ويؤمن به وبما جاء به قال تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى والله ورسوله أحق ان يرضوه وقال تعالى قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره

وفي الصحيحين عنه ﷺ قال ثلاث من كن فيه وجد حلاة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار وقال والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين وقال له عمر يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي قال لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك قال فلأنت أحب إلي من نفسي قال الآن يا عمر

وقال تعالى قل أن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقال تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله أو تعزروه وتوقروه أي الرسول خاصة وتسبحوه بكرة وأصيلا أي تسبحوا الله تعالى

فالإيمان بالله والرسول والتعزير والتوقير للرسول والتسبيح لله وحده

وهذا الأصل مبسوط في غير هذا الموضع

وقد بعث الله محمدا ﷺ بتحقيق التوحيد وتجريده ونفي الشرك بكل وجه حتى في الألفاظ كقوله ﷺ لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء محمد بل ما شاء الله ثم شاء محمد وقال له رجل ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده

والعبادات التي شرعها الله كلها تتضمن إخلاص الدين كله لله تحقيقا لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة

فالصلاة لله وحده والصدقة لله وحده والصيام لله وحده والحج لله وحده إلى بيت الله وحده فالمقصود من الحج عبادة الله وحده في البقاع التي أمر الله بعبادته فيها ولهذا كان الحج شعار الحنيفية حتى قال طائفة من السلف حنفاء لله أي حجاجا فإن اليهود والنصارى لا يحجون البيت

قال طائفة من السلف لما أنزل الله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه قالت اليهود والنصارى نحن مسلمون فأنزل الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا ألا نحج فقال تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين

وقوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا الآية عام في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عبادة المؤمنون كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين

قال الله تعالى في حق نوح واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين

وقال تعالى في إبراهيم وإسرائيل ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وآله آبائك إبراهيم وإسحاق آلها واحدا ونحن له مسلمون

وقال تعالى عن يوسف رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

وقال تعالى عن موسى وقومه وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين

وقال في أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار الآية

وقال تعالى عن بلقيس رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين

وقال تعالى عن أمة عيسى وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

وقال تعالى عنهم أيضا ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين

وقال تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا

وقال تعالى وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وقد فسر إسلام الوجه لله بما يتضمن إخلاص قصد العبد لله بالعبادة له وحده وهو محسن بالعمل الصالح المشروع المأمور به

وهذان الأصلان جماع الدين أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع

وقال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا

وكان عمر بن الخطاب يقول في دعائه اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا

قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا قال أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي ما اصوبه وأخلصه قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة

وهذان الأصلان هما تحقيق الشهادتين اللتين هما رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله فإن الشهادة لله بأنه لا إله إلا هو تتضمن إخلاص الألوهية له فلا يجوز أن يتأله القلب غيره لا بحب ولا خوف ولا رجاء ولا إجلال ولا إكبار ولا رغبة ولا رهبة بل لا بد أن يكون الدين كله لله كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله

فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغيره كان في ذلك من الشرك بحسب ذلك

وكمال الدين كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان

فالمؤمنون يحبون الله ولله والمشركون يحبون مع الله كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من ون الله أندادا يحبونهم كحب الله واللذين آمنوا أشد حبا لله

والشهادة بأن محمدا رسول الله تتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر فما أثبته وجب إثباته وما نفاه وجب نفيه كما يجب على الخلق أن يثبتوا ما أثبته الرسول لربه من الأسماء والصفات وينفوا عنه ما نفاه عنه من مماثلة المخلوقات فيخلصون من التعطيل والتمثيل ويكونون على خير عقيدة في إثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل وعليهم أن يفعلوا ما أمرهم به وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ويحللوا ما أحله ويحرموا ما حرمه فلا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله ولهذا ذم الله المشركين في سورة الأنعام والأعراف وغيرهما لكونهم حرموا مالم يحرمه الله ولكونهم شرعوا دينا لم يأذن به الله كما في قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى آخر السورة

وما ذكر الله في صدر سورة الأعراف وكذلك قوله تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله

وقد قال تعالى لنبيه ﷺ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فأخبره أنه أرسله داعيا إليه بإذنه

فمن دعا إلى غير الله فقد أشرك ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع والشرك بدعة والمبتدع يؤول إلى الشرك ولم يوجد مبتدع إلا وفيه نوع من الشرك كما قال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم

وقد قال تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

فقرن بعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر أنهم لا يحرمون ما حرمه الله ورسوله ولا يدينون دين الحق

والمؤمنون صدقوا الرسول فيما أخبر به عن الله وعن اليوم الآخر فآمنوا بالله واليوم الآخر وأطاعوه فيما أمر ونهى وحلل وحرم فحرموا ما حرم الله ورسوله ودانوا دين الحق فإن الله بعث الرسول يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فأمرهم بكل معروف ونهاهم عن كل منكر وأحل لهم كل طيب وحرم عليهم كل خبيث

ولفظ الإسلام يتضمن الاستسلام والانقياد ويتضمن الإخلاص مأخوذ من قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل فلا بد في الإسلام من الاستسلام لله وحده وترك الاستسلام لما سواه وهذا حقيقة قولنا لا إله إلا الله فمن استسلم لله ولغير الله فهو مشرك والله لا يغفر أن يشرك به ومن لم يستسلم له فهو مستكبر عن عبادته وقد قال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين

وثبت عنه ﷺ في الصحيح أنه قال لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان فقيل له يا رسول الله الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا أفمن الكبر ذلك قال لا إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس بطر الحق جحده ودفعه وغمط الناس ازدراؤهم واحتقارهم

فاليهود موصوفون بالكبر والنصارى موصوفون بالشرك

قال الله تعالى في نعت اليهود أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم

وقال في نعت النصارى أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون

ولهذا قال تعالى في سياق الكلام مع النصارى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وقال تعالى في سياق تقريره للإسلام وخطابه لأهل الكتاب قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسمعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق إلى قوله وما الله بغافل عما تعملون

ولما كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدا وإن تنوعت شرائعه قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات و إن أولى الناس بابن مريم لأنا فليس بيني وبينه نبي فدينهم واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له وهو يعبد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت

وتنوع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوع الشريعة الواحدة فكما أن دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا ﷺ هو دين واحد مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة كما أمر النبي المسلمين بذلك بعد الهجرة ببضعة عشر شهرا وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة ويحرم استقبال الصخرة

فالدين واحد وإن تنوعت القبلة في وقتين من أوقاته ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت ثم نسخ ذلك وشرع لنا الجمعة فكان الاجتماع يوم السبت واجبا إذ ذاك ثم صار الواجب هو الاجتماع يوم الجمعة وحرم الاجتماع يوم السبت

فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلما ومن لم يدخل في شريعة محمد ﷺ بعد النسخ لم يكن مسلما

ولم يشرع الله لنبي من الأنبياء أن يعبد غير الله البتة قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه

فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه

وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون

وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون

ثم قال منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون

فأهل الإشراك متفرقون وأهل الإخلاص متفقون

وقد قال تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم فأهل الرحمة مجتمعون متفقون والمشركون فرقوا دينهم وكانوا شيعا

ولهذا تجد ما أحدث من الشرك والبدع يفترق أهله فكان لكل قوم من مشركي العرب طاغوت يتخذونه ندا من دون الله فيقربون له ويستعينون به ويشركون به وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء وهؤلاء ينفرون عن طاغوت هؤلاء بل قد يكون لأهل هذا الطاغوت شريعة ليست للآخرين

كما كان أهل المدينة يهلون لمناة الثالثة الأخرى ويتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة حتى أنزل الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية

وهكذا تجد من يتخذ شيئا من نحو هذا الشرك كالذين يتخذون القبور وآثار الأنبياء والصالحين مساجد تجد كل قوم يقصدون بالدعاء والاستعانة والتوجه من لا تعظمه الطائفة الأخرى بخلاف أهل التوحيد فإنهم يعبدون الله وحده ولا يشركون به شيئا في بيوته التي قد أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه مع أنه قد جعل لهم الأرض كلها مسجدا وطهورا وإن حصل بينهم تنازع في شيء مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يوجب ذلك لهم تفرقا ولا اختلافا بل هم يعلمون أن المصيب منهم له أجران وأن المجتهد المخطيء له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور له والله هو معبودهم وحده إياه يعبدون وعليه يتوكلون وله يخشون ويرجون وبه يستعينون ويستغيثون وله يدعون ويسألون فإن خرجوا إلى الصلاة في المساجد كانوا مبتغين فضلا منه ورضوانا كما قال تعالى في نعتهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا

وكذلك إذا سافروا إلى أحد المساجد الثلاثة لا سيما المسجد الحرام الذي أمروا بالحج إليه قال تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا فهم يؤمون بيته يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا لا يرغبون إلى غيره ولا يرجون سواه ولا يخافون إلا إياه

وقد زين الشيطان لكثير من الناس سوء عملهم واستزلهم عن إخلاص الدين لربهم إلى أنواع من الشرك فيقصدون بالسفر والزيارة رضى غير الله والرغبة إلى غيره ويشدون الرحال إما إلى قبر نبي أو صاحب أو صالح أو ما يظنون أنه نبي أو صاحب أو صالح داعين له راغبين إليه

ومنهم من يظن أن المقصود من الحج هو هذا فلا يستشعر إلا قصد المخلوق المقبور

ومنهم من يرى أن ذلك أنفع له من حج البيت

ومن شيوخهم من يقصد حج البيت فإذا وصل إلى المدينة رجع مكتفيا بزيارة القبر وظن أن هذا أبلغ

ومن جهالهم من يتوهم أن زيارة القبور واجبة

وأكثرهم يسأل الميت المقبور كما يسأل الحي الذي لا يموت فيقول يا سيدي فلان اغفر لي وارحمني وتب علي او يقول اقض عني الدين وانصرني على فلان وأنا في حسبك وجوارك

وقد ينذرون أولادهم للمقبور ويسيبون له السوائب من البقر والغنم وغيرها كما كان المشركون يسيبون السوائب لطواغيتهم قال تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام وقال تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

ومن السدنة من يضلل الجهال فيقول أنا أذكر حاجتك لصاحب الضريح وهو يذكرها للنبي يذكرها لله

ومنهم من يعلق على القبر المكذوب أو غير المكذوب من الستور والثياب ويضع عنده من مصوغ الذهب والفضة مما قد أجمع المسلمون على أنه من دين المشركين وليس من دين الإسلام والمسجد الجامع معطل خراب صورة ومعنى

وما أكثر من يعتقد من هؤلاء أن صلاته عند القبر المضاف إلى بعض المعظمين مع أنه كذب في نفس الأمر أعظم من صلاته في المساجد الخالية من القبور والخالصة لله فيزدحمون للصلاة في مواضع الإشراك المبتدعة التي نهى النبي ﷺ عن اتخاذها مساجد وإن كانت على قبور الأنبياء ويهجرون الصلاة في البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه والتي قال فيها إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين

ومن أكابر شيوخهم من يقول الكعبة في الصلاة قبلة العامة والصلاة إلى قبر الشيخ فلان مع استدبار الكعبة قبلة الخاصة

وهذا وأمثاله من الكفر الصريح باتفاق علماء المسلمين

وهذه المسائل التي تحتمل من البسط وذكر أقوال العلماء فيها ودلائلها أكثر مما كتبناه في هذا المختصر

وقد كتبنا في ذلك في غير هذا الموضع مالا يتسع له هذا الموضع

وإنما نبهنا فيه على رؤس المسائل وحبس الدلائل والتنبيه على مقاصد الشريعة وما فيها من إخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له وما سدته من الذريعة إلى الشرك دقه وجله فإن هذا هو أصل الدين وحقيقة دين المرسلين وتوحيد رب العالمين

وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر والكلام ومن أهل الإرادة والعبادة حتى قلبوا حقيقته في نفوسهم

فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات بل نفي الأسماء الحسنى أيضا وسموا أنفسهم أهل التوحيد وأثبتوا ذاتا مجردة عن الصفات ووجودا مطلقا بشرط الإطلاق وقد علم بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول أن ذلك لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان وزعموا أن إثبات الصفات يستلزم ما سموه تركيبا وظنوا أن العقل ينفيه كما قد كشفنا أسرارهم وبينا فرط جهلهم وما أضلهم من الألفاظ المجملة المشتركة في غير هذا الموضع

وطائفة ظنوا أن التوحيد ليس إلا الإقرار بتوحيد الربوبية وأن الله خلق كل شيء وهو الذي يسمونه توحيد الأفعال

ومن أهل الكلام من أطال نظره في تقرير هذا الموضع إما بدليل أن الاشتراك يوجب نقص القدرة وفوات الكمال وبأن استقلال كل من الفاعلين بالمفعول محال وإما بغير ذلك من الدلائل ويظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأثبت أنه لا إله إلا هو وأن الإلهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك فإذا ثبت أنه لا يقدر على الاختراع إلا الله وأنه لا شريك له في الخلق كان هذا عندهم هو معنى قولنا لا إله إلا الله ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون الآيات وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال ابن عباس وغيره تسألهم من خلق السموات والأرض فيقولون الله وهم مع هذا يعبدون غيره

وهذا التوحيد هو من التوحيد الواجب لكن لا يحصل به كل الواجب ولا يخلص بمجرده عن الإشراك الذي هو أكبر الكبائر الذي لا يغفره الله بل لا بد أن يخلص لله الدين والعبادة فلا يعبد إلا إياه ولا يعبده إلا بما شرع فيكون دينه كله لله

والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب وكونه يستحق الإلهية مستلزما لصفات الكمال فلا يستحق أن يكون معبودا محبوبا لذاته إلا هو وكل عمل لا يراد به وجهه فهو باطل وعبادة غيره وحب غيره يوجب الفساد كما قال تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا

وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع

وبينا أن هذه الآية ليس المقصود بها ما يقوله من يقوله من أهل الكلام من ذكر دليل التمانع الدال على وحدانية الرب تعالى فإن التمانع وجود المفعول لا يوجب فساده بعد وجوده وذلك يذكر في الأسباب والبدايات التي تجري مجرى العلل الفاعلات

والثاني يذكر في الحكم والنهايات التي تذكر في العلل التي هي الغايات كما في قوله إياك نعبد وإياك نستعين فقدم الغاية المقصودة على الوسيلة الموصلة كما قد بسط في غير هذا الموضع

ثم إن طائفة ممن تكلم في تحقيق التوحيد على طريق أهل التصوف ظن أن توحيد الربوبية هو الغاية والفناء فيه هو النهاية وأنه إذا شهد ذلك سقط عنه استحسان الحسن واستقباح القبيح فآل بهم الأمر إلى تعطيل الأمر والنهي والوعد والوعيد ولم يفرقوا بين مشيئته الشاملة لجميع المخلوقات وبين محبته ورضاه المختص بالطاعات وبين كلماته الكونيات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر لشمول القدرة لكل مخلوق وكلماته الدينيات التي اختص بموافقتها أنبياؤه وأولياؤه

فالعبد مع شهوده الربوبية العامة الشاملة للمؤمن والكافر والبر والفاجر عليه أن يشهد ألوهيته التي اختص بها عباده المؤمنين الذين عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوا رسله

قال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين الخ

ومن لم يفرق بين أولياء الله وأعدائه وبين ما أمر به وأوجبه من الإيمان والأعمال الصالحات وبين ما كرهه ونهى عنه وأبغضه من الكفر والفسوق العصيان مع شمول قدرته ومشيئته وخلقه لكل شيء وإلا وقع في دين المشركين الذين قالوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء

والقدر يؤمن به ولا يحتج به بل العبد مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب ويستغفر الله عند الذنوب والمعايب كما قال تعالى فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك ولهذا حج آدم موسى عليهما السلام لما لام موسى آدم لأجل المصيبة التي حصلت لهم بأكله من الشجرة فذكر له آدم أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فحج آدم موسى كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وقال تعالى ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه

قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم

فهذا وجه احتجاج آدم بالقدر ومعاذ الله أن يحتج آدم أو من هو دونه من المؤمنين على المعاصي بالقدر فإنه لو ساغ هذا لساغ أن يحتج إبليس ومن اتبعه من الجن والإنس بذلك ويحتج به قوم نوح وعاد وثمود وسائر أهل الكفر والفسوق والعصيان ولم يعاقب ربنا أحدا وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار شرعا وعقلا

فإن هذا القول لا يطرده أحد من العقلاء فإن طرده يوجب أن لا يلام أحد على شيء ولا يعاقب عليه

وهذا المحتج بالقدر لو جنى عليه جان لطالبه فإن كان القدر حجة فهو حجة للجاني عليه وإلا فليس حجة لا لهذا ولا لهذا

ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا لم يمكن للناس أن يعيشوا إذ كان لكل من اعتدى عليهم أن يحتج بذلك فيقبلوا عذره ولا يعاقبوه ولا يمكن اثنين من أهل هذا القول أن يعيشا إذ لكل منهما أن يقتل الآخر ويفسد جميع أموره محتجا على ذلك بالقدر

ثم إن أولئك المبتدعين الذين أدخلوا في التوحيد نفي الصفات وهؤلاء الذين أخرجوا عنه متابعة الأمر إذا حققوا القولين أفضى بهم الأمر إلى أن لا يفرقوا بين الخالق والمخلوق بل يقولون بوحدة الوجود كما قاله أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد الذين يعظمون الأصنام وعابديها وفرعون وهامان وقومهما ويجعلون وجود خالق الأرض والسموات هو وجود كل شيء من الموجودات ويدعون التوحيد والتحقيق والعرفان وهم من أعظم أهل الشرك والتلبيس والبهتان

يقول عارفهم السالك في أول أمره يفرق بين الطاعة والمعصية أي نظرا إلى الأمر ثم يرى طاعة بلا معصية أي نظرا إلى القدر ثم لا طاعة ولا معصية أي نظرا إلى أن الوجود واحد ولا يفرق بين الواحد بالعين والواحد بالنوع فإن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود

والوجود ينقسم إلى قائم بنفسه وقائم بغيره وواجب وممكن بنفسه كما أن الحيوانات مشتركة في مسمى الحيوان والأناسي مشتركون في مسمى الإنسان مع العلم الضروري بأنه ليس عين وجود هذا الانسان هو عين وجود هذا الفرس بل ولا عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته هو عين هذا الحيوان وحيوانيته وإنسانيته لكن بينهما قدر مشترك تشابها فيه قد يسمى كليا مطلقا وقدرا مشتركا ونحو ذلك وهذا لا يكون في الخارج عن الأذهان كليا عاما مطلقا بل لا يوجد إلا معينا مشخصا فكل موجود فله ما يخصه من حقيقته مما لا يشركه فيه غيره بل ليس بين موجودين في الخارج شيء بعينه اشتركا فيه ولكن تشابها ففي هذا نظير ما في هذا كما أن هذا نظير هذا وكل منهما متميز بذاته وصفاته عما سواه فكيف الخالق سبحانه وتعالى

وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع البسط الذي يليق به فإنه مقام زلت فيه أقدام وضلت فيه أحلام والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

ومن أحكم الأصلين المتقدمين في الصفات والخلق والأمر فيميز بين المأمور المحبوب المرضي لله وبين غيره مع شمول القدر لهما وأثبت للخالق سبحانه الصفات التي توجب مباينته المخلوقات وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته أثبت التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه كما نبه على ذلك في سورتي الإخلاص قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد فإن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن إذ كان القرآن باعتبار معانيه ثلاث أثلاث ثلث توحيد وثلث قصص وثلث أمر ونهي لأن القرآن كلام الله والكلام إما إنشاء وإما إخبار والإخبار إما عن الخالق وإما عن المخلوق والإنشاء أمر ونهي وإباحة فقل هو الله أحد فيها ثلث التوحيد الذي هو خبر عن الخالق وقد قال ﷺ قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن وعدل الشيء بالفتح يكون ما ساواه من غير جنسه

كما قال تعالى أو عدل ذلك صياما وذلك يقتضي أن له من الثواب ما يساوي الثلث في القدر ولا يكون مثله في الصفة كمن معه ألف دينار وآخر معه ما يعدلها من الفضة والنحاس وغيرهما ولهذا يحتاج إلى سائر القرآن ولا تغني عنه هذه السورة مطلقا كما يحتاج من معه نوع من المال إلى سائر الأنواع إذ كان العبد محتاجا إلى الأمر والنهي والقصص

وسورة قل هو الله أحد فيها التوحيد القولي العملي الذي تدل عليه الأسماء والصفات ولهذا قال تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وقد بسطنا الكلام عليها في غير هذا الموضع

وسورة قل يا أيها الكافرون فيها التوحيد القصدي العملي كما قال تعال قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون وبهذا يتميز من يعبد الله ممن يعبد غيره وإن كان كل واحد منهما يقر بأن الله رب كل شيء ومليكه ويتميز عباد الله المخلصون الذين لم يعبدوا إلا إياه ممن عبدوا غيره واشركوا به أو نظروا إلى القدر الشامل لكل شيء فسوى بين المؤمنين والكفار كما كان يفعل المشركون من العرب ولهذا قال ﷺ إنها براءة من الشرك

وسورة قل هو الله أحد فيها إثبات الذات وما لها من الأسماء والصفات التي يتميز بها مثبتو الرب الخالق الأحد الصمد عن المعطلين له بالحقيقة نفاة الأسماء والصفات المضاهين لفرعون وأمثاله ممن أظهر التعطيل والجحود للإله المعبود وإن كان في الباطن يقر به كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وقال موسى لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا

والله سبحانه بعث أنبياءه بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا له الأسماء والصفات ونفوا عنه مماثلة المخلوقات ومن خالفهم من المعطلة المتفلسفة وغيرهم عكسوا القضية فجاءوا بنفي مفصل وإثبات مجمل يقولون ليس كذا لس كذا ليس كذا فإذا أرادوا إثباته قالوا وجود مطلق بشرط النفي أو بشرط الإطلاق وهم يقرون في منطقهم اليوناني أن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون في الخارج فليس في الخارج حيوان مطلق بشرط الإطلاق ولا إنسان مطلق بشرط الإطلاق ولا موجود مطلق بشرط الإطلاق بخلاف المطلق لا بشرط الذي يطلق على هذا وهذا وينقسم إلى هذا وهذا فإن هذا يقال إنه في الخارج لا يكون إلا معينا مشخصا أو يقولون إنه الوجود المشروط بنفي كل ثبوت عنه منه فيكون مشاركا لسائر الموجودات في مسمى الوجود متميزا عنها بالعدم وكل موجود متميزا بأمر ثبوتي والوجود خير من العدم فيكون أحقر الموجودات خيرا من العدم وذلك ممتنع لأن المتميز بين الموجودين لا يكون عدما محضا بل لا يكون إلا وجودا

فهؤلاء الذين يدعون أنهم أفضل المتأخرين من الفلاسفة المشائين يقولون في وجود واجب الوجود ما يعلم بصريح المعقول الموافق لقوانينهم المنطقية أنه قول بامتناع وجود الواجب وأنه جمع بين النقضيين وهذا هو في غاية الجهل والضلال

وأما الرسل صلوات الله عليهم فطريقتهم طريقة القرآن قال سبحانه وتعالى سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

والله تعالى يخبر في كتابه أنه حي قيوم عليم حكيم غفور رحيم سميع بصير علي عظيم خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة ايام ثم استوى على العرش وكلم موسى تكليما وتجلى للجبل فجعله دكا يرضى عن المؤمنين ويغضب على الكافرين إلى أمثال ذلك من الأسماء والصفات

ويقول في النفي ليس كمثله شيء ولم يكن له كفوا أحد هل تعلم له سميا فلا تجعلوا لله أندادا فنفى بذلك أن تكون صفاته كصفات المخلوقين وأنه ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في شيء من صفاته ولا أفعاله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا

فالمؤمن يؤمن بالله وما له من الأسماء الحسنى ويدعوه بها ويجتنب الإلحاد في أسمائه وآياته قال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في اسمائه وقال تعالى إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا وهو يدعو الله وحده ويعبده وحده ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ويجتنب طريق المشركين الذين قال الله تعالى فيهم قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما لهم منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير

وهذه جمل لها تفاصيل ونكت تشير إلى خطب جليل

فليجتهد المؤمن في تحقيق العلم والأيمان وليتخذ الله هاديا ونصيرا وحاكما ووليا فإنه نعم المولى ونعم النصير وكفى بربك هاديا ونصيرا

وإن أحب دعا بالدعاء الذي رواه مسلم وأبو داود وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان إذا قام يصلي من الليل يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم

وذلك أن الله تعالى يقول كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا كما في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا وقد قيل إنها كذلك في حرف عبد الله فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين كل وقت وحين آمين


اخر الكتاب


******************************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.