مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

اقتضاء الصراط المستقيم من/ 15 الي17..........



**********************15*********************************


اقتضاء الصراط المستقيم/15
< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اقتضاء الصراط المستقيم/14 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/16










ثم إنه ﷺ أعقب النهي عن اتخاذها عيدا بقوله صلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم

وفي الحديث الآخر فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم

يشير بذلك ﷺ إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا

والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تعرض عليه كثيرة

مثل ما روى أبو داود في سننه من حديث أبي صخر حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام ﷺ

وهذا الحديث على شرط مسلم

ومثل ما روى أبو داود ايضا عن أوس بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت فقال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء

وفي مسند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ من صلى علي سمعته ومن صلى علي نائيا بلغته رواه الدارقطني بمعناه وفي النسائي وغيره عنه ﷺ أنه قال إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام إلى أحاديث أخر في هذا الباب متعددة

ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره ﷺ واستدل بالحديث وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره

فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه اتخاذ له عيدا

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد القبر للسلام ونحوه غير دخول المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله ﷺ قرب النسب وقرب الدار لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط

والعيد إذا جعل اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد الاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده أو لغير العبادة كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة جعلها الله عيدا مثابة للناس يجتمعون فيها وينتابونها للدعاء والذكر والنسك وكان للمشركين أمكنة ينتابونها للاجتماع عندها فلما جاء الإسلام محا الله ذلك كله

وهذا النوع من الأمكنة يدخل فيه قبور الأنبياء والصالحين والقبور التي يجوز أن تكون قبورا لهم بتقدير كونها قبورا لهم بل وسائر القبور أيضا داخلة في هذا

فإن قبر المسلم له من الحرمة ما جاءت به السنة إذ هو بيت المسلم الميت فلا يترك عليه شيء من النجاسات بالاتفاق ولا يوطأ ولا يداس ولا يتكأ عليه عندنا وعند جمهور العلماء ولا يجاور بما يؤذي الأموات من الأقوال والأفعال الخبيثة ويستحب عند إتيانه السلام على صاحبه والدعاء له وكلما كان الميت أفضل كان حقه أوكد

قال بريدة بن الحصيب رضي الله عنه كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية رواه مسلم

وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون

وروي أيضا عن عائشة في حديث طويل عن النبي ﷺ قال إن جبريل أتاني فقال إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم قالت قلت كيف أقول يا رسول الله قال قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون

وروى ابن ماجه عن عائشة قالت فقدته فإذا هو بالبقيع فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين انتم لنا فرط ونحن بكم لاحقون اللهم لاتحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله ﷺ بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وقال حسن غريب

وقد ثبت عنه أنه بعد أحد بثمان سنين خرج إلى الشهداء فصلى عليهم كصلاته على الميت

وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل

وقد روى حديث صححه ابن عبد البر أنه قال ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام

وروي في تلقين الميت بعد الدفن حديث فيه نظر لكن عمل به رجال من أهل الشام الأولين مع روايتهم له فلذلك استحبه أكثر أصحابنا وغيرهم

فهذا ونحوه مما كان النبي ﷺ يفعله ويأمر به أمته عند قبور المسلمين عقب الدفن وعند زيارتهم أو المرور بهم إنما هو تحية للميت كما يحيى الحي ويدعي له كما يدعي له إذا صلى عليه قبل الدفن أو بعده وفي ضمن الدعاء للميت دعاء الحي لنفسه ولسائر المسلمين كما أن الصلاة على الجنازة فيها الدعاء للمصلي ولسائر المسلمين وتخصيص الميت بالدعاء له

فهذا كله وما كان مثله من سنة رسول الله ﷺ وما كان عليه السابقون الأولون هو المشروع للمسلمين في ذلك وهو الذي كانوا يفعلونه عند قبر النبي ﷺ وغيره

وروى ابن بطة في الابانة بإسناد صحيح عن معاذ بن معاذ حدثنا ابن عون قال سأل رجل نافعا فقال هل كان ابن عمر يسلم على القبر فقال نعم لقد رأيته مائة أو أكثر من مائة مرة كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول السلام على النبي السلام على أبي بكر السلام على عمر أبي

وفي رواية أخرى ذكرها الإمام أحمد محتجا بها ثم ينصرف

وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ

وزيارة القبور جائزة في الجملة حتى قبور الكفار فإن في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي

وفيه أيضا عنه قال زار النبي ﷺ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ قال كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها

وفي رواية لأحمد والنسائي فمن أراد أن يزر فليزر ولا تقولوا هجرا

وروى أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة

فقد أذن النبي ﷺ في زيارتها بعد النهي وعلل ذلك بأنها تذكر الموت والدار الآخرة وأذن لنا إذنا عاما في زيارة قبر المسلم والكافر

والسبب الذي ورد عليه هذا اللفظ يوجب دخول الكافر والعلة وهي تذكر الموت والآخرة موجودة في ذلك كله

وقد كان ﷺ يأتي قبور أهل البقيع والشهداء للدعاء لهم والاستغفار فهذا المعنى يختص بالمسلمين دون الكافرين

فهذه الزيارة وهي زيارة القبور لتذكر الآخرة أو لتحيتهم والدعاء لهم هي الذي جاءت به السنة كما تقدم

وقد اختلف أصحابنا وغيرهم هل يجوز السفر لزيارتها على قولين

أحدهما لا يجوز والمسافرة لزيارتها معصية لا يجوز قصر الصلاة فيها وهذا قول ابن بطة وابن عقيل وغيرهما لأن هذا السفر بدعة لم يكن في عصر السلف وهو مشتمل على ما سيأتي من معاني النهي ولأن في الصحيحين عن النبي ﷺ قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا

وهذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب والعبادة

بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري لما رأى أبا هريرة راجعا من الطور الذي كلم الله عليه موسى قال لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته لأن النبي ﷺ قال لا تشد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد

فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم وأنه لا يجوز السفر إليها كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة

وأيضا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير المساجد الثلاثة لا يجوز مع أن قصده لأهل مصره يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قصد المساجد من الفضل مالا يحصى فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أولى أن لا يجوز

والوجه الثاني أنه يجوز السفر إليها قاله طائفة من المتأخرين منهم أبو حامد الغزالي وأبو الحسن بن عبدوس الحراني والشيخ أبو محمد المقدسي وما علمته منقولا عن أحد من المتقدمين بناء على أن هذا الحديث لم يتناول النهي عن ذلك كما لم يتناول النهي عن السفر إلى الأمكنة التي فيها الوالدان والعلماء والمشايخ والإخوان أو بعض المقاصد من الأمور الدنيوية المباحة

فأما ما سوى ذلك من المحدثات فأمور

منها الصلاة عند القبور مطلقا واتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها قد تواترت النصوص عن النبي ﷺ بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه

فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهما بتحريمه ومن العلماء من أطلق فيه لفظ الكراهة فما أدري عني به التنزيه أو التحريم ولا ريب في القطع بتحريمه لما روى مسلم في صحيحه عن جندب ابن عبد الله البجلي قال سمعت رسول الله ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا منكم خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك

وعن عائشة رضي الله عنها وعبد الله بن عباس قالا لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذااغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا أخرجه البخاري ومسلم

وأخرجاه جميعا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي رواية لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فقد نهى عن اتخاذ القبور مساجد في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعل ذلك من أهل الكتاب ليحذر أمته أن يفعلوا ذلك

قالت عائشة قال رسول الله ﷺ في مرضه الذي لم يقم منه لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا رواه البخاري ومسلم

وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود أن النبي ﷺ قال إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد رواه الإمام أحمد

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي

وفي الباب أحاديث كثيرة وآثار ليس هذا موضع استقصائها

فهذه المساجد مبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحدا وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد هل حدها ثلاثة أقبر أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ وإن لم يكن عنده قبر آخر على وجهين

ثم يتغلظ النهي إن كانت البقعة مغصوبة مثل ما بني على قبر بعض العلماء أو الصالحين أو غيرهم ممن كان مدفونا في مقبرة مسبلة فبني على قبره مسجدا أو مدرسة أو رباطا أو مشهدا وجعل فيها مطهرة أو لم يجعل فإن هذا مشتمل على أنواع من المحرمات

أحدها أن المقبرة المسبلة لا يجوز الانتفاع بها في غير الدفن من غير تعويض بالاتفاق فبناء المسجد أو المدرسة أو الرباط فيها كدفن الميت في المسجد أو كبناء الخانات ونحوها في المقبرة أو كبناء المسجد في الطريق الذي يحتاج الناس إلى المشي فيه

الثاني اشتمال غالب ذلك على نبش قبور المسلمين وإخراج عظام موتاهم كما قد علم ذلك في كثير من هذه المواضع

الثالث أنه قد روى مسلم في صحيحه عن جابر أن رسول الله ﷺ نهى أن يبنى على القبور

الرابع أن بناء المطاهر التي هي محل النجاسات بين مقابر المسلمين من أقبح ما تجاور به القبور لا سيما إن كان محل المطهرة قبر رجل مسلم

الخامس اتخاذ القبور مساجد وقد تقدم بعض النصوص المحرمة لذلك

السادس الإسراج على القبور وقد لعن ﷺ من يفعل ذلك

السابع مشابهة أهل الكتابين في كثير من الأقوال والأفعال والسنن بهذا السبب كما هو الواقع إلى غير ذلك من الوجوه

وقد كانت البنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة فقيل إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناما فنقبت لذلك

وقيل إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك ثم ترك ذلك مسجدا بعد الفتوح المتأخرة

وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها اتباعا لأمر رسول الله ﷺ واتقاء لمعصيته كما تقدم

وكذلك إيقاد المصابيح في هذه المشاهد مطلقا لا يجوز بلا خلاف أعلمه للنهي الوارد ولا يجوز الوفاء بما ينذ لها من دهن وغيره بل موجبه موجب نذر المعصية

ومن ذلك الصلاة عندها وإن لم يبن هناك مسجد فإن ذلك أيضا اتخاذها مسجدا كما قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا ولم تقصد عائشة رضي الله عنها مجرد بناء مسجد فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وإنما قصدت أنهم خشوا أن الناس يصلون عند قبره وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه فإنه يسمى مسجدا وإن لم يكن هناك بناء كما قال ﷺ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا

وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار وغيرهم بأسانيد جيدة ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه

واعلم أن من الفقهاء من اعتقد أن سبب كراهة الصلاة في المقبرة ليس إلا لكونها مظنة النجاسة لما يختلط بالتراب من صديد الموتى وبنى على هذا الاعتقاد الفرق بين المقبرة الجديدة والعتيقة وبين أن يكون بينه وبين التراب حائل أولا يكون ونجاسة الأرض مانعة من الصلاة عليها سواء كانت مقبرة أو لم تكن لكن المقصود الأكبر بالنهي عن الصلاة عند القبور ليس هو هذا فإنه قد بين أن اليهود والنصارى كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وقال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوا وروى عنه أنه قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قالت عائشة ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن كره أن يتخذ مسجدا وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهى عن ذلك

فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة النجاسة وإنما هو مظنة اتخاذها أوثانا كما قال الشافعي رضي الله عنه وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس

وقد ذكر هذا المعنى أبو بكر الأثرم في ناسخ الحديث ومنسوخه وغيره من أصحاب أحمد وسائر العلماء

فإن قبر النبي ﷺ أو الرجل الصالح لم يكن ينبش القبر الواحد لا نجاسة عليه

وقد نبه هو ﷺ على العلة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وبقوله إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد فلا تتخذوها مساجد وأولئك إنما كانوا يتخذون قبورا لا نجاسة عندها ولأنه قد روى مسلم في صحيحه عن أبي مرثد الغنوي أن النبي ﷺ قال لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ولأنه ﷺ قال كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة

فجمع بين التماثيل والقبور

وأيضا فإن اللات كان سبب عبادتها تعظيم قبر رجل صالح كان هناك وقد ذكروا أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح عليهما السلام

فروى محمد بن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس ويعوق ونسرا قال كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح عليهما السلام وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال قتادة وغيره كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ثم اتخذها العرب بعد ذلك

وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله ولهذا تجد أقواما كثيرين يتضرعون عندها ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد بل ولا في السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء مالا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال

فهذه المفسدة التي هي مفسدة الشرك كبيره وصغيره هي التي حسم النبي ﷺ مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة ونحو ذلك كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ذلك سدا للذريعة

فأما إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء أو بعض الصالحين متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن الله به فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ﷺ من أن الصلاة عند القبر أي قبر كان لافضل فيها لذلك ولا للصلاة في تلك البقعة مزية خير أصلا بل مزية شر

واعلم أن تلك البقعة وإن كان قد تنزل عندها الملائكة والرحمة ولها فضل وشرف ولكن دين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي عنه

فإن النصارى عظموا الأنبياء حتى عبدوهم وعبدوا تماثيلهم واليهود استخفوا بهم حتى قتلوهم والأمة الوسط عرفوا مقاديرهم فلم يغلوا فيهم غلو النصارى ولم يجفوا عنهم جفاء اليهود ولهذا قال ﷺ فيما صح عنه لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله

فإذا قدر أن الصلاة هناك توجب من الرحمة أكثر من الصلاة في غير ذلك البقعة كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربوا على هذه المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها بحيث تصير الصلاة هناك مذهبة لتلك الرحمة ومثبتة لما يوجب اللعنة والعذاب ومن لم تكن له بصيرة يدرك بها الفساد الناشيء من الصلاة عندها فيكفيه أن يقلد الرسول ﷺ فإنه لولا أن الصلاة عندها مما غلبت مفسدته على مصلحته لما نهى عنه كما نهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة وعن صوم يومي العيدين بل كما حرم الخمر فإنه لولا أن فسادها غالب على ما فيها من المنفعة لما حرمها وكذلك تحريم القطرة منها ولولا غلبة الفساد فيها على الصلاح لما حرمها

وليس على المؤمن ولا له أن يطالب الرسل بتبيين وجوه المفاسد وإنما عليه طاعتهم قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال من يطع الرسول فقد أطاع الله

وإنما حقوق الأنبياء في تعزيرهم وتوقيرهم ومحبتهم محبة مقدمة على النفس والمال والأهل وإيثار طاعتهم ومتابعة سننهم ونحو ذلك من الحقوق التي من قام بها لم يقم بعبادتهم والإشراك بهم كما أن عامة من يشرك بهم شركا أكبر أو أصغر يترك ما يجب عليه من طاعتهم بقدر ماابتدعه من الإشراك بهم

وكذلك حقوق الصديقين المحبة والإجلال ونحو ذلك من الحقوق التي جاء بها الكتاب والسنة وكان عليها سلف الأمة

وقد اختلف الفقهاء في الصلاة في المقبرة هل هي محرمة أو مكروهة وإذا قيل محرمة فهل تصح مع التحريم أم لا

المشهور عندنا أنها محرمة لا تصح

ومن تأمل النصوص المتقدمة تبين له أنها محرمة بلا شك وأن صلاته عندها لا تصح

وليس الغرض هنا تقرير المسائل المشهورة فإنها معروفة إنما الغرض التنبيه على ما يخفى من غيره

فمما يدخل في هذا قصد القبور للدعاء عندها أو لها فإن الدعاء عند القبور وغيرها من الأماكن ينقسم إلى نوعين

أحدهما أن يحصل الدعاء في البقعة بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها كمن يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر بالقبور أو من يزورها فيسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فهذا ونحوه لا بأس به

الثاني أن يتحرى الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا النوع منهي عنه إما نهي تحريم أو تنزيه وهو إلى التحريم أقرب والفرق بين البابين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو كان يدعو في بقعة وكان هناك بقعة فيها صليب وهو عنه ذاهل أو دخل إلى كنيسة ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو بات في بيت بعض أصدقائه ودعا الله لم يكن بهذا بأس

ولو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في تلك البقعة لكان هذا من العظائم بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها يرجو الإجابة بالدعاء عندها لكان هذا من المنكرات المحرمة إذ ليس للدعاء عندها فضل

فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب بل هو أشد من بعضه لأن النبي ﷺ نهى عن اتخاذها مساجد وعن اتخاذها عيدا وعن الصلاة عندها بخلاف كثير من هذه المواضع

وما يرويه بعض الناس من أنه قال إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا بأهل القبور أو نحو هذا فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء

والذي يبين ذلك أمور

أحدها أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي ﷺ لأجلها عن الصلاة عندها إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع الشرك بقصدها وبالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة

ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير كالاستسقاء أو لدفع شر كالاستنصار فحاله بافتتانه بالقبور إذا رجا الإجابة عندها أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية فإن أكثر المصلين في حال العافية لا تكاد تفتن قلوبهم بذلك إلا قليلا أما الداعون المضطرون ففتنتهم بذلك عظيمة جدا فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهى عن الصلاة عندها متحققة في حال هؤلاء كان نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد وهذا واضح لمن فقه في دين الله فتبين له ما جاءت به الحنفية من الدين الخالص لله وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد ونفي الشرك بكل طريق

الثاني أن قصد القبور للدعاء عندها ورجاء الإجابة بالدعاء هناك رجاء أكثر من رجاءها بالدعاء في غير ذلك الموطن أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ولا فعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا ذكره أحد من العلماء والصالحين المتقدمين بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية وأصحاب رسول الله ﷺ قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب غير ذلك فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر النبي ﷺ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به ولم يستسق عند قبر النبي ﷺ بل قد روى عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي ﷺ لينزل المطر فإنه رحمة تنزل على قبره ولم تستسق عنده ولا استغاثت هناك

ولهذا لما بنيت حجرته على عهد التابعين بأبي وهو وأمي ﷺ تركوا في أعلاها كوة إلى السماء وهي إلى الآن باقية فيها موضوع عليها شمع على أطرافه حجارة تمسكه وكان السقف بارزا إلى السماء وبنى ذلك لما احترق المسجد والمنبر سنة بضع وخمسين وستمائة وظهرت النار بأرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى وجرب بعدها فتنة التتر ببغداد وغيرها

ثم عمر المسجد والسقف كما كان وأحدث حول الحجرة الحائط الخشبي ثم بعد ذلك بسنين متعددة بنيت القبة على السقف وأنكرها من أن كرها

على أنا قد روينا في مغازي محمد بن إسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف له فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر رضي الله عنه فدعا له كعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءة مثل ما قرأ القرآن هذا فقلت لأبي العالية ما كان فيه فقال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه فقلت ما كانوا يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاثمائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع

ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يفتتن به الناس وهو إنكار منهم لذلك

ويذكرون أن قبر أبي أيوب الأنصاري عند أهل القسطنطينية كذلك ولا قدوة بهم فقد كان من قبور أصحاب رسول الله ﷺ بالأمصار عدد كثير وعندهم التابعون ومن بعدهم من الأئمة وما استغاثوا عند قبر صحابي قط ولا استسقوا عنده ولا به ولا استنصروا عنده ولا به

ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بل على نقل ما هو دونه

ومن تأمل كتب الآثار وعرف حال السلف تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيون عند القبور ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم كما قد ذكرنا بعضه

فلا يخلو إما أن يكون الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة أولا يكون

فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا على الصحابة والتابعين وتابعيهم فتكون القرون الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ويعلمه من بعدهم ولم يجز أن يعلموا ما فيه من الفضل ويزهدوا فيه مع حرصهم على كل خير لا سيما الدعاء فإن المضطر يتشبث بكل سبب وإن كان فيه نوع كراهة فكيف يكونون مضطرين في كثير من الدعاء وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ثم لا يقصدونه هذا محال طبعا وشرعا

وإن لم يكن الدعاء عندها أفضل كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها من شطوط الأنهار ومغارس الأشجار وحوانيت الأسواق وجوانب الطرقات ومالا يحصي عدده إلا الله

وهذا قد دل عليه كتاب الله في مواضع مثل قوله تعالى ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله فإذا لم يشرع الله استحباب الدعاء عند المقابر ولا وجوبه فمن شرعه فقد شرع من الدين مالم يأذن به الله

وقال تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون وهذه العبادة عند المقابر نوع من أن يشرك بالله مالم ينزل به سلطانا لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله مالا يعلم

وما أحسن قول الله مالم ينزل به سلطانا لئلا يحتج بالمقاييس والحكايات

ومثل هذا قوله تعالى في حكايته عن الخليل وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله مالم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون وتلك وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم

فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر يخوفون المخلصين بشفعائهم فيقال لهم نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم فإنهم خلق من خلق الله لا يضرون إلا بعد مشيئة الله فمن مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو ومن أصابه برحمة فلا راد لفضله وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله وأنتم قد أحدثتم في دينه من الشرك مالم ينزل به وحيا من السماء فأي الفريقين أحق بالأمن من كان لا يخاف إلا الله ولم يبتدع في دينه شركا أم من ابتدع في دينه شركا بغير إذنه بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء هم الذين لهم الأمن وهم مهتدون

وهذه الحجة المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم درجات

فإن قيل قد نقل عن بعضهم أنه قال قبر معروف الترياق المجرب وروي عن معروف أنه أوصى ابن أخيه أن يدعو عند قبره وذكر أبو علي الخرقي في قصص من هجره أحمد أن بعض هؤلاء المهجورين كان يجيء إلى عند قبر أحمد ويتوخى الدعاء عنده وأظنه ذكر ذلك المروزي ونقل عن جماعات بأنهم دعوا عند قبور جماعات من الأنبياء والصالحين من أهل البيت وغيرهم فاستجيب لهم الدعاء وعلى هذا عمل كثير من الناس

وقد ذكر المتأخرون المصنفون في مناسك الحج إذا زار قبر النبي ﷺ فإنه يدعو عنده

وذكر بعضهم أن من صلى عليه سبعين مرة عند قبره ودعا استجيب له

وذكر بعض الفقهاء في حجة من يجوز القراءة على القبر أنها بقعة يجوز السلام والذكر والدعاء عندها فجازت القراءة عندها كغيرها

وقد رأى بعضهم منامات في الدعاء عند قبر بعض الأشياخ وجرب أقوام استجابة الدعاء عند قبور معروفة كقبر الشيخ أبي الفرج الشيرازي المقدسي وغيره

وقد أدركنا في أزمامنا وما قاربها من ذي الفضل عند الناس علما وعملا من كان يتحرى الدعاء عندها والعكوف عليها وفيهم من كان بارعا في العلم وفيهم من له عند الناس كرامات فكيف يخالف هؤلاء

وإنما ذكرت هذا السؤال مع بعده عن طريق أهل العلم والدين لأنه غاية ما يتمسك به القبوريون

قلنا الذي ذكرنا كراهته لم ينقل في استحبابه فيما علمناه شيء ثابت عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها رسول الله ﷺ حيث قال خير أمتي القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مع شدة المقتضى عندهم لذلك لو كان فيه فضيلة فعدم أمرهم وفعلهم لذلك مع قوة المقتضى لو كان فيه فضل يوجب القطع بأن لا فضل فيه

وأما من بعد هؤلاء فأكثر ما يفرض أن الأمة اختلفت فصار كثير من العلماء والصديقين إلى فعل ذلك وصار بعضهم إلى النهي عن ذلك فإنه لا يمكن أن يقال اجتمعت الأمة على استحسان ذلك لوجهين

أحدهما أن كثيرا من الأمة كره ذلك وأنكره قديما وحديثا

الثاني أنه من الممتنع أن تتفق الأمة على استحسان فعل لو كان حسنا لفعله المتقدمون ولم يفعلوه فإن هذا من باب تناقض الاجماعات وهي لا تتناقض وإذا اختلف فيه المتأخرون فالفاصل بينهم هو الكتاب والسنة وإجماع المتقدمين نصا واستنباطا

فكيف وهذا والحمد لله لم ينقل هذا عن إمام معروف ولا عالم متبع بل المنقول في ذلك إما أن يكون كذبا على صاحبه مثل ما حكى بعضهم عن الشافعي رحمه الله أنه قال إذا نزلت بي شدة أجيء فأدعو عند قبر أبي حنيفة رحمه الله فأجاب أو كلاما هذا معناه وهذا كذب معلوم كذبه بالاضطرار عند من له أدنى معرفة بالنقل

فإن الشافعي لما قدم ببغداد لم يكن ببغداد قبر ينتاب للدعاء عنده البتة بل ولم يكن هذا على عهد االشافعي معروفا وقد رأى الشافعي بالحجاز واليمن والشام والعراق ومصر من قبور الأنبياء والصحابة والتابعين من كان أصحابها عنده وعند المسلمين أفضل من أبي حنيفة وأمثاله من العلماء فما باله لم يتوخ الدعاء إلا عند قبر أبي حنيفة

ثم أصحاب أبي حنيفة الذين أدركوه مثل أبي يوسف ومحمد وزفر والحسن ابن زياد وطبقتهم لم يكونوا يتحرون الدعاء لا عند قبر أبي حنيفة ولا غيره

ثم قد تقدم عن الشافعي ما هو ثابت في كتابه من كراهة تعظيم قبور الصالحين خشية الفتنة بها

وإنما يضع مثل هذه الحكايات من يقل علمه ودينه

وإما أن يكون المنقول من هذه الحكايات عن مجهول لا يعرف ونحن لو روى لنا مثل هذه الحكايات المسيبة أحاديث عمن لا ينطق عن الهوى لما جاز التمسك بها حتى تثبت فكيف بالمنقول عن غيره

ومنها ما قد يكون صاحبه قاله أو فعله باجتهاد يخطئ فيه ويصيب أو قاله بقيود وشروط كثيرة على وجه لا محذور فيه فحرف النقل عنه كما أن النبي ﷺ لما أذن في زيارة القبور بعد النهي عنها فهم المبطلون أن ذلك هو الزيارة التي يفعلونها من حجها للصلاة عندها والاستغاثة بها

ثم سائر هذه الحجج دائر بين نقل لا يجوز إثبات الشرع به أو قياس لا يجور استحباب العبادات بمثله مع العلم بأن الرسول لم يشرعها وتركه لها مع قيام المقتضي للفعل بمنزلة فعله وإنما تثبت العبادات بمثل هذه الحكايات والمقاييس من غير نقل عن أبناء النصارى وأمثالهم وإنما المتبع عند علماء الإسلام في إثبات الأحكام هو كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وسبيل السابقين أو الأولين ولا يجوز إثبات حكم شرعي بدون هذه الأصول الثلاثة نصا استنباطا بحال

والجواب عنها من وجهين مجمل ومفصل

أما المجمل فالنقض فإن اليهود والنصارى عندهم من الحكايات والقياسات من هذا النمط كثير بل المشركون الذين بعث اليهم رسول الله ﷺ كانوا يدعون عند أوثانهم فيستجاب لهم أحيانا كما قد يستجاب لهؤلاء أحيانا وفي وقتنا هذا عند النصارى من هذا طائفة

فإن كان هذا وحده دليلا على أن يرضى ذلك ويحبه فليطرد الدليل وذلك كفر متناقض

ثم إنك تجد كثيرا من هؤلاء الذين يستغيثون عند قبر أو غيره كل منهم قد اتخذ وثنا وأحسن الظن به وأساء الظن بآخر وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده ولا يستجاب عند غيره فمن المحال إصابتهم جميعا وموافقة بعضهم دون بعض تحكم وترجع بلا مرجح والتدين بدينهم جميعا جمع بين الأضداد

فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم فيما يزعمون بقدر إقبالهم على وثنهم وانصرافهم عن غيره وموافقتهم جميعا فيما يثبتونه دون ما ينفونه بضعف التأثير على زعمهم فإن الواحد إذا أحسن للظن بالإجابة عند هذا وهذا لم يكن تأثره مثل تأثر من حسن الظن بواحد دون آخر وهذا كله من خصائص الأوثان

ثم قد استجيب لبلعم بن باعوراء في قوم موسى المؤمنين وسلبه الله الإيمان

والمشركون قد يستسقون فيسقون ويستنصرون فينصرون

وأما الجواب المفصل فنقول

مدار هذه الشبهة على أصلين

منقول وهو ما يحكى من نقل هذا الدعاء عن بعض الأعيان

ومعقول وهو ما يعتقد من منفعته بالتجارب والأقيسة

فأما النقل في ذلك فإما كذب أو غلط وليس بحجة بل قد ذكرنا النقل عمن يقتدى به بخلاف ذلك

وأما المعقول فنقول عامة المذكور من المنافع كذب فإن هؤلاء الذين يتحرون الدعاء عند القبور وأمثالهم إنما يستجاب لهم في النادر ويدعو الرجل منهم ما شاء الله من دعوات فيستجاب له في واحدة ويدعو خلق كثير منهم فيستجاب للواحد بعد الواحد وأين هذا من الذين يتحرون الدعاء في أوقات الأسحار ويدعون الله في سجودهم وأدبار صلواتهم وفي بيوت الله فإن هؤلاء إذا ابتهلوا ابتهالا من جنس القبوريين لم تكد تسقط لهم دعوة إلا لمانع بل الواقع أن الابتهال الذي يفعله القبوريون إذا فعله المخلصون لم يرد المخلصون إلا نادرا ولم يستجب للقبوريين إلا نادرا والمخلصون كما قال النبي ﷺ ما من عبد يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث إما أن يعجل الله له دعوته أو يدخر له من الخير مثلها أو يصرف عنه من الشر مثلها قالوا يا رسول الله إذا نكثر قال الله أكثر فهم في دعائهم لا يزالون بخير

وأما القبوريون فإنهم إذا استجيب لهم نادرا فإن أحدهم يضعف توحيده ويقل نصيبه من ربه ولا يجد في قلبه من ذوق طعم الإيمان وحلاوته ما كان يجده السابقون الأولون ولعله لا يكاد يبارك له في حاجته اللهم إلا أن يعفو الله عنهم لعدم علمهم بأن ذلك بدعة فإن المجتهد إذا أخطأ أثابه الله على اجتهاده وغفر له خطأه

وجميع الأمور التي يظن أن لها تأثيرا في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريجات الفلكية والتوجهات النفسانية كالعين والدعاء المحرم والرقي المحرمة والتمريجات الطبيعية ونحو ذلك فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالبا إلا أمور دنيوية فقل أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة دع الآخرة والمخبل من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح ثم إن فيها من النكد والضرر ما الله به عليم فهي في نفسها مضرة لا يكاد يحصل الغرض بها إلا نادرا وإذا حصل فضرره أكثر من منفعته والأسباب المشروعة في حصول هذه المطالب المباحة أو المستحبة سواء كانت طبيعية كالتجارة والحراثة أو كانت دينية كالتوكل على الله والثقة به وكدعاء الله سبحانه على الوجه المشروع في الأمكنة والأزمنة التي فضلها الله ورسوله بالكلمات المأثورة عن إمام المتقين ﷺ كالصدقة وفعل المعروف يحصل بها الخير المحض أو الغالب وما يحصل من ضرر بفعل مشروع أو ترك غير مشروع مما نهى عنه فإن ذلك الضرر مكثور في جانب ما يحصل من المنفعة

وهذا الأمر كما أنه قد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع فهو ايضا معقول بالتجارب المشهورة والأقيسة الصحيحة فإن الصلاة والزكاة يحصل بهما خير الدنيا والآخرة ويجلبان كل خير ويدفعان كل شر

فهذا الكلام في بيان أنه لا يحصل بتلك الأسباب المحرمة لا خير محض ولا غالب ومن كان له خبرة بأحوال العالم وعقل تيقن ذلك يقينا لا شك فيه

وإذا ثبت ذلك فليس علينا من سبب التأثير أحيانا فإن الأسباب التي يخلق الله بها الحوادث في الأرض والسماء لا يحصيها على الحقيقة إلا هو أما أعيانها فيلا ريب وكذلك أنواعها أيضا لا يضبطها المخلوق لسعة ملكوت الله سبحانه وتعالى ولهذا كانت طريقة الأنبياء عليهم السلام أنهم يأمرون الخلق بما فيه صلاحهم وينهونهم عما فيه فسادهم ولا يشغلونهم بالكلام في أسباب الكائنات كما تفعل المتفلسفة فإن ذلك كثير التعب قليل الفائدة أو موجب للضرر ***********************16**********************************


اقتضاء الصراط المستقيم/16
< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
اقتضاء الصراط المستقيم/15 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/17










ومثل النبي ﷺ مثل طبيب دخل على مريض فرأى مرضه فعلمه فقال له اشرب كذا واجتنب كذا ففعل ذلك فحصل غرضه من الشفاء

والمتفلسف يطول معه الكلام في سبب ذلك المرض وصفته وذمه وذم ما أوجبه ولو قال له مريض فما الذي يشفيني منه لم يكن له بذلك علم تام

على أن الكلام في بيان تأثير بعض هذه الأسباب قد يكون فيه فتنة لمن ضعف عقله ودينه بحيث يختلط عقله فيتوله إذا لم يرزق من العلم والإيمان ما يوجب له الهدى واليقين

ويكفي العاقل أن يعلم أن ما سوى المشروع لا يؤثر بحال فلا منفعة فيه أو أنه وإن أثر فضرره أكثر من نفعه

ثم سبب قضاء حاجة بعض هؤلاء الداعين الأدعية المحرمة أن الرجل منهم قد يكون مضطرا اضطرارا لو دعا الله بها مشرك عند وثن لاستجيب له لصدق توجهه إلى الله وإن كان تحري الدعاء عند الوثن شركا ولو استجيب له على يد المتوسل به صاحب القبر أو غيره لاستغاثته فإنه يعاقب على ذلك ويهوي في النار إذا لم يعف الله عنه كما لو طلب من الله ما يكون فتنة له كما أن ثعلبة لما سأل النبي ﷺ أن يدعو له بكثرة المال ونهاه النبي ﷺ عن ذلك مرة بعد مرة فلم ينته حتى دعا له وكان ذلك سبب شقائه في الدنيا والآخرة وقد قال ﷺ إن الرجل ليسألني المسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل

فكم من عبد دعا دعاء غير مباح فقضيت حاجته في ذلك الدعاء وكانت سبب هلاكه في الدنيا والآخرة

تارة بأن يسأل مالا تصلح له مسألته كما فعل بلعام وثعلبة كخلق كثير دعوا بأشياء فحصلت لهم وكان فيها هلاكهم

وتارة بأن يسأل على الوجه الذي لا يحبه الله كما قال سبحانه ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين فهو سبحانه لا يحب المعتدين في صفة الدعاء ولا في المسئول وإن كانت حاجتهم قد تقضى كأقوام ناجوا الله في دعواتهم بمناجاة فيها جرأة على الله واعتداء لحدوده وأعطوا طلبتهم فتنة ولما يشاء الله سبحانه بل أشد من ذلك

ألست ترى السحر والطلسمات والعين وغير ذلك من المؤثرات في العالم بإذن الله قد يقضي الله بها كثيرا من أغراض النفوس الشريرة ومع هذا فقد قال سبحانه ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون فإنهم معترفون بأنه لا ينفع في الآخرة وأن صاحبه خاسر في الآخرة وإنما يتشبثون بمنفعته في الدنيا وقد قال تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم

كذلك أنواع من الداعين والسائلين قد يكون يدعون دعاء محرما لهم معه ذلك الغرض ويورثهم ضررا أعظم منه وقد يكون الدعاء مكروها ويستجاب له أيضا

ثم هذا التحريم والكراهة قد يعلمه الداعي وقد لا يعلمه على وجه لا يعذر فيه لتقصيره في طلب العلم أو تركه للحق وقد لا يعلمه على وجه يعذر فيه بأن يكون فيه مجتهدا أو مقلدا كالمقلد أو المجتهد اللذان يعذران في سائر الأعمال وغير المعذور قد يتجاوز الله عنه في ذلك الدعاء لكثرة حسناته من صدق قصده أو لمحض رحمة الله به أو نحو ذلك من الأسباب

فالحاصل أن ما يقع من الدعاء المشتمل على كراهة شرعية بمنزلة سائر أنواع العبادات

وقد علم أن العبادة المشتملة على وصف مكروه قد تغفر تلك الكراهة لصاحبها لاجتهاده أو تقليده أو حسناته أو غير ذلك ثم ذلك لا يمنع أن يعلم أن ذلك مكروه ينهى عنه وإن كان هذا الفاعل المعين قد زال موجب الكراهة في حقه

ومن هنا يغلط كثير من الناس فإنهم يبلغهم أن بعض الأعيان من الصالحين عبدوا عبادة أو دعوا دعاء وجدوا أثر تلك العبادة وذلك الدعاء فيجعلون ذلك دليلا على استحسان تلك العبادة والدعاء ويجعلون ذلك العمل سنة كأنه قد فعله نبي وهذا غلط لما ذكرناه خصوصا إذا كان ذلك العمل إنما كان أثره بصدق قام بقلب فاعله حين الفعل ثم تفعله الأتباع صورة لا صدقا فيضربون به لأنه ليس العمل مشروعا فلا يكون لهم الثواب المتبعين ولا قام بهم صدق ذلك الفاعل الذي لعله بصدق الطلب وصحة القصد يكفر عن الفاعل

ومن هذا الباب ما يحكى من آثار لبعض الشيوخ حصلت في السماع المبتدع فإن تلك الآثار إنما كانت عن أحوال قامت بقلوب أولئك الرجال حركها محرك كانوا في سماعه إما مجتهدين وإما مقصرين تقصيرا غمره حسنات قصدهم فيأخذ الأتباع حضور صورة السماع حضور أولئك الرجال سنة تتبع وليس مع المقلدين من الصدق والقصد ما لأجله عذروا أو غفر لهم فيهلكون بذلك

وكما يحكى عن بعض الشيوخ أنه رؤي بعد موته فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني بين يديه وقال لي يا شيخ السوء أنت الذي كنت تتمثل بسعدي ولبني لولا أعلم أنك صادق لعذبتك

فإذا سمعت دعاء أو مناجاة مكروهة في الشرع قد قضيت حاجة صاحبها فاعلم أن كثيرا منها ما يكون من هذا الباب

ولهذا كان الأئمة العلماء بشريعة الله يكرهون هذا من أصحابهم وإن وجد أصحابهم أثره كما يحكى عن سحنون المحب قال وقع في قلبي شيء من هذه الآيات فجئت إلى دجلة فقلت وعزتك لا أذهب حتى يخرج لي حوت فخرج حوت عظيم أو كما قال فبلغ ذلك الجنيد فقال كنت أحب أن تخرج إليه حية فتقتله

وكذلك حكي لنا أن بعض المجاورين بالمدينة جاء إلى قبر النبي ﷺ فاشتهى عليه نوعا من الأطعمة فجاء بعض الهاشميين إليه فقال إن النبي ﷺ بعث إليك هذا وقال لك اخرج من عندنا فإن من يكون عندنا لا يشتهي مثل هذا

وآخرون قضيت حوائجهم ولم يقل لهم مثل هذا لاجتهادهم أو تقليدهم أو قصورهم في العلم فإنه يغفر للجاهل مالا يغفر لغيره كما يحكى عن برخ العابد الذي استسقى في بني إسرائيل

ولهذا عامة ما يحكى في هذا الباب إنما هو عن قاصري المعرفة ولو كان هذا شرعا أو دينا لكان أهل المعرفة أولى به

ولا يقال هؤلاء لما نقصت معرفتهم ساغ لهم ذلك فإن الله لم يسوغ هذا لأحد لكن قصور المعرفة قد يرجى معه العفو والمغفرة

أما استحباب المكروهات أو إباحة المحرمات فلا فرق بين العفو عن الفاعل والمغفرة له وبين إباحة فعله أو المحبة له سواء كان ذلك متعلقا بنفس الفعل أو ببعض صفاته

وقد علمت جماعة ممن سأل حاجة من بعض المقبورين من الأنبياء والصالحين فقضيت حاجته وهو لا يخرج عما ذكرته وليس ذلك بشرع فيتبع ولا سنة

وإنما يثبت استحباب الأفعال واتخاذها دينا بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وما كان عليه السابقون الأولون وما سوى ذلك من الأمور المحدثة فلا يستحب وإن اشتملت أحيانا على فوائد لأنا نعلم أن مفاسدها راجحة على فوائدها

ثم هذا التحريم والكراهة المقترنة بالأدعية المكروهة إما من جهة المطلوب وإما من جهة نفس الطلب وكذلك الاستعاذة المحرمة أو المكروهة فكراهتها إما من جهة المستعاذ منه وإما من جهة نفس الاستعاذة فينجون من ذلك الشر ويقعون فيما هو أعظم

وأما المطلوب المحرم فمثل أن يسأل الله ما يضره في دنياه أو آخرته وإن كان لا يعلم أنه يضره فيستجاب له كالرجل الذي عاده النبي ﷺ فوجده مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو الله بشيء قال كنت أقول اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا قال سبحان الله إنك لا تستطيعه أو لا تطيقه هلا قلت ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وكأهل جابر بن عتيك لما مات فقال النبي ﷺ لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون

وقد عاب الله على من يقتصر على طلب الدنيا بقوله فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق فأخبر أن من لم يطلب إلا الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب

ومثل أن يدعو على غيره دعاء منهيا عنه كدعاء بلعام بن باعوراء على قوم موسى عليه السلام وهذا قد يبتلى به كثير من العباد أرباب القلوب فإنه قد يغلب على أحدهم ما يجده من حب أو بغض لأشخاص فيدعوا لأقوام وعلى أقوام بما لا يصلح فيستجاب له ويستحق العقوبة على ذلك الدعاء كما يستحقها على سائر الذنوب فإن لم يحصل له ما يمحو ذلك من توبة أو حسنات ماحية أو شفاعة غيره أو غير ذلك وإلا فقد يعاقب إما بأن يسلب ما عنده من ذوق طعم الإيمان ووجود حلاوته فينزل عن درجته وإما بأن يسلب عمل الإيمان فيصير فاسقا وإما بأن يسلب أصل الإيمان فيكون كافرا منافقا أو غير منافق

وما أكثر ما يبتلى بهذا المتأخرون من أرباب الأحوال القلبية بسبب عدم فقههم في أحوال قلوبهم وعدم معرفة شريعة الله في أعمال القلوب وربما غلب على أحدهم حال قلبه حتى لا يمكنه صرفه عما توجه إليه فيبقى ما يخرج منه مثل السهم الخارج من القوس وهذه الغلبة إنما تقع غالبا بسبب التقصير في الأعمال المشروعة التي تحفظ حال القلب فيؤاخذ على ذلك وقد تقع بسبب اجتهاد يخطئ صاحبه فتقع معفوا عنها

ثم من غرور هؤلاء وأشباههم اعتقادهم أن استجابة مثل هذا الدعاء كرامة من الله تعالى لعبده وليس في الحقيقة كرامة وإنما يشبه الكرامة من جهة كونها دعوة نافذة وسلطانا قاهرا وإنما الكرامة في الحقيقة ما نفعت في الآخرة أو نفعت في الدنيا ولم تضر في الآخرة وإنما هذا بمنزلة ما ينعم به الله على بعض الكفار والفساق من الرياسات والأموال في الدنيا فإنها إنما تصير نعمة حقيقية إذا لم تضر صاحبها في الآخرة ولهذا اختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء هل ما ينعم به على الكافر نعمة أم ليس بنعمة وإن كان الخلاف لفظيا قال الله تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم فإذا هم مبلسون وفي الحديث إذا رأيت الله ينعم على العبد مع إقامته على معصيته فإنما هو استدراج يستدرجه به

ومثال هذا في الاستعاذة قول المرأة التي جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخطبها فقالت أعوذ بالله منك فقال لقد عذت بمعاذ ثم انصرف عنها فقيل لها إن هذا النبي ﷺ فقالت أنا كنت أشقى من ذلك

وأما التحريم من جهة الطلب فيكون تارة لأنه دعاء لغير الله مثل ما يفعله السحرة من مخاطبة الكواكب وعبادتها ونحو ذلك فإنه قد يقضى عقب ذلك أنواع من القضاء إذا لم يعارضه معارض من دعاء أهل الإيمان وعبادتهم أو غير ذلك ولهذا تنفذ هذه الأمور في زمان فترة الرسل وفي بلاد الكفر والنفاق مالا تنفذ في دار الإسلام وزمانه

ومن هذا أني أعرف رجالا يستغيثون ببعض الأحياء في شدائد تنزل بهم فيفرج عنهم وربما يعاينون أمورا وذلك الحي المستغاث به لم يشعر بذلك ولا علم له به البتة وفيهم من يدعو على أقوام أو يتوجه في إيذائهم فيرى بعض الأحياء أو بعض الأموات يحول بينه وبين إيذاء أولئك وربما رآه ضاربا له بسيف وإن كان الحي لا شعور له بذلك وإنما ذلك من فعل الله سبحانه بسبب يكون بين المقصود وبين الرجل الدافع من اتباع له وطاعة فيما يأمره من طاعة الله ونحو ذلك فهذا قريب

وقد يجري لعباد الأصنام أحيانا من هذا الجنس المحرم ما يظنون أنه محبة من الله بما تفعله الشياطين لأعوانهم فإذا كان الأثر قد يحصل عقب دعاء من يتيقن أنه لم يسمع الدعاء فكيف يتوهم أنه هو الذي تسبب في ذلك أو أنه له فيه فعلا وإذا قيل إن الله يفعله بذلك السبب

فإذا كان السبب محرما لم يجز كالأمراض التي يحدثها الله عقب أكل السموم وقد يكون الدعاء المحرم في نفسه دعاء لغير الله وأن يدعو الله مستشفعا بغيره إليه كما تقول النصارى يا والدة الإله اشفعي لنا إلى الإله وقد يكون دعاء لله لكنه توسل إليه بما لا يحب أن يتوسل به إليه كما يفعل المشركون الذين يتوسلون إلى الله بأوثانهم وقد يكون دعا الله بكلمات لا تصلح أن يناجي بها الله أو يدعي بها لما في ذلك من الاعتداء

فهذه الأدعية ونحوها وإن كان قد يحصل لصاحبها أحيانا غرضه لكنها محرمة لما فيها من الفساد الذي يربو على منفعتها كما تقدم ولهذا كانت هذه فتنة في حق من لم يهده الله وينور قلبه فيفرق بين أمر التكوين وأمر التشريع ويفرق بين أمر القدر وأمر الشرع ويعلم أن الأقسام ثلاثة

أمور قدرها الله وهو لا يحبها ولا يرضاها فإن الأسباب المحصلة لهذه تكون محرمة موجبة لعقابه

وأمور شرعها فهو يحبها من العبد ويرضاها ولكن لم يعنه على حصولها

فهذه محمودة عنده مرضية وإن لم توجد

والقسم الثالث أن يعين الله العبد على ما يحبه منه

فالأول إعانة الله والثاني عبادة الله والثالث جمع له بين العبادة والإعانة كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين

فما كان من الدعاء غير المباح ذا اثر فهو من باب الإعانة لا العبادة كدعاء سائر الكفار والمنافقين والفساق ولهذا قال تعالى في مريم وصدقت بكلمات ربها وكتبه ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر

ومن رحمة الله تعالى أن الدعاء المتضمن شركا كدعاء غيره أن يفعل أو دعائه أن يدعو الله ونحو ذلك لا يحصل به غرض صاحبه ولا يورث حصول الغرض شبهة إلا في الأمور الحقيرة فأما الأمور العظيمة كإنزال الغيث عند القحوط وكشف العذاب النازل فلا ينفع فيه هذا الشرك كما قال تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وقال تعالى ام من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا

فكون هذه المطالب العظيمة لا يستجيب فيها إلا هو سبحانه دل على توحيده وقطع شبهة من أشرك به وعلم بذلك أن ما دون هذا أيضا من الإجابات إنما حصولها منه وحده لا شريك له وإن كانت تجري بأسباب محرمة أو مباحة كما أن خلقه للسموات والأرض والرياح والسحاب وغير ذلك من الأجسام العظيمة دل على وحدانيته وأنه خالق كل شيء وأن ما دون هذا بأن يكون خلقا له أولى إذ هو حاصل عن مخلوقاته العظيمة فخالق السبب التام خالق للمسبب لا محالة

وجماع الأمر أن الشرك نوعان

شرك في ربوبيته بأن يجعل لغيره معه تدبير إما كما قال سبحانه قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك وماله منهم من ظهير فبين أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالا ولا يشركونه في شيء من ذلك ولا يعينونه على ملكه ومن لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عونا فقد انقطعت علاقته

وشرك في الألوهية بأن يدعو غيره دعاء عبادة أو دعاء مسألة كما قال تعالى إياك نعبد وإياك نستعين فكما أن إثبات المخلوقات أسباب لا تقدح في توحيد الربوبية ولا تمنع أن الله خالق كل شيء ولا توجب أن يدعي مخلوق دعاء عبادة أو دعاء استغاثة كذلك إثبات بعض الأفعال المحرمة من شرك أو غيره أسبابا لا يقدح في توحيد الإلهية ولا يمنع أن يكون الله هو الذي يستحق الدين الخالص ولا يوجب أن تستعمل الكلمات والأفعال التي فيها شرك إذ كان الله يسخط ذلك ويعاقب العبد عليه وتكون مضرة ذلك على العبد أكثر من منفعته إذ قد جعل الله الخير كله في أنا لا نعبد إلا إياه ولا نستعين إلا إياه وعامة آيات القرآن تثبت هذا الأصل الأصيل حتى إنه سبحانه قطع أثر الشفاعة بدون إذنه كقوله سبحانه من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وقوله سبحانه وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع وقوله تعالى وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وكقوله تعالى قل أندعوا من دون الله مالا ينفعنا ولا يضرنا الآية وكقوله سبحانه ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمت أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وسورة الأنعام سورة عظيمة مشتملة على أصول الإيمان والتوحيد وكذلك قوله تعالى ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع وقوله سبحانه والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقوله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا وسورة الزمر أصل عظيم في هذا

ومن هذا قوله سبحانه ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين يدعو من دون الله مالا يضره ومالا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير وكذلك قوله تعالى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون والقرآن عامته إنما هو في تقرير هذا الأصل العظيم الذي هو أصل الأصول

وهذا الذي ذكرناه كله من تحريم هذا الدعاء مع كونه قد يؤثر إذا قدر أن هذا الدعاء كان سببا أو جزءا من السبب في حصول طلبته

والناس قد اختلفوا في الدعاء المستعقب لقضاء الحاجات

فزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة أنه لا فائدة فيه أصلا فإن المشيئة الالهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء أو لا تكون اقتضته وحينئذ فلا ينفع الدعاء

وقال قوم ممن تكلم في العلم بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب بمنزلة الخبر الصادق والعلم السابق

والصواب ما عليه الجمهور من أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب أو غيره كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة وسواء سمي سببا أو شرطا أو جزءا من السبب فالمقصود هنا واحد فإذا أراد الله بعبد خيرا ألهمه دعاءه والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة وإنما أحمل هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبدا أو يرويه الهمه أن يأكل أو يشرب وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب فيتوب عليه وإذا أراد أن يرحمه ويدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها كما اقتضت وجود دخول الجنة بالعمل الصالح ووجود الولد بالوطء والعلم بالتعلم فمبدأ الأمور من الله وتمامها على الله لا أن العبد نفسه هو المؤثر في الرب أو في ملكوت الرب بل الرب سبحانه هو المؤثر في ملكوته وهو جاعل دعاء عبده سببا لما يريده سبحانه من القضاء كما قال رجل للنبي ﷺ يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا قال هي من قدر الله وعنه ﷺ أنه قال إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض

فهذا في الدعاء الذي يكون سببا في حصول المطلوب

وأعلى من هذا ما جاء به الكتاب والسنة من رضا الله وفرحه وضحكه بسبب أعمال عباده الصالحة كما جاءت به النصوص وكذلك غضبه ومقته

وقد بسطنا الكلام في هذا الباب وما للناس فيه من المقالات والاضطراب في غير هذا الموضع

فما فرض من الأدعية المنهي عنها سببا فقد تقدم الكلام عليه

فأما غالب هذه الأدعية التي ليست مشروعة فلا تكون هي السبب في حصول المطلوب ولا جزءا منه ولا يعلم ذلك بل لا يتوهم إلا وهما كاذبا كالنذر سواء فإن في الصحيح عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه نهى عن النذر وقال إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل مالم يكن البخيل يريد أن يخرجه

فقد أخبر النبي ﷺ أن النذر لا يأتي بخير وأنه ليس من الأسباب الجالبة لخير أو الدافعة لشر أصلا وإنما يوافق القدر موافقة كما توافقه سائر الأسباب فيخرج من البخيل حينئذ مالم يكن يخرجه قبل ذلك ومع هذا فأنت ترى الذين يحكون أنهم وقعوا في شدائد فنذروا نذرا لكشف شدائدهم أكثر أو قريبا من الذين يزعمون أنهم دعوا عند القبور أو غيرها فقضيت حوائجهم بل من كثرة اغترار الضالين المضلين بذلك صارت النذور المحرمة في الشرع مآكل لكثير من السدنة والمجاورين العاكفين على القبور أو غيرها يأخذون من الأموال شيئا كثيرا وأولئك الناذرون يقول أحدهم مرضت فنذرت ويقول الآخر خرج علي المحاربون فنذرت ويقول الآخر ركبت البحر فنذرت ويقول الآخر حبست فنذرت ويقول الآخر أصابتني فاقة فنذرت

وقد قام بنفوسهم أن هذه النذور هي السبب في حصول مطلوبهم ودفع مرهوبهم وقد أخبر الصادق المصدوق أن نذر طاعة الله فضلا عن معصيته ليس سببا لحصول الخير وإنما الخير الذي يحصل للناذر يوافقه موافقة كما يوافق سائر الأسباب فما هذه الأدعية غير المشروعة في حصول المطلوب بأكثر من هذه النذور في حصول المطلوب بل تجد كثيرا من الناس يقول إن المكان الفلاني أو المشهد الفلاني أو القبر الفلاني يقبل النذر بمعنى أنهم نذروا له نذرا إن قضيت حاجتهم وقضيت كما يقول القائلون الدعاء عند المشهد الفلاني أو القبر الفلاني مستجاب بمعنى أنهم دعوا هناك مرة فرأوا اثر الإجابة بل إذا كان المبطلون يضيفون قضاء حوائجهم إلى خصوص نذر المعصية مع أن جنس النذر لا أثر له في ذلك لم يبعد منهم إذا أضافوا حصول غرضهم إلى خصوص الدعاء بمكان لا خصوص له في الشرع لأن لأن جنس الدعاء هذا مؤثر فالإضافة إليه ممكنة بخلاف جنس النذر فإنه لا يؤثر

والغرض بأن يعرف أن الشيطان إذا زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعا ولا وصفا فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزينه لهم ثم كما لم يكن ذلك الاعتقاد منهم صحيحا فكذلك هذ إذا كلاهما مخالف للشرع

ومما يوضح ذلك أن اعتقاد المعتقد أن هذا الدعاء أو هذا النذر هو السبب أو بعض السبب في حصول المطلوب لا بد له من دلالة ولا دليل على ذلك في الغالب إلا الاقتران أحيانا أعني وجودهما جميعا وإن تراخى أحدهما عن الآخر مكانا أو زمانا مع الانتقاض أضعاف أضعاف الاقتران ومجرد اقتران الشيء بالشيء بعض الأوقات مع انتقاضه ليس دليلا على العلة باتفاق العقلاء إذا كان هنالك سبب آخر صالح إذ تخلف الأثر عنه يدل على عدم العلية

فإن قيل إن التخلف لفوات شرط أو لوجود مانع

قيل بل الاقتران لوجود سبب آخر وهذا هو الراجح فإنا نرى الله في كل وقت يقضي الحاجات ويفرج الكربات بأنواع من الأسباب لا يحصيها إلا هو وما رأيناه يحدث المطلوب مع وجود هذا الدعاء المبتدع إلا نادرا فإذا رأيناه قد أحدث كان شيئا وكان الدعاء المبتدع قد وجد إحالة حدوث الحادث على ما علم من الأسباب التي لا يحصيها إلا الله أولى من إحالته على ما لم يثبت كونه سببا

ثم الاقتران إن كان دليلا على العلة فالانتقاض دليل على عدمها

وهنا افترق الناس على ثلاث فرق مغضوب عليهم وضالون والذين أنعم الله عليهم

فالمغضوب عليهم يطعنون في عامة الأسباب المشروعة وغير المشروعة

ويقولون الدعاء المشروع قد يؤثر وقد لا يؤثر ويتصل بذلك الكلام في دلالة الآيات على تصديق الأنبياء عليهم السلام

والضالون يتوهمون في كل ما يتخيل سببا وإن كان يدخل في دين اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم والمتكايسون من المتفلسفة يحيلون ذلك على أمور فلكية وقوى نفسانية وأسباب طبيعية يدورون حولها لا يعدلون عنها

فأما المهتدون فهم لا ينكرون ما خلقه الله من القوى والطبائع في جميع الأجسام والأرواح إذ الجميع خلق الله لكنهم يؤمنون بما وراء ذلك من قدرة الله التي هو بها على كل شيء قدير ومن أنه كل يوم هو في شأن ومن أن إجابته لعبده المؤمن خارجة عن قوة نفس العبد وتصرف جسمه وروحه وبأن الله يخرق العادات لأنبيائه لإظهار صدقهم ولإكرامهم بذلك ونحو ذلك من حكمه وكذلك يخرقها لأوليائه تارة لتأييد دينه بذلك وتارة تعجيلا لبعض ثوابهم في الدنيا وتارة إنعاما عليهم بجلب نعمة أو دفع نقمة أو لغير ذلك ويؤمنون بأن الله يرد ما أمرهم به من الأعمال الصالحة والدعوات المشروعة إلى ما جعله في قوى الأجسام والأنفس ولا يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية أو الشرعية على فسادها ولا يعلمون بما حرمته الشريعة وإن ظن أن له تأثيرا

وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب أو شرط السبب في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيرا أو قد يظن كثيرا وقد يتوهم كثيرا وهما ليس له مستند صحيح إلا ضعف العقل

ويكفيك أن كل ما يظن أنه سبب لحصول المطالب مما حرمته الشريعة من دعاء أو غيره لا بد فيه من أحد أمرين

إما أن لا يكون سببا صحيحا كدعاء مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا وإما أن يكون ضرره أكثر من نفعه

فأما ما كان سببا صحيحا منفعته أكثر من مضرته فلا ينهى عنه الشرع بحال وكل مالم يشرع من العبادات مع قيام المقتضي لفعله من غير مانع فإنه من باب النهي عنه كما تقدم

وأما العلم بغلبة السبب فله طرق في الأمور الشرعية كما له طرق في الأمور الطبيعية

منها الاضطرار فإن الناس لما عطشوا وجاعوا على عهد رسول الله ﷺ فأخذ غير مرة ماء قليلا فوضع يده الكريمة فيه حتى فار الماء من بين أصابعه ووضع يده الكريمة في الطعام وبرك فيه حتى كثر كثرة خارجة عن العادة فإن العلم بهذا الاقتران المعين يوجب العلم بأن كثرة الماء والطعام كانت بسببه ص - علما ضروريا كما يعلم أن الرجل ذا ضرب بالسيف ضربة شديدة صرعته فمات أن الموت كان منها بل أوكد فإن العلم بأن كثرة الماء الطعام ليس له سبب معتاد في مثل ذلك أصلا مع أن العلم بهذه المقارنة يوجب علما ضروريا بذلك وكذلك لما دعا النبي ﷺ لأنس بن مالك أن يكثر الله ماله وولده فكان نخله يحمل في السنة مرتين على خلاف عادة بلده ورأى من ولده وولد ولده أكثر من مائة فإن مثل هذا الحادث يعلم أنه كان بسبب ذلك الدعاء

ومن رأى طفلا يبكي بكاء شديدا فألقمته أمه الثدي فسكن علم يقينا أن سكونه كان لأجل ارتضاعه اللبن

والاحتمالات وإن تطرقت إلى النوع فإنها قد لا تتطرق إلى الشخص المعين وكذلك الأدعية فإن المؤمن يدعو بدعاء فيرى المدعو بعينه مع عدم الأسباب المقتضية له أو يفعل فعلا كذلك فيجده كذلك كالعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه لما قال يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم اسقنا فمطروا في يوم شديد الحر مطرا لم يجاوز عسكرهم وقال احملنا فمشوا على النهر الكبير مشيا لم يبل أسافل أقدام دوابهم وأيوب السختياني لما ركض الجبل لصاحبه ركضة فنبعت له عين ماء فشرب ثم غارت فدعا الله وحده لا شريك له دل الوحي المنزل والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله

فتجد أكثر المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفية في حقهم فأحدث لهم تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه على وجه يوجب العلم تارة والظن الغالب أخرى أن الدعاء كان هو السبب في هذا وتجد هذا ثابتا عند ذوي العقول والبصائر الذين يعرفون جنس الأدلة وشروطها واطرادها

وأما اعتقاد تأثير الأدعية المحرمة فعامته إنما نجد اعتقاده عند أهل الجهل الذين لا يميزون بين الدليل وغيره ولا يفهمون ما يشترط للدليل من الاطراد وإنما يقع في أهل الظلمات من الكفار والمنافقين أو ذوي الكبائر الذين أظلمت قلوبهم بالمعاصي حتى لا يميزون بين الحق والباطل

وأما ما ذكر في المناسك أنه بعد تحية النبي ﷺ وصاحبيه والصلاة والسلام يدعو فقد ذكر الإمام أحمد وغيره أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته عليه الصلاة و السلام ثم يدعو لنفسه وذكر انه إذا حياه وصلى عليه يستقبله بوجهه بأبي هو وأمي ﷺ فإذا أراد الدعاء جعل الحجرة عن يساره واستقبل القبلة ودعا وهذا مراعاة منهم لذلك فإن الدعاء عند القبر لا يكره مطلقا بل يؤمر به للميت كما جاءت به السنة فيما تقدم ضمنا وتبعا وإنما المكروه أن يتحرى المجيء إلى القبر للدعاء عنده

وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا يدنو من القبر فيسلم على النبي ﷺ ثم يدعو مستقبل القبلة يوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره وإنما اختلفوا لما فيه من استدباره فأما إذا جعل الحجرة عن يساره فقد زال المحذور بلا خلاف وصار في الروضة أو أمامها

ولعل هذا الذي ذكره الأئمة أخذوه من كراهة الصلاة إلى القبر فإن ذلك قد ثبت النهي فيه عن النبي ﷺ كما تقدم فلما نهى أن يتخذ القبر مسجدا أو قبلة أمروا بأن لا يتحرى الدعاء إليه كما لا يصلي إليه

قال مالك في المبسوط لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ يدعو ولكن يسلم ويمضى ولهذا والله أعلم حرفت الحجرة وثلثت لما بنيت فلم يجعل حائطها الشمالي على سمت القبلة ولا جعل جدارها مربعا وكذلك قصدوا قبل أن تدخل الحجرة في المسجد

فروى ابن بطة بإسناد معروف عن هشام بن عروة حدثني أبي قال كان الناس يصلون إلى القبر فأمر عمر بن عبد العزيز فرفع حتى لا يصلي إليه الناس فلما هدم بدت قدم بساق وركبة قال ففزع من ذلك عمر بن عبد العزيز فأتاه عروة فقال هذه ساق عمر وركبته فسرى عن عمر بن عبد العزيز

وهذا أصل مستمر فإنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يستحب أن يصلي إليه ألا ترى أن المسلم لما نهى عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه ينهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء ومن الناس من يتحرى قت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها معظمه الصالح سواء كانت في المشرق أو غيره وهذا ضلال بين وشرك واضح كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض مقدسيهم من الصالحين وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله وقبر رسول الله ﷺ وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى

ومما يبين لك ذلك أن نفس السلام على النبي ﷺ قد راعوا فيه السنة حتى لا يخرج إلى الوجه المكروه الذي قد يجر إلى إطراء النصارى عملا بقوله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله فكان بعضهم يسأل عن السلام على القبر خشية أن يكون من هذا الباب حتى قيل له إن ابن عمر كان يفعل ذلك

ولهذا كره مالك رضي الله عنه وغيره من أهل العلم لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد أن يجيء فيسلم على قبر النبي ﷺ وصاحبيه قال وإنما يكون ذلك لأحدهم إذا قدم من سفر أو أراد سفرا ونحو ذلك

ورخص بعضهم في السلام عليه إذا دخل المسجد للصلاة ونحوها

وأما قصده دائما للصلاة والسلام فما علمت أحدا رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا مع أنا قد شرع لنا إذا دخلنا المسجد أن نقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته كما نقول ذلك في آخر صلاتنا بل قد استحب ذلك لكل من دخل مكانا ليس فيه أحد أن يسلم على النبي ﷺ لما تقدم من أن السلام عليه يبلغه من كل موضع

فخاف مالك وغيره أن يكون فعل ذلك عند القبر كل ساعة نوعا من اتخاذ القبر عيدا

وأيضا فإن ذلك بدعة فقد كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم يجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه لعلمهم رضي الله عنهم بما كان النبي ﷺ يكرهه من ذلك وبما نهاهم عنه وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه وفي التشهد كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته والمأثور عن ابن عمر يدل على ذلك

قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد الرحمن بن زيد حدثني أبي عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي ﷺ فسلم وصلى عليه وقال السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه

وعبد الرحمن بن زيد وأن كان يضعف لكن الحديث المتقدم عن نافع الصحيح يدل على أن ابن عمر ما كان يفعل ذلك دائما ولا غالبا

وما أحسن ما قال مالك لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره ولهذا كره الأئمة استلام القبر وتقبيله وبنوه بناء منعوا الناس أن يصلوا إليه وكانت حجرة عائشة التي دفنوه فيها ملاصقة لمسجده وكان ما بين منبره وبيته هو الروضة ومضى الأمر على ذلك في عهدالخلفاء الراشدين ومن بعدهم وزيد في المسجد زيادات وغيروا الحجرة عن حالها هي وغيرها من الحجر المطيفة بالمسجد من شرقيه وقبليه حتى بناه الوليد بن عبد الملك وكان عمر بن عبد العزيز عامله على المدينة فابتاع هذه الحجر وغيرها وهدمهن وأدخلهن في المسجد فمن أهل العلم من كره ذلك كسعيد بن المسيب ومنهم من لم يكرهه

قال أبو بكر الأثرم قلت لأبي عبد الله يعني أحمد بن حنبل قبر النبي ﷺ يمس ويتمسح به فقال ما أعرف هذا قلت له فالمنبر فقال أما المنبر فنعم قد جاء فيه قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر قال ويروونه عن سعيد بن المسيب في الرمانة قلت ويروون عن يحيى بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا فرأيته استحسنه ثم قال لعله عند الضرورة والشيء قيل لأبي عبد الله إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر وقلت له رأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه ويقومون ناحية فيسلمون فقال أبو عبد الله نعم وهكذا كان ابن عمر يفعل ثم قال أبو عبد الله بأبي هو وأمي ﷺ

فقد رخص أحمد وغيره في التمسح بالمنبر والرمانة التي هي موضع مقعد النبي ﷺ ويده ولم يرخصوا في التمسح بقبره وقد حكى بعض أصحابنا

رواية في مسح قبره لأن أحمد شيع بعض الموتى فوضع يده على قبره يدعو له والفرق بين الموضعين ظاهر

وكره مالك التمسح بالمنبر كما كرهوا التمسح بالقبر

فأما اليوم فقد احترق المنبر وما بقيت الرمانة وإنما بقي من المنبر خشبة صغيرة فقد زال ما رخص فيه لأن الأثر المنقول عن ابن عمر وغيره إنما هو التمسح بمقعده

وروى الأثرم بإسناده عن العتبي عن مالك عن عبد الله بن دينار قال رأيت ابن عمر يقف على قبر النبي ﷺ فيصلي عليه وعلى أبي بكر وعمر

الوجه الثالث في كراهة قصد القبور للدعاء أن السلف رضي الله عنهم كرهوا ذلك متأولين في ذلك قوله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين والحسن بن الحسن ابن عمه وهما أفضل أهل البيت من التابعين وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا

وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنه أمر من سلم على النبي ﷺ وصاحبيه ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كمالك وغيره ومن المتأخرين مثل أبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج بن الجوزي

وما أحفظ لا عن صحابي ولا عن تابعي ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عنده ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الأئمة المعروفين وقد صنف الناس في الدعاء وأوقاته وأمكنته وذكروا فيه الآثار فما ذكر أحد منهم في فضل الدعاء شيء من القبور حرفا واحدا فيما أعلم

فكيف يجوز والحالة هذه أن يكون الدعاء عندها أجوب وأفضل والسلف تنكره ولا نعرفه وتنهى عنه ولا تأمرنا به

نعم صار من نحو المائة الثالثة يوجد متفرقا في كلام بعض الناس فلان ترجى الإجابة عند قبره وفلان يدعى عند قبره ونحو ذلك كما وجد الإنكار على من يقول ذلك ويأمر به كائنا من كان فإن أحسن أحواله أن يكون مجتهدا في هذه المسألة أو مقلدا فيعفوا الله عنه

أما إن هذا الذي قاله يقتضي استحباب ذلك فلا بل قد يقال هذا من جنس قول بعض الناس المكان الفلاني يقبل النذر والموضع الفلاني ينذر له ويعينون عينا أو بئرا أو شجرة أو مغارة أو حجرا أو غير ذلك من الأوثان فكما لا يكون مثل هذا القول عمدة في الدين كذلك الأول

ولم يبلغنا إلى الساعة عن أحد من السلف رخصة في ذلك إلا ما روى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور بإسناده عن محمد بن إسماعيل بن أبي فديك قال أخبرني سليمان بن يزيد الكعبي عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة

قال ابن أبي فديك وأخبرني عمر بن حفص أن ابن أبي مليكة كان يقول من أحب أن يقوم وجاه النبي ﷺ فليجعل القنديل الذي في القبلة عند رأس القبر على رأسه

قال ابن أبي فديك وسمعت بعض من أدركت يقول بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي ﷺ فتلا هذه الآية إن الله وملائكته يصلون على النبي فقال صلى الله عليك يا محمد حتى يقولها سبعين مرة ناداه ملك صلى الله عليه يا فلان ولم تسقط له حاجة

فهذا الأثر من ابن أبي فديك قد يقال فيه استحباب قصد الدعاء عند القبر ولا حجة فيه لوجوه

أحدها أن ابن أبي فديك روى هذا عن مجهول وذكر ذلك المجهول أنه بلاغ عمن لا يعرف ومثل هذا لا يثبت به شيء أصلا وابن أبي فديك متأخر في حدود المائة الثانية ليس هو من التابعين ولا تابعيهم المشهورين حتى يقال قد كان هذا معروفا في القرون الثلاثة وحسبك أن أهل العلم بالمدينة المعتمدين لم ينقلوا شيئا من ذلك

ومما يضعفه أنه قد ثبت عن النبي ﷺ أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشرا فكيف يكون من صلى عليه سبعين مرة جزاؤه أن يصلي عليه ملك من الملائكة وأحاديثه المتقدمة تبين أن الصلاة والسلام عليه تبلغه من البعيد والقريب

الثاني أن هذا إنما يقتضي استحباب الدعاء للزائر في ضمن الزيارة كما ذكر ذلك العلماء في مناسك الحج وليس هذا من مسألتنا فإنا قد قدمنا أن من زاره زيارة مشروعة ودعا في ضمنها لم يكره هذا كما ذكره بعض العلماء مع ما في ذلك من النزاع مع أن المنقول عن السلف كراهة الوقوف عند القبر للدعاء وهو أصح وإنما المكروه الذي ذكرناه قصد الدعاء عنده ابتداء كما أن من دخل المسجد فصلى تحية المسجد ودعا ضمنها لم يكره ذلك أو توضأ في مكان وصلى هناك ودعا في ضمن صلاته لم يكره ذلك ولو تحرى الدعاء في تلك البقعة أو في مسجد لا خصيصة له في الشرع دون غيره من المساجد نهي عن هذا التخصيص

الثالث أن الاستجابة هنا لعلها لكثرة صلاته على النبي ﷺ فإن الصلاة عليه قبل الدعاء وفي وسطه وآخره من أقوى الأسباب التي يرجى بها إجابة سائر الدعاء كما جاءت به الآثار مثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي يروى موقوفا ومرفوعا الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى تصلي على نبيك رواه الترمذي

وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة فيما رواه عنه الزبير بن بكار وروى عنه عن عبد العزيز بن محمد الداروردي قال رأيت رجلا من أهل المدينة يقال له محمد بن كيسان يأتي إذا صلى العصر من يوم الجمعة ونحن جلوس مع ربيعة بن أبي عبد الرحمن فيقوم عند القبر فيسلم على النبي ﷺ ويدعو حتى يمسي فيقول جلساء ربيعة انظروا إلى ما يصنع هذا فيقول دعوه فإنما للمرء ما نوى

ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار وهو مضعف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه لكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به

وهذه الحكاية قد يتمسك بها على الطرفين فإنها تتضمن أن الذي فعله هذا الرجل أمر مبتدع عندهم لم يكن من فعل الصحابة ولا غيرهم من علماء أهل المدينة وإلا لو كان هذا أمرا معروفا من عمل أهل المدينة لما استغربه جلساء ربيعة وأنكروه بل ذكر محمد بن الحسن لها في كتابه مع رواية الزبير بن بكار ذلك عنه يدل على أنهم على عهد مالك وذويه ما كانوا يعرفون هذا العمل وإلا لو كان هذا شائعا بينهم لما ذكروا في كتاب مصنف ما يتضمن استغراب ذلك

ثم إن جلساء ربيعة وهم قوم فقهاء علماء أنكروا ذلك وربيعة أقره فغايته أن يكون في ذلك خلاف ولكن تعليل ربيعة له بأن لكل امرئ ما نوى لا يقتضي الإقرار على ما يكره فإنه لو أراد الصلاة هناك لنهاه وكذلك لو أراد الصلاة في وقت نهي

وإنما الذي اراده ربيعة والله أعلم أن من كانت له نية صالحة أثيب على نيته وإن كان الفعل الذي فعله ليس بمشروع إذا لم يتعمد مخالفة الشرع

فهذا الدعاء وإن لم يكن مشروعا لكن لصاحبه نية صالحة قد يثاب علىنيته

فيستفاد من ذلك أنهم مجمعون على أن الدعاء عند القبر غير مستحب ولا خصيصة في تلك البقعة وإنما الخير قد يحصل من جهة نية الداعي

ثم إن ربيعة لم ينكر عليه متابعة لجلسائه إما لأنه لم يبلغه أن النبي ﷺ نهى عن اتخاذ قبره عيدا وعن الصلاة عنده فإن ربيعة كما قال أحمد كان قليل العلم بالآثار أو بلغه ذلك لكن لم ير مثل هذا داخلا في معنى النهي أو لأنه لم ير هذا محرما وإنما غايته أن يكون مكروها وإنكار المكروه ليس بفرض أو أنه رأى أن ذلك الرجل إنما قصده السلام والدعاء جاء ضمنا وتبعا

وفي هذا نظر ولا ريب أن العلماء قد يختلفون في مثل هذا كما اختلفوا في صحة الصلاة عند القبر ومن لم يبطلها قد لا ينهى عن فعل ذلك

والعمدة على الكتاب والسنة وما كان عليه السابقون مع أن محمد بن الحسن هذا قد روى أخبارا عن السلف تؤيد ما ذكرناه فقال حدثني عمر بن هرون عن سلمة بن وردان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي ﷺ ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو

فهذا إن كان ثابتا عن أنس فهو مؤيد لما ذكرناه فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة وإما كان يقدم من البصرة إما مع الحجيج أو نحوهم فيسلم على النبي ﷺ ثم إذا أراد الدعاء فالذي ينبغي في حق مثله إنما يكون ضمنا وتبعا وهو مستدبر القبر


******************.*****17.**********************************


اقتضاء الصراط المستقيم/17

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/16 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/18










وذكر محمد بن الحسن عن عبد العزيز بن محمد ومحمد بن إسماعيل وغيرهما عن محمد بن هلال وعن غير واحد من أهل العلم أن بيت رسول الله ﷺ الذي فيه قبره هو بيت عائشة الذي كانت تسكنه وأنه مربع مبني بحجارة سود وقصة وأن الذي يلي القبلة منه أطوله والشرقي والغربي سواء والشامي أنقصها وباب البيت مما يلي الشام وهو مسدود بحجارة سود وقصة

ثم بنى عمر بن عبد العزيز على ذلك هذا البناء الظاهر وعمر بن عبد العزيز زواه لئلا يتخذه الناس قبلة تخص فيه الصلاة من بين مسجد النبي ﷺ وذلك أن رسول الله ﷺ قال كما حدثني عبد العزيز بن محمد عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وحدثني مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رسول الله ﷺ قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

فهذه الآثار إذا ضمت إلى ما قدمنا من الآثار علم كيف كان حال السلف في هذا الباب وأن ما عليه كثير من الخلف في ذلك هو من المنكرات عندهم

ولا يدخل في هذا الباب ما يروى من أن قوما سمعوا رد السلام من قبر النبي ﷺ أو قبور غيره من الصالحين وأن سعيد بن المسيب كان يسمع الأذان من القبر ليالي الحرة ونحو ذلك

فهذا كله حق ليس مما نحن فيه والأمر أجل من ذلك وأعظم

وكذلك أيضا ما يروى أن رجلا جاء إلى قبر النبي ﷺ فشكا إليه الجدب عام الرمادة فرآه وهو يأمره أن يأتي عمر فيأمره أن يخرج فيستسقي الناس فإن هذا ليس من هذا الباب ومثل هذا يقع كثيرا لمن هو دون النبي ﷺ وأعرف من هذه الوقائع كثيرا

وكذلك سؤال بعضهم للنبي ﷺ أو لغيره من أمته حاجته فتقضى له فإن هذا قد وقع كثيرا وليس هو مما نحن فيه

وعليك أن تعلم أن إجابة النبي ﷺ أو غيره لهؤلاء السائلين ليس مما يدل على استحباب السؤال فإنه هو القائل ﷺ إن أحدكم ليسألني مسألة فأعطيه إياها فيخرج بها يتأبطها نارا فقالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل

وأكثر هؤلاء السائلين الملحين لما هم فيه من الحال لو لم يجابوا لاضطرب إيمانهم كما أن السائلين له في الحياة كانوا كذلك وفيهم من أجيب وأمر بالخروج من المدينة

فهذا القدر إذا وقع يكون كرامة لصاحب القبر أما أنه يدل على حسن حال السائل فلا فرق بين هذا وهذا

فإن الخلق لم ينهوا عن الصلاة عند القبور واتخاذها مساجد استهانة بأهلها بل لما يخاف عليهم من الفتنة وإنما تكون الفتنة إذا انعقد سببها فلولا أنه قد يحصل عند القبور ما يخاف الافتتان به لما نهي الناس عن ذلك

وكذلك ما يذكر من الكرامات وخوارق العادات التي توجد عند قبور الأنبياء والصالحين مثل نزول الأنوار والملائكة عندها وتوقي الشياطين والبهائم لها واندفاع النار عنها وعمن جاورها وشفاعة بعضهم في جيرانه من الموتى واستحباب الاندفان عند بعضهم وحصول الأنس والسكينة عندها ونزول العذاب بمن استهان بها فجنس هذا حق ليس مما نحن فيه وما في قبور الأنبياء والصالحين من كرامة الله ورحمته وما لها عند الله من الحرمة والكرامة فوق ما يتوهمه أكثر الخلق لكن ليس هذا موضع تفصيل ذلك

وكل هذا لا يقتضي استحباب الصلاة أو قصد الدعاء والنسك عندها لما في قصد العبادات عندها من المفاسد التي حذر منها الشارع كما تقدم فذكرت هذه الأمور لأنها مما يتوهم معارضته لما قدمنا وليس كذلك

الوجه الرابع أن اعتقاد استجابة الدعاء عندها وفضله قد أوجب أن تنتاب لذلك وتقصد وربما اجتمع القبوريون عندها اجتماعات كثيرة في مواسم معينة وهذا بعينه هو الذي نهى عنه النبي ﷺ بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وبقوله لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وبقوله ﷺ لا تتخذوا القبور مساجد فإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد

حتى إن بعض القبور يجتمع عندها القبوريون في يوم من السنة ويسافرون إليها لإقامة العيد إما في المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة أو غيرها

وبعضها يجتمع عندها في يوم عاشوراء وبعضها في يوم عرفة وبعضها في النصف من شعبان وبعضها في وقت آخر بحيث يكون لها يوم من السنة تقصد فيه ويجتمع عندها فيه كما تقصد عرفة ومزدلفة ومنى في أيام معلومة من السنة وكما يقصد مصلى المصر يوم العيدين بل ربما كان الاهتمام بهذه الاجتماعات في الدين والدنيا أهم وأشد

ومنها ما يسافر إليه من الأمصار في وقت معين أو وقت غير معين لقصد الدعاء عنده والعبادة هناك كما يقصد بيت الله الحرام لذلك وهذا السفر لا أعلم بين المسلمين خلافا في تحريمه والنهي عنه إلا أن يكون خلافا حادثا وإنما ذكرت الوجهين المتقدمين في السفر المجرد لزيارة القبور

فأما إذا كان السفر للعبادة عندها بالدعاء أو الصلاة أو إقامة العيد أو نحو ذلك فهذا لا ريب فيه حتى إن بعضهم يسميه الحج ويقول نريد الحج إلى قبر فلان وفلان

ومنها ما يقصد الاجتماع عنده في يوم معين من الأسبوع

وفي الجملة هذا الذي يفعل عند هذه القبور هو بعينه الذي نهى عنه رسول الله ﷺ بقوله لا تتخذوا قبري عيدا

فإن اعتياد قصد المكان المعين في وقت معين عائد بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع هو بعينه معنى العيد ثم ينهى عن دق ذلك وجله وهذا هو الذي تقدم عن الإمام أحمد إنكاره قال وقد أفرط الناس في هذا جدا وأكثروا وذكر ما يفعل عند قبر الحسين

وقد ذكرت فيما تقدم أنه يكره اعتياد عبادة في وقت إذا لم تجيء بها السنة فكيف اعتياد مكان معين في وقت معين

ويدخل في هذا ما يفعل بمصر عند قبر نفيسة وغيرها وما يفعل بالعراق عند القبر الذي يقال إنه قبر علي رضي الله عنه وقبر الحسين وحذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وقبر موسى بن جعفر ومحمد ابن علي الجواد ببغداد وعند قبر أحمد بن حنبل ومعروف الكرخي وغيرها وما يفعل عند قبر أبي يزيد البسطامي وكان يفعل نحو ذلك بحران عند قبر يسمى قبر الأنصاري إلى قبور كثيرة في أكثر بلاد الإسلام لا يمكن حصرها كما أنهم بنوا كثيرا منها مساجد وبعضها مغصوب كما بنوا على قبر أبي حنيفة والشافعي وغيرهم

وهؤلاء الفضلاء من الأمة إنما ينبغي محبتهم واتباعهم وإحياء ما أحيوه من الدين والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة والرضوان ونحو ذلك

فأما اتخاذ قبورهم أعيادا فهو مما حرمه الله ورسوله واعتياد قصد هذه القبور في وقت معين والاجتماع العام عندها في وقت معين هو اتخاذها عيدا كما تقدم ولا أعلم بين المسلمين أهل العلم في ذلك خلافا ولا يغتر بكثرة العادات الفاسدة فإن هذا من التشبه بأهل الكتابين الذي أخبرنا النبي ﷺ أنه كائن في هذه الأمة

وأصل ذلك إنما هو اعتقاد فضل الدعاء عندها وإلا فلو لم يقم هذا الاعتقاد بالقلوب لانمحي ذلك كله فإذا كان قصدها للدعاء يجر هذه المفاسد كان حراما كالصلاة عندها وأولى وكان ذلك فتنة للخلق وفتحا لباب الشرك وإغلاقا لباب الإيمان
فصل

قد تقدم أن النبي ﷺ نهى عن اتخاذها مساجد وعن الصلاة عندها وعن اتخاذها عيدا وأنه دعا الله ان لا يتخذ قبره وثنا يعبد

وقد تقدم أن اتخاذ المكان عيدا هو اعتياد إتيانه للعبادة عنده أو غير ذلك

وقد تقدم النهي الخاص عن الصلاة عندها وإليها والأمر بالسلام عليها والدعاء لها

وذكرنا ما في دعاء المرء لنفسه عندها من الفرق بين قصدها لأجل الدعاء أو الدعاء ضمنا وتبعا

وتمام الكلام في ذلك بذكر سائر العبادات فالقول فيها جميعا كالقول في الدعاء فليس في ذكر الله هناك أو القراءة عند القبر أو الصيام عنده أو الذبح عنده فضل على غيره من البقاع ولا قصد ذلك عند القبور مستحبا

وما علمت أحدا من علماء المسلمين يقول إن الذكر هناك أو الصيام والقراءة أفضل منه في غير تلك البقعة

فأما ما يذكره بعض الناس من أنه ينتفع الميت بسماع القرآن بخلاف ما إذا قرئ في مكان آخر فهذا إذا عنى به أنه يصل الثواب إليه إذا قرئ عند القبر خاصة فليس عليه أحد من أهل العلم المعروفين بل الناس على قولين

أحدهما أن ثواب العبادات البدنية من الصلاة والقراءة وغيرهما يصل إلى الميت كما يصل إليه ثواب العبادات المالية بالاجماع وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد وغيرهما وقول طائفة من أصحاب الشافعي ومالك وهو الصواب لأدلة كثيرة ذكرناها في غير هذا الموضع

والثاني أن ثواب العبادة البدنية لا يصل إليه بحال وهو المشهور عند أصحاب الشافعي ومالك وما من أحد من هؤلاء يخص مكانا بالوصول أو عدمه

فأما استماع الميت للأصوات من القراءة وغيرها فحق لكن الميت ما بقي يثاب بعد الموت على عمل يعمله هو بعد الموت من استماع أو غيره وإنما ينعم أو يعذب بما كان قد عمله في حياته هو أو بما يعمل غيره بعد الموت من أثره أو بما يعامل به كما قد اختلف في تعذيبه بالنياحة ! عليه وكما ينعم بما يهدي إليه وكما ينعم بالدعاء له وإهداء العبادات المالية بالإجماع وكذلك قد ذكر طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ونقلوه عن أحمد وذكروا فيه آثارا أن الميت يتألم بما يفعل عنده من المعاصي فقد يقال أيضا إنه يتنعم بما يسمعه من القراءة وذكر الله

وهذا لو صح لم يوجب استحباب القراءة عنده فإن ذلك لو كان مشروعا لبينه رسول الله ﷺ لأمته

وذلك لأن هذا وإن كان نوع مصلحة ففيه مفسدة راجحة كما في الصلاة عنده وتنعم الميت بالدعاء له والاستغفار والصدقة عنه وغير ذلك من العبادات يحصل له به من النفع أعظم من ذلك وهو مشروع ولا مفسدة فيه ولهذا لم يقل أحد من العلماء بأنه يستحب قصد القبر دائما للقراءة عنده إذ قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن ذلك ليس مما شرعه النبي ﷺ لأمته لكن اختلفوا في القراءة عند القبور هل هي مكروهة أم لا تكره والمسألة مشهورة وفيها ثلاث روايات عن أحمد

إحداها أن ذلك لا بأس به وهي اختيار الخلال وصاحبه وأكثر المتأخرين من أصحابه وقالوا هي الرواية المتأخرة عن أحمد وقول جماعة من أصحاب أبي حنيفة واعتمدوا على ما نقل عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتيح سورة البقرة وخواتيمها ونقل أيضا عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة

والثانية أن ذلك مكروه حتى اختلف هؤلاء هل تقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة إذا صلى عليها في المقبرة وفيه عن أحمد روايتان وهذه الرواية هي التي رواها أكثر أصحابه عنه وعليها قدماء أصحابه الذين صحبوه كعبد الوهاب الوراق وأبي بكر المروزي ونحوهما وهي مذهب جمهور السلف كأبي حنيفة ومالك وهشيم بن بشير وغيرهم ولا يحفظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام لأن ذلك كان عنده بدعة وقال مالك ما علمت أحدا يفعل ذلك

فعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه

والثالثة أن القراءة عنده وقت الدفن لا بأس بها كما نقل ابن عمرو رضي الله عنهما وعن بعض المهاجرين وأما القراءة بعد ذلك مثل الذين ينتابون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه فإنه لم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلا

وهذه الرواية لعلها أقوى من غيرها لما فيها من التوفيق بين الدلائل والذين كرهو القراءة عند القبر كرهها بعضهم وإن لم يقصد القراءة هناك كما تكره الصلاة فان أحمد نهى عن القراءة في صلاة الجنازة هناك

ومعلوم أن القراءة في الصلاة ليس المقصود بها القراءة عند القبر ومع هذا فالفرق بين ما يفعل ضمنا وتبعا وما يفعل لأجل القبر بين كما تقدم والوقوف التي وقفها الناس على القراءة عند قبورهم فيها من الفائدة أنها تعين على حفظ القرآن وأنها رزق لحافظ القرآن وباعثة لهم على حفظه ودرسه وملازمته

وإن قدر أن القارئ لا يثاب على قراءته فهو مما يحفظ به الدين كما يحفظ بقراءة الكافر وجهاد الفاجر وقد قال ﷺ إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

وبسط الكلام في الوقوف وشروطها قد ذكر في موضع آخر وليس هذا هو المقصود هنا

فأما ذكر الله هناك فلا يكره لكن قصد البقعة للذكر هناك بدعة مكروهة فإنه نوع من اتخاذها عيدا وكذلك قصدها للصيام عندها ومن رخص في القراءة فانه لا يرخص في اتخاذها عيدا مثل أن يجعل له وقت معلوم يعتاد فيه القراءة هناك أو يجتمع عنده للقراءة ونحو ذلك كما أن من يرخص في الذكر والدعاء هناك لا يرخص في اتخاذه عيدا لذلك كما تقدم

وأما الذبح هناك فنهى عنه مطلقا ذكره أصحابنا وغيرهم لما روى أنس عن النبي ﷺ قال لا عقر في الإسلام رواه أحمد وأبو داود وزاد قال عبد الرزاق كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شاة

قال أحمد في رواية المروزي قال النبي ﷺ لا عقر في الإسلام كانوا إذا مات لهم الميت نحروا جزورا على قبره فنهى النبي ﷺ عن ذلك كره أبو عبد الله أكل لحمه

قال صحابنا وفي معنى هذا ما يفعله كثير من أهل زماننا في التصدق عند القبر بخبز أو نحوه فهذه أنواع العبادات البدنية أو المالية أو المركب منهما
فصل

ومن المحرمات العكوف عند القبر والمجاورة عنده وسدانته وتعليق الستور عليه كأنه بيت الله الكعبة

فإنا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه باتفاق الأمة محرم بدلالة السنة فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام بل عند بعضهم العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام إذ من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله

بل حرمة ذلك المسجد المبني على القبر الذي حرمه الله ورسوله أعظم عند القبوريين من حرمة بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه وقد أسست على تقوى من الله ورضوان

وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المشاهد التي على القبور إما قبر نبي أو شيخ أو بعض أهل البيت أفضل من حج البيت الحرام ويسمى زيارتها الحج الأكبر ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي ﷺ أفضل من حج البيت وبعضهم إذا وصل إلى المدينة رجع ولم يذهب إلى البيت الحرام وظن أنه حصل له المقصود وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور إنما هو لأجل الدعاء عندها والتوسل بها وسؤال الميت ودعائه

ومعلوم أن النبي ﷺ أفضل من الكعبة ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له وسؤاله ودعاؤه وأن المقصود بزيارة القبور هو الدعاء لها كما يقصد بالصلاة على الميت لزال هذا الشرك عن قلوبهم ولهذا نجد كثيرا من هؤلاء يسأل الميت والغائب كما يسأل ربه فيقول اغفر لي وارحمني وتب علي ونحو ذلك

وكثير من الناس تتمثل له صورة الشيخ المستغاث به ويكون ذلك شيطانا قد خاطبه كما تفعل الشياطين بعبدة الأوثان

وأعظم من ذلك قصد الدعاء عنده والنذر له أو للسدنة العاكفين عليه أو المجاورين عنده من أقاربه أو غيرهم واعتقاد أنه بالنذر له قضيت الحاجة أو كشف عنه البلاء

فإنا قد بينا بقول الصادق المصدوق أن نذر العمل المشروع لا يأتي بخير وأن الله لم يجعله سببا لدرك حاجة كما جعل الدعاء سببا لذلك فكيف بنذر المعصية الذي لا يجوز الوفاء به

واعلم أن المقبورين من الأنبياء والصالحين المدفونين يكرهون ما يفعل عندهم كل الكراهة كما أن المسيح يكره ما يفعله النصارى به وكما كان أنبياء بني إسرائيل يكرهون ما يفعله الأتباع

فلا يحسب المرء المسلم أن النهي عن اتخاذ القبور أعيادا وأوثانا فيه غص من كرامة أصحابها بل هو من باب إكرامهم

وذلك أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن سنة ذلك المقبور وطريقه مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه

ومن كرامة الأنبياء والصالحين أن يتبع ما دعوا إليه من العمل الصالح ليكثر أجرهم بكثرة أجور من تبعهم كما قال ﷺ من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء

إنما اشتغلت قلوب طوائف من الناس بأنواع من العبادات المبتدعة

إما من الأدعية وإما من الأسفار وإما من السماعات ونحو ذلك لإعراضهم عن المشروع أو بعضه أعني لإعراض قلوبهم وإن قاموا بصورة المشروع وإلا فمن أقبل على الصلوات الخمس بوجهه وقلبه عاقلا لما اشتملت عليه من الكلم الطيب والعمل الصالح مهتما بها كل الاهتمام أغنته عن كل ما يتوهم فيه خيرا من جنسها

ومن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله وتدبره بقلبه وجد فيه من الفهم والحلاوة والهدى وشفاء القلوب والبركة والمنفعة مالا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره

ومن اعتاد الدعاء المشروع في أوقاته كالأسحار وأدبار الصلوات والسجود ونحو ذلك أغناه عن كل دعاء مبتدع في ذاته أو في بعض صفاته

فعلى العاقل أن يجتهد في اتباع السنة في كل شيء من ذلك ويعتاض عن كل ما يظن من البدع أنه خير بنوعه من السنن فإنه فإنه من يتحرى الخير يعطه ومن يتوقى الشر يوقه
فصل

فأما مقامات الأنبياء والصالحين وهي الأمكنة التي قاموا فيها أو أقاموا أو عبدوا الله سبحانه فيها لكنهم لا يتخذوها مساجد

فالذي بلغني في ذلك قولان عن العلماء المشهورين

أحدهما النهي عن ذلك وكراهته وأنه لا يستحب قصد بقعة للعبادة إلا أن يكون قصدها للعبادة مما جاء به الشرع مثل أن يكون النبي ﷺ قصدها للعبادة كما قصد الصلاة في مقام إبراهيم وكما كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة وكما يقصد المساجد للصلاة ويقصد الصف الأول ونحو ذلك

والقول الثاني أنه لا بأس باليسير من ذلك كما نقل عن ابن عمر أنه كان يتحرى قصد المواضع التي سلكها النبي ﷺ وإن كان النبي قد سلكها اتفاقا لا قصدا

قال سندي الخواتيمي سألنا أبا عبد الله عن الرجل يأتي هذه المشاهد يذهب إليها ترى ذلك قال أما على حديث ابن أم مكتوم أنه سأل النبي ﷺ أن يصلي في بيته حتى يتخذ ذلك مصلى وعلى ما كان يفعله ابن عمر يتتبع مواضع النبي ﷺ وأثره فليس بذلك بأس أن يأتي الرجل المشاهد إلا أن الناس قد أفرطوا في هذا جدا وأكثروا فيه

وكذلك نقل عنه أحمد بن القاسم أنه سئل عن الرجل يأتي هذه المشاهد التي بالمدينة وغيرها يذهب إليها فقال أما على حديث ابن أم مكتوم وأنه سأل النبي ﷺ أن يأتيه فيصلي في بيته حتى يتخذه مسجدا أو على ما كان يفعل ابن عمر كان يتتبع مواضع سير النبي ﷺ حتى إنه رؤي يصب في موضع الماء فسئل عن ذلك فقال كان النبي ﷺ يصب ههنا ماء قال أما على هذا فلا بأس قال ورخص فيه ثم قال ولكن قد أفرط الناس جدا وأكثروا في هذا المعنى فذكر قبر الحسين وما يفعل الناس عنده رواهما الخلال في كتاب الأدب

فقد فصل أبو عبد الله في المشاهد وهي الأمكنة التي فيها آثار الأنبياء والصالحين من غير أن تكون مساجد لهم كمواضع بالمدينة بين القليل الذي لا يتخذونه عيدا والكثير الذي يتخذونه عيدا كما تقدم

وهذا التفصيل جمع فيه بين الآثار وأقوال الصحابة فإنه قد روى البخاري في صحيحه عن موسى بن عقبة قال رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة قال موسى وحدثني نافع أن ابن عمر كان يصلي في تلك الأمكنة

فهذا ما رخص فيه أحمد رضي الله عنه

وأما ما كرهه فروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن معرور بن سويد عن عمر رضي الله عنه قال خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في الفجر ب ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لئيلاف قريش في الثانية فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا قالوا مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ فقال هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم أتخذوا آثار أنبيائهم بيعا من عرضت له منكم الصلاة فيه فليصل ومن لم تعرض له الصلاة فليمض

فقد كره عمر رضي الله عنه اتخاذ مصلى النبي ﷺ عيدا وبين أن أهل الكتاب إنما هلكوا بمثل هذا

وفي رواية عنه أنه رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه النبي ﷺ فهم يصلون فيه فقال إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة منكم في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها

وروى محمد بن وضاح وغيره أن عمر بن الخطاب أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ بيعة الرضوان لأن الناس كانوا يذهبون تحتها فخاف عمر الفتنة عليهم

وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم في إتيان تلك المشاهد

فقال محمد بن وضاح كان مالك وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار التي بالمدينة ما عدا قبا واحدا ودخل سفيان الثوري بيت المقدس وصلى فيه ولم يتتبع تلك الآثار ولا الصلاة فيها

فهؤلاء كرهوها مطلقا لحديث عمر رضي الله عنه هذا لأن ذلك يشبه الصلاة عند المقابر إذ هو ذريعة إلى اتخاذها أعيادا وإلى التشبه بأهل الكتاب ولأن ما فعله ابن عمر لم يوافقه عليه أحد من الصحابة فلم ينقل عن الخلفاء الراشدين ولا عن غيرهم من المهاجرين والأنصار أن أحدا منهم كان يتحرى قصد الأمكنة التي نزلها النبي ﷺ

والصواب مع جمهور الصحابة لأن متابعة النبي ﷺ تكون بطاعة أمره وتكون في فعله بأن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعله فإذا قصد النبي ﷺ العبادة في مكان كان قصد العبادة فيه متابعة له كقصد المشاعر والمساجد

وأما إذا نزل في مكان بحكم الاتفاق لكونه صادف وقت النزول أو غير ذلك مما يعلم أنه لم يتحر ذلك المكان فإنا إذا تحرينا ذلك المكان لم نكن متبعين له فإن الأعمال بالنيات

واستحب آخرون من العلماء المتأخرين إتيانها وذكر طائفة المصنفين من أصحابنا وغيرهم في المناسك استحباب زيارة هذه المشاهد وعدوا منها مواضع وسموها

وأما أحمد فرخص منها فيما جاء به الأثر من ذلك إلا إذا اتخذت عيدا مثل أن تنتاب لذلك ويجتمع عندها في وقت معلوم كما يرخص في صلاة النساء في المساجد جماعات وإن كانت بيوتهن خيرا لهن إلا إذا تبرجن وجمع بذلك بين الآثار واحتج بحديث ابن أم مكتوم

ومثله ما أخرجاه في الصحيحين عن عتبان بن مالك قال كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي ﷺ فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله ﷺ وأبو بكر معه بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله

عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام رسول الله ﷺ فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم

ففي هذا الحديث دلالة على أن من قصد أن يبنى مسجده في موضع صلاة رسول الله ﷺ فلا بأس به وكذلك قصد الصلاة في موضع صلاته

ولكن هذا كان أصل قصده بناء مسجد فأحب أن يكون موضعا يصلي له فيه النبي ﷺ ليكون النبي ﷺ هو الذي يرسم المسجد بخلاف مكان صلى فيه النبي ﷺ اتفاقا فاتخذ مسجدا لا لحاجة إلى المسجد لكن لا لأجل صلاته فيه

فأما الأمكنة التي كان النبي ﷺ يقصد الصلاة والدعاء عندها فقصد الصلاة أو الدعاء فيها سنة اقتداء برسول الله ﷺ واتباعا له كما إذا تحرى الصلاة أو الدعاء في وقت من الأوقات فإن قصد الصلاة أو الدعاء في ذلك الوقت سنة كسائر عباداته وسائر الأفعال التي فعلها على وجه التقرب

ومثل هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن يزيد بن أبي عبيد قال كان سلمة بن الأكوع يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف فقلت له يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة قال رأيت النبي ﷺ يتحرى الصلاة عندها

وفي رواية لمسلم عن سلمة بن الأكوع أنه كان يتحرى الصلاة في موضع المصحف يسبح فيه وذكر أن النبي ﷺ كان يتحرى ذلك المكان وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر الشاة

وقد ظن بعض المصنفين أن هذا مما اختلف فيه وجعله والقسم الأول سواء وليس بجيد فإنه هنا قد أخبر أن النبي ﷺ كان يتحرى البقعة فكيف لا يكون هذا القصد مستحبا

نعم إيطان بقعة في المسجد لا يصلى إلا فيها منهي عنه كما جاءت به السنة والإيطان ليس هو التحري من غير إيطان

فيجب الفرق بين اتباع النبي ﷺ والاستنان به فيما فعله وبين ابتداع بدعة لم يسنها لأجل تعلقها به

وقد تنازع العلماء فيما إذا فعل رسول الله ﷺ فعلا من المباحات لسبب وفعلناه نحن تشبها به مع انتفاء ذلك السبب فمنهم من يستحب ذلك ومنهم من لا يستحبه

وعلى هذا يخرج فعل ابن عمر رضي الله عنهما فإن النبي ﷺ كان يصلي في تلك البقاع التي في طريقه لأنها كانت منزله لم يتحر الصلاة فيها لمعنى في البقعة

فنظير هذا أن يصلي المسافر في منزله وهذا سنة

فأما قصد الصلاة في تلك البقاع التي وصلى فيها اتفاقا فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي ﷺ

ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال ﷺ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة

وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين بل هو مما ابتدع وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة

وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه وذلك ذريعة إلى الشرك بالله والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه وقصد جبل ثور والصلاة فيه وقصد الأماكن التي يقال إن الأنبياء قاموا فيها كالمقامين اللذين بجبل قاسيون بدمشق اللذين يقال إنهما مقام إبراهيم وعيسى والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما

ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور فإنه يقال إن هذا مقام نبي أو قبر نبي أو ولي بخبر لا يعرف قائله أو بمنام لا تعرف حقيقته ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى شرك مبني على إفك والله سبحانه يقرن في كتابه بين الشرك والكذب كما يقرن بين الصدق والإخلاص

ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله مرتين ثم قرأ قول الله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به

وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم اللذين كنتم تزعمون إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون

وقال تعالى عن الخليل إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون

وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة إلى قوله إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار وضل عنكم ما كنتم تزعمون

وقال تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إلى قوله

وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم إلى قوله وضل عنهم ما كانوا يفترون

وقال تعالى ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

وقال تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين

قال أبو قلابة هي لكل مبتدع من هذه الأمة إلى يوم القيامة وهو كما قال

فإن أهل الكذب والفرية عليهم من الغضب والذلة ما أوعدهم الله به

والشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء ولهذا فإن كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب كالرافضة الذين هم أكذب طوائف أهل الأهواء وأعظمهم شركا فلا يوجد في أهل الأهواء أكذب منهم ولا أبعد عن التوحيد حتى إنهم يخربون مساجد الله التي يذكر فيها اسمه فيعطلونها عن الجمعات والجماعات ويعمرون المشاهد التي أقيمت على القبور التي نهى الله ورسوله عن اتخاذها والله سبحانه في كتابه إنما أمر بعمارة المساجد لا المشاهد

فقال تعالى ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يقل مشاهد الله

وقال تعالى قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد ولم يقل عند كل مشهد

وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر واقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ولم يقل مشاهد الله بل المشاهد إنما يعمرها من يخشى غير الله ولا يعمرها إلا من فيه نوع من الشرك

وقال تعالى في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب

وقال تعالى ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولم يقل وأن المشاهد لله

وكذلك سنة رسول الله ﷺ الثابتة بقوله في الحديث الصحيح من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة ولم يقل مشهدا

وقال أيضا في الحديث صلاة الرجل في المسجد تفضل على صلاته في بيته وسوقه بخمس وعشرين صلاة

وقال أيضا في الحديث الصحيح من تطهر في بيته فأحسن الطهور ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة كانت خطواته إحداها ترفع درجة والأخرى تحط خطيئة فإذا جلس ينتظر الصلاة فالعبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يحدث

وهذا مما علم بالتواتر والضرورة من دين الرسول ﷺ فإنه أمر بعمارة المساجد والصلاة فيها ولم يأمرنا ببناء مشهد لا على قبر نبي ولا على غير قبر نبي ولا على مقام نبي ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم في بلاد الإسلام لا الحجاز ولا الشام ولا اليمن ولا العراق ولا خراسان ولا مصر ولا المغرب مسجد مبني على قبر ولا مشهد يقصد للزيارة أصلا ولم يكن أحد من السلف يأتي قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي ﷺ ولا عند قبر غيره من الأنبياء وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي ﷺ وعلى صاحبيه

واتفق الأئمة على أنه إذا دعا بمسجد النبي ﷺ لا يستقبل قبره وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما يستقبل قبره ويسلم عليه

وهو الذي ذكره أصحاب الشافعي وأظنه منصوصا عنه وقال أبو حنيفة بل يستقبل القبلة ويسلم عليه وهكذا في كتاب أصحابه

وقال مالك فيما ذكره إسماعيل بن إسحاق في المبسوط والقاضي عياض وغيرهما لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ويدعو ولكن يسلم ويمضي

وقال أيضا في المبسوط لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج أن يقف عند قبر النبي ﷺ فيصلي عليه ويدعو لأبي بكر وعمر

فقيل له فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه إلا يفعلون ذلك في اليوم مرة وأكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة فقال لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده

وقد تقدم في ذلك من الآثار عن السلف والأئمة ما يوافق هذا ويؤيده من أنهم كانوا إنما يستحبون عند قبره ما هو من جنس الدعاء والتحية كالصلاة والسلام ويكرهون قصده للدعاء والوقوف عنده للدعاء ومن يرخص منهم في شيء من ذلك فإنه يرخص فيما إذا سلم عليه ثم أراد الدعاء أن يدعو مستقبل القبلة إما مستدبر القبر أو منحرفا عنه وهو أن يستقبل القبلة ويدعو ولا يدعو مستقبل القبر وهكذا المنقول عن سائر الأئمة ليس في ائمة المسلمين من استحب للمار أن يستقبل قبر النبي ﷺ ويدعو عنده

وهذا الذي ذكرناه عن مالك والسلف يبين حقيقة الحكاية المأثورة عنه وهي الحكاية التي ذكرها القاضي عياض عن محمد بن حميد قال ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوما فقال لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية ومدح قوما فقال إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وذم قوما فقال إن الذن ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون الآية وإن حرمته ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر وقال يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله ﷺ فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك قال الله تعالى ولو أنهم ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله الآية

فهذه الحكاية على هذا الوجه إما أن تكون ضعيفة أو مغيرة وإما أن تفسر بما يوافق مذهبه إذ قد يفهم منها ما هو خلاف مذهبه المعروف بنقل الثقات من أصحابه فانه لا يختلف مذهبه أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء وقد نص على أنه لا يقف عند الدعاء مطلقا وذكر طائفة من أصحابه أنه يدنو من القبر ويسلم على النبي ﷺ ثم يدعو مستقبل القبلة ويوليه ظهره وقيل لا يوليه ظهره

فاتفقوا في استقبال القبلة وتنازعوا في تولية القبر ظهره وقت الدعاء

ويشبه والله أعلم أن يكون مالك رحمه الله سئل عن استقبال القبر عند السلام وهو يسمي ذلك دعاء فإنه قد كان من فقهاء العراق من يرى أنه عند السلام عليه يستقبل القبلة أيضا ومالك يرى استقبال القبر في هذه الحال كما تقدم وكما قال في رواية ابن وهب عنه إذا سلم على النبي ﷺ يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدنو ويسلم ويدعو ولا يمس القبر بيده

وقد تقدم قوله إنه يصلي عليه ويدعو له

ومعلوم أن الصلاة عليه والدعاء له يوجب شفاعته للعبد يوم القيامة كما قال ﷺ في الحديث الصحيح إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة

فقول مالك في هذه الحكاية ان كان ثابتا عنه معناه أنك إذا استقبلته وصليت عليه وسلمت عليه وسألت الله له الوسيلة يشفع فيك يوم القيامة فإن الأمم يوم القيامة يتوسلون إلى الله بشفاعته واستشفاع العبد به في الدنيا هو بطاعته وفعل ما يشفع له به يوم القيامة كسؤال الله له الوسيلة ونحو ذلك

وكذلك ما نقل عنه من رواية ابن وهب إذا سلم على النبي ﷺ ودعا يقف ووجهه إلى القبر لا إلى القبلة ويدعو ويسلم يعني دعاءه للنبي ﷺ وصاحبيه

فهذا الدعاء المشروع هناك كالدعاء عند زيارة قبور سائر المؤمنين وهو الدعاء لهم فإنه أحق الناس أن يصلي عليه ويسلم ويدعي له بأبي هو وأمي ﷺ

وبهذا تتفق أقوال مالك ويفرق بين الدعاء الذي أحبه والدعاء الذي كرهه وذكر أنه بدعة

وأما الحكاية في تلاوة مالك هذه الآية ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية فهي والله أعلم باطلة فإن هذا لم يذكره أحد من الأئمة فيما أعلمه ولم يذكر أحد منهم أنه استحب أن يسأل النبي ﷺ بعد الموت لا استغفارا ولا غيره وكلام مالك المنصوص عنه وعن أمثاله ينافي هذا

وإنما يعرف مثل هذا في حكاية ذكرها طائفة من متأخري الفقهاء عن أعرابي أنه أتى قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلا هذه الآية وأنشد بيتين ... يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم ... نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم ...

ولهذا استحب طائفة من متأخري الفقهاء من أصحاب الشافعي واحمد مثل ذلك واحتجوا بهذه الحكاية التي لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعا مندوبا لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم بل قضاء حاجة مثل هذا الأعرابي وأمثاله لها أسباب قد بسطت في غير هذا الموضع

وليس كل من قضيت حاجته لسبب يقتضي أن يكون السبب مشروعا مأمورا به فقد كان ﷺ يسأل في حياته المسألة فيعطيها لا يرد سائلا وتكون المسألة محرمة في حق السائل حتى قال إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا قالوا يا رسول الله فلم تعطيهم قال يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل

وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحا ولا يكون عالما أنه منهي عنه فيثاب على حسن قصده ويعفى عنه لعدم علمه وهذا باب واسع

وعامة العبادات المبتدعة المنهي عنها قد يفعلها بعض الناس ويحصل له بها نوع من الفائدة وذلك لا يدل على أنها مشروعة بل لو لم تكن مفسدتها أغلب من مصلحتها لما نهى عنها


اخر الجزء 17


****************************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.