مصاحف الكتاب الاسلامي

/// /////

سورة الأنبياء

سورة الأنبياء

السبت، 12 ديسمبر 2020

اقتضاء الصراط المستقيم/4..و..5..و...الي 10 والقادم بمشيئة الله 11






اقتضاء الصراط المستقيم/4









ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن ابي عقبة وكان مولى من أهل فارس قال شهدت مع رسول الله ﷺ أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله ﷺ فقال هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري

حضه رسول الله ﷺ على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة وهي نسبة حق ليست محرمة

ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها كان ذلك لله كان خيرا للمرء

فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا وهو المطلوب في هذا الكتاب

ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر سقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن رواه أبو داود وغيره وهو صحيح

فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية

ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمياء يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل قتل قتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه

ذكر ﷺ في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاء والعداة وأهل العصبية

فالقسم الأول الخارجون عن طاعة السلطان فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة وبين أنه إن مات ولا طاعة عليه لإمام مات ميتة جاهلية فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو معروف من سيرتهم

ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك

وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا

وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده

وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل فقيل كيف يكون ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار

والقسم الثالث الخوارج على الأمة إما من العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر الذين هم تحت حكم غيره مطلقا وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقا كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه

ثم إنه ﷺ سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك

فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب

ومن هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله ﷺ فعيره بأمه فأتى الرجل النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال له النبي ﷺ إنك امرؤ فيك جاهلية وفي رواية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه

ففي هذا الحديث أن كل ما كان من أمر الجاهلية فهو مذموم لأن قوله فيك جاهلية ذم لتلك الخصلة فلولا أن هذا الوصف يقتضي ذم ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود

وفيه أن التعبير بالأنساب من أخلاق الجاهلية

وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه

وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية ومطل دم امرئ بغير حق ليريق دمه

أخبر ﷺ أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر

وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل ونوع يتعلق بمحل العمل

فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية

وأما ما يتعلق بمحل العمل فالالحاد في الحرم لأن أعظم محال العمل هو الحرم وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني ولهذا حرم من تناول المباحات من الصيد والنبات في البلد الحرام مالم يحرم مثله في الشهر الحرام

ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية كما دلت عليه النصوص الصحيحة بخلاف الشهر الحرام فلهذا والله أعلم ذكر ﷺ الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية

والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فسواء قيل مبتغيا أو غير مبتغ فإن الابتغاء هو الطلب والإرادة فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث

والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض وقال النبي ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم والاتباع هو الاقتفاء والاستثنان فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية

وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم

ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة وقد يكون اسما لذي الحال

فمن الأول قول النبي ﷺ لأبي ذر رضي الله عنه إنك امرؤ فيك جاهلية وقول عمر إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وقول عائشة كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وقولهم يا رسول الله كنا في جاهلية وشر أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية أو عادة جاهلية ونحو ذلك

فإن لفظ الجاهلية وإن كان في الأصل صفة لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما ومعناه قريب من معنى المصدر

وأما الثاني فتقول طائفة جاهلية وشاعر جاهلي وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطا فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلا مركبا فإن قال خلاف الحق عالما بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضا كما قال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال النبي ﷺ إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ومن هذا قول بعض الشعراء ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...

وهذا كثير وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه مخالف للحق كما قال سبحانه إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال أصحاب محمد ﷺ كل من عمل سوءا فهو جاهل

وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار

ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجازا وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا أو خارجا عن أصل مسمى الإيمان وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء

ولهذا يسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال موتى وعميا وصما وبكما وضالين وجاهلين ويصفهم بأنهم لا يعقلون ولا يسمعون

ويصف المؤمنين بأولي الألباب والنهى وأنهم مهتدون وأن لهم نورا وأنهم يسمعون ويعقلون

فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول ﷺ كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جهال وإنما يفعله جاهل وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية وتلك كانت الجاهلية العامة

فأما بعد ما بعث الله الرسول ﷺ فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية وإن كان في دار الإسلام

فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد ﷺ فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة

والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين كما قال ﷺ أربع في أمتي من أمر الجاهلية وقال لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ونحو ذلك

فقوله في هذا الحديث ومبتغ الإسلام سنة جاهلية يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو غير مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو شركية من ذلك أو بعضه أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد ﷺ وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد

وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله ﷺ على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله ﷺ أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئارها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي ﷺ أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء

وفي حديث جابر عن النبي ﷺ أنه قال لما مر بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم

فنهى رسول الله ﷺ عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم

ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي غزوة العسرة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضج بعجين مائهم

وكذلك أيضا روي عنه ﷺ أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب

فروى أبو داود عن سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال إن حبيبي النبي ﷺ نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة

ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعناه ولفظه فلما خرج منها مكان برز

وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف أو نحو ذلك

وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه

وقوله نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة

والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها من باب أولى

ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار لا تقم فيه أبدا فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم

وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان

وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب

فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للايمان والطاعة فهذا حسن كما أمر النبي ﷺ أهل الطائف أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم وكان موضع مسجده ﷺ مقبرة للمشركين فجعله ﷺ مسجدا بعد نبش القبور

فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب

فإنه إذا قيل هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر وإما معصية وإما شعار كفر أو شعار معصية وإما مظنة للكفر والمعصية وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان

ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم

وأيضا مما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر يعني هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ من تشبه بقوم فهو منهم وهذا إسناد جيد فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال هم من رجال الصحيحين

وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبد الله العجلي ليس به بأس وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم هو ثقة وقال أبو حاتم هو مستقيم الحديث

وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي هو ثقة وما علمت أحدا يذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث

وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم

وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة

فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك

وبكل حال فهو يقتضي التشبه بهم بعلة كونه تشبها

والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير

فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب مع أن قوله ﷺ غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية

وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال من تشبه بقوم فهو منهم ذكره القاضي أبو يعلى

وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين

قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس وأكره الصرار وقال هو من زي الأعاجم وقد سئل سعيد بن عامر عنه فقال سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن

وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النعل السندي فقال أما أنا فلا أستعملها ولكن إذا كان للطين أو المخرج فأرجو وأما من أراد الزينة فلا ورأى على باب المخرج نعلا سنديا فقال نتشبه بأولاد الملوك

وقال حرب الكرماني أيضا قلت لأحمد فهذه النعال الغلاظ قال هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس وكأنه كره أن يمشي بها في الأزقة قيل فالنعل من الخشب قال لا بأس بها أيضا إذا كان موضع ضرورة

قال حرب حدثنا أحمد بن نصر حدثنا حبان بن موسى قال سئل ابن المبارك عن هذه النعال الكرمانية فلم تعجبه وقال أما في هذه غنية عن تلك

وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة

سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد قال يحيى بن سعيد القطان وذكر عنده سعيد بن عامر الضبعي فقال

هو شيخ البصرة منذ أربعين سنة وقال أبو مسعود بن الفرات ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر

وقال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب عمائمها تحت أذقانها

وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس

ولهذا أيضا كره أحمد لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد ونحوه وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال هو من فعل اليهود

وقد روى أبو حفص العكبري بإسناده عن بلال بن أبي حدرد قال قال رسول الله ﷺ تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة

وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب به إلى المسلمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كلام الخلفاء الراشدين

وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف قال وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة ولم يرفعه

وهذا وإن كان فيه ضعف فقد تقدم الحديث المرفوع من تشبه بقوم فهو منهم وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضا من قوله وحديث ابن لهيعة يصلح للاعتضاد كذا كان يقول أحمد وغيره

وأيضا ما روى أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا محمد بن ربيعة حدثنا أبو الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة أو محمد بن علي بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي ﷺ فصرعه النبي ﷺ قال ركانة سمعت النبي ﷺ يقول فرق ما بيننا وبين المشركين بالعمائم على القلانس

وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود ورواه الترمذي أيضا عن قتيبة وقال غريب وليس إسناده بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة

وهذا القدر لا يمنع أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به

وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع كقوله فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت

فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة حاصل فلولا أنه مطلوب بالظاهر أيضا لم يكن فيه فائدة

وهذا كما أن الفرق بين الرجال والنساء لما كان مطلوبا ظاهرا وباطنا لعن ﷺ المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وقال أخرجوهم من بيوتكم ونفى الخنث لما كان رجلا متشبها في الظاهر بغير جنسه

وأيضا عن أبي غطفان المري سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال رسول الله ﷺ

إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ رواه مسلم في صحيحه

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله ويوما بعده والحديث رواه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس

فتدبر هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر صيامه سنة ماضية صامه رسول الله ﷺ وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على فعل ذلك

ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعا وعاشوراء وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم

قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء عن ابن عباس يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود

وأيضا عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم

فوصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عبادتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وفي رواية صوموا من الوضح إلى الوضح أي من الهلال إلى الهلال

وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى

وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضا في صومهم وعبادتهم وتأولوا على ذلك قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ولكن أهل الكتابين بدلوا ولهذا نهى النبي ﷺ عن تقدم رمضان باليوم واليومين

وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى فإنهم زادوا في صومهم وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها

وقد يستدل بهذا الحديث على خصوص النهي عن أعيادهم فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب والحديث فيه عموم

أو يقال إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله ففي غيره من الأعياد والمواسم أولى وأحرى أو لما في ذلك من مضارعة الأمة الأمية سائر الأمم

وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص

وأيضا ففي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عام حج على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله ﷺ ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم

وفي رواية سعيد بن المسيب في الصحيح أن معاوية قال ذات يوم إنكم اتخذتم زي سوء وإن النبي النبي ﷺ نهى عن الزور قال وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة قال معاوية ألا وهذا الزور قال قتادة يعني ما يكثر به النساء اشعارهن من الخرق

وفي رواية عن ابن المسيب في الصحيح قال قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود إن رسول الله ﷺ بلغه فسماه الزور

فقد أخبر النبي ﷺ عن وصل الشعر أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم يحذر أمته مثل ذلك ولهذا قال معاوية ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود

فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة لذلك أو يكون تركه حسما لمادة ما عذبوا عليه لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع

وأيضا ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ أو قال قال عمر إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح

وهذا المعنى صحيح عن النبي ﷺ من رواية جابر وغيره أنه أمر في الثوب الضيق بالاتزار دون الاشتمال وهو قول جمهور أهل العلم وفي مذهب أحمد قولان

وإنما الغرض أنه قال لا يشتمل اشتمال اليهود فان المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي كما تقدم التنبيه عليه

وأيضا فمما نهانا الله سبحانه فيه عن مشابهة أهل الكتاب وكان حقه أن يقدم في أوائل الكتاب قوله سبحانه ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون

فقوله ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من ثمرات المعاصي وقد وصف الله سبحانه بها اليهود في غير موضع فقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وقال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين

وإن قوما من هذه الأمة ممن ينسب إلى علم أو دين قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب يرى ذلك من له بصيرة فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله ولهذا كان السلف يحذرون هذا

فروى البخاري في صحيحه عن أبي الأسود قال بعث أبو موسى إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة

فحذر أبو موسى القراء أن يطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم

ثم لما كان نقض الميثاق يدخل فيه نقض ما عهد الله إليهم من الأمر والنهي وتحريف الكلم عن مواضعه وتبديل وتأويل كتاب الله أخبر ابن مسعود رضي الله عنه بما يشبه ذلك

فروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري حدثنا عبد الله حديثا ما سمعت حديثا هو أحسن منه إلا كتاب الله أو رواية عن رسول الله ﷺ قال إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم اشتهته قلوبهم واستحلته أنفسهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم ثم قالوا لا بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا أتؤمن بهذا فأوما إلى صدره فقال آمنت بهذا ومالي لا اومن بهذا يعني الكتاب الذي في القرن فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب فقالوا ألا ترون قوله آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا إنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذي القرن قال عبد الله وإن من بقي منكم سيرى منكرا وبحسب امرئ يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره

ولما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم ذكر أيضا في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية فما رعوها حق رعايتها فعقبها بقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم

فإن الإيمان بالرسول هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته وفي ذلك مخالفة للرهبانية لأنه لم يبعث بها بل نهى عنها وأخبر أن من اتبعه من أهل الكتاب كان له أجران وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة من طريق ابن عمر وغيره في مثلنا ومثل أهل الكتاب

وقد صرح ﷺ بذلك فيما رواه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال إن رسول الله ﷺ كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم

هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريب منها فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته قال إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله ﷺ كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ثم غدا من الغد فقال ألا تركب وننظر لنعتبر قال نعم فركبا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها قال أتعرف هذه الديار فقال نعم ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه

فأما سهل بن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم وغيره أما ابن أبي العمياء فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله لكن رواية أبي داود للحديث وسكوته عنه يقتضي أنه حسن عنده وله شواهد في الصحيح

فأما ما فيه من وصف صلاة رسول الله ﷺ بالتخفيف ففي الصحيحين عنه أعني أنس بن مالك قال كان النبي ﷺ يوجز الصلاة ويكملها

وفي الصحيحين أيضا عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي ﷺ زاد البخاري وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه

وما ذكره أنس بن مالك من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان النبي ﷺ يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والإعتدال عما كان النبي ص - يفعله في غالب الأوقات ولعل أكثر الأئمة أو كثيرا منهم كانوا قد صاروا يصلون كذلك ومنهم من كان يقرأ في الآخريين مع الفاتحة سورة وهذا كله قد صار مذاهب لبعض الفقهاء

وكان الخوارج أيضا قد تعمقوا وتنطعوا كما وصفهم النبي ﷺ بقوله يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ولهذا لما صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبصرة قال عمران بن حصين لقد أذكرني هذا صلاة رسول الله ﷺ وكانت صلاة رسول الله ﷺ معتدلة كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود وقد جاء هذا مفسرا عن أنس بن مالك نفسه

فروى النسائي عن قتيبة عن العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال دخلنا على أنس بن مالك فقال صليتم قلنا نعم قال يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله ﷺ من إمامكم هذا قال زيد وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود

وهذا حديث صحيح فإن العطاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين غير مرة هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو من أهل مكة ثقة صحيح الحديث روى عنه نحو مائة حديث وقال ابن عدي يروي قريبا من مائة حديث ولم أر بحديثه بأسا إذا حدث عنه ثقة

وروى أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير يقول سمعت أنس بن مالك يقول ما صليت وراء أحد بعد رسول الله ﷺ أشبه صلاة برسول الله ﷺ من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وقال يحيى بن معين إبراهيم بن عمر بن كيسان يماني ثقة وقال هشام بن يوسف أخبرني إبراهيم بن عمر وكان من أحسن الناس صلاة وابنه عبد الله قال فيه أبو حاتم صالح الحديث ووهب بن مانوس بالنون يقوله عبد الله هذا وكان عبد الرزاق يقوله بالباء المنقوطة بواحدة من أسفل وهو شيخ كبير قديم قد أخذ عنه إبراهيم هذا واتبع ما حدثه به ولولا ثقته عنده لما عمل بما حدثه به وحديثه موافق لرواية زيد بن أسلم وما أعلم فيه قدحا

وروى مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس ابن مالك قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله ﷺ في تمام كانت صلاة رسول الله ﷺ متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الفجر وكان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم

ورواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة أنبأنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله ﷺ في تمام وكان رسول الله ﷺ إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم

فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز النبي ﷺ الصلاة وإتمامها وبين أن من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين وأخبر في الحديث المتقدم أنه ما رأى أوجز من صلاته ولا أتم

فيشبه والله أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين

وأيضا فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله ما رأيت أوجز ولا أتم

فأما إن أعيد الإيجاز إلى لفظ لا أتم والإتمام إلى لفظ لا أوجز فإنه يصير في الكلام تناقضا لأن من طول القيام على قيامه ﷺ لم يكن دونه في إتمام القيام إلا أن يقال الزيادة في الصورة تصير نقصا في المعنى وهذا خلاف ظاهر اللفظ فإن الأصل أن يكون معنى الإيجاز والتخفيف غير معنى الإتمام والإكمال ولأن زيد بن أسلم قال كان عمر يخفف القيام والقعود ويتم الركوع والسجود فعلم أن لفظ الإتمام عندهم هو إتمام الفعل الظاهر

وأحاديث أنس كلها تدل على أن النبي ﷺ كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين زيادة على ما فعله أكثر الأئمة وسائر روايات الصحيح تدل على ذلك

ففي الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إني لا آلو أن أصلي لكم كما كان رسول الله ﷺ يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه وإذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى نقول قد نسي

وفي رواية في الصحيح وإذا رفع رأسه بين السجدتين

وفي رواية للبخاري من حديث شعبة عن ثابت كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله ﷺ فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي

فهذا يبين لك أن أنسا أراد بصلاة رسول الله ﷺ إطالة الركوع والسجود والرفع فيهما على ما كان الناس يفعلونه وتقصير القيام عما كان الناس يفعلونه

وروى مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله ﷺ يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة

فبين أن التخفيف الذي كان يفعله ﷺ هو تخفيف القراءة وإن كان يقتضي ركوعا وسجودا يناسب القراءة ولهذا قال كانت صلاته متقاربة أي يقرب بعضها من بعض

وصدق أنس فإن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر بنحو الستين إلى المائة يقرأ في الركعتين بطول المفصل بآلم تنزل وهل أتى وبالصافات وبقاف وربما قرأ أحيانا بما هو أطول من ذلك وأحيانا بما هو أخف

فأما عمر رضي الله عنه فكان يقرأ في الفجر بيونس وهود ويوسف ولعله علم أن الناس خلفه يؤثرون ذلك

وكان معاذ رضي الله عنه قد صلى خلف النبي ﷺ العشاء الآخرة ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء فقرأ فيها بسورة البقرة فأنكر النبي ﷺ ذلك وقال أفتان أنت يا معاذ إذا أممت الناس فخفف فإن من ورائك الكبير والضعيف وذا الحاجة هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما من السور

فالتخفيف الذي أمر به النبي ﷺ معاذا وغيره من الأئمة هو ما كان يفعله بأبي هو وأمي ﷺ فإنه كما قال أنس كان أخف الناس صلاة في تمام وقد قال صلوا كما رأيتموني أصلي

ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن فإنه ﷺ قرأ في المغرب بطولى الطوليين وقرأ فيها بالطور

وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما قال في بكاء الصبي ونحوه

فقد تبين أن حديث أنس تضمن مخالفة من خفف الركوع والسجود تخفيفا كثيرا ومن طول القيام تطويلا كثيرا وهذا الذي وصفه أنس ووصفه سائر الصحابة

وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن هلال بن أبي حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رمقت الصلاة مع محمد ﷺ فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء


*********
2.

اقتضاء الصراط المستقيم/5


اقتضاء الصراط المستقيم/6








5...........


وروى مسلم أيضا في صحيحه عن شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن بن الأشعث قال فأمر أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله ﷺ وركوعه وإذا رفع رأسه من ركوعه وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا

وروى البخاري هذا الحديث ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وذلك لأنه لا شك أن القيام قيام القراءة وقعود التشهد يزيد على بقية الأركان لكن لما كان ﷺ يوجز القيام ويتم بقية الأركان صارت قريبا من السواء

فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى وإنما البراء تارة قرب ولم يحدد وتارة استثنى وحدد وإنما جاز أن يقال في القيام مع بقية الأركان قريبا بالنسبة إلى الأمراء الذين يطيلون القيام ويخففون الركوع والسجود حتى يعظم التفاوت

ومثل هذا أنه ﷺ صلى صلاة الكسوف فقرأ في الركعة الأولى بنحو من سورة البقرة وركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكذلك سجوده ولهذا نقول في أصح القولين إن ركوع صلاة الكسوف وسجودها يكون قريبا من قيامه بقدر معظمه أكثر من النصف

ومن أصحابنا وغيرهم من قال إذا قرأ البقرة يسبح في الركوع والسجود بقدر قراءة مائة آية وهو ضعيف مخالف للسنة

وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره أن النبي ﷺ كان يقول بعد الرفع من الركوع من الذكر ما يصدق حديث أنس والبراء وكذلك صلاة رسول الله ﷺ التطوع فإنه كان إذا صلى بالليل وحده طول لنفسه ما شاء وكان يقرأ في الركعة بالبقرة وآل عمران والنساء ويركع نحوا من قيامه ويرفع نحوا من ركوعه ويسجد نحوا من قيامه ويجلس نحوا من سجوده

ثم هذا القيام الذي وصفه أنس وغيره بالخفة والتخفيف الذي أمر به النبي ﷺ قد فسره النبي ﷺ بفعله وأمره وبلغ ذلك أصحابه فإنه لما صلى على المنبر قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه صلوا كما رأيتموني أصلي

وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه فلا حد له في اللغة وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولأنه لو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافا مباينا لا ضبط له ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالفا لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يقل كما يسميه أهل أرضكم خفيفا أو كما يعتادونه وما أعلم أحدا من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص وعلى هذا دلت سائر روايات الصحابة

فروى مسلم في صحيحه عن زهير عن سماك بن حرب قال سألت جابر ابن سمرة عن صلاة رسول الله ﷺ فقال كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال وأنبأني أن رسول الله ﷺ كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد ونحوها

وروى أيضا عن شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال كان النبي ﷺ يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك

وهذا يبين ما رواه مسلم أيضا عن زائدة عن سماك عن جابر بن سمرة أن النبي ﷺ كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد وكان صلاته بعد تخفيفا أنه أراد والله أعلم بقوله وكانت صلاته بعد أي بعد الفجر أي أنه يخفف الصلوات التي بعد الفجر عن الفجر فإنه في الرواية الأولى جمع بين وصف صلاة رسول الله ﷺ بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف

وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي ﷺ يقرأ في الفجر بالطور في حجة الوداع وهي طائفة من حول الناس تسمع قراءته وما عاش بعد حجة الوداع إلا قليلا والطور نحو من سورة قاف

وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله ﷺ يقرأ بها في المغرب فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل لم تكن من المهاجرات بل هي من المستضعفين كما قال ابن عباس كنت أنا وأبي من المستضعفين الذين عذرهم الله فهذا السماع كان متأخرا

وكذلك في الصحيح عن زيد بن ثابت أنه سمع النبي ﷺ يقرأ في المغرب بطولى الطوليين وزيد من صغار الصحابة

وكذلك صلى بالمؤمنين في الفجر بمكة وأدركته سعلة عند ذكر موسى وهارون فهذه الأحاديث وأمثالها تبين أنه ﷺ كان في آخر حياته يصلي في الفجر بطوال المفصل وشواهد هذا كثيرة ولأن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله ﷺ التي ما زال يصليها ولم يذكر أحد أنه نقص صلاته في آخر عمره عما كان يصليها وأجمع الفقهاء على أن السنة أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل

وقوله ولا يصلي صلاة هؤلاء إما أن يريد به من كان يطيل الصلاة على هذا ومن كان ينقصها عن ذلك أي إنه كان ﷺ يخففها ومع ذلك فلا يحذفها حذف هؤلاء الذين يحذفون الركوع والسجود والاعتدالين كما دل عليه حديث أنس والبراء أو كان أولئك الأمراء ينقصون القراءة أو القراءة وبقية الأركان عما كان النبي ﷺ يفعله كما روى أبو قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وهو مكثور عليه فلما تفرق الناس عنه قلت إني لا أسألك عما سألك هؤلاء عنه قلت أسألك عن صلاة رسول الله ﷺ فقال مالك في ذلك من خير فأعادها عليه فقال كانت صلاة الظهر تقام فينظلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله ﷺ في الركعة الأولى

وفي رواية مما يطولها رواه مسلم في صحيحه

فهذا يبين لك أن أبا سعيد رأى صلاة الناس أنقص من هذا

وفي الصحيحين عن أبي برزة قال كان رسول الله ﷺ يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة هذا لفظ البخاري

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن كان رسول الله ﷺ ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات رواه أحمد والنسائي

وعن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله ﷺ من فلان قال سليمان كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بأوساط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم

والضحاك بن عثمان قال فيه أحمد ويحيى هو ثقة وقال فيه ابن سعد كان ثبتا

ويدل على ما ذكرناه ما روى مسلم في صحيحه عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله ﷺ إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا

فقد جعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل وأمر باطالتها

وهذا الأمر إما أن يكون عاما في جميع الصلوات وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة

فإن كان اللفظ عاما فظاهر وإن كان المراد به صلاة الجمعة فإذا أمر بإطالتها مع كون الجمع فيها يكون عظيما من الضعفاء والكبار وذوي الحاجات ما ليس في غيرها ومع كونها تفعل في شدة الحر مسبوقة بخطبتين فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد مع قلة الجمع أولى وأحرى والأحاديث في هذا كثيرة

وإنما ذكرنا هذا التفسير لما في حديث أنس من تقدير صلاة رسول الله ﷺ إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث أن فيها نوع تناقض أو يتمسك بعض الناس ببعضها دون بعض ويجهل معنى ما تمسك به

وأما ما في حديث أنس المتقدم من قول النبي ﷺ لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ففيه نهي النبي ﷺ عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع

والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة

وفي هذا تنبيه على كراهة النبي ﷺ لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين أو غير متأولين ولا معذورين

وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر

فأما بالشرع فمثل ما كان النبي ﷺ يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب

وأما القدر فكثيرا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم مثل كثير من الموسوسين في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة

وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال

والآصار ترجع إلا الإيجابات الشديدة والأغلال هي التحريمات الشديدة فان الإصر هو الثقل والشدة وهذا شأن ما وجب والغل يمنع المغلول من الانطلاق وهذا شأن المحظور وعلى هذا دل قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وسبب نزولها مشهور

وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي ﷺ يسألون عن عبادة رسول الله ﷺ فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من رسول الله ﷺ وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال الآخر وأنا اصوم الدهر أبدا وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله ﷺ إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وافطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري وهذا لفظه ورواه مسلم ولفظه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فرش فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد في العبادة وفي ترك الشهوات خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره والغلو في العبادات صوما وصلاة

وقد خالف هذا بالتأويل ولعدم العلم طائفة من الفقهاء والعباد

ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه عن العلاء بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة قال رسول الله ﷺ إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله فأخبر النبي ﷺ بأن أمته سياحتهم الجهاد في سبيل الله

وفي حديث آخر إن السياحة هي الصيام والسائحون هم الصائمون ونحو ذلك وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن من قوله السائحون وقوله سائحات

وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي ﷺ لا رهبانية في الإسلام

والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء

ومثل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ غداة العقبة وهو على ناقته القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا ثم قال أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم

وقوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال

والغلو هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك

والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم

وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك بناء على أنه قد بالغ في الحصى الصغار ثم علل ذلك بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه في النصارى

وذلك يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا

ومن ذلك أنه ﷺ حذرنا عن مشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الاشراف والضعفاء وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك وأن كثيرا من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة

ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في شأن المخزومية التي سرقت لما كلم أسامة رسول الله ﷺ قال يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها

وكان بنو مجزوم من أشرف بطون قريش واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم فبين النبي ﷺ أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات وأخبر أن فاطمة ابنته التي هي أشرف النساء لو سرقت وقد أعاذها الله من ذلك لقطع يدها ليبين أن وجوب العدل والتعميم في الحدود لا يستثنى منه بنت الرسول فضلا عن بنت غيره

وهذا يوافق ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال مر على النبي ﷺ بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم قال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال ﷺ اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز و جل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه يقول ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها

وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله

أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك

وصف رسول الله ﷺ أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وعدى هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد وقال إنه ﷺ ينهانا عن ذلك ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا إما مظهر للنهي وإما موجب للنهي

وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها أو أنها علة مقتضية للنهي وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة

والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه ﷺ

ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي لفظ لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد

وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا

وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله ﷺ كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال رسول الله ﷺ أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز و جل

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن وفي بعض نسخه صحيح

فهذا التحذير منه ﷺ واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر عن جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس

ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد بلا بناء وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار إذ الغرض القاعدة الكلية وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا وفيه من الآثار ما لا يليق ذكره هنا حتى روى أبو يعلى الموصلي بسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن النبي ﷺ قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مستخرجه

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهيل قال رآني علي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر قلت سلمت على النبي ﷺ فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء

ولهذا ذكر الأئمة أحمد وغيره من أصحاب مالك وغيرهم إذا سلم على النبي ﷺ وقال ما ينبغي له أن يقول ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره
فصل في ذكر فوائد خطبته ﷺ العظيمة في يوم عرفة



روى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن جابر في حديث حجة الوداع قال حتى إذا زالت الشمس يعني يوم عرفة أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحرث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نحن نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن فأقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله ﷺ حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث

فقوله ﷺ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يال فلان ويال فلان ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم

ثم خص بعد ذلك الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية من الربا الذي كان في ذمم أقوام ومن قتيل قتل في الجاهلية قبل إسلام القاتل وعهده أو قبل إسلام المقتول وعهده إما لتخصيصها بالذكر بعد العام وإما لأن هذا إسقاط لأمور معينة يعتقدون أنها حقوق لا لسنن عامة لهم فلا تدخل في الأول كما لم تدخل الديون التي ثبتت ببيع صحيح أو قرض ونحو ذلك

ولا يدخل في هذا اللفظ ما كانوا عليه في الجاهلية واقره الله في الإسلام كالمناسك وكدية المقتول بمائة من الإبل وكالقسامة ونحو ذلك لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه

وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عياش بن عباس عن أبي الحصين المصري يعني الهيثم بن شفي قال خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر رجل من المعافر لنصلي بإيلياء وكان قاصهم رجل من الأزد يقال له أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة قلت لا قال سمعته يقول نهى رسول الله ﷺ عن عشر عن الوشر والوشم والنتف وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرا مثل الأعاجم وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان وفي رواية عن أبي ريحانة قال بلغني أن رسول الله ﷺ

وهذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس رواه عنه المفضل ابن فضالة وجيوة بن شريح المصري ويحيى بن أيوب وكل منهم ثقة وعياش بن عباس روى له مسلم وقال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح وأما أبو الحصين الهيثم بن شفي قال الدارقطني شفي بفتح الشين وتخفيف الفاء وأكثر المحدثين يقولون شفي وهو غلط وأبو عامر الحجري الأزدي فشيخان قد روى عن كل واحد منهما أكثر من واحد وهما من الشيوخ القدماء

وهذا الحديث قد أشكل على أكثر الفقهاء من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة ويتوجه تحريمه على الأصل وهو أن يكون ﷺ إنما كره أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه أو على منكبيه حريرا مثل الأعاجم فيكون المنهي عنه نوعا كان شعارا للأعاجم فنهى عنه لذلك لا لكونه حريرا فإنه لو كان النهي عنه لكونه حريرا لعم الثوب كله ولم يخص هذين الموضعين ولهذا قال فيه مثل الأعاجم والأصل في الصفة أن تكون لتقييد الموصوف لا لتوضيحه

وعلى هذا يمكن تخريج ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبي الله ﷺ قال لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير فأومأ الحسن إلى جيب قميصه قال قال ألا وطيب الرجال ريح لا لون له ألا وطيب النساء لون لا ريح له قال سعيد أراه قال إنما حملوا قوله في طيب النساء على أنها إذا خرجت فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت أو يخرج هذا الحديث على الكراهية فقط وكذلك قد يقال في الحديث الأول لكن في ذلك نظر

وأيضا ففي الصحيحين عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدي أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة

نهى النبي ﷺ عن الذبح بالظفر معللا بأنها مدي الحبشة كما علل السن بأنه عظم

وقد اختلف الفقهاء في هذا فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق أو هو مظنة الخنق والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح بالسن والظفر المنزوعين لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة لا خنق فيها

والجمهور منعوا من ذلك مطلقا لأن النبي ﷺ استثنى السن والظفر مما أنهر الدم فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به ولو كان لكونه خنقا لم يستثنه والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة فأما مع ظهورها وانضباطها فلا

وأيضا فإنه مخالف لتعليل رسول الله ﷺ المنصوص في الحديث

ثم اختلف هؤلاء هل يمنع من التذكية بسائر العظام عملا بعموم العلة على قولين في مذهب أحمد وغيره

وعلى الأقوال الثلاثة فقوله ﷺ أما الظفر فمدي الحبشة بعد قوله سأحدثكم عن ذلك يقتضي أن هذا الوصف وهو كونه مدي الحبشة له تأثير في المنع إما أن يكون علة أو دليلا على العلة أو وصفا من أوصاف العلة أو دليلها والحبشة في أظفارهم طول فيذكون بها دون سائر الأمم فيجوز أن يكون نهيه عن ذلك لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به

وأما العظم فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به كنهيه عن الاستنجاء به لما فيه من تنجيسه على الجن إذ الدم نجس

وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها فإن فيها كلاما ليس هذا موضعه

وأيضا في الصحيحين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء وقال قال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ رأيت عمرو بن العاص الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب

وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ رأيت عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار

وللبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة

هذا من العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت ويقال إنه جلبها من البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي فأخبر النبي ﷺ أنه رآه يجر قصبه في النار وهي الأمعاء ومنه سمى القصاب بذلك لأنها تشبه القصب

ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم على شريعة التوحيد والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليها الحج ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم وأصل تحريم الحلال وإنما فعله متشبها فيه بغيره من أهل الأرض فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز و جل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله ﷺ فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام واقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه

وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله إلى آخر السورة خطاب مع هؤلاء الضرب ولهذا يقول تعالى في اثنائها سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء

ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا وأصل هذا التدين هو من التشبه بالكفار وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم

فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين ولهذا جاء في الحديث ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها

وأيضا فقد روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي ﷺ للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال فذكروا له القنع شبور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال هو من أمر اليهود قال فذكر له الناقوس فقال هو من فعل النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي ﷺ فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول الله ﷺ فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما قال ثم أخبر النبي ﷺ فقال له ما منعك أن تخبرنا فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت فقال رسول الله ﷺ يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله قال فأذن بلال قال أبو بشر فحدثني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله ﷺ مؤذنا

وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر الشعبي أن رسول الله ﷺ اهتم بأمر الصلاة اهتماما شديدا ليتبين ذلك فيه وكان فيما اهتم به من أمر الصلاة أن ذكر الناقوس ثم قال هو من فعل النصارى ثم أراد أن يبعث رجالا يؤذنون الناس بالصلاة في الطرق ثم قال أكره أن أشغل رجالا عن صلاتهم بأذان غيرهم وذكر رؤيا عبد الله بن زيد

ويشهد لهذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس قال لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا ويضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة

وفي الصحيحين عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة وليس ينادي بهم أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله ﷺ يا بلال قم فناد بالصلاة

ما يتعلق بهذا الحديث من شرح الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر وأمر عمر أيضا بذلك وما روي من أن النبي ﷺ كان قد سمع الأذان ليلة أسري به إلى غير ذلك ليس هذا موضع ذكره وذكر الجواب عما قد يستشكل منه

وإنما الغرض هنا أن النبي ﷺ لما كره بوق اليهود المنفوخ بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود وعلل هذا بأنه من أمر النصارى لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام وأنه كان يضرب بالبوق في عهده وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا لأنه من أمر اليهود والنصارى فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم

وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للاعلان بذكر الله سبحانه الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين وتنزل الرحمة

وقد ابتلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار شعار اليهود والنصارى حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس الحقير الصغير يبخرون البخور ويضربون له بنواقيس صغار حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق والدبادب في أوقات الصلوات الخمس وهو نفس ما كرهه رسول الله ﷺ ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار تشبها منه كما زعم بذي القرنين ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف

وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس لما غلبت على ملوك الشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدى المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله سلط الله عليهم الترك الكافرين الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد مالم يجر في دولة الإسلام مثله وذلك تصديق قوله ﷺ لتركبن سنن من كان قبلكم كما تقدم

وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى

قال قيس بن عبادة وهو من كبار التابعين كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز

وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه كما أن حالهم في الصلاة كذلك وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة وليس هذا موضع استقصاء ذلك

وأيضا فعن عمرو بن ميمون الأزدي قال قال عمر رضي الله عنه كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير قال فخالفهم النبي ﷺ وأفاض قبل طلوع الشمس وقد روى في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال خالف هدينا هدي المشركين وكذلك كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب فخالفهم النبي ﷺ بالإفاضة بعد الغروب وبهذا صار الوقوف إلى ما بعد الغروب واجبا عند جماهير العلماء وركنا عند بعضهم وكرهوا شدة الإسفار بالفجر صبيحة جمع

ثم الحديث قد ذكر فيه قصد المخالفة للمشركين

*****************************
6.

اقتضاء الصراط المستقيم/6

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/5 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/7










وأيضا فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة متفق عليه

وعن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رأى رسول الله ﷺ علي ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها رواه مسلم وعلل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا أو مما يعتاده الكفار لذلك كما أنه في الحديث قال إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار

ففي الصحيحين عن أبي عثمان الهندي قال كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله ﷺ نهى عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله ﷺ بإصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما

وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا فرأى فيه حادثتين فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال من تشبه بقوم فهو منهم

وفي لفظ آخر فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم

وقال علي بن أبي صالح السواق كنا في وليمة فجاء أحمد بن حنبل فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة فخرج فلحقه صاحب الدار فنفض يده في وجهه وقال زي المجوس زي المجوس

وقال في رواية صالح إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من منكر آنية المجوس الذهب والفضة أو ستر الجدران بالثياب خرج ولم يطعم

ولو تتبعنا ما في هذا الباب عن النبي ﷺ مع ما دل عليه كتاب الله لطال بنا القول
فصل وأما الإجماع فمن وجوه

من ذلك أن أمير المؤمنين عمر في الصحابة رضي الله عنهم ثم عامة الأئمة بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رءوسنا وأن نلزم زينا حيثما كان وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صليبا ولا كتبا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين رواه حرب بإسناد جيد

وفي رواية أخرى رواها الخلال وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين ولا نخرج باعوثا والباعوث أنهم يخرجون مجتمعين كما نخرج يوم الأضحى والفطر ولا شعانينا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين وأن لا نجاوزهم بالجنائز ولا نبيع الخمور إلى أن قال وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسليمن في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم وأن نجز مقادم رءوسنا ولا نفرق نواصينا وأن نشد الزنانير على أوساطنا

وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها وهي أصناف

الصنف الأول ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس والأسماء والمراكب والكلام ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز بل بالتمييز في عامة الهدى على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع

وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهرا وترك التشبه بهم ولقد كان أمراء الهدى مثل العرين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود

ومقصودهم من هذا التميز كما روى الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن خالد بن عرفطة قال كتب عمر رضي الله عنه إلى الأمصار أن لا يجزوا نواصيهم يعني النصارى ولا يلبسوا لبس المسلمين حتى يعرفوا

وقال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار فإن امتنعوا لم يجز لأحد من المسلمين صبغ ثوب من ثيابهم لأنه لم يتعين عليهم صبغ ثوب بعينه

قلت وهذا فيه خلاف هل يلزمون بالتغيير أو الواجب علينا إذا امتنعوا أن نغير نحن وأما وجوب أصل المغايرة فما علمت فيه خلافا

وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر كتب أن لا تكاتبوا أهل الذمة فيجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم ومروا نساء أهل الذمة أن لا يعقدن زناراتهن ويرخين نواصيهن ويرفعن عن سوقهن حتى نعرف زيهن من المسلمات فإن رغبن عن ذلك فليدخلن إلى الإسلام طوعا أو كرها

وروى أيضا أبو الشيخ بإسناده عن محمد بن قيس وسعيد بن عبد الرحمن بن حبان قال دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز وعليهم العمائم كهيئة العرب فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب قال فمن أنتم قالوا نحن بنو تغلب قال أولستم من أواسط العرب قالوا نحن نصارى قال علي بجلم فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبرا يحترم به وقال لا تركبوا السروج واركبوا على الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد

وعن مجاهد بن الأسود قال كتب عمر بن عبد العزيز أن لا يضرب الناقوس خارجا من الكنيسة

وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب وتقدم في ذلك أشد التقدم واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا لبس المناطق على أوساطهم واتخذوا الوفر والجمم وتركوا التقصيص ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك ضعف وعجز فانظر كل شيء كنت نهيت عنه وتقدمت فيه إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه ولا تعد عنه شيئا

ولم أكتب سائر ما كانوا يأمرون به في أهل الكتاب إذ الغرض هنا التمييز وكذلك فعل جعفر بن محمد بن هرون المتوكل بأهل الذمة في خلافته واستشارته في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره وعهوده في ذلك وجوابات أحمد ابن حنبل له معروفة

ومن جملة الشروط ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس والنيران والأعياد ونحو ذلك

ومنها ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم

فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعده ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئا مما يختصون به مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم

ومنها ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى

ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها هو نوع من إكرامهم فإنهم يفرحون بذلك ويسرون به كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل

الوجه الثاني من دلائل الإجماع أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين في أوقات متفرقة وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر

فعن قيس بن أبي حازم قال دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال ما لها لا تتكلم قالوا حجت مصمتة فقال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا عمل الجاهلية فتكلمت فقالت من أنت قال امرؤ من المهاجرين فقلت من أي المهاجرين قال من قريش قالت من أي قريش قال إنك لسؤل وقال أنا أبو بكر قالت ما بقاؤنا على هذا الأمر الصلح ! الذي جاء الله به بعد الجاهلية قال بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم قالت وما الأئمة قال أما كان لقومكم رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم قالت بلى قال فهم أولئك على الناس رواه البخاري في صحيحه

فأخبر أبو بكر أن الصمت المطلق لا يحل وعقب ذلك بقوله هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه

وتعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة فدل على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه والمنع منه

ومعنى قوله من عمل الجاهلية أي إنه مما انفرد به أهل الجاهلية ولم يشرع في الإسلام فيدخل في هذا كل ما اتخذ من عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به ولم يشرع الله التعبد به في الاسلام وإن لم ينوه عنه بعينه كالمكاء والتصدية فإن الله تعالى قال عن الكافرين وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية والمكاء الصفير ونحوه والتصدية التصفيق فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام

وكذلك بروز المحرم وغيره للشمس حتى لا يستظل بظل أو ترك الطواف بالثياب العادية أو ترك كل ما عمل في غير الحرم ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات وإن كان قد جاء نهي خاص في عامة هذه الأمور بخلاف السعي بين الصفا والمروة وغيره من شعائر الحج فإن ذلك من شعائر الله وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة

وقد قدمنا ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس إياكم وزي أهل الشرك

وهذا نهي منه للمسلمين عن كل ما كان من زي المشركين

وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا يزيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان النهدي عن عمر أنه قال اتزروا وارتدوا وانتعلوا والبسوا الخفاف والسراويلات والقوا الركب وانزوا نزوا وعليكم بالمعدية وارموا الأغراض وذروا التنعم وزي العجم وإياكم والحرير فإن رسول الله ﷺ قد نهى عنه وقال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا واشار رسول الله ﷺ بإصبعيه

وقال أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان قال جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يا عتبة ابن فرقد إياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله ﷺ نهانا عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله ﷺ إصبعيه

وهذا ثابت على شرط الصحيحين

وفيه أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية وهي زي بني معد بن عدنان وهم العرب فالمعدية نسبة إلى معد ونهى عن زي العجم وزي المشركين وهذا عام كما لا يخفى وقد تقدم هذا مرفوعا والله أعلم

وروى الإمام أحمد في المسند حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن ابي سنان عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر كان بلجابية فذكر فتح بيت المقدس قال حماد بن سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب أين ترى أن أصلي فقال إن اخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ﷺ فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس

قلت فصلاة رسول الله ﷺ في مسجد بيت المقدس في ليلة الإسراء قد رواها مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله ﷺ قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليع السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء وذكر الحديث

وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ينكر أن يكون صلى فيه لأنه لم يبلغه ذلك واعتقد أنه لو صلى فيه لوجب على الأمة الصلاة فيه

فعمر رضي الله عنه عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها

وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية فإنه رضي الله عنه هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غربا فلم يفر عبقري فريه حتى صدر الناس بطعن فأعز الله به الإسلام وأذل الكفر وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك لله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله ﷺ محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره للسابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وغيرهم ممن له علم أو فقه أو رأي أو نصيحة للاسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله وحتى روى عنه أنه حرق الكتب العجمية وغيرها وهو الذي منع أهل البدع من أن ينبغوا وألبسهم ثوب الصغار حيث فعل بصبيغ بن عسل التميمي ما فعل في قصته المشهورة وستأتي عند ذكرها إن شاء الله تعالى في خصوص أعياد الكفار من النهي عن الدخول عليهم فيها ومن النهي عن تعلم رطانة الأعاجم ما يتبين به ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم ثم ما كان عمر قد قرره من السنن والأحكام والحدود فعثمان رضي الله عنه أقر ما فعله عمر وجرى على سنته في ذلك فقد علم موافقة عثمان لعمر في هذا الباب

وروى سعيد في سننه حدثنا هشيم عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه قال خرج علي رضي الله عنه فرأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم ورواه ابن المبارك وحفص بن غياث عن خالد

وفيه أنه رأى قوما قد سدلوا في الصلاة فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم وقد روينا عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يكرهان السدل في الصلاة

وقد روى أبو داود عن سليمان الأحول وعسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ومنهم من رواه عن عطاء عن النبي ﷺ مرسلا لكن قال هشيم حدثنا عامر الأحول قال سألت عطاء عن السدل في الصلاة فكرهه فقلت عن النبي ﷺ قال عن النبي ﷺ والتابعي إذا أفتى بما رواه دل على ثبوته عنده

لكن قد روي عن عطاء من وجوه جيدة أنه كان لا يرى بالسدل بأسا وأنه كان يصلي سادلا فلعل هذا كان قبل أن يبلغه الحديث ثم لما بلغه رجع أو لعله نسي الحديث والمسألة مشهورة وهو عمل الراوي بخلاف روايته هل يقدح في روايته

والمشهور عن أحمد وأكثر العلماء أنه لا يقدح فيها لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث

وقد روى عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره السدل في الصلاة قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي ﷺ نهى عنه

وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد

وعنه أنه إنما يكره فوق الإزار دون القميص توفيقا بين الآثار في ذلك وحملا للنهي عن لباسهم المعتاد

ثم اختلف هل السدل محرم يبطل الصلاة

فقال ابن أبي موسى فإن صلى سادلا ففي الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد

وقال أبو بكر عبد العزيز إن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق ومنهم من لم يكره السدل وهو قول مالك وغيره

والسدل المذكور هو أن يطرح الثوب على إحدى كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على كتفه الأخرى هذا هو المنصوص عن أحمد وعلله بأنه فعل اليهود

وقال أحمد بن حنبل قال أبو عبد الله والسدل أن يسدل أحد طرفي الإزار ولا ينعطف به عليه وهو لبس اليهود وهو على الثوب وغيره مكروه في الصلاة

وقال صالح بن أحمد سألت أبي عن السدل في الصلاة فقال يلبس الثوب فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر فهو السدل وهذا هو الذي عليه عامة العلماء

وأما ما ذكره أبو الحسن الآمدي وابن عقيل من أن السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه يجره فيكون هو إسبال الثوب وحره المنهي عنه فغلط مخالف لعامة العلماء وإن كان الإسبال والجر منهيا عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر وهو محرم على الصحيح لكن ليس هو السدل

وليس الغرض هنا عين هذه المسألة وإنما الغرض أن عليا رضي الله عنه شبه السادلين باليهود مبينا بذلك كراهة فعلهم

فعلم أن مشابهة اليهود أمر كان قد استقر عندهم كراهته

وفهر اليهود بضم الفاء مدراسهم وأصلها بهرو هي عبرانية فعربت هكذا ذكره الجوهري وكذلك ذكر ابن فارس وغيره أن فهر اليهود مدراسهم وفي كتاب العين عن الخليل بن أحمد أن فهر اليهود مدراسهم

وسنذكر عن علي رضي الله عنه من كراهية التكلم بكلامهم ما يؤيد هذا

وأما ما في الحديث المذكور من النهي عن تغطية الفم فقد علله بعضهم بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها فعلى هذا تظهر مناسبة الجمع بين النهي عن السدل وعن تغطية الفم بما في كل منهما من مشابهة الكفار مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين

فهذا عن الخلفاء الراشدين

وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم فكثير مثل ما قدمناه عن حذيفة بن اليمان أنه لما دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم

وروى أبو محمد الخلال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سأله رجل أحتقن قال احتقن لا تبد العورة ولا تستن بسنة المشركين

قوله لا تستن بسنة المشركين عام

وقال أبو داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا الحجاج بن حسان قال دخلنا على أنس بن مالك فحدثني أخي المغيرة قال وأنت يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان فمسح رأسك وبرك عليك وقال احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود

علل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة مطلوبا عدمها فعلم أن زي اليهود حتى في الشعر مما يطلب عدمه وهو المقصود

وروى ابن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد الواسطي عن عمران بن حدير عن أبي مجلز أن معاوية قال إن تسوية القبور من السنة وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تشبهوا بهم يشير معاوية إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها رواه مسلم

وعن أبي الهياج الأسدي عن علي أيضا قال أمرني النبي ﷺ أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته رواه مسلم

وسنذكر إن شاء الله تعالى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من بنى ببلاد المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة

وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كرهت الاختصار في الصلاة وقالت لا تشبهوا باليهود هكذا رواه بهذا اللفظ سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة وقد تقدم من رواية البخاري في المرفوعات

وروى سعيد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة فنظر إلى شرفات فخرج إلى موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر

وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود أنه كان يكره الصلاة في الطاق وقال إنه من الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب

وعن عبيد بن أبي الجعد قال كان أصحاب محمد ﷺ يقولون إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد يعني الطاقات

وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة

وهذه القضايا التي ذكرناها بعضها في مظنة الاشتهار وما علمنا أحدا خالف ما ذكرناه عن الصحابة رضي الله عنهم من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل ليس هذا موضعه

وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل

فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار والأعاجم

الوجه الثالث في تقرير الإجماع ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين والائمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة وهذا بعد التأمل والنظر يورث علما ضروريا باتفاق الأئمة على النهي عن موافقة الكفار والأعاجم والأمر بمخالفتهم

وأنا أذكر من ذلك نكتا في مذاهب الأئمة المتبوعين اليوم مع ما تقدم في أثناء الكلام عن غير واحد من العلماء

فمن ذلك أن الأصل المستقر عليه الأمر في مذهب أبي حنيفة أن تأخير الصلوات أفضل من تعجيلها إلا في مواضع يستثنونها كاستثناء يوم الغيم وكتعجيل الظهر في الشتاء وإن كان غيرهم من العلماء يقول إن الأصل أن التعجيل أفضل فيستحبون التأخير للفجر والعصر والعشاء والظهر إلا في الشتاء في غير الغيم

ثم قالوا يستحب تعجيل المغرب لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود وهذا أيضا قول سائر الأئمة وهذه العلة منصوصة كما تقدم

وقالوا أيضا يكره السجود في الطاق لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق وهذا أيضا ظاهر مذهب أحمد وغيره وفيه آثار صحيحة عن الصحابة ابن مسعود وغيره

وقالوا لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لا يعبدان وباعتباره تثبت الكراهة إلى غيرهما ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير لأن فيه استهانة بالصورة ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عبادة الصور وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلى معظم لله

قالوا ولو لبس ثوبا فيه تصاوير كره لأنه يشبه حامل الصنم ولا يكره تماثيل غير ذي روح لأنها لا تعبد

وقالوا أيضا إن صام يوم الشك ينوى أنه من رمضان كره لأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم

وقالوا أيضا فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة لأن فيه إظهار مخالفة المشركين

وقالوا أيضا لا يجوز الأكل والشرب والأدهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء للنصوص ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين

وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به لأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام قال عمر إياكم وزي الأعاجم

وقال محمد في الجامع الصغير ولا يتختم إلا بالفضة

قالوا وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام للحديث المأثور أن النبي ﷺ رأى على رجل خاتم أصفر فقال مالي أجد منك ريح الأصنام ورأى على آخر خاتم من حديد فقال مالي أرى عليك حلية أهل النار ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه

وأما مذهب مالك وأصحابه ففيه ما هو أكثر من ذلك حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم في المدونة لا يحرم بالأعجمية ولا يدعوا بها ولا يحلف قال ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب قال وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار كثيرة فجائز

قال ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد

قال ويقال من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم قيل فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه قال وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل الإسلام وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم وفيما ليس من عمل المسلمين أشد من عمل الكوفيين وأبلغ مع أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم

وقال بعض أصحاب مالك من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرا

وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم كما جاءت به الآثار كما ذكر غيرهم من العلماء مثل ما ذكروه في النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها مثل طلوع الشمس وغروبها

ذكروا تعليل ذلك بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ كما في الحديث إنها ساعة يسجد لها الكفار

وذكروا في السحور وتأخيره أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب

وذكروا في اللباس النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال

وذكروا أيضا ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس وأن السنة جاءت بمخالفة المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس كما جاء في الحديث خالفوا المشركين وخالف هدينا هدي المشركين

وذكروه أيضا في الشروط على أهل الذمة منعهم من التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره مما يتضمن منع المسلمين أيضا من مشابهتهم في ذلك تفريقا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار

وبالغ طائفة منهم فنهوا عن التشبه بأهل البدع مما كان شعارا لهم وإن كان في الأصل مسنونا كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور فإن مذهب الشافعي أن الأفضل تسطيحها ومذهب أحمد وأبي حنيفة أن الأفضل تسنيمها ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات لأن شعار الرافضة اليوم تسطيحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيماهو شعار لهم

وقالت طائفة بل نحن نسطحها فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعار لهم

واتفقت الطائفتان على أن النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم وإنما تنازعوا في أن التسطيح هل يحصل به ذلك أم لا

فإذا كان هذا في التشبه بأهل البدع فكيف بالكفار

وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا أكثر من أن يحصر وقد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص عند قوله ﷺ من تشبه بقوم فهو منهم وقوله أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى لا تشبهوا بالمشركين وقوله إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة مثل قول أحمد ما أحب لأحد أن يغير الشيب لا يتشبه بأهل الكتاب

وقال لبعض أصحابه أحب إليك أن تخضب ولا تشبه باليهود وكره حلق القفا وقال هو من فعل المجوس وقال من تشبه بقوم فهو منهم

وقال أكره النعل الصرار وهو من زي العجم

وكره تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل آذرماه وقال للذي دعاه زي المجوس ونفض يده في وجهه وهذا كثير في نصوصه لا ينحصر

وقال حرب الكرماني قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي قال على القباء لا بأس به وكرهه على القميص وذهب إلى أنه من اليهود فذكرت له السفر وأنا نشد ذلك على أوساطنا فرخص فيه قليلا وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط وقال هو أشنع

قلت وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب فأما ما سوى ذلك فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم كما جاء في الحديث لئلا يرى عورة نفسه

وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي وغيرهم في أصناف اللباس وأقسامه ومن اللباس المكروه ما خالف زي العرب واشبه زي الأعاجم وعادتهم ولفظ عبد القادر ويكره كل ما خالف زي العرب وشابه زي الأعاجم

وقال أيضا اصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي وأظنه نقله أيضا عن ابي عبد الله بن حامد ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي لا أكل فيه لأن النبي ﷺ فعله وقد نص أحمد على ذلك وقال لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما تنكره العامة وغسل اليدين بعد الطعام مسنون رواية واحدة

وإذا قدم ما يغسل فيه اليد فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديهم لأن الرفع من زي الأعاجم

وكذلك قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي ويستحب أن يجعل ماء اليد في طشت واحدة لما روي في الخبر لا تبددوا يبدد الله شملكم وروي أنه ﷺ نهى أن يرفع الطشت حتى يطف يعني يمتلئ

وقالوا أيضا ومنهم أبو محمد عبد القادر في تعليل كراهة حلق الرأس على إحدى الروايتين لأن في ذلك تشبها بالأعاجم وقال ﷺ من تشبه بقوم فهو منهم

بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما كراهة أشياء لما فيها من التشبه بأهل البدع مثل ما قال غير واحد من الطائفتين ومنهم عبد القادر ويستحب أن يتختم في يساره للآثار ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة

وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي يستحبون تسنيم القبور وإن كانت السنة عندهم تسطيحها

قالوا لأن ذلك صار شعار المبتدعة

وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات وإنما الغرض بيان ما اتفقت عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام

وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة لتعارض الأدلة فيها أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة مثل ما نقله الأثرم قال

سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب فقال أرجو أن لا يكون به بأس قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها فقال أما المنطقة فقد كرهها قوم يقولون هي زي الأعاجم وكانوا يحتجزون العمائم

وهذا إنما علق القول فيه لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه

ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك ومثل هذا هل يجعل قولا له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة فيه لأصحابه وجهان

أحدهما نعم لأنه لولا موافقته له لكان قد أجاب السائل بغيره لأنه إنما سأله عن قوله ولم يسأله أن يحكي له مذهب الناس

والثاني لا يجعل بمجرد ذلك قولا له لأنه إنما حكاه فقط ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة وفي لبس المنطقة أثر وكلام ليس هذا موضعه

ولمثل هذا تردد كلامه في القوس الفارسية فقال الأثرم سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية فقال إنما كانت قسي الناس العربية ثم قال إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه جعاب وأدم

قلت حديث أبي عمرو بن حماس قال نعم قال أبو عبد الله يقول فلا تكون جعبة إلا للفارسية والنبل فإنما هو قرن

قال الأثرم قلت لأبي عبد الله في تفسير مجاهد قلوبنا في أكنة قال كالجعبة للنبل قال فإن كان يسمى جعبة لنبل فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء

ثم قال ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية

قال أبو بكر قيل لأبي عبد الله الدراعة يكون لها فرج فقال كان لخالد بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع قيل لأبي عبد الله فيكون لها فرج من خلفها قال ما أدري أما من بين يديها فقد سمعت من خلفها فلم أسمع قال إلا أن في ذلك سعة له عند الركوب ومنفعة

قال وقد احتج بعض الناس في هذا بقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ثم قال الأثرم قلت لأبي عبد الله واحتج بهذه الآية بعض الناس في القوس الفارسية ثم قلت إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية وإنما النكاية عندهم للفارسية قال كيف وإنما فتحت الدنيا بالعربية قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ورأيتهم بالثغر لا يكادون يعدلون بالفارسية قال إنما رأيت الرجل بالشام متنكبا قوسا عربية

وروى الأثرم عن حفص بن عمر حدثنا رجاء بن مرجي حدثني عبد الله ابن بشر عن أبي راشد الحبراني وأبي الحجاج السكسكي عن علي رضي الله عنه قال بينما رسول الله ﷺ يتوكأ على قوس له عربية إذ رأى رجلا معه قوس فارسية فقال ألقها فهي ملعونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح الفنا فبها يؤيد الله الدين وبها يمكن لكم في الأرض

ولأصحابنا في القوس الفارسية ونحوها كلام طويل ليس هذا موضعه

وإنما نبهت بذلك على أن مالم يكن من هدي المسلمين بل هو من هدي العجم أو نحوهم وإن ظهرت فائدته ووضحت منفعته تراهم يترددون فيه ويختلفون لتعارض الدليلين دليل ملازمة الهدي الأول ودليل استعمال هذا الذي فيه منفعة بلا مضرة مع أنه ليس من العبادات ولا توابعها وإنما هو من الأمور الدنيوية

وأنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر أو بفعل خالد بن معدان ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف ويقرون عليه فيكون من هدي المسلمين لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب

فهذا هو وجه الحجة لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة

وأما ما في هذا الباب عن سائر أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء فأكثر من أن يمكن ذكر عشره

وقد قدمنا في أثناء الأحاديث كلام بعضهم الذي يدل على كلام الباقين وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار أو لاعتقاد أن فيه دليلا راجحا أو لغير ذلك كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك بنوع تأويل والله أعلم



***********************************************

7..
اقتضاء الصراط المستقيم/7

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/6 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/8









فصل

ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار الأمر بمخالفة الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها وفي لفظ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ورواه مسلم أيضا عن الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي ﷺ قال لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمال

فإنه علل النهي بالأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به ونظائره كثيرة

وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم لأن كمال الدين بالهجرة فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا قال الله سبحانه وتعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم

ومثل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل

وفي لفظ أن النبي ﷺ قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل

ورواه البخاري عن عبد الله بن مغفل عن النبي ﷺ قال لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول هي العشاء

فقد كره موافقة الأعراب في اسم المغرب والعشاء بالعشاء والعتمة

وهذه الكراهة عند بعض علمائنا تقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا وعند بعضهم إنما تقتضي كراهة الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر وهو المشهور عندنا

وعلى التقديرين ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك كما نهى عن موافقة الأعاجم
فصل

واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره وإجمالا يحتاج إلى تفسير

وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء قال الله فيهم الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم وقال تعالى فيهم سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وإلى أهل إيمان وبر قال الله فيهم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربان عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم

وقد كان في أصحاب رسول الله ﷺ ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين

فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب ويذم بعضهم وكذلك فعل بأهل الأمصار فقال سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم

فبين سبحانه أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى وعامة السورة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول

وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر كانقسام الأعراب

قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير

وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب

وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعد الجريري عن أبي نضرة حدثني أو قال حدثنا من شهد خطبة النبي ﷺ بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم عز و جل واحد ألا وإن أباكم واحد ألا لافضل لعربي على عجمي ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا قد بلغت قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب وروى هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر

وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالحو المؤمنين

فأخبر ﷺ عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف

ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها كالمؤمنين والكافرين والبر والفاجر والعالم والجاهل

ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم قال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم

وفي الصحيحين عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال قائل من هم يا رسول الله فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله ﷺ يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء

وفي صحيح مسلم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس أو قال من أبناء فارس حتى يتناوله

وفي رواية لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس

وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ في قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس

ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب

وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدا ﷺ من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا

وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل

وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب مالا يقتضيه سكنى البادية كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى هذا هو الأصل وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى فقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب ولهذا قال الله سبحانه الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ذكر هذا بعد قوله إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم

فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوا رسول الله ﷺ في التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة قال سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن الخير كله أصله وفصله منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وضد الإيمان إما الكفر الظاهر أو النفاق الباطن ونقيض العلم عدمه

فقال سبحانه عن الأعراب إنهم أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة والحدود هي حدود الأسماء المذكورة فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة مثل حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج والمؤمن والكافر والزاني والسارق والشارب وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه وما تستحقه مسميات تلك الأسماء من الأحكام

ولهذا روى أبو داود وغيره من حديث الثوري حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال سفيان مرة ولا أعلمه إلا عن النبي ﷺ قال من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن

ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ بمعناه وقال ومن لزم السلطان افتتن وزاد وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز و جل بعدا

ولهذا كانوا يقولون لمن يستغلظونه إنك لأعرابي جاف إنك لجلف جاف يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه

ثم لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب فإن كل أمة لها حاضرة وبادية فبادية العرب الأعراب ويقال إن بادية الروم الأرمن ونحوهم وبادية الفرس الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار ونحوهم

وهذا والله أعلم هو الأصل وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان

والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا

ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه

فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروها أو مفضيا إلى المكروه وعلى هذا القول في العرب والعجم

فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله ﷺ أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وافضلهم نسبا

وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي ﷺ منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل وبذلك ثبت لرسول الله ﷺ أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور

ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم

فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وساق كلاما طويلا إلى أن قال ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث رسول الله ﷺ حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون بفضلهم فإن قولهم بدعة وخلاف

ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه إن صحت وهو قوله وقول عامة أهل العلم

وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل القبائل للعرب والشعوب للعجم

ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب

والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك ولهذا جاء في الحديث حب العرب إيمان وبغضهم نفاق مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين وهذا محرم في جميع المسائل

فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأمر بإصلاح ذات البين وقال النبي ﷺ مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وقال ﷺ لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله وهذان حديثان صحيحان وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة مالا يحصى

والدليل على فضل جنس العرب ثم جنس قريش ثم جنس بني هاشم ما رواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي ﷺ إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل

الكبا بالكسر والقصر والكبة الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت وفي الحديث الكبوة وهي مثل الكبة

والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر ﷺ أنه خير الناس نفسا ونسبا

وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة قال جاء العباس إلى رسول الله ﷺ فكأنه سمع شيئا فقام النبي ﷺ على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله صلى الله عليك وسلم قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا قال الترمذي هذا حديث حسن كذا وجدته في الكتاب وصوابه فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا

وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس رضي الله عنه بلغه ﷺ بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال من أنا قالوا أنت رسول الله فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني من خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا

أخبر ﷺ أنه ما انقسم الخلق فريقين إلا كان هو في خير الفريقين

وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ

وقوله في الحديث خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم خيرهم فجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة يحتمل شيئين

أحدهما أن الخلق هم الثقلان أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة فكان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة وله وجه صحيح

ثم جعل بني آدم فرقتين والفرقتان العرب والعجم ثم جعل العرب قبائل فكانت قريش أفضل قبائل العرب ثم جعل قريشا بيوتا فكانت بنو هاشم أفضل البيوت

ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم فكان في خيرهم أي ولد إبراهيم أو في العرب ثم جعل بني إبراهيم فرقتين بني إسماعيل وبني إسحاق أو جعل العرب عدنان وقحطان فجعلني في بني إسماعيل أو بني عدنان ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وهم قريش

وعلى كل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم

وقد بين ﷺ أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب

فروى الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد أيضا عن عبد الله بن الحرث حدثني المطلب بن أبي ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله ﷺ مغضبا وأنا عنده فقال ما أغضبك فقال يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك قال فغضب رسول الله ﷺ حتى احمر وجهه ثم قال والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد هذا ورواه أيضا من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث بن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله ﷺ ودر عرق بين عينيه ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي

فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث هذان الحديثان

أحدهما في فضل القبيل الذي منه رسول الله ﷺ

والثاني في محبتهم وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد

وما فيه من كون عبد الله بن الحرث يروي الأول تارة عن العباس وتارة عن المطلب بن أبي وداعة ويروي الثاني عن عبد المطلب بن ربيعة وهو ابن الحرث بن عبد المطلب وهو من الصحابة قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد وليس هذا موضع الكلام فيه فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير لا سيما وله شواهد تؤيد معناه

ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن الأوزاعي

ورواه أحمد والترمذي من حديث محمد بن مصعب عن الأوزاعي ولفظه إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة الحديث وقال الترمذي هذا حديث صحيح

وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى وهذا جيد إلا أن يقال الحديث يقتضي أن إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم إذ كان أبوهم مصطفى وبعضهم مصطفى على بعض

فيقال لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذ كان لم يدل على اصطفائه ذريته إذ يكون على هذا التقدير لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحق

ثم هذا منضما إلى بقية الأحاديث دليل على أن المعنى في جميعها واحد

واعلم أن الأحاديث في فضل قريش ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة وليس هذا موضعها وهي تدل أيضا على ذلك إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه

فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها ثم خص قريشا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها والله عليم حكيم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس و الله أعلم حيث يجعل رسالته

وقد قال الناس في قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وفي قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم أشياء ليس هذا موضعها

ومن الأحاديث التي تذكر في هذا المعنى ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحق الصنعاني حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان خال حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إنا لقعود بفناء النبي ﷺ إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله ﷺ فقال أبو سفيان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي ﷺ فجاء النبي ﷺ يعرف في وجهه الغضب فقال ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق السموات سبعا فاختار العليا منها وأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم

وأيضا في المسألة ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد عن قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد

فقد جعل النبي ﷺ بغض العرب سببا لفراق الدين وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه

ويشبه أن يكون النبي ﷺ خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيها لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله من أن الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا كما أنه ﷺ لما قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا بالنسب ويتركوا الكلم الطيب والعمل الصالح

وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر

ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف لم يكن سببا لفراق الدين ولا لبغض الرسول بل كان يكون نوع عدوان فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم وذلك دليل على أنهم أفضل لأن الحب والبغض يتبع الفضل فمن كان بغضه أعظم دل على أنه أفضل ودل حينئذ على أن محبته دين لأجل ما فيه من زيادة الفضل ولأن ذلك ضد البغض ومن كان بغضه سببا للعذاب لخصوصه كان حبه سببا للثواب وذلك دليل على الفضل

وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر رواه أبو طاهر السلفي في فضل العرب من حديث أبي بكر بن أبي داود حدثنا عيسى بن حماد زغبة حدثنا علي بن الحسن الشامي حدثنا خليد بن دعلج عن يونس بن عبيد عن الحسن عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما من الكفر وحب العرب من الإيمان وبغضهم من الكفر

وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث وذكروا لفظه حب العرب إيمان وبغضهم نفاق وكفر

وهذا الإسناد وحده فيه نظر لكن لعله روي من وجه آخر وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان فإنه قد صرح في حديث سلمان بأن بغضهم نوع كفر ومقتضى ذلك أن حبهم نوع من إيمان فكان هذا موافقا له

ولذلك قد رويت أحاديث النكرة ظاهرة عليها مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين بن عمر عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي

قلت هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان فان الغش للنوع لا يكون مع محبتهم بل لا يكون إلا مع استخفاف بهم أو مع بغض لهم فليس معناه بعيدا

لكن حصين هذا الذي رواه قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه قال يحيى بن معين ليس بشيء وقال ابن المديني ليس بالقوي روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال يعقوب بن شيبة ضعيف جدا ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب وقال ابن عدي عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من روى عنه

قلت ولذلك لم يحدث أحمد ابنه عبد الله بهذا الحديث في الحديث المسند فانه قد كان كتبه عن محمد بن بشر عن عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين كما رواه الترمذي فلم يحدثه به وإنما رواه عبد الله عنه في المسند وجادة قال وجدت في كتاب أبي حدثنا محمد بن بشر وذكره

وكان أحمد رحمه الله على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث الرجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي ﷺ قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين

وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه حدثنا إسماعيل أبو معمر حدثنا إسماعيل بن عياش عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن عبيد الله ابن أبي نافع عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يبغض العرب إلا منافق وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث وهو مدني ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة

وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن زيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ أحب العرب لثلاث لأنه عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن

فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات وقال قال الثعلبي لا أصل له وقال ابن حبان يحيى بن زيد يروي المقلوبات عن الاثبات فبطل الاحتجاج به والله أعلم

وأيضا في المسألة ما روى أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الجبار بن العباس وكان رجلا من أهل الكوفة يميل إلى الشيعة وهو صحيح الحديث مستقيمه وهذا والله أعلم كلام البزار عن أبي إسحاق عن أوس بن ضمعج قال قال سلمان نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله ﷺ إياكم لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم في الصلاة

وهذا إسناد جيد وأبو أحمد هو والله أعلم محمد بن عبد الله الزبيري من أعيان العلماء الثقات وقد أثنى على شيخه والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم

وقد أخبر سلمان أن رسول الله ﷺ فضل العرب فإما إنشاء وإما إخبار فإنشاؤه ﷺ حكم لازم وخبره حديث صادق وتمام الحديث قد روي عن سلمان من غير هذا الوجه رواه الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان الفارسي أنه قال فضلتمونا يا معاشر العرب باثنتين لا نؤمكم في الصلاة ولا ننكح نساءكم رواه محمد بن أبي عمر العدني وسعيد بن منصور في سننه وغيرهما

وهذا مما احتج به أكثر الفقهاء الذين جعلوا العربية من الكفاءة بالنسبة إلى العجمي واحتج به أحمد في إحدى الروايتين على أن الكفاءة ليست حقا لواحد معين بل هي من الحقوق المطلقة في النكاح حتى إنه يفرق بينهما عند عدمها

واحتج أصحاب الشافعي وأحمد بهذا على أن الشرف مما يستحق به التقديم في الصلاة

ومثل ذلك ما رواه محمد بن أبي عمر العدني قال حدثنا سعيد بن عبيد أنبأنا علي بن ربيعة عن ربيع بن نضلة أنه خرج في اثني عشر راكبا كلهم قد صحب محمدا ﷺ وفيهم سلمان الفارسي وهم في سفر فحضرت الصلاة فتدافع القوم أيهم يصلي بهم فصلى بهم رجل منهم أربعا فلما انصرف قال سلمان ما هذا ما هذا مرارا نصف المربوعة قال مروان يعني نصف الأربع نحن إلى التخفيف أفقر فقال له القوم صل بنا يا ابا عبد الله أنت أحقنا بذلك فقال لا أنتم بنو إسماعيل الأئمة ونحن الوزراء

وفي المسألة آثار غير ما ذكرته في بعضها نظر وبعضها موضوع

وأيضا فان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع ديوان العطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بأقربهم نسبا إلى رسول الله ﷺ فلما انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين

وسائر الخلفاء من بني أمية وولد العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك

وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم

وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني جمعا وفرقا يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع جمع ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر كما نجده في لغتهم من جنس الحيوان فإنهم مثل يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة ثم يميزون بين أنواعه في اسماء كل أمر من أموره من الأصوات والأولاد والمساكن والأظفار إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها

وأما العمل فان مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم فهم اقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاف المحمودة لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء ولا شريعة موروثة عن نبي ولا هم أيضا مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب فلما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل منه أعظم قدرا وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزل الله إليهم بمنزلة أرض جيدة في نفسها لكن هي معطلة عن الحرث أو قد نبت فيها شجر العضاه والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب وازدرع فيها أفضل الحبوب والثمار جاء فيها من الحرث مالا يوصف مثله فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء وصار أفضل الناس بعدهم من تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة من العرب والعجم

وكان الناس إذ ذاك الخارجون عن هذا الكمال قسمين إما كافر من اليهود والنصارى لم يقبل هدى الله وإما غيرهم من العجم الذين لم يشركوهم فيما فطروا عليه وكان عامة العجم حينئذ كفارا من الفرس والروم فجاءت الشريعة باتباع أولئك السابقين على الهدى الذي رضيه الله لهم وبمخالفة من سواهم إما لمعصيته وإما لنقيصته وإما لأنه مظنة النقيصة

فإذا نهت الشريعة عن مشابهة الأعاجم دخل في ذلك ما عليه الأعاجم الكفار قديما وحديثا ودخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون كما يدخل في مسمى الجاهلية العربية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ومن تشبه من العرب بالعجم لحق بهم ومن تشبه من العجم بالعرب لحق بهم ولهذا كان الذين تناولوا العلم والإيمان من أبناء فارس إنما حصل ذلك بمتابعتهم للدين الحنيف بلوازمه من العربية وغيرها ومن نقص من العرب إنما نقص بتخليهم عن هذا وإما بموافقتهم للعجم فيما جاءت السنة أن يخالفوا فيه فهذا أوجه

وأيضا فإن الله لما أنزل كتابه باللسان العربي وجعل رسوله مبلغا عنه الكتاب والحكمة بلسانه العربي وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط هذا اللسان وصارت معرفته من الدين وصار اعتياد التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله وأقرب إلى إقامة شعائر الدين وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في جميع أمورهم

وسنذكر إن شاء الله بعض ما قاله العلماء من الأمر بالخطاب العربي وكراهة مداومة غيره لغير حاجة

واللسان تقارنه أمور أخرى من العلوم والأخلاق فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة

فحاصله أن النهي عن التشبه بهم إنما كان لما يفضي إليه من فوت الفضائل التي جعلها الله للسابقين الأولين أو حصول النقائض التي كانت في غيرهم

ولهذا لما علم المؤمنون من أبناء فارس وغيرهم هذا الأمر أخذ من وفقه الله منهم نفسه بالاجتهاد في تحقيق المشابهة بالسابقين فصار أولئك من أفضل التابعين بإحسان إلى يوم القيامة وصار كثير منهم أئمة لكثير من غيرهم ولهذا كانوا يفضلون من الفرس من رأوه أقرب إلى متابعة السابقين حتى قال الأصمعي فيما رواه عنه أبو طاهر السلفي في كتاب فضل الفرس عجم أصبهان قريش العجم

وروى أيضا السلفي بإسناد معروف عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن أسامة بن زيد عن سعيد بن المسيب قال لو أني لم أكن من قريش لأحببت أن أكون من فارس ثم أحببت أن أكون من أصبهان

وروي بإسناد آخر عن سعيد بن المسيب قال لولا أني رجل من قريش لتمنيت أن أكون من أصبهان لقول النبي ﷺ لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله ناس من فارس من أبناء العجم أسعد الناس بها فارس وأصبهان

قالوا وكان سلمان الفارسي من أهل أصبهان وكذلك عكرمة مولى ابن عباس وغيرهما فإن آثار الإسلام كانت بأصبهان أظهر منها بغيرها حتى قال الحافظ عبد القادر الرهاوي رحمه الله ما رأيت بلدا بعد بغداد أكثر حديثا من أصبهان وكان أئمة السنة علما وفقها والعارفون بالحديث وسائر الإسلام المحض فيهم أكثر من غيرهم حتى إنه قيل إن قضاتهم كانوا من فقهاء الحديث مثل صالح بن أحمد بن حنبل ومثل أبي بكر بن أبي عاصم ومن بعدهم وأنا لا أعلم حالهم بأخرة

وكذلك كل مكان أو شخص من أهل فارس يمدح المدح الحقيقي إنما يمدح لمشابهة السابقين حتى قد يختلف في فضل شخص على شخص أو قول على قول أو فعل على فعل لأجل اعتقاد كل من المختلفين أن هذا أقرب إلى طريق السابقين الأولين فإن الأمة مجمعة على هذه القاعدة وهي فضل طريقة العرب السابقين وأن الفاضل من تبعهم وهو المطلوب هنا

وإنما يتم الكلام بأمرين

أحدهما أن الذي يجب على المسلم إذا نظر في الفضائل أو تكلم فيها أن يسلك سبيل العاقل الذي غرضه أن يعرف الخير ويتحراه جهده وليس غرضه الفخر على أحد ولا الغمط من أحد فقد روى مسلم في صحيحه عن عياض ابن حمار المجاشعي قال قال رسول الله ﷺ إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد

فنهى سبحانه على لسان رسوله ﷺ عن نوعي الاستطالة على الخلق وهي الفخر والبغي لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر وإن كان بغير حق فقد بغى فلا يحل لا هذا ولا هذا

فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة مثل أن يذكر فضل بني هاشم أو قريش أو العرب أو الفرس أو بعضهم فلا يكون حظه استشعار فضل نفسه والنظر إلى ذلك فإنه مخطئ في هذا لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص كما قدمناه فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش











********************************************************

8.
اقتضاء الصراط المستقيم/8

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/7 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/9










ثم هذا النظر يوجب نقصه وخروجه عن الفضل فضلا عن أن يستعلي عبدا أو يستطيل

وإن كان من الطائفة الأخرى مثل العجم أو غير قريش أو بني هاشم فليعلم أن تصديقه رسول الله ﷺ فيما أخبر وطاعته فيما أمر ومحبة من أحبه والتشبه بمن فضله الله والقيام بالدين الحق الذي بعث الله به عبده ورسوله محمدا ﷺ يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة المفضلة وهذا هو الفضل الحقيقي

وانظر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وضع الديوان وقالوا له يبدأ أمير المؤمنين بنفسه فقال لا ولكن وضعوا عمر حيث وضعه الله تعالى فبدأ بأهل بيت رسول الله ﷺ ثم من يليهم حتى جاءت نوبته في بني عدي وهم متأخرون عن أكثر بطون قريش

ثم هذا الاتباع للحق ونحوه قدمه على عامة بني هاشم فضلا عن غيرهم من قريش

الثاني أن اسم العرب والعجم قد صار فيه اشتباه فإنا قد قدمنا أن اسم العجم يعم في اللغة كل من ليس من العرب ثم لما كان العلم والإيمان في أبناء فارس أكثر منه في غيرهم من العجم كانوا أفضل الأعاجم فغلب لفظ العجم في عرف العامة المتأخرين عليهم فصارت حقيقة عرفية عامية فيهم

واسم العرب في الأصل كان اسما لقوم جمعوا ثلاثة أوصاف

أحدها أن لسانهم كان باللغة العربية

الثاني أنهم كانوا من أولاد العرب

الثالث أن مساكنهم كانت أرض العرب وهي جزيرة العرب التي هي من بحر القلزم إلى بحر البصرة ومن أقصى حجر باليمن إلى أوائل الشام بحيث تدخل اليمن في دارهم ولا تدخل فيها الشام وفي هذه الأرض كانت العرب حين البعث وقبله فلما جاء الإسلام وفتحت الأمصار سكنوا سائر البلاد من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب وإلى سواحل الشام وأرمينية وهذه كانت مساكن فارس والروم والبربر وغيرهم ثم انقسمت هذه البلاد قسمين

منها ما غلب على أهله لسان العرب حتى لا تعرف عامتهم غيره أو يعرفونه وغيره مع ما دخل على لسان العرب من اللحن وهذه غالب مساكن الشام والعراق ومصر والأندلس ونحو ذلك وأظن أرض فارس وخراسان كانت هكذا قديما

ومنها ما العجمة كثيرة فيهم أو غالبة عليهم كبلاد الترك وخراسان وأرمينية وأذربيجان ونحو ذلك فهذه البقاع انقسمت إلى ما هو عربي ابتداء وما هو عربي انتقالا وإلى ما هو عجمي وكذلك الأنساب ثلاثة أقسام

قوم من نسل العرب وهم باقون على العربية لسانا ودارا أو لسانا لا دارا أو دارا لا لسانا

وقوم من نسل العرب بل من نسل هاشم ثم صارت العربية لسانهم ودارهم أو أحدهما

وقوم مجهولو الأصل لا يدرون أمن نسل العرب هم أو من نسل العجم وهم أكثر الناس اليوم سواء كانوا عرب الدار واللسان أو عجما في أحدهما

وكذلك انقسموا في اللسان ثلاثة أقسام

قوم يتكلمون بالعربية لفظا ونغمة

وقوم يتكلموا بها لفظا لا نغمة وهم المتعربون الذين ما تعلموا اللغة ابتداء من العرب وإنما اعتادوا غيرها ثم تعلموها كغالب أهل العلم ممن تعلم العربية

وقوم لا يتكلمون بها إلا قليلا

وهذان القسمان منهم من تغلب عليه العربية ومنهم من تغلب عليه العجمة ومنهم من يتكافأ في حقه الأمران إما قدرة وإما عادة

فإذا كانت العربية قد انقسمت نسبا ولسانا ودارا فإن الأحكام تختلف باختلاف هذا الانقسام خصوصا النسب واللسان

فإن ما ذكرناه من تحريم الصدقة على بني هاشم واستحقاق نصيب من الخمس ثبت لهم باعتبار النسب وإن صارت ألسنتهم أعجمية

وما ذكرنا من حكم اللسان العربي وأخلاق العرب يثبت لمن كان كذلك وإن كان أصله فارسيا وينتفي عمن لم يكن كذلك وإن كان أصله هاشميا

والمقصود هنا أن ما ذكرته من النهي عن التشبه بالأعاجم إنما العبرة فيه بما كان عليه صدر الإسلام من السابقين الأولين فكل ما كان إلى هداهم أقرب فهو المفضل وكل ما خالف ذلك فهو المخالف سواء كان المخالف ذلك اليوم عربي النسب أو عربي اللسان وهكذا جاء عن السلف

فروى الحافظ أبو طاهر السلفي في فضل العرب بإسناده عن أبي شهاب الحناط حدثنا جبار بن موسى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال من ولد في الإسلام فهو عربي

وهذا الذي يروى عن أبي جعفر لأن من ولد في الإسلام فقد ولد في دار العرب واعتاد خطابها وهكذا كان الأمر

وروى السلفي عن المؤتمر الساجي عن أبي القاسم الخلال أنبأنا أبو محمد الحسن بن الحسين التولخي حدثنا علي بن عبد الله بن بشر حدثنا محمد بن حرب النشائي حدثنا إسحاق الأزرق عن هشام بن حسان عن الحسن عن أبي هريرة يرفعه قال من تكلم بالعربية فهو عربي ومن أدرك له اثنان في الإسلام فهو عربي هكذا فيه وأظنه ومن أدرك له أبوان

فهنا إن صح هذا الحديث فقد علقت العربية فيه بمجرد اللسان وعلقت في النسب بأن يدرك له أبوان في الدولة الإسلامية العربية

وقد يحتج بهذا القول أبو حنيفة على أن من ليس له أبوان في الإسلام أو في الحرية ليس كفؤا لمن له أبوان في ذلك وإن كان في العجمية والعتاقة

ومذهب أبي يوسف ذو الأب الواحد كذي الأبوان

ومذهب الشافعي وأحمد لا عبرة بذلك ونص عليه أحمد

وقد روى السلفي من حديث الحسن بن رشيق حدثنا أحمد بن الحسن بن هارون حدثنا العلاء بن سالم حدثنا قرة بن عيسى الواسطي حدثنا أبو بكر الهذلي عن مالك بن أنس عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جاء قيس بن مطاطة إلى حلقة فيها صهيب الرومي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي فقال هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل فما بال هؤلاء فقام معاذ بن جبل فأخذ بتلابيبه ثم أتى به إلى النبي ﷺ فأخبره بمقالته فقام النبي ﷺ مغضبا يجر رداءه حتى دخل المسجد ثم نودي إن الصلاة جامعة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس إن الرب رب واحد والأب أب واحدوالدين دين واحد وإن العربية ليست لأحدكم بأب ولا أم إنما هي لسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي فقام معاذ بن جبل فقال بم تأمرنا في هذا المنافق فقال دعه إلى النار فكان قيس ممن ارتد فقتل في الردة

هذا الحديث ضعيف وكأنه مركب على مالك لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه كما قدمناه

ومن تأمل ما ذكرناه في هذا الباب عرف مقصود الشريعة فيما ذكرناه من الموافقة المأمور بها والمخالفة المنهي عنها كما تقدمت الدلالات عليه وعرف بعض وجوه ذلك وأسبابه وبعض ما فيه من الحكمة
فصل

فإن قيل ما ذكرتموه من الأدلة معارض بما يدل على خلافه وذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ولقوله تعالى فبهداهم اقتده وقوله اتبع ملة إبراهيم وقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا وغير ذلك من الدلائل المذكورة في غير هذا الموضع مع أنكم مسلمون لهذه القاعدة وهي قول عامة السلف وجمهور الفقهاء ومعارض بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله ﷺ ما هذا اليوم الذي تصومونه قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له فقال رسول الله ﷺ فنحن أحق بموسى منكم فصامه رسول الله ﷺ وأمر بصيامه متفق عليه

وعن أبي موسى قال كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا فقال رسول الله ﷺ فصوموه أنتم متفق عليه وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري تعظمه اليهود وتتخذه عيدا وفي لفظ له كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء ويتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشاراتهم

وعن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رءوسهم وكان رسول الله ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وسدل رسول الله ﷺ ناصيته ثم فرق بعد متفق عليه

قيل أما المعارضة بكون شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه فذاك مبني على مقدمتين كلتاهما منفية في مسألة التشبه بهم

إحداهما أن يثبت أن ذلك شرع لهم بنقل موثوق به مثل أن يخبرنا الله في كتابه أو على لسان رسوله أو ينقل بالتواتر ونحو ذلك فأما مجرد الرجوع إلى قولهم أو إلى ما في كتبهم فلا يجوز بالاتفاق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان قد استخبرهم فأخبروه ووقف على ما في التوراة فإنما ذلك لأنه لا يروج عليه باطلهم بل الله سبحانه يعرفه ما يكذبون مما يصدقون كما أخبره بكذبهم غير مرة وأما نحن فلا نأمن أن يحدثونا بالكذب فيكون فاسق بل كافر قد جاءنا بنبأ فاتبعناه وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال إذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم

المقدمة الثانية أن لا يكون في شرعنا بيان ختص لذلك فأما إذا كان فيه بيان خاص بالموافقة أو بالمخالفة استغنى عن ذلك فيما ينهى عنه من موافقتهم ولم يثبت أنه شرع لمن كان قبلنا وإن ثبت فقد كان هدي نبينا ﷺ وأصحابه بخلافه وبهم أمرنا نحن أن نتبع ونقتدي وقد أمرنا نبينا ﷺ أن يكون هدينا مخالفا لهدي اليهود والنصارى وإنما تجيء الموافقة في بعض الأحكام العارضة لا في الهدي الراتب والشعار الدائم

ثم ذلك بشرط أن لا يكون قد جاء عن نبينا وأصحابه خلافه أو ثبت أصل شرعه في ديننا وقد ثبت عن نبي من الأنبياء أصله أو وصفه مثل فداء من نذر أو يذبح ولده بشاة ومثل الختان المأمور به في ملة إبراهيم عليه السلام ونحو ذلك وليس الكلام فيه

وأما حديث عاشوراء فقد ثبت أن رسول الله ﷺ كان يصومه قبل استخباره لليهود وكانت قريش تصومه

ففي الصحيحين من حديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله ﷺ يصومه فلما هاجر إلى المدينة صامه وأمر بصومه فلما فرض شهر رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه وفي رواية وكان يوم تستر فيه الكعبة

وأخرجاه من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله ﷺ يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان قال من شاء صامه ومن شاء تركه

وفيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء وأن رسول الله ﷺ صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما فرض رمضان قال رسول الله ﷺ إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه

فإذا كان أصل صومه لم يكن موافقا لأهل الكتاب فيكون قوله فنحن أحق بموسى منكم تأكيدا لصومه وبيانا لليهود أن الذي تفعلونه من موافقة موسى نحن أيضا نفعله فنكون أولى بموسى منكم

ثم الجواب عن هذا وعن قوله كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء من وجوه

أحدها أن هذا كان متقدما ثم نسخ الله ذلك وشرع له مخالفة أهل الكتاب وأمره بذلك وفي متن هذا الحديث أنه سدل شعره موافقة لهم ثم فرق شعره بعد ولهذا صار الفرق شعار المسلمين وكان من الشروط المشروطة على أهل الذمة أن لا يفرقوا شعورهم وهذا كما أن الله شرع في أول الأمر استقبال بيت المقدس موافقة لأهل الكتاب ثم إنه نسخ ذلك وأمر باستقبال الكعبة واخبر عن اليهود وغيرهم من السفهاء أنهم سيقولون ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وأخبر أنهم لا يرضون عن رسول الله حتى يتبع قبلتهم وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم من بعد ما جاءه العلم ماله من الله من ولي ولا نصير وأخبره أنه إن اتبع أهواءهم بعد الذي جاءه من العلم إنه إذن لمن الظالمين وأخبره أن لكل وجهة هو موليها وكذلك أخبره في غير موضع أنه جعل لكل شرعة ومنهاجا فالشعار من جملة الشرعة

والذي يوضح ذلك أن هذا اليوم عاشوراء الذي صامه وقال نحن أحق بموسى منكم قد شرع قبيل موته مخالفة اليهود في صومه وأمر ﷺ بذلك ولهذا كان ابن عباس رضي الله عنهما وهو الذي كان يقول كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء وهو الذي روى قوله نحن أحق بموسى منكم أشد الصحابة رضي الله عنهم أمر بمخالفة اليهود في صوم يوم عاشوراء وقد ذكرنا أنه هو الذي روى شرع المخالفة

وروى أيضا مسلم في صحيحه عن الحكم بن الأعرج قال انتهيت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له أخبرني عن صيام يوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان يصومه محمد ﷺ قال نعم

وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع يعني مع يوم عاشوراء

وقد مضى قول ابن عباس صم التاسع يعني والعاشر خالفوا اليهود هكذا ثبت عنه وعلله بمخالفة اليهود

قال يحيى بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود

وروينا في فوائد داود بن عمرو عن إسماعيل بن علية قال ذكروا عند ابن أبي نجيح أن ابن عباس كان يقول يوم عاشوراء يوم التاسع فقال ابن أبي نجيح إنما قال ابن عباس أكره أن تصوم يوما فردا ولكن صوموا قبله يوما أو بعده يوما

ويحقق ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أمر رسول الله ﷺ بصوم يوم عاشوراء العاشر من المحرم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح

وروى سعيد بن منصور في سننه عن هشيم عن ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا يوما قبله أو يوما بعده رواه أحمد ولفظه صوموا قبله يوما أو بعده يوما

ولهذا نص أحمد على مثل ما رواه ابن عباس وأفتى به

فقال في رواية الأثر أنا أذهب في يوم عاشوراء إلى أن يصام يوم التاسع والعاشر لحديث ابن عباس صوموا التاسع والعاشر

وقال حرب سألت أحمد عن صوم يوم عاشوراء فقال نصوم التاسع والعاشر

وقال في رواية الميموني وأبي الحارث من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة ايام ابن سيرين يقول ذلك

وقد قال بعض أصحابنا إن الأفضل صوم التاسع والعاشر وإن اقتصر على العاشر لم يكره

ومقتضى كلام أحمد أنه يكره الاقتصار على العاشر لأنه سئل عنه فأفتى بصوم يومين وأمر بذلك وجعل هذا هو السنة لمن أراد صوم عاشوراء واتبع في ذلك حديث ابن عباس وابن عباس كان يكره إفراد العاشر على ما هو مشهور عنه

ومما يوضح ذلك أن كل ما جاء من التشبه بهم إنما كان في صدر الهجرة ثم نسخ ذلك لأن اليهود إذ ذاك كانوا لا يميزون عن المسلمين لا في شعور ولا في لباس لا بعلامة ولا غيرها

ثم إنه ثبت بعد ذلك في الكتاب والسنة والإجماع الذي كمل ظهوره في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما شرعه الله من مخالفة الكافرين ومفارقتهم في الشعار والهدى

وسبب ذلك أن المخالفة لهم لا تكون إلا بعد ظهور الدين وعلوه كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم يشرع المخالفة لهم فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك

ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين والاطلاع على باطن أمرهم لإخبار المسلمين بذلك أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة

فأما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة وإذا ظهرت الموافقة والمخالفة لهم باختلاف الزمان ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا

الوجه الثاني لو فرضنا أن ذلك لم ينسخ فالنبي ﷺ وهو الذي كان له أن يوافقهم لأنه يعلم حقهم من باطلهم بما يعلمه الله إياه ونحن نتبعه فأما نحن فلا يجوز لنا أن نأخذ شيئا من الدين عنهم لا من أقوالهم ولا من أفعالهم بإجماع المسلمين المعلوم بالاضطرار من دين الرسول ﷺ ولو قال رجل يستحب لنا موافقة أهل الكتاب الموجودين في زماننا لكان قد خرج عن دين الأمة

الوجه الثالث أن نقول بموجبه كان يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ثم إنه أمر بمخالفتهم وأمرنا نحن أن نتبع هديه وهدي أصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والكلام إنما هو في أنا منهيون عن التشبه بهم فيما لم يكن سلف الأمة عليه فأما ما كان سلف الأمة عليه فلا ريب فيه سواء فعلوه أو تركوه فإنا لا نترك ما أمر الله به لأجل أن الكفار تفعله مع أن الله لم يأمرنا بشيء يوافقونا عليه إلا ولا بد فيه من نوع مغايرة يتميز بها دين الله المحكم عما قد نسخ أو بدل
فصل

قد ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار ما دل على أن التشبه بهم في الجملة منهي عنه وأن مخالفتهم في هديهم مشروع إما إيجابا وإما استحبابا بحسب المواضع وقد تقدم بيان أن ما أمرنا الله ورسوله به من مخالفتهم مشروع سواء كان ذلك الفعل مما قصد فاعله التشبه بهم أو لم يقصد وكذلك ما نهى عنه من مشابهتهم يعم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد فإن عامة هذه الأعمال لم يكن المسلمون يقصدون المشابهة فيها وفيها مالا يتصور قصد المشابهة فيه كبياض الشعر وطول الشارب ونحو ذلك

ثم اعلم أن أعمالهم ثلاثة أقسام

قسم مشروع في ديننا مع كونه كان مشروعا لهم أولا نعلم أنه كان مشروعا لهم لكنهم يفعلونه الآن

وقسم كان مشروعا ثم نسخه شرع القرآن

وقسم لم يكن مشروعا بحال وإنما هم أحدثوه

وهذه الأقسام الثلاثة إما ان تكون في العبادات المحضة وإما أن تكون في العادات المحضة وهي الآداب وإما أن تجمع العبادات والعادات فهذه تسعة أقسام

فأما القسم الأول وهو ما كان مشروعا في الشريعتين أو ما كان مشروعا لنا وهم يفعلونه فهذا كصوم عاشوراء أو كأصل الصلاة والصيام فهنا تقع المخالفة في صفة ذلك العمل كما سن لنا صوم تاسوعاء وعاشوراء كما أمرنا بتعجيل الفطر والمغرب مخالفة لأهل الكتاب وبتأخير السحور مخالفة لأهل الكتاب وكما أمرنا بالصلاة في النعلين مخالفة لليهود وهذا كثير في العبادات وكذلك في العادات

قال رسول الله ﷺ اللحد لنا والشق لغيرنا

وسن توجيه قبور المسلمين إلى الكعبة تمييزا لها عن مقابر الكافرين

فإن أصل الدفن من الأمور المشروعة في الأمور العادية

ثم قد اختلفت الشرائع في صفته وهو أيضا فيه عبادات

ولباس النعل في الصلاة فيه عبادات وعادة ونزع النعل في الصلاة شريعة

كانت لموسى عليه السلام وكذلك اعتزال الحائض ونحو ذلك من الشرائع التي جامعناهم في أصلها وخالفناهم في وصفها

القسم الثاني ما كان مشروعا ثم نسخ بالكلية كالسبت أو إيجاب صلاة أو صوم ولا يخفى النهي عن موافقتهم في هذا سواء كان واجبا عليهم فيكون عبادة أو محرما علهم فيتعلق بالعادات فليس للرجل أن يمتنع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين بذلك وكذلك ما كان مركبا منهما وهي الأعياد التي كانت مشروعة لهم فإن العيد مشروع يجمع عبادة وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك ويجمع عادة وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس وما يتبع ذلك من ترك الأعمال الواجبة واللعب المأذون فيه في الأعياد لمن ينتفع باللعب ونحو ذلك ولهذا قال النبي ﷺ لما زجر أبو بكر رضي الله عنه الجاريتين عن الغناء في بيته قال دعهما يا ابا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وكان الحبشة يلعبون بالحراب يوم العيد والنبي ﷺ ينظر إليهم

فالأعياد المشروعة يشرع فيها وجوبا أو استحبابا من العبادات مالا يشرع في غيرها ويباح فيها أو يستحب أو يجب من العادات التي للنفوس فيها حظ مالا يكون في غيرها كذلك ولهذا وجب فطر يوم العيدين وقرن بالصلاة في أحدهما الصدقة وقرن بها في الآخر الذبح وكلاهما من أسباب الطعام

فموافقتهم في هذا القسم المنسوخ من العبادات أو العادات أو كلاهما أقبح من موافقتهم فيما هو مشروع الأصل ولهذا كانت الموافقة في هذا محرمة كما سنذكره وفي الأول قد لا تكون إلا مكروهة

وأما القسم الثالث وهو ما أحدثوه من العبادات أو العادات أو كليهما فهو أقبح وأقبح فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحا فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط بل قد أحدثه الكافرون فالموافقة فيه ظاهرة القبح فهذا أصل

وأصل آخر وهو أن كل ما يتشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما فهو من المحدثات في هذه الأمة ومن البدع إذ الكلام فيما كان من خصائصهم وأما ما كان مشروعا لنا وقد فعله سلفنا السابقون فلا كلام فيه

فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والاجماع على قبح البدع وكراهتها تحريما أو تنزيها تندرج هذه المشابهات فيها فيجتمع فيها أنها بدعة محدثه ومشابهة للكافرين وكل واحد من الوصفين يوجب النهي إذ المشابهة منهي عنها في الجملة ولو كانت في السلف والبدعة منهي عنها في الجملة ولو لم يفعلها الكفار فإذا اجتمع الوصفان صارا علتين مستقلتين في القبح والنهي
فصل

إذا تقرر هذا الأصل في مشابهة الكفار فنقول موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من الطريقين

الطريق الأول العام هو ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس من ديننا ولا عادة سلفنا فيكون فيه مفسدة موافقتهم وفي تركه مصلحة مخالفتهم حتى لو كانت موافقتهم في ذلك أمرا اتفاقيا ليس مأخوذا عنهم لكان المشروع لنا مخالفتهم لما في مخالفتهم من المصلحة لنا كما تقدمت الإشارة إليه فمن وافقهم فقد فوت على نفسه هذه المصلحة وإن لم يكن قد أتى بمفسدة فكيف إذا جمعهما

ومن جهة أنه من البدع المحدثة وهذه الطريق لا ريب في أنها تدل على كراهة التشبه بهم في ذلك فإن أقل أحوال التشبه بهم أن يكون مكروها

وكذلك أقل أحوال البدع أن تكون مكروهة ويدل كثير منها على تحريم التشبه بهم في العيد مثل قوله ﷺ من تشبه بقوم فهو منهم فإن موجب هذا تحريم التشبه بهم مطلقا وكذلك قوله خالفوا المشركين ونحو ذلك مثل ما ذكرناه من دلالة الكتاب والسنة على تحريم سبيل المغضوب عليهم والضالين وأعيادهم من سبيلهم إلى غير ذلك من الدلائل

فمن انعطف على ما تقدم من الدلائل العامة نصا وإجماعا وقياسا تبين له دخول هذه المسألة في كثير مما تقدم من الدلائل وتبين له أن هذا من جنس أعمالهم التي هي دينهم أو شعار دينهم الباطل وأن هذا محرم كله بخلاف مالم يكن من خصائص دينهم ولا شعارا له مثل نزع النعلين في الصلاة فإنه جائز كما أن لبسهما جائز وتبين له أيضا الفرق بين ما بقينا فيه على عادتنا لم نحدث شيئا نكون به موافقين لهم فيه وبين أن نحدث أعمالا أصلها مأخوذ عنهم وقصدنا موافقتهم أو لم نقصد

وأما الطريق الثاني الخاص في نفس أعياد الكفار فالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار

أما الكتاب فمما تأوله غير واحد من التابعين وغيرهم في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما

فروى أبو بكر الخلال في الجامع بإسناده عن محمد بن سيرين في قوله تعالى والذين يشهدون الزور قال هو الشعانين

وكذلك ذكر عن مجاهد قال هو أعياد المشركين

وكذلك عن الربيع بن أنس قال هو أعياد المشركين

وفي معنى هذا ما روي عن عكرمة قال لعب كان لهم في الجاهلية

وقال القاضي أبو يعلى مسألة في النهي عن حضور أعياد المشركين

وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن الضحاك في قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين

وبإسناده عن أبي سنان عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور كلام الشرك

وبإسناده عن جويبر عن الضحاك والذين لا يشهدون الزور قال أعياد المشركين

وروى بإسناده عن عمرو بن مرة لا يشهدون الزور لا يمالئون أهل الشرك على شركهم ولا يخالطونهم

وبإسناده عن عطاء بن يسار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وأن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم

وقول هؤلاء التابعين إنه أعياد الكفار ليس مخالفا لقول بعضهم إنه الشرك أو صنم كان في الجاهلية ولقول بعضهم إنه مجالس الخنا وقول بعضهم إنه الغناء لأن عادة السلف في تفسيرهم هكذا يذكر الرجل نوعا من أنواع المسمى لحاجة المستمع إليه أو لينبه به على الجنس كما لو قال العجمي ما الخبز فيعطى رغيفا ويقال له هذا بالإشارة إلى جنس لا إلى عين الرغيف

لكن قد قال قوم إن المراد شهادة الزور التي هي الكذب

وهذا فيه نظر فإنه قال لا يشهدون الزور ولم يقل لا يشهدون بالزور والعرب تقول شهدت كذا إذا حضرته كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله ﷺ وقول عمر الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا كثير في كلامهم وأما شهدت بكذا فمعناه أخبرت به

ووجه تفسير التابعين المذكورين أن الزور هو المحسن المموه حتى يظهر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة ومنه قوله ﷺ المتشبع بمالم يعط كلابس ثوبي زور لما كان يظهر ما يعظم به مما ليس عنده

والشاهد بالزور مظهر كلاما يخالف الباطن ولهذا فسره السلف تارة بما يظهر حسنه لشبهة أو لشهوة وهو قبيح في الباطن فالشرك ونحوه يظهر حسنه للشهوة والغناء نحوه يظهر حسنه للشهوة

وأما أعياد المشركين فجمعت الشبهة والشهوة والباطل ولا منفعة فيها في الدين وما فيها من اللذة العاجلة فعاقبتها إلى ألم فصارت زورا وحضورها شهودها

وإذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل الذي هو عمل الزور لا مجرد شهوده

ثم مجرد هذه الآية فيها الحمد لهؤلاء والثناء عليهم ذلك وحده يفيد الترغيب في ترك شهود أعيادهم وغيرها من الزور ويقتضي الندب إلى ترك حضورها وقد يفيد كراهية حضورها لتسمية الله لها زورا

فأما تحريم شهودها من هذه الآية ففيه نظر

ودلالتها على تحريم فعلها أوجه لأن الله سماها زورا وقد ذم من يقول الزور وإن لم يضر غيره بقوله في المتظاهرين فقال وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وقال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان اجتنبوا قول الزور ففاعل الزور كذلك

وقد يقال قول الزور أبلغ من فعله لأنه إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده دل على أن فعله مذموم عنده معيب إذ لو كان فعله جائزا والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح إذ شهود المباحات لا منفعة فيها وعدم شهودها قليل التأثير

وقد يقال هذا مبالغة في مدحهم إذ كانوا لا يحضرون مجالس البطالة وإن كانوا لا يفعلون هم الباطل والله تعالى قال وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا فجعل هؤلاء المنعوتين هم عباد الرحمن وعبودية الرحمن واجبة فتكون هذه الصفات واجبة وفيه نظر إذ قد يقال في هذه الصفات ما لا يجب ولأن المنعوتين وهم المستحقون لهذا الوصف على وجه الحقيقة والكمال قال الله تعالى إنما المؤمنون الذين إذ ذكر الله وجلت قلوبهم وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقوله ﷺ ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان الحديث وقال ما تدعون المفلس ما تدعون الرقوب ونظائره كثيرة

فسواء كانت الآية دالة على تحريم ذلك أو كراهته أو استحباب تركه حصل أصل المقصود إذا المقصود بيان استحباب ترك موافقتهم أيضا فإن بعض الناس قد يظن استحباب فعل ما فيه موافقة لهم لما فيه من التوسيع على العيال أو من إقرار الناس على اكتسابهم ومصالح دنياهم فإذا علم استحباب ترك ذلك كان هو المقصود

وأما السنة فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال قدم رسول الله ﷺ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال ما هذان اليومان قالوا كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله ﷺ إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر رواه أبو داود بهذا اللفظ حدثنا موسى بن إسمعيل ! حدثنا حماد عن حميد عن أنس ورواه أحمد والنسائي وهذا إسناد على شرط مسلم

فوجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله ﷺ ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة بل قال إن الله قد أبدلكم بهما يومين آخرين والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما كقوله تعالى أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا وقوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وقوله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وقوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب

ومنه الحديث في المقبور فيقال له أنظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به خيرا منه مقعدا في الجنة ويقال للآخر انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدا من النار وقول عمر رضي الله عنه للبيد ما فعل شعرك قل أبدلني الله به البقرة وآل عمران وهذا كثير في الكلام

فقوله ﷺ قد أبدلكم الله بهما خيرا يقتضي ترك الجمع بينهما لا سيما قوله خيرا منهما يقتضي الاعتياض بما شرع لنا عما كان في الجاهلية

وايضا فقوله لهم إن الله قد أبدلكم لما سألهم عن اليومين فأجابوه إنهما يومان كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية دليل على أنه نهاهم عنهما اعتياضا بيومي الإسلام إذ لو لم يقصد النهي لم يكن ذكر هذا الإبدال مناسبا إذ أصل شرع اليومين الواجبين الإسلاميين كانوا يعملونه ولم يكونوا ليتركوه لأجل يومي الجاهلية

وفي قول أنس ولهم يومان يلعبون فيهما وقول النبي ﷺ إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما دليل على أن أنسا رضي الله عنه فهم من قول النبي ﷺ أبدلكم بهما تعويضا باليومين المبدلين

وأيضا فإن ذينك اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام فلم يبق لهما أثر على عهد رسول الله ﷺ ولا عهد خلفائه ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه لكانوا قد بقوا على العادة إذ العادات لا تغير إلا بمغير يزيلها لا سيما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوقة إلى اليوم الذي يتخذونه عيدا للبطالة واللعب ولهذا قد يعجز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم لقوة مقتضيها من نفوسهم وتوفر همم الجماهير على اتخاذها فلولا قوة المانع من رسول الله ﷺ لكانت باقية ولو على وجه ضعيف فعلم أن المانع القوي منه كان ثابتا وكل ما منع منه الرسول منعا قويا كان محرما إذ لا يعني بالمحرم إلا هذا وهذا أمر بين لا شبهة فيه فإن مثل ذينك العيدين لو عاد الناس إليهما بنوع ما مما كان يفعل فيهما إن رخص فيه كان مراغمة بينه وبين ما نهى عنه فهو المطلوب

والمحذور في أعياد أهل الكتابين التي نقرهم عليها أشد من المحذور في أعياد الجاهلية التي لا نقرهم عليها فإن الأمة قد حذروا مشابهة اليهود والنصارى وأخبروا أن سيفعل قوم منهم هذا المحذور بخلاف دين الجاهلية فإنه لا يعود إلا في آخر الدهر عند اخترام أنفس المؤمنين عموما ولو لم يكن أشد منه فإنه مثله على ما لا يخفى إذ الشر الذي له فاعل موجود يخالف على الناس منه أكثر من شر لا مقتضى له قوي

الحديث الثاني ما رواه أبو داود حدثنا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي ﷺ فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي ﷺ هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا قال فقال النبي ﷺ أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم

أصل هذا الحديث في الصحيحين وهذا الإسناد على شرط الصحيحين وإسناده كلهم ثقات مشاهير وهو متصل بلا عنعنة

وبوانة بضم الباء الموحدة موضع قريب من مكة وفيه يقول وضاح اليمن

أيا نخلتي وادي بوانة حبذا ... إذا نام حراس النخيل جناكما ...

وسيأتي وجه الدلالة منه

******************************

9
اقتضاء الصراط المستقيم/9

< اقتضاء الصراط المستقيم اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

اقتضاء الصراط المستقيم/8 اقتضاء الصراط المستقيم
المؤلف: ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم/10










وقال أبو داود في سننه حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا عبد الله بن يزيد بن مقسم الثقفي من أهل الطائف حدثتني سارة بنت مقسم أنها سمعت ميمونة بنت كردم قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله ﷺ فرأيت رسول الله ﷺ وسمعت الناس يقولون رسول الله ﷺ فجعلت أبده بصري فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتاب فسمت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه قالت فأقر له ووقف واستمع منه فقال يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذمر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم قال لا أعلم إلا أنها قالت خمسين فقال رسول الله ﷺ هل بها من هذه الأوثان شيء قال لا قال فأوف بما نذرت به لله قال فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها

قال أبو داود حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد ابن جعفر عن عمرو بن شعيب عن ميمونة بنت كردم عن سفيان عن أبيها نحوه مختصرا شيء منه قال هل بها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية قال لا قال قلت إن أمي هذه عليها نذر مشي فأقضيه عنها وربما قال ابن بشار أنقضيه عنها قال نعم

وقال حدثنا مسدد حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عبيد الله بن الاخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي ﷺ فقالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف قال أوفي بنذرك قالت إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوفي بنذرك

فوجه الدلالة أن هذا الناذر كان قد نذر أن يذبح نعما إما إبلا وإما غنما وإما كانت قضيتين بمكان سماه فسأله النبي ﷺ هل كان بها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال لا قال فهل كان بها عيد من أعيادهم قال لا فقال أوف بنذرك ثم قال لا وفاء لنذر في معصية الله

وهذا يدل على أن الذبح بمكان عيدهم ومحل أوثانهم معصية لله من وجوه

أحدها أن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا من هذين الوصفين فيكون وجود الوصفين مانعا من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به

والثاني أنه عقب ذلك بقوله لا وفاء لنذر في معصية الله ولولا اندراج الصورة المسئول عنها في هذا اللفظ العام وإلا لم يكن في الكلام ارتباط والمنذور في نفسه وإن لم يكن معصية لكن لما سأله النبي ﷺ عن الصورتين قال له فأوف بنذرك يعني حيث ليس هناك ما يوجب تحريم الذبح هناك فكان جوابه ﷺ فيه أمرا بالوفاء عند الخلو من هذا ونهى عنه عند وجود هذا وأصل الوفاء بالنذر معلوم فبين مالا وفاء فيه واللفظ العام إذا ورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه

والثالث أنه لو كان الذبح في موضع العيد جائزا لسوغ ﷺ للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به بل لأوجب الوفاء به إذ كان الذبح بالمكان المنذور واجبا فإذا كان الذبح بمكان عيدهم منهيا عنه فكيف الموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم

يوضح ذلك أن العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا

منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة

ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا

وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا

فالزمان كقوله ﷺ ليوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا

والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس شهدت العيد مع رسول الله ﷺ

والمكان كقوله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا

وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي ﷺ دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا

فقول النبي ﷺ هل بها عيد من أعيادهم يريد اجتماعا معتادا من اجتماعاتهم التي كانت عندهم عيدا فلما قال لا قال له أوف بنذرك

وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم مانع من الذبح بها وإن نذر كما أن كونها موضع أوثانهم كذلك وإلا لما انتظم الكلام ولا حسن الاستفصال

ومعلوم أن ذلك إنما هو لتعظيم البقعة التي يعظمونها بالتعييد فيها أو لمشاركتهم في التعييد فيها أو لإحياء شعار عيدهم فيها ونحو ذلك إذ ليس إلا مكان الفعل أو نفس الفعل أو زمانه

فإن كان من أجل تخصيص البقعة وهو الظاهر فإنما نهى عن تخصيص البقعة لأجل كونها موضع عيدهم ولهذا لما خلت عن ذلك أذن في الذبح فيها وقصد التخصيص باق فعلم أن المحذور تخصيص بقعة عيدهم وإذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورا فكيف بنفس عيدهم

هذا كما أنه لما كرهها لكونها موضع شركهم بعبادة الأوثان كان ذلك أدل على النهي عن الشرك وعبادة الأوثان

وإن كان النهي لأن في الذبح هناك موافقة لهم في عمل عيدهم فهو عين مسألتنا إذ مجرد الذبح هناك لم يكره على هذا التقدير إلا بموافقتهم في العيد إذ ليس فيه محذور آخر

وإنما كان الاحتمال الأول أظهر لأن النبي ﷺ لم يسأله إلا عن كونها مكان عيدهم ولم يسأله هل يذبح فيها وقت عيدهم ولأنه قال

هل كان بها عيد من أعيادهم فعلم أنه وقت السؤال لم يكن العيد موجودا وهذا ظاهر

فإن في الحديث الأخير أن القصة كانت في حجة الوداع وحينئذ لم يكن قد بقي عيد للمشركين

فإذا كان ﷺ قد نهى أن يذبح بمكان كان الكفار يعملون فيه عيدا وإن كان أولئك الكفار قد أسلموا وتركوا ذلك العيد والسائل لا يتخذ المكان عيدا بل يذبح فيه فقط فقد ظهر أن ذلك سد للذريعة إلى بقاء شيء من أعيادهم خشية أن يكون الذبح هناك سببا لإحياء أمر تلك البقعة وذريعة إلى اتخاذها عيدا مع أن ذلك العيد إنما كان يكون والله أعلم سوقا يتبايعون فيها ويلعبون كما قالت له الأنصار يومان كنا نلعب فيهما في الجاهلية لم تكن أعياد الجاهلية عبادة لهم ولهذا فرق النبي ﷺ بين كونها مكان وثن وكونها مكان عبد !

وهذا نهي شديد عن أن يفعل شيء من أعياد الجاهلية على أي وجه كان وأعياد الكفار من الكتابيين والأميين في دين الإسلام من جنس واحد كما أن كفر الطائفتين سواء في التحريم وإن كان بعضه أشد تحريما من بعض ولا يختلف حكمهما في حق المسلم لكن أهل الكتابين أقروا على دينهم مع ما فيه من أعيادهم بشرط أن لا يظهروهاولا شيئا من دينهم وأولئك لم يقروا بل أعياد الكتابيين التي تتخذ دينا وعبادة أعظم تحريما من عيد يتخذ لهوا ولعبا لأن التعبد بما يسخطه الله ويكرهه أعظم من اقتضاء الشهوات بما حرمه ولهذا كان الشرك أعظم إثما من الزنا ولهذا كان جهاد أهل الكتاب أفضل من جهاد الوثنيين وكان من قتلوه من المسلمين له أجر شهيدين

وإذا كان الشارع قد حسم مادة أعياد أهل الأوثان خشية أن يتدنس المسلم بشيء من أمر الكفار الذين قد آيس الشيطان أن يقيم أمرهم في جزيرة العرب فالخشية من تدنسه بأوصاف الكتابيين الباقين أشد والنهي عنه أوكد كيف وقد تقدم الخبر الصادق بسلوك طائفة من هذه الأمة سبيلهم

والوجه الثالث من السنة أن هذا الحديث وغيره قد دل على أنه كان للناس في الجاهلية أعياد يجتمعون فيها ومعلوم أنه لما بعث رسول الله ﷺ محا الله ذلك عنه فلم يبق شيء من ذلك

ومعلوم أنه لولا نهيه ومنعه لما ترك الناس تلك الأعياد لأن المقتضى لها قائم من جهة الطبيعة التي تحب ما يصنع في الأعياد خصوصا أعياد الباطل من اللعب واللذات ومن جهة العادة التي ألفت ما يعود من العيد فإن العادة طبيعة ثانية وإذا كان المقتضى قائما قويا فلولا المانع القوي لما درست تلك الأعياد

وهذا يوجب العلم اليقيني بأن إمام المتقين ﷺ كان يمنع أمته منعا قويا عن أعياد الكفار ويسعى في دروسها وطموسها بكل سبيل وليس في إقرار أهل الكتاب على دينهم إبقاء لشيء من أعيادهم في حق أمته

كما أنه ليس في ذلك إبقاء في حق أمته لما هم عليه في سائر أعمالهم من سائر كفرهم ومعاصيهم بل قد بالغ ﷺ في أمر أمته بمخالفتهم في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم ولتكون المخالفة في ذلك حاجزا ومانعا من سائر أمورهم فإنه كلما كثرت المخالفة بينك وبين أهل الجحيم كان أبعد لك عن أعمال أهل الجحيم

فليس بعد حرصه على أمته ونصحه لهم بأبي هو وأمي غاية وكل ذلك من فضل الله عليه وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون

والوجه الرابع من السنة ما خرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت به الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله ﷺ وذلك يوم عيد فقال رسول الله ﷺ يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا وفي رواية يا ابا بكر إن لكل قوم عيدا وإن عيدنا هذا اليوم

وفي الصحيحين أيضا أنه قال دعهما يا ابا بكر فإنها أيام عيد وتلك الأيام أيام منى

فالدلالة من وجوه

أحدها قوله إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا فإن هذا يوجب اختصاص كل قوم بعيدهم كما أنه سبحانه لما قال ولكل وجهة هو موليها وقال لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أوجب ذلك اختصاص كل قوم بوجهتهم وبشرعتهم وذلك أن اللام تورث الاختصاص فإذا كان لليهود عيد وللنصارى عيد كانوا مختصين به فلا نشركهم فيه كما لا نشركهم في قبلتهم وشرعتهم

وكذلك أيضا على هذا لا ندعهم يشركوننا في عيدنا

الوجه الثاني قوله وهذا عيدنا فإنه يقتضي حصر عيدنا في هذا فليس لنا عيد سواه

وكذلك قوله وإن عيدنا هذا اليوم فإن التعريف باللام والإضافة يقتضي الاستغراق فيقتضي أن يكون جنس عيدنا منحصرا في جنس ذلك اليوم كما في قوله في الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم

وليس غرضه ﷺ الحصر في عين ذلك العيد أو عين ذلك اليوم بل الإشارة إلى جنس المشروع كما يقول الفقهاء باب صلاة العيد وصلاة العيد كذا وكذا ويندرج فيها صلاة العيدين وكما يقال لا يجوز صوم يوم العيد

وكذا قوله وإن هذا اليوم أي جنس هذا اليوم كما يقول القائل لما يعانيه من الصلاة هذه صلاة المسلمين ويقال لمخرج المسلمين إلى الصحراء وما يفعلونه من التكبير والصلاة ونحو ذلك هذا عيد المسلمين ونحو ذلك

ومن هذا الباب حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب رواه أبو دواد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح

فإنه دليل على مفارقتنا لغيرنا في العيد والتخصيص بهذه الأيام الخمسة لأنه يجتمع فيها العيدان المكاني والزماني ويطول زمنه وبهذا يسمى العيد الكبير فلما كملت صفة التعييد حصر الحكم فيه لكماله أو لأنه هو عيد الأيام وليس لنا عيد هو ايام إلا هذه الخمسة

الوجه الثالث أنه رخص في لعب الجواري بالدف وتغنيهن معللا بأن لكل قوم عيدا وأن هذا عيدنا

وذلك يقتضي أن الرخصة معللة بكونه عيد المسلمين وأنها لا تتعدى إلى أعياد الكفار ولأنه لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار كما يرخص فيه في أعياد المسلمين إذ لو كان ما يفعل في عيدنا من ذلك اللعب يسوغ مثله في أعياد الكفار أيضا لما قال فإن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا لأن تعقيب الحكم بالوصف بحرف الفاء دليل على أنه علة فيكون علة الرخصة أن كل أمة مختصة بعيد وهذا عيدنا وهذه العلة مختصة بالمسلمين فلو كانت الرخصة معلقة باسم عيد لكان الأعم مستقلا بالحكم فيكون الأخص عديم التأثير

فلما علل بالأخص علم أن الحكم لا يثبت بالوصف الأعم وهو مسمى عيد فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين وهذا هو المطلوب

وهذا فيه دلالة على النهي عن التشبه بهم في اللعب ونحوه

والوجه الرابع من السنة أن أرض العرب ما زال فيها يهود ونصارى حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه في خلافته وكان اليهود بالمدينة في حياة رسول الله ﷺ وكان قد هادنهم حتى نقضوا العهد طائفة بعد طائفة وما زال بالمدينة يهود وإن لم يكونوا كثيرا فانه ﷺ مات ودرعه مرهونة عند يهودي وكان في اليمن يهود كثير والنصارى بنجران وغيرها والفرس بالبحرين

ومن المعلوم أن هؤلاء كانت لهم أعياد يتخذونها ومن المعلوم أيضا أن المقتضي لما يفعل في العيد من الأكل والشرب واللباس والزينة واللعب والراحة ونحو ذلك قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس

ثم من كان له خبرة بالسير علم يقينا أن المسلمين على عهد رسول الله ﷺ ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين بل ذلك اليوم عند رسول الله ﷺ وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلا إلا ما قد اختلف فيه من مخالفتهم فيه كصومه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى

فلولا أن المسلمين كان من دينهم الذي تلقوه عن نبيهم المنع من ذلك والكف عنه لوجب أو يوجد من بعضهم فعل بعض ذلك لأن المقتضى لذلك قائم كما يدل عليه الطبيعة والعادة فلولا المانع الشرعي لوجد مقتضاه

ثم على هذا جرى عمل المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين

غاية ما كان يوجد من بعض الناس ذهاب إليهم يوم العيد للتنزه بالنظر إلى عيدهم ونحو ذلك فنهى عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة عن ذلك كما سنذكره فكيف لو كان بعض الناس يفعل بعض ما يفعلونه أو ما هو سبب عيدهم

بل لما ظهر من بعض المسلمين اختصاص يوم عيدهم بصوم مخالفة لهم نهى الفقهاء أو كثير منهم عن ذلك لأجل ما فيه من تعظيم ما لعيدهم أفلا يستدل بهذا على أن المسلمين تلقوا عن نبيهم ﷺ المنع عن مشاركتهم في أعيادهم وهذا بعد التأمل بين جدا

الوجه الخامس من السنة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهو غدا والنصارى بعد غد متفق عليه

وفي لفظ صحيح بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له

وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا قال رسول الله ﷺ اضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم وفي رواية بينهم قبل الخلائق رواه مسلم

وقد سمى النبي ﷺ الجمعة عيدا في غير موضع ونهى عن إفراده بالصوم لما فيه من معنى العيد

ثم إن في هذا الحديث ذكر أن الجمعة لنا كما أن السبت لليهود والأحد للنصارى واللام تقتضي الاختصاص

ثم هذا الكلام يقتضي الاقتسام إذا قيل هذه ثلاثة أثواب أو ثلاثة غلمان هذا لي وهذا لزيد وهذا لعمرو أوجب ذلك أن يكون كل واحد مختصا بما جعل له لا يشركه فيه غيره

فإذا نحن شاركناهم في عيدهم يوم السبت أو عيد يوم الأحد خالفنا هذا الحديث وإذا كان هذا في العيد الأسبوعي فكذلك في العيد الحولي إذ لا فرق بل إذا كان هذا في عيد يعرف بالحساب العربي فكيف بأعياد الكافرين العجمية التي لا تعرف إلا بالحساب الرومي القبطي أو الفارسي أو العبري ونحو ذلك

وقوله ﷺ بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله أي من أجل كما يروى أنه قال أنا افصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد ابن بكر

والمعنى والله أعلم أي نحن الآخرون في الخلق السابقون في الحساب والدخول إلى الجنة كما قد جاء في الصحيح إن هذه الأمة أول من يدخل الجنة من الأمم وإن محمدا ﷺ أول من يفتح له باب الجنة وذلك لأنا أوتينا الكتاب من بعدهم فهدينا لما اختلفوا فيه من العيد السابق للعيدين الآخرين وصار عملنا الصالح قبل عملهم فلما سبقناهم إلى الهدى والعمل الصالح جعلنا سابقين لهم في ثواب العمل الصالح ومن قال بيد ههنا بمعنى غير فقد أبعد

الوجه السادس من السنة ما روى كريب مولى ابن عباس رضي الله عنهما قال أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي ﷺ إلى أم سلمة رضي الله عنها أسألها أي الأيام كان النبي ﷺ أكثرها صياما قالت كان يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما كان يصوم من الأيام ويقول إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم رواه أحمد والنسائي وابن أبي عاصم وهو محفوظ من حديث عبد الله بن المبارك عن عبد الله بن محمد ابن عمر بن علي عن أبيه عن كريب وصححه بعض الحفاظ

وهذا نص في شرع مخالفتهم في عيدهم وإن كان على طريق الاستحباب وسنذكر حديث نهيه عن صوم يوم السبت وتعليل ذلك أيضا بمخالفتهم ونذكر حكم صومه مفردا عند العلماء وأنهم متفقون على شرع مخالفتهم في عيدهم وإنما اختلفوا هل مخالفتهم يوم عيدهم بالصوم لمخالفة فعلهم أو بالإهمال حتى لا يقصد بصوم ولا بفطر أو يفرق بين العيد العربي وبين العيد العجمي على ما سنذكره إن شاء الله تعالى

وأما الإجماع والآثار فمن وجوه

أحدها ما قدمت التنبيه عليه من أن اليهود والنصارى والمجوس ما زالوا في أمصار المسلمين بالجزية يفعلون أعيادهم التي لهم والمقتضي لبعض ما يفعلونه قائم في كثير من النفوس ثم لم يكن على عهد السلف من المسلمين من يشركهم في شيء من ذلك فلولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيا من ذلك وإلا لوقع ذلك كثيرا إذ الفعل مع وجود مقتضيه وعدم ما فيه واقع لا محالة والمقتضى واقع فعلم وجود المانع والمانع هنا هو الدين فعلم أن الدين دين الإسلام هو المانع من الموافقة وهو المطلوب

الثاني أنه قد تقدم في شروط عمر رضي الله عنه التي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام وسموا الشعانين والباعوث فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها فكيف يسوغ للمسلمين فعلها أو ليس فعل المسلم لها أشد من فعل الكافر لها مظهرا لها

وذلك أنا إنما منعناهم من إظهارها لما فيه من الفساد إما لأنها معصية أو شعار المعصية وعلى التقديرين فالمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر إلا تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم فكيف بالمسلم إذا فعلها فكيف وفيها من الشر ما سنبنيه على بعضه إن شاء الله تعالى

الثالث ما تقدم من رواية أبي الشيخ الأصبهاني عن عطاء بن يسار هكذا رأيته ولعله عطاء بن دينار قال قال عمر إياكم ورطانة الأعاجم وإن تدخلوا على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم

وروى البيهقي بإسناد صحيح في باب كراهة الدخول على أهل الذمة في كنائسهم والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم عن سفيان الثوري عن ثور بن يزيد عن عطاء بن دينار قال قال عمر لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلو على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم

وبالإسناد عن الثوري عن عوف عن الوليد أو أبي الوليد عن عبد الله ابن عمرو قال من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة

وروى بإسناده عن البخاري صاحب الصحيح قال قال لي ابن أبي مريم أنبأنا نافع بن يزيد سمع سليمان بن أبي زينب وعمرو بن الحارث سمع سعيد ابن سلمة سمع أباه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال اجتنبوا أعداء الله في عيدهم

وروى بإسناد صحيح عن أبي أسامة حدثنا عون عن أبي المغيرة عن عبد الله ابن عمرو قال من بنى ببلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة وقال هكذا رواه يحيى بن سعيد وابن أبي عدي وغندر وعبد الوهاب عن عوف بن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو من قوله

وبالإسناد إلى أبي أسامة عن حماد بن زيد عن هشام بن محمد بن سيرين قال أتى علي رضي الله عنه بمثل النيروز فقال ما هذا قالوا يا أمير المؤمنين هذا يوم النيروز قال فاصنعوا كل يوم نيروزا قال أسامة كره رضي الله عنه أن يقول النيروز

قال البيهقي وفي هذا كراهة لتخصيص يوم بذلك لم يجعله الشرع مخصوصا به وهذا عمر رضي الله عنه نهى عن لسانهم وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم فكيف بفعل بعض أفعالهم أو بفعل ما هو من مقتضيات دينهم أليست موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة أو ليس بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه أليس قد يعرض لعقوبة ذلك

ثم قوله اجتنبوا أعداء الله في عيدهم أليس نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه فكيف بمن عمل عيدهم

وأما عبد الله بن عمرو فصرح أنه من بنى ببلادهم وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم

وهذا يقتضي أنه جعله كافرا بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه فتكون المشاركة في بعض ذلك معصية لأنه لو لم يكن مؤثرا في استحقاق العقوبة لم يجز جعله جزاء من المقتضى إذ المباح لا يعاقب عليه وليس الذم على بعض ذلك مشروطا ببعض لأن أبعاض ما ذكره يقتضي الذم مفردا

وإنما ذكر والله أعلم من بنى ببلادهم لأنهم على عهد عبد الله بن عمرو وغيره من الصحابة كانوا ممنوعين من إظهار عيدهم بدار الإسلام وما كان أحد من المسلمين يتشبه بهم في عيدهم وإنما كان يتمكن من ذلك بكونه في أرضهم

وأما علي رضي الله عنه فكره موافقتهم في اسم يوم العيد الذي ينفردون به فكيف بموافقتهم في العمل

وقد نص أحمد على معنى ما جاء عن عمر وعلي رضي الله عنهما في ذلك وذكر أصحابه مسأله العيد

وقد تقدم قول القاضي أبي يعلى مسألة في المنع من حضور أعيادهم

وقال الإمام أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي في كتابه عمدة الحاضر وكفاية المسافر
فصل

لا يجوز شهود أعياد النصارى واليهود نص عليه أحمد في رواية مهنا واحتج بقوله تعالى والذين لا يشهدون الزور قال الشعانين وأعيادهم فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم فأما ما يباع في الاسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم

وقال الخلال في جامعه باب في كراهة خروج المسلمين في أعياد المشركين

وذكر عن مهنا قال سألت أحمد عن شهود هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور ودير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون ويشهدون الأسواق ويجلبون الغنم فيه والبقر والرقيق والبر والشعير وغير ذلك إلا أنهم إنما يدخلون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس وإنما رخص أحمد رحمه الله في شهود السوق بشرط أن لا يدخلوا عليهم بيعهم

فعلم منعه من دخول بيعهم

وكذلك أخذ الخلال من ذلك المنع من خروج المسلمين في أعيادهم فقد نص أحمد على مثل ما جاء عن عمر رضي الله عنه من المنع من دخول كنائسهم في أعيادهم وهو كما ذكرنا من باب التنبيه عن المنع من أن يفعل كفعلهم

وأما الرطانة وتسمية شهورهم بالأسماء العجمية فقال أبو محمد الكرماني المسمى بحرب باب تسمية الشهور بالفارسية قلت لأحمد فإن للفرس أياما وشهورا يسمونها بأسماء لا تعرف فكره ذلك أشد الكراهة وروى فيه عن مجاهد أنه يكره أن يقال آذرماه وذي ماه قلت فإن كان اسم رجل أسميه به فكرهه وقال وسألت إسحاق قلت تاريخ الكتاب يكتب بالشهور الفارسية مثل آذرماه وذي ماه قال إن لم يكن في تلك الأسامي اسم يكره فأرجو

قال وكان ابن المبارك يكره إيزدان يحلف به وقال لا آمن أن يكون أضيف إلى شيء يعبد وكذلك الأسماء الفارسية

قال وكذلك أسماء العرب كل شيء مضاف

قال وسألت إسحاق مرة أخرى قلت الرجل يتعلم شهور الروم والفرس قال كل اسم معروف في كلامهم فلا بأس

فما قاله أحمد من كراهة هذه الأسماء له وجهان

أحدهما إذا لم يعرف معنى الاسم جاز أن يكون معنى محرما فلا ينطق المسلم بما لا يعرف معناه ولهذا كرهت الرقى العجمية كالعبرانية أو السريانية أو غيرها خوفا أن يكون فيها معان لا تجوز

وهذا المعنى هو الذي اعتبره إسحق ولكن إذا علم أن المعنى مكروه فلا ريب في كراهته وإن جهل معناه فأحمد كرهه

وكلام إسحق يحتمل أنه لم يكره

والوجه الثاني كراهة أن يتعود الرجل النطق بغير العربية فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون

ولهذا كان كثير من الفقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصلاة والذكر أن يدعي الله أو يذكر بغير العربية

وقد اختلف الفقهاء في أذكار الصلاة هل تقال بغير العربية وهي ثلاث درجات أعلاها القرآن ثم الذكر الواجب غير القرآن كالتحريمة بالإجماع وكالتحليل والتشهد عند من أوجبه ثم الذكر غير الواجب من دعاء أو تسبيح أو تكبير وغير ذلك

فأما القرآن فلا يقرؤه بغير العربية سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور وهو الصواب الذي لا ريب فيه بل قد قال غير واحد إنه يمتنع أن يترجم سورة أو ما يقوم به الإعجاز

واختلف أبو حنيفة وأصحابه في القادر على العربية

وأما الأذكار الواجبة فاختلف في منع ترجمة القرآن هل تترجم للعاجز عن العربية وعن تعلمها وفيه لأصحاب أحمد وجهان

أشبههما بكلام أحمد أنه لا يترجم وهو قول مالك وإسحق

والثاني يترجم وهو قول أبي يوسف ومحمد الشافعي

وأما سائر الأذكار فالمنصوص من الوجهين أنه لا يترجمها ومتى فعل

بطلت صلاته وهو قول مالك وإسحاق وبعض أصحاب الشافعي

والمنصوص عن الشافعي أنه يكره ذلك بغير العربية ولا يبطل

ومن أصحابنا من قال له ذلك إذا لم يحسن العربية

وحكم النطق بالعجمية في العبادات من الصلاة والقراءة والذكر كالتلبية والتسمية على الذبيحة وفي العقود والفسوخ كالنكاح واللعان وغير ذلك معروف في كتب الفقه

وأما الخطاب بها من غير حاجة في أسماء الناس والشهود كالتواريخ ونحو ذلك فهو منهي عنه مع الجهل بالمعنى بلا ريب وأما مع العلم به فكلام أحمد بين في كراهته أيضا فإنه كره آذرماه ونحوه ومعناه ليس محرما

وأظنه سئل عن الدعاء في الصلاة بالفارسية فكرهه وقال لسان سوء

وهو أيضا قد اخذ بحديث عمر رضي الله عنه الذي فيه النهي عن رطانتهم وعن شهود أعيادهم وهذا قول مالك أيضا فإنه قال لا يحرم بالعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف بها وقال نهى عمر عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب

فقد استدل بنهي عمر عن الرطانة مطلقا

وقال الشافعي فيما رواه السلفي بإسناد معروف إلى محمد بن عبد الله بن الحكم قال سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تجارا ولم تزل العرب تسميهم التجار ثم سماهم رسول الله ﷺ بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب والسماسرة اسم من أسماء العجم فلا نحب أن يسمى رجل يعرف العربية تاجرا إلا تاجرا ولا ينطق بالعربية فيسمى شيئا بالعجمية وذلك أن اللسان الذي اختاره الله عز و جل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد ﷺ ولهذا نقول ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها لأنها اللسان الأولى بأن يكون مرغوبا فيه من غير أن يحرم على أحد أن ينطق بالعجمية

فقد كره الشافعي لمن يعرف العربية أن يسمى بغيرها وأن يتكلم بها خالطا لها بالعجمية وهذا الذي ذكره قاله الأئمة مأثور عن الصحابة والتابعين وقد قدمنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما ما ذكرناه

وروى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف حدثنا وكيع عن أبي هلال عن أبي بريدة قال قال عمر ما تعلم الرجل الفارسية إلا خب ولا خب رجل إلا نقضت مروءته

وقال حدثنا وكيع عن ثور عن عطاء قال لا تعلموا رطانة الأعاجم ولا تدخلوا عليهم كنائسهم فإن السخط ينزل عليهم

وهذا الذي رويناه فيما تقدم عن عمر رضي الله عنه

وقال حدثنا إسماعيل بن علية عن داود بن أبي هند أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال ما بال المجوسية بعد الحنيفية

وقد روى السلفي من حديث سعيد بن العلاء البرذعي حدثنا إسحاق بن إبراهيم البلخي حدثنا عمر بن هرون البلخي حدثنا أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق

ورواه أيضا بإسناد آخر معروف إلى أبي سهيل محمود بن عمر العكبري حدثنا محمد بن الحسن بن محمد المقري حدثنا أحمد بن خليل ببلخ حدثنا إسحاق بن ابراهيم الجريري حدثنا عمر بن هارون عن أسامة بن زيد عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال قال رسول الله ﷺ من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق

وهذا الكلام يشبه كلام عمر بن الخطاب وأما رفعه فموضع تبين

ونقل عن طائفة منهم أنهم كانوا يتكلمون بالكلمة بعد الكلمة من العجمية

قال أبو خلدة كلمني أبو العالية بالفارسية

وقال منذر الثوري سأل رجل محمد بن الحنفية عن الخبز فقال يا جارية اذهبي بهذا الدرهم فاشتري به تنبييزا فاشترت به تنبييزا ثم جاءت به يعني الخبز

وفي الجملة فالكلمة بعد الكلمة من العجمية أمرها قريب وأكثر ما كانوا يفعلون إما لكون المخاطب أعجميا أو قد اعتاد العجمية يريدون تقريب الأفهام عليه كما قال النبي ﷺ لأم خالد بنت خالد ابن سعيد بن العاص وكانت صغيرة قد ولدت بأرض الحبشة لما هاجر أبوها فكساها النبي ﷺ قميصا وقال يا أم خالد هذا سنا والسنا بلغة الحبشة الحسن

وروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال لمن أوجعه بطنه أشكم بدرد وبعضهم يرويه مرفوعا ولا يصح

وأما اعتياد الخطاب بغير العربية التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن حتى يصير ذلك عادة للمصر وأهله ولأهل الدار وللرجل مع صاحبه ولأهل السوق أو للأمراء أو لأهل الديوان أو لأهل الفقه فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم وهو مكروه كما تقدم

ولهذا كان المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية وارض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية وأهل المغرب ولغة أهلها بربرية عودوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم وهكذا كانت خراسان قديما ثم إنهم تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم ولا ريب أن هذا مكروه

وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية حتى يتلقنها الصغار في الدور والمكاتب فيظهر شعار الإسلام وأهله ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف بخلاف من اعتاد لغة ثم أراد أن ينتقل إلى أخرى فإنه يصعب عليه

واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيرا قويا بينا ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومشابهتهم تزيد العقل والدين والخلق

وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرض واجب فإن فهم الكتاب والسنة فرض ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب

ثم منها ما هو واجب على الأعيان ومنها ما هو واجب على الكفاية

وهذا معنى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عيسى بن يونس عن ثور عن عمر بن يزيد قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أما بعد فتفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي

وفي حديث آخر عن عمر رضي الله عنه أنه قال تعلموا العربية فإنها من دينكم وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم

وهذا الذي أمر به عمر رضي الله عنه من فقه العربية وفقه الشريعة يجمع ما يحتاج إليه لأن الدين فيه فقه أقوال وأعمال ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله

*************************************10 **********************

10...
اقتضاء الصراط المستقيم/10


وأما الاعتبار في مسألة العيد فمن وجوه

أحدها أن الأعياد من جملة الشرع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقال لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه كالقبلة والصلاة والصيام فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر بل الأعياد هي من أخص ما تتميز به بين الشرائع ومن أظهر ما لها من الشعائر فالموافقة فيها موافقة في أخص شرائع الكفر وأظهر شعائره ولا ريب أن الموافقة في هذا قد تنتهي إلى الكفر في الجملة وشروطه

وأما مبدؤها فأقل أحواله أن تكون معصية وإلى هذا الاختصاص أشار النبي ﷺ بقوله إن لكل قوم عيدا وإن هذا عيدنا وهذا أقبح من مشاركتهم في لبس الزنار ونحوه من علاماتهم فإن تلك علامة وضعية ليست من الدين وإنما الغرض منها مجرد التمييز بين المسلم والكافر وأما العيد وتوابعه فإنه من الدين الملعون هو واهله فالموافقة فيه موافقة فيما يتميزون به من أسباب سخط الله وعقابه

وإن شئت أن تنظم هذا قياسا تمثيليا قلت العيد شريعة من شرائع الكفر أو شعيرة من شعائره فحرمت موافقتهم فيها كسائر شعائر الكفر وشرائعه وإن كان هذا أبين من القياس الجزئي

ثم كل ما يختص به ذلك من عبادة وعادة فإنما سببه هو كونه يوما مخصوصا وإلا فلو كان كسائر الأيام لم يختص بشيء وتخصيصه ليس من دين الإسلام في شيء بل هو كفر به

الوجه الثاني من الاعتبار أن ما يفعلونه في أعيادهم معصية لله لأنه إما محدث مبتدع وإما منسوخ وأحسن أحواله ولا حسن فيه أن يكون بمنزلة صلاة المسلم إلى بيت المقدس هذا إذا كان المفعول مما يتدين به وأما ما يتبع ذلك من التوسع في العادات من الطعام واللباس واللعب والراحة فهو تابع لذلك العيد الديني كما أن ذلك تابع له في دين الإسلام فيكون بمنزلة أن يتخذ بعض المسلمين عيدا مبتدعا يخرجون فيه إلى الصحراء ويفعلون فيه من العبادات والعادات من جنس المشروع في يومي الفطر والنحر أو مثل أن ينصب بنية يطاف بها ويحج إليها

ويصنع لمن يفعل ذلك طعاما ونحو ذلك فلو كره المسلم ذلك لكره غير عادته ذلك اليوم كما يغير أهل البدع عاداتهم في الأمور العادية أو في بعضها بصنعهم طعاما أو زينة لباس أو توسيع في نفقة ونحو ذلك من غير أن يتعبدوا بتلك العادة المحدثة كان هذا من أقبل المنكرات فكذلك موافقة هؤلاء المغضوب عليهم والضالين وأشد

نعم هؤلاء يقرون على دينهم المبتدع والمنسوخ بشرط أن يكونوا مستسرين به والمسلم لا يقر على دين مبتدع ولا منسوخ لا سرا ولا علانية وأما مشابهة الكفار فكمشابهة أهل البدع وأشد

الوجه الثالث من الاعتبار يدل أنه إذا سوغ فعل القليل من ذلك أدى إلى فعل الكثير ثم إذا اشتهر الشيء دخل فيه عوام الناس وتناسوا أصله حتى يصير عادة للناس بل عيدا حتى يضاهى بعيد الله بل قد يزيد عليه حتى يكاد أن يفضي إلى موت الإسلام وحياة الكفر كما قد سوله الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في آخر صوم النصارى من الهدايا والأفراح والنفقات وكسوة الأولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين بل البلاد المصاقبة للنصارى التي قل علم أهلها وإيمانهم قد صار ذلك أغلب عندهم وأبهى في نفوسهم من عيد الله ورسوله على ما حدثني به الثقات ويؤكد صحة ذلك ما رأيته بدمشق وما حولها من أرض الشام مع أنها أقرب إلى العلم والإيمان

فهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى يدور بدوران صومهم الذي هو سبعة أسابيع وصومهم وإن كان في أوائل الفصل الذي تسميه العرب الصيف وتسميه العامة الربيع فإنه يتقدم ويتأخر ليس له حد واحد من السنة الشمسية كالخميس الذي هو في أول نيسان بل يدور في نحو ثلاثة وثلاثين يوما لا يتقدم أوله عن ثاني شباط ولا يتأخر أوله عن ثاني آذار بل يبتدئون من الاثنين الذي هو اقرب إلى اجتماع الشمس والقمر في هذه المدة ليراعوا التوقيت الشمسي والهلالي

وكل ذلك بدع أحدثوها باتفاق منهم خالفوا بها الشريعة التي جاءت بها الأنبياء فإن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع تحريفا ليس هذا موضع ذكره

ويلي هذا الخميس يوم الجمعة الذي جعلوه بإزاء يوم الجمعة التي صلب فيها المسيح على زعمهم الكاذب يسمونها جمعة الصلبوت ويليه ليلة السبت التي يزعمون أن المسيح كان فيها في القبر وأظنهم يسمونها ليلة النور وسبت النور ويصنعون مخرقة يروجونها على عامتهم لغلبة الضلال عليها ويخيلون إليهم أن النور ينزل من السماء في كنيسة القيامة ! التي ببيت المقدس حتى يحملوا ما يوقد من ذلك الضوء إلى بلادهم متبركين به وقد علم كل ذي عقل أنه مصنوع مفتعل

ثم يوم السبت يطلبون اليهود ويوم الأحد يكون العيد الكبير عندهم الذي يزعمون أن المسيح قام فيه

ثم الأحد الذي يلي هذا يسمونه الأحد الحديث يلبسون فيه الجديد من ثيابهم ويفعلون فيه أشياء وكل هذه الأيام عندهم أيام العيد كما أن يوم عرفة ويوم النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام وهم يصومون عن الدسم وما فيه الروح ثم في مقدمة فطرهم يفطرون أو بعضهم على ما يخرج من الحيوان من لبن وبيض ولحم وربما كان أول فطرهم على البيض ويفعلون في أعيادهم وغيرها من أمور دينهم أقوالا وأعمالا لا تنضبط ولهذا تجد نقل العلماء لمقالاتهم وشرائعهم تختلف وعامته صحيح

وذلك أن القوم يزعمون أن ما وضعه رؤساء دينهم من الأحبار والرهبان من الدين فقد لزمهم حكمه وصار شرعا شرعه المسيح في السماء فهم في كل مدة ينسخون أشياء ويشرعون غيرها أشياء من الإيجابات والتحريمات وتأليف الاعتقادات وغير ذلك مخالفا لما كانوا عليه قبل ذلك زعما منهم أن هذا بمنزلة نسخ الله شريعة بشريعة أخرى

فهم واليهود في هذا الباب وغيره على طرفي نقيض اليهود تمنع أن ينسخ الله الشرائع أو يبعث رسولا بشريعة تخالف ما قبلها كما أخبر الله عنهم بقوله سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها والنصارى تجيز لأحبارهم ورهبانهم شرع الشرائع ونسخها فلذلك لا ينضبط للنصارى شريعة محكمة مستمرة على الأزمان

وغرضنا لا يتوقف على معرفة تفاصيل باطلهم ولكن يكفينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمعروف والمستحب والواجب حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه كما نعرف سائر المحرمات إذ الفرض علينا تركها ومن لم يعرف المنكر لا جملة ولا تفصيلا لم يتمكن من قصد اجتنابه والمعرفة الجميلة كافية بخلاف الواجبات فإن الفرض لما كان فعلها والفعل لا يتأتى إلا مفصلا وجبت معرفتها على سبيل التفصيل

وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلوا ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله

وقد بلغني أيضا أنهم يخرجون يوم الخميس الذي قبل ذلك أو يوم السبت أو غير ذلك إلى القبور ويبخرونها وكذلك يبخرون بيوتهم في هذه الأوقات وهم يعتقدون أن في البخور بركة ودفع أذى لا لكونه طيبا ويعدونه من القرابين مثل الذبائح ويرقونه بنحاس يضربونه كأنه ناقوس صغير وبكلام مصنف ويصلبون على أبواب بيوتهم إلى غير ذلك من الأمور المنكرة ولست أعلم جميع ما يفعلونه وإنما ذكرت ما ذكرته لما رأيت كثيرا من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم حتى إنه كان في مدة الخميس تبقى الأسواق مملوءة من أصوات هذه النواقيس الصغار وكلام الرقايين من المنجمين وغيرهم بكلام أكثره باطل وفيه ما هو محرم أو كفر

وقد ألقي إلى الجماهير العامة أو جميعهم إلا من شاء الله وأعني بالعامة هنا كل من لم يعلم حقيقة الإسلام فإن كثيرا ممن ينتسب إلى فقه أو دين قد شارك في ذلك ألقي إليهم أن البخور المرقي ينفع ببركته من العين والسحر والأدواء والهوام ويصورون في أوراق صور الحيات والعقارب ويلصقونها في بيوتهم زعما منهم أن تلك الصور الملعون فاعلها التي لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام وهو ضرب من طلاسم الصابئة

ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب على باب البيت

ويخرج خلق عظيم في الخميس المتقدم على هذا الخميس يبخرون المقابر ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه فإن كل ما عظم بالباطل من زمان أو مكان أو حجر أو شجر او بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة وإن كانت لولا عبادتها لكانت كسائر الأحجار

ومما يفعله الناس من المنكرات أنهم يوظفون على الأماكن وظائف أكثرها كرها من الغنم والدجاج واللبن والبيض فيجتمع فيها تحريمان أكل مال المسلم أو المعاهد بغير حق وإقامة شعار النصارى ويجعلونه ميقاتا لاخراج الوكلاء على المزارع ويطحنون فيه ويصبغون فيه البيض وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون أولادهم إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه بل يعرف المعروف وينكر المنكر

وخلق كثير منهم يضعون ثيابهم تحت السماء رجاء البركة من مريم تنزل عليها فهل يستريب من في قلبه أدنى حياة من الايمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح

ويفعلون ما هو أعظم من ذلك يطلون أبواب بيوتهم ودوابهم بالخلوق والمغراء وغير ذلك من أعظم المنكرات عند الله فالله تعالى يكفينا شر المبتدعة وبالله التوفيق

وأصل ذلك كله إنما هو اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد أو مشابهتهم في بعض أمورهم

يوضح ذلك ان الأسبوع الذي يقع في آخر صومهم يعظمونه جدا بتسميته الخميس الكبير وجمعته الجمعة الكبيرة ويجتهدون في التعبد فيه مالا يجتهدون في غيره بمنزلة العشر الأواخر من رمضان في دين الله ورسوله والأحد الذي هو أول الأسبوع يصنعون فيه عيدا يسمونه الشعانين هكذا نقل بعضهم عنهم أن الشعانين هو أول أحد في صومهم يخرجون فيه بورق الزيتون ونحوه يزعمون أن ذلك مشابهة لما جرى للمسيح عليه السلام حين دخل إلى بيت المقدس راكبا أتانا مع جحشها فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فثار عليه غوغاء الناس وكان اليهود قد وكلوا قوما معهم عصى يضربونه بها فأورقت تلك العصي وسجد أولئك الغوغاء للمسيح فعيد الشعانين مشابهة لذلك الأمر وهو الذي سمي في شروط عمر وكتب الفقه أن لا يظهروه في دار الإسلام ويسمون هذا العيد وكل مخرج يخرجونه إلى الصحراء باعوثا فالباعوث اسم جنس لما يظهر به الدين كعيد الفطر والنحر عند المسلمين

فما يحكونه عن المسيح عليه الصلاة والسلام من المعجزات في حيز الإمكان لا نكذبهم فيه لإمكانه ولا نصدقهم لجهلهم وفسقهم

وأما موافقتهم في التعييد فإحياء دين أحدثوه أو دين نسخه الله

ثم الخميس الذي يسمونه الخميس الكبير يزعمون أن في مثله نزلت المائدة التي ذكرها الله في القرآن حيث قال قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا الآيات فيوم الخميس هو يوم عيد المائدة ويوم الأحد يسمونه عيد الفصح وعيد النور والعيد الكبير ولما كان عيدا صاروا يصنعون فيه لأولادهم البيض المصبوغ ونحوه لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان من لحم ولبن أو بيض إذ صومهم هو عن الحيوان وما يخرج منه وإنما يأكلون في صومهم الحب وما يصنع منه من خبز وزبيب وشيرج ونحو ذلك

وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا إما لأن بعض ما يفعلونه قد كان يفعله بعض النصارى أو غيروه هم من عند انفسهم كما كانوا يغيرون بعض أمر الدين الحق لكن لما اختصت به هذه الأيام ونحوها من الأيام التي ليس لها خصوصية في دين الله وإنما خصوصها في الدين الباطل بل إنما أصل تخصيصها من دين الكافرين وتخصيصها بذلك فيه مشابهة لهم وليس لجاهل أن يعتقد أن بهذا تحصل المخالفة لهم كما في صوم يوم عاشوراء لأن ذلك فيما كان أصله مشروعا لنا وهم يفعلونه فإنا نخالفهم في وصفه فأما مالم يكن في ديننا بحال بل هو في دينهم المبتدع والمنسوخ فليس لنا أن نشابههم لا في أصله ولا في وصفه كما قدمنا قاعدة ذلك فيما مضى

فإحداث أمر ما في هذه الأيام التي يتعلق تخصيصها بهم لابنا هو مشابهة لهم في أصل تخصيص هذه الأيام بشيء فيه تعظيم وهذا بين على قول من يكره صوم يوم النيروز والمهرجان لا سيما إذا كانوا يعظمون ذلك اليوم الذي أحدث فيه ذلك العمل

ويزيد ذلك وضوحا أن الأمر قد آل إلى أن كثيرا من الناس صاروا في مثل هذا الخميس الذي هو عند الكفار عيد المائدة آخر خميس في صوم النصارى الذي يسمونه الخميس الكبير وهو الخميس الحقير يجتمعون في أماكن اجتماعات عظيمة ويصبغون البيض ويطبخون اللبن وينكتون بالحمرة دوابهم ويصطنعون الأطعمة التي لا تكاد تفعل في عيد الله ورسوله ويتهادون الهدايا التي تكون في مثل مواسم الحج وعامتهم قد نسوا أصل ذلك وعلته وبقي عادة مطردة كاعتيادهم بعيد الفطر والنحر وأشد واستعان الشيطان على إغوائهم في ذلك بأن الزمان زمان ربيع وهو مبدأ العام الشمسي فيكون قد كثر فيه اللحم واللبن والبيض ونحو ذلك مع أن عيد النصارى ليس هو يوما محدودا من السنة الشمسية وإنما يتقدم فيها ويتأخر في نحو ثلاثة وثلاثين يوما كما قدمناه

وهذا كله تصديق قول النبي ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم والسنن مشابهة الكفار في القليل من أمر عيدهم وعدم النهي عن ذلك

وإذا كانت المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله من التبرك بالصليب والتعميد في المعمودية أو قول القائل المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة ونحو ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن إما كون الشريعة النصرانية واليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله وإما استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله أو التدين بذلك أو غير ذلك مما هو كفر بالله وبرسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا خلاف بين الأمة الوسط في ذلك

وأصل ذلك المشابهة والمشاركة

وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس

واعلم أنا لو لم نر موافقتهم قد أفضت إلى هذه القبائح لكان علمنا بما فطرت الطبائع عليه واستدلالنا بأصول الشريعة يوجب النهي عن هذه الذريعة فكيف وقد رأينا من المنكرات التي أفضت إليها المشابهة ما قد يوجب الخروج من الإسلام بالكلية

وسر هذا الوجه أن المشابهة تفضي إلى كفر أو معصية غالبا أو تفضي إليهما في الجملة وليس في هذا المفضى مصلحة وما أفضى إلى ذلك كان محرما فالمشابهة محرمة والمقدمة الثانية لا ريب فيها فإن استقراء الشريعة في مواردها ومصادرها دل على أن ما أفضى إلى الكفر غالبا حرام وما أفضى إليه على وجه خفي حرام وما أفضى إليه في الجملة ولا حاجة تدعو إليه حرام كما قد تكلمنا على قاعدة الذرائع في غير هذا الكتاب

والمقدمة الأولى قد شهد بها الواقع شهادة لا تخفى على بصير ولا أعمى مع أن الإفضاء أمر طبيعي قد اعتبره الشارع في عامة الذرائع التي سدها كما قد ذكرنا من الشواهد على ذلك نحوا من ثلاثين أصلا منصوصة أو مجمعا عليها في كتاب إقامة الدليل على بطلان التحليل

الوجه الرابع من الاعتبار أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ولهذا جاءت بها كل شريعة كما قال تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه وقال ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام

ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم

ولهذا أنزل الله هذه الآية في أعظم أعياد الأمة الحنيفية فإنه لاعيد في النوع أعظم من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان وهو عيد النحر ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسول الله ﷺ بعامة المسلمين وقد نفى الله تعالى الكفر وأهله والشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته وإن مأدبة الله هي القرآن ومن شأن الجسد إذا كان جائعا فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم وربما ضره أكله أو لم ينتفع به ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه به ويكمل إسلامه

ولهذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه ومن أكثر من السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام ونظائر هذه كثيرة

ولهذا جاء في الحديث عن النبي ﷺ ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها رواه الإمام أحمد

وهذا أمر يجده من نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم

ولهذا عظمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافا لا عليه ولا له لكان الأمر خفيفا بل لا بد أن توجب له فسادا في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه إذا القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه

ولهذا قال النبي ﷺ في العيدين الجاهليين إن الله قد أبدلكم بهما يومين خيرا منهما فيبقى اغتذاء قلبه من هذه الأعمال المبتدعة مانعا من الاغتذاء أو من كمال الاغتذاء بتلك الأعمال النافعة الشرعية فيفسد عليه حاله من حيث لا يعلم كما يفسد جسد المغتذي بالأغذية الخبيثة من حيث لا يشعر

وبهذا يتبين لك بعض ضرر البدع

إذا تبين هذا فلا يخفى ما جعل الله في القلوب من التشوق إلى العيد والسرور به والاهتمام بأمره إنفاقا واجتماعا وراحة ولذة وسرورا وكل ذلك يوجب تعظيمه لتعلق الأغراض به فلهذا جاءت الشريعة في العيد بإعلان ذكر الله فيه حتى جعل فيه من التكبير في صلاته وخطبته وغير ذلك مما ليس في سائر الصلوات فأقامت فيه من تعظيم الله وتنزيل الرحمة خصوصا العيد الأكبر ما فيه صلاح الخلق كما دل على ذلك قوله تعالى وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فصار ما وسع على النفوس فيه من العادات الطبيعية عونا على انتفاعها بما خص به من العبادات الشرعية فإذا أعطيت النفوس في غير ذلك اليوم حظها أو بعض الذي يكون في عيد الله فترت عن الرغبة في عيد الله وزال ما كان له عندها من المحبة والتعظيم فنقص بسبب ذلك تأثير العمل الصالح فيه فخسرت خسرانا مبينا

وأقل الدرجات أنك لو فرضت رجلين أحدهما قد اجتمع اهتمامه بأمر العيد على المشروع والآخر مهتم بهذا وبهذا فإنك بالضرورة تجد المتجرد للمشروع أعظم اهتماما به من المشرك بينه وبين غيره ومن لم يدرك هذا فلغفلته أو إعراضه وهذا أمر يعلمه من يعرف بعض أسرار الشرائع

وأما الإحساس بفتور الرغبة فيجده كل أحد فإنا نجد الرجل إذا كسا أولاده أو وسع عليهم في بعض الأعياد المسخوطة فلا بد أن تنقص حرمة العيد المرضي من قلوبهم حتى لو قيل بل في القلوب ما يسع هذين قيل لو تجردت لأحدهما لكان أكمل

الوجه الخامس من الاعتبار أن مشابهتهم في بعض أعيادهم توجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل خصوصا إذا كانوا مقهورين تحت ذل الجزية والصغار فانهم يرون المسلمين قد صاروا فرعا لهم في خصائص دينهم فإن ذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم وربما أطعمهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء وهذا أيضا أمر محسوس لا يستريب فيه عاقل فكيف يجتمع ما يقتضي إكرامهم بلا موجب مع شرع الصغار في حقهم

الوجه السادس من الاعتبار أن مما يفعلونه في عيدهم منه ما هو كفر ومنه ما هو حرام ومنه ما هو مباح لو تجرد عن مفسدة المشابهة ثم التمييز بين هذا وهذا يظهر غالبا وقد يخفى على كثير من العامة

فالمشابهة فيما لم يظهر تحريمه للعالم يوقع العامي في أن يشابههم فيما هو حرام وهذا هو الواقع

والفرق بين هذا الوجه ووجه الذريعة أنا هناك قلنا الموافقة في القليل تدعو إلى الموافقة في الكثير وهنا جنس الموافقة تلبس على العامة دينهم حتى لا يميزوا بين المعروف والمنكر

فذاك بيان الاقتضاء من جهة تقاضي الطباع بإدارتها وهذا من جهة جهل القلوب باعتقاداتها

الوجه السابع من الاعتبار ما قررته في وجه أصل المشابهة وذلك أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات على التفاعل بين الشيئين المتشابهين وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط ولما كان بين الإنسان مشاركة في الجنس الخاص كان التفاعل فيه أشد ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلا بد من نوع تفاعل بقدره ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلا فلا بد من نوع ما من المفاعلة

ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمشاركة والمعاشرة وكذلك الآدمي إذا عاشر نوعا من الحيوان اكتسب من بعض أخلاقه ولهذا صارت الخيلاء والفخر في أهل الإبل وصارت السكينة في أهل الغنم وصار الجمالون والبغالون فيهم أخلاق مذمومة من أخلاق الجمال والبغال وكذلك الكلابون وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة

فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي

وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام

والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضا مناسبة وائتلافا وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضا أمر محسوس

فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به ودار التحريم عليه

فنقول مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة بل في نفس الاعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له وكل ما كان سببا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه كما دلت عليه الأصول المقررة

الوجه الثامن من الاعتبار أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم وإن كانا في مصر هما لم يكونا متعارفين أو كانا متهاجرين

وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا مالا يألفون غيرهم حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة إما على الملك وإما على الدين وكذلك تجد الملوك ونحوهم من الرؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها إلا أن يمنع عن ذلك دين أو غرض خاص

فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف بالمشابهة في أمور دينية فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين

وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون

فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم

وقال سبحانه وتعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يوجد مؤمن يواد كافرا فمن واد الكفار فليس بمؤمن

فالمشابهة الظاهرة مظنة المودة فتكون محرمة كما تقدم تقرير مثل ذلك

واعلم أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة فلنقتصر على ما نبهنا عليه والله أعلم
فصل

مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان

أحدهما مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم فهذا العمل الذي هو من خصائص دينهم إما أن يفعل لمجرد موافقتهم وهو قليل وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا وفي الآخرة وكل هذا لا شك في تحريمه لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية

وإما عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم فهو نوعان

أحدهما ما كان في الأصل مأخوذا عنهم إما على الوجه الذي يفعلونه

وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك فهو غالب ما يبتلى به العامة في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير والميلاد ونحوهما فإنهم قد نشئوا على اعتياد ذلك وتلقاه الأبناء عن الآباء وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك فهذا يعرف صاحبه حكمه فإن لم ينته وإلا صار من القسم الأول

النوع الثاني ما ليس في الأصل مأخوذا عنهم لكنهم يفعلونه أيضا فهذا ليس فيه محذور المشابهة ولكن قد تفوت فيه منفعة المخالفة فتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم إذ ليس كوننا تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر فظاهر لما تقدم من المخالفة

وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه وقد توجب عليهم مخالفتنا كما في الزي ونحوه وقد يقتصر على الاستحباب كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين والسجود وقد تبلغ إلى الكراهة كما في تأخير المغرب والفطور

بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذا عنهم فإن الأصل فيه التحريم لما قدمنا
فصل

العيد اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة فليس النهي عن خصوص أعيادهم بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك

وكذلك تحريم العيد هو وما قبله وما بعده من الأيام التي تحدث فيها أشياء لأجله أو ما يحدث بسبب أعماله من أعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك فإن بعض الناس قد يمنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم كيوم الخميس والميلاد ويقول لعياله أنا أصنع لكم في هذا الأسبوع أو الشهر الآخر وإنما المحرك له على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوه ذلك فهذا من مقتضيات المشابهة لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله ويقضي لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم

وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله ﷺ ما تركت بعدي على أمتي من فتنة أضر على الرجال من النساء

وأكثر ما يفسد الملك والدول طاعة النساء

وفي صحيح البخاري عن أبي بكر رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة

وروى أيضا هلكت الرجال حين أطاعت النساء

وقد قال ﷺ لإحدى أمهات المؤمنين حين راجعته في تقديم أبي بكر إنكن صواحب يوسف يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب كما في الحديث الآخر ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن

ولما أنشده الأعشى أعشى باهلة أبياته التي يقول فيها ... وهن شر غالب لمن غلب ...

جعل النبي ﷺ يرددها ويقول هن شر غالب لمن غلب ولذلك امتن الله على زكريا عليه السلام حيث قال وأصلحنا له زوجه

قال بعض العلماء ينبغي للرجل أن يجتهد في الرغبة إلى الله في إصلاح زوجه له
فصل

أعياد الكفار كثيرة مختلفة وليس على المسلم أن يبحث عنها ولا يعرفها بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم أو مكان أن سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان والزمان من جهتهم ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه أو يكون مأخوذا عنهم فأقل أحواله أن يكون من البدع

ونحن ننبه على ما رأينا كثيرا من الناس قد وقعوا فيه

فمن ذلك الخميس الحقير الذي في آخر صومهم فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون ويسمونه عيد العشاء وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد عيدهم الأكبر فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات

فمنه خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطح وكتابة الأوراق وإلصاقها بالأبواب واتخاذ هذه الأيام موسما لبيع البخور وشرائه وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت إذا اتخذ وقتا للبيع ورقي البخور مطلقا في ذلك الوقت أو غيره أو قصد شراء البخور المرقي فإن رقيا البخور واتخاذه قربانا هو دين النصارى والصابئين وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب من المسك وغيره مما له أجزاء بخارية وإن لطفت أو له رائحة محضة وإنما يستحب التبخر حيث يستحب التطيب

وكذلك اختصاصه بطبخ أرز بلبن أو بسمن أو بعدس أو صبغ بيض ونحو ذلك

وأما القمار بالبيض أو بيع البيض لمن يقامر به أو شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر

ومن ذلك ما يفعله الأكارون من نقط البقر بالنقط الحمر أو نكت الشجر أيضا او جمع أنواع الثياب والتبرك بها والاغتسال بمائها

ومن ذلك ما قد يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون أو الاغتسال بمائه أو قصد الاغتسال بشيء من ذلك فإن أصل ذلك ماء المعمودية

ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة من الصنائع أو التجارات أو حلق العلم أو غير ذلك واتخاذه يوم راحة وفرح واللعب فيه بالخيل أو غيرها على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام

والضابط أنه لا يحدث فيه أمر أصلا بل يجعل يوما كسائر الايام فإنا قد قدمنا عن النبي ﷺ أنه نهاهم عن اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية وأنه ﷺ نهى عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعيدون فيه

ومن ذلك ما يفعله كثير من الناس في أثناء الشتاء في أثناء كانون الأول لأربع وعشرين خلت منه ويزعمون أنه ميلاد عيسى عليه السلام فجميع ما يحدث فيه هو من المنكرات مثل إيقاد النيران وإحداث طعام واصطناع شمع وغير ذلك فإن اتخاذ هذا الميلاد عيدا هو دين النصارى وليس لذلك أصل في دين الإسلام ولم يكن لهذا الميلاد ذكر أصلا على عهد السلف الماضين بل أصله مأخوذ عن النصارى وانضم إليه سبب طبيعي وهو كونه في الشتاء المناسب لإيقاد النيران ولأنواع مخصوصة من الأطعمة

ثم إن النصارى تزعم أنه بعد الميلاد بأيام أظنها أحد عشر يوما عمد يحيى عيسى عليهما السلام في ماء المعمودية فهم يتعمدون في هذا الوقت ويسمونه عيد الغطاس وقد صار كثير من جهال النساء يدخلن أولادهن إلى الحمام في هذا الوقت ويزعمن أن هذا ينفع الولد وهذا من دين النصارى وهو من أقبح المنكرات المحرمة

وكذلك أعياد الفرس مثل النيروز والمهرجان وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار أوالأعاجم والأعراب حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل

وكما لا يتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب إجابة دعوته

ومن أهدى للمسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم في مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر صومهم

وكذلك أيضا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد لا سيما إذا كان مما يستعان بها على التشبه بهم كما ذكرناه

ولا يبيع المسلم ما يستعين المسلمون به على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك لأن في ذلك إعانة على المنكرات

فأما مبايعتهم ما يستعينون هم به على عيدهم أو شهود أعيادهم للشراء فيها

فقد قدمنا أنه قيل للإمام أحمد هذه الأعياد التي تكون عندنا بالشام مثل طور يابور أو دير أيوب وأشباهه يشهده المسلمون يشهدون الأسواق ويجلبون فيه الغنم والبقر والدقيق والبر وغير ذلك إلا أنه يكون في الأسواق يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم قال إذا لم يدخلوا عليهم بيعهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس

وقال أبو الحسن الآمدي فأما ما يبيعون في الأسواق في أعيادهم فلا بأس بحضوره نص عليه أحمد في رواية مهنا

وقال إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وأما ما يباع في الأسواق من المأكل فلا وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم

فهذا الكلام محتمل لأن يكون أجاز شهود السوق مطلقا بائعا أو مشتريا لأنه قال إذا لم يدخلوا عليهم كنائسهم وإنما يشهدون السوق فلا بأس هذا يعم البائع والمشتري لا سيما إن كان الضمير في قوله يجلبون عائدا إلى المسلمين فيكون قد نص على جواز كونهم جالبين إلى الأسواق

ويحتمل وهو أقوى أنه إنما أرخص في شهود السوق فقط ورخص في الشراء منهم ولم يتعرض للبيع منهم لأن السائل إنما سأله عن شهود السوق التي تقيمها الكفار لعيدهم وقال في آخر مسألته يشترون ولا يدخلون عليهم بيعهم وذلك لأن السائل مهنا بن يحيى الشامي وهو فقيه عالم

وكأنه والله أعلم قد سمع ما جاء في النهي عن شهود أعيادهم فسأل أحمد هل شهود أسواقهم بمنزلة شهود أعيادهم فأجاب أحمد بالرخصة في شهود السوق ولم يسأل عن بيع المسلم لهم إما لظهور الحكم عنده وإما لعدم الحاجة إليه إذ ذاك

وكلام الآمدي أيضا محتمل للوجهين لكن الأظهر فيه الرخصة في البيع أيضا لقوله إنما يمنعون أن يدخلوا عليهم بيعهم وكنائسهم وقوله وإن قصد إلى توفير ذلك وتحسينه لأجلهم

فما أجاب به أحمد من جواز شهود السوق فقط للشراء منها من غير دخول الكنيسة فيجوز لأن ذلك ليس فيه منكر ولا إعانة على معصية لأن نفس الابتياع منهم جائز ولا إعانة فيه على المعصية بل فيه صرف لما لعلهم يبتاعونه لعيدهم عنهم الذي يظهر أنه إعانة لهم وتكثير لسوادهم فيكون فيه تقليل الشر وقد كانت أسواق في الجاهلية كان المسلمون يشهدونها وشهد بعضها النبي عليه السلام ومن هذه الأسواق ما كان يكون في مواسم الحج ومنها ما كان يكون لأعياد باطلة

وأيضا فإن أكثر ما في السوق أن يباع فيها ما يستعان به على المعصية فهو كما لو حضر الرجل سوقا يباع فيها السلاح لمن يقتل به معصوما أو العصير لمن يخمره فحضرها الرجل يشتري منها بل هو أجود لأن البائع في هذا السوق ذمي وقد أقروا على هذه المبايعة

ثم إن الرجل لو سافر إلى دار الحرب ليشتري منها جاز عندنا كما دل عليه حديث تجارة أبي بكر رضي الله عنه في حياة رسول الله ﷺ إلى أرض الشام وهي حينذاك دار حرب وحديث عمر رضي الله عنه وأحاديث أخر بسطت القول فيها في غير هذا الموضع مع أنه لا بد أن تشتمل أسواقهم على بيع ما يستعان به على المعصية

فأما بيع المسلم لهم في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم من الطعام واللباس والريحان ونحو ذلك أو إهداء ذلك لهم فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم وهو مبني على أصل وهو أنه لا يجوز أن يبيع الكفار عنبا أو عصيرا يتخذونه خمرا وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحا يقاتلون به مسلما




****************************************

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ترجمة سورة الانبياء بالانجليزية

  ترجمة سورة الأنبياء للغة الإنجليزي ة.